|
سجلّ اللجوء في حياة مثقف فلسطيني
مروان العلان
الحوار المتمدن-العدد: 2575 - 2009 / 3 / 4 - 00:11
المحور:
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
هو سجلٌّ مختصر لفلسطين وتاريخها المعاصر، وبشكل خاص قصّة اللجوء المتواصل، التقيتُه من جديد بعد عودته للوطن، واستعدنا ذكرياتنا المشتركة، وأردتُ منه الحديث، بصفته مثقفاً فلسطينياً، ومناضلاً، وإنموذجاً حيّاً للشتات الذي يبدو بغير نهاية. لم يفقد الأمل لأنه لم يفقد القناعة بأن فلسطين لنا جميعاً. سألته: هل لك أن توجز لنا رحلة العمر؟؟؟ نظر إليّ وفي عينيه إيحاء بالقبول، أشعل سيجارته، ثم قال: «وُلدتُ هناك، في مخيّم عقبة جبر، مثلك تماماً، في بيت طينيّ استبدلت به أمي خيمتنا البيضاء القوية عندما قررت وأبي الزواج.. ما هي إلا سنة أو أقلّ، كما تعرف، حتى أصبح المخيّم كله بيوتاً طينية، وانحسرت صورة الخيمة عن أعيننا، ولم يدُر بخلدنا، آنذاك، أن هذا البيت الطيني سيظلّ طويلاً في حياتنا، وأن الخيمة لم تفعل سوى أن تتوارى في انتظار ظهور جديد.. نشأنا سبعة إخوة وأخت وحيدة في مخيم عقبة جبر، المخيم الأول في حياتنا كفلسطينيين، يجمعنا بيت طيني يضمّ بالإضافة إلى الأب والأم، الجدّ والجدّة، أي ثلاثة أجيال في مكان واحد وزمان واحد.. كان الحلم واسعاً وكبيراً.. وقريباً جدّاً جداً.. وها هي فلسطين على مرمى حجر أو أقل، فلننتظر، والأمل يداعبنا جفوننا بأننا عائدون.. ومع كل مشروع يعلن فلسطين قضيته المركزية، كان ينتعش الأمل وتتجدد الروح وتصبح قرية أبي «كفرعانة» قضاء يافا، وقرية جدي «بيت دراس» قضاء عسقلان أقرب إلينا من أي وقت.. ومع المشروع القومي الناصري، وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية1964، وانطلاق البوادر الأولى للثورة الفلسطينية1965، واشتداد الصراع بين القطبين الكبيرين، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، واندلاع الثورات التحررية في أقطار مختلفة في هذا العالم، أدركنا أن فلسطين قاب قوسين إن لم تكن قاب قوس واحد أو أدنى.. ورغم أنني لم أكن أدرك معنى الاستعدادات التي أحدثها أبي في بيتنا استعداداً للرحيل، العودة، إلا أن حجم الفرح في عينيه وعيني أمي كان يملؤني فرحاً أيضاً. رفض أبي أي فكرة كانت تتحدث عن البقاء في المخيم، أو التعويض عن فلسطينه التي يحب، كما أعلنت أمّي أن دماء أبيها التي روتْ أرض الرملة دفاعاً عن أرضها لن تجف حتى نعود. وكان الخامس من حزيران، النكبة الثانية، وكان انهيار المشروع القومي الناصري، والخوف الكامن من مجازر كتلك التي اقترفت قبل العام 1948 وبعده، وكان لجوء آخر. بدأ برحلة مشي من المخيّم إلى المجهول المسمى شرق الأردن، والتقى النازحون، حسب التسمية الجديدة، في مخيم جديد لم يكن يحوي سوى الناس، وما معهم من أشياء أمكنهم حملها. مخيم الشونة، المخيم الثاني، وكأن وكالة الغوث كانت في انتظارنا.. عادت الخيمة البيضاء، لكنها الآن أصغر، وأخبرونا أنها مؤقتة.. وأدرك أبي أنها ليست حياة مناسبة له ولأولاده، لكنه انتظر لأن والدتي كانت على وشك ولادة، ثم جاء الأخ الثامن ليزيد من أعباء أبي، ويزيد حصتنا في طحين الوكالة وسمنها وسردينها، بما لا يكفي قطة ليومين.. المخيم الثاني كان مقيتاً جداً، البق والبراغيث والكلاب الضالة، وقسوة شتاء أطارَ الخيمة في فصل واحد لثلاث مرّات، كنا نبذل جهوداً جبارة لنتمكن من السيطرة عليها، لكن أثناء انتزاع الريح لها كانت تنكشف أشياؤنا، الخاصة وغير الخاصة.. أبي الذي ذهب للعمل في عمّان، عاد إلينا في نهاية الشتاء ليطلب منا جمع أغراضنا والسفر معه إلى مخيم الوحدات، فقد جهّز لنا مكاناً مناسباً وقد عثر على عمل مناسب أيضاً، وما علينا سوى الاستعداد اليوم، لنسافر غداً.. ربما فرحنا كثيراً لحظتذاك، لكننا لم نفكر بالحلم الذي كان، لأن قانون الحياة كان يقول لنا، اهتمّوا الان بحياتكم واتركوا الأحلام لوقتها.. وكان المخيم الثالث، الوحدات، الذي استقبلنا أهله من بقايا أقارب بعيدين، بعيون دامعة وانطفاء عميق في الروح، تحدثوا عن الحلم المنهار، والوطن البعيد جداً، كما تحدثوا عن الخديعة الكبرى والمؤامرة الأكبر، لكنهم جميعاً كانوا في حال انهيار نفسي عميق التشكّل.. سألت أبي، أين جدي؟؟ أخبرني لم يأت معنا وإنما أراد البقاء، فهو لم يكن لديه أي حماس للخروج من المخيم الأول، وأن قناعته كانت باختصار شديد، إما إلى القرية عائداً لوطنه أو إلى القبر عائداً لربّه.. ويبدو أن ربّه سارع إليه. ذهب الجيل الأول، فقد مات جدي في مخيم عقبة جبر، ودفنه الناس الذين هناك، ولم نودّعه نحن أبناؤه وأحفاده. أدركت أننا أمام خطر الغياب، فما هي إلا سنوات حتى يمضي الجيل الثاني، وبعدها دورنا، لكنني كنت على يقين بأن فلسطين ستعود.. كيف؟؟؟ لا أدري. المخيم الثالث، الوحدات، لم يكن مخصصاً للنازحين، وإنما للاجئين من النكبة الأولى 1948.. حاول أبي بناء حياة جديدة، فقد أصبحنا جيشاً من الأطفال، ورفضتنا مدارس الوكالة في الوحدات، وطلبوا منا مغادرة المخيم إلى أماكن تجمع النازحين في مخيم البقعة أو مخيم شنلّر، ولأن أبي يؤمن بأهمية التعليم نتيجة عدم تعلّمه القسري، فقد قرّر أخذنا إلى حيث يمكن قبولنا في المدارس، واختار مخيم البقعة لأن أقرباء لنا كانوا هناك، وأحب أن يضع أبناءه حيث يكون مطمئناً.. ذهبنا إلى المخيم، المخيم الرابع، مخيم البقعة.. وعادت الخيمة تطلّ من جديد ولكن بقوّة هذه المرّة.. خيام زيتية اللون، قوية القماش، عسكرية المظهر، مساحتها حين يكتمل انتصابها ستة عشر متراً مربعاً، لذا تتسع لنا جميعاً عدا أبي، الذي كان يأتي من عمان مساء الخميس، ويبقى حتى صباح الجمعة، ثم يغادر. لم تمرّ سنة أو أكثر قليلاً حتى بدأت عملية تغيّر في المنطقة، إذ قررت وكالة الغوث استبدال الخيمة بـ«براكيات» من الاسبست الرمادي اللون. كان الاسبست بارداً شتاءً حارّ جداً صيفاً، ولأن المنطقة زراعية، وتربتها طينية فقد عانينا الأمرّين من البقّ والبراغيث وديدان الأرض وهوامّها، لكننا لا نملك تغيير الأمر، فقد دمغتنا الحياة بدمغة اللجوء الحارقة. آنئذ كان حراك سياسي عسكري يعتمل في الوجدان الفلسطيني وعلى الأرض الأردنية.. تفجّر الغضب الفلسطيني ثورة عسكرية مسلّحة، بتنظيمات متعددة الاتجاهات، يجمعها أنها تريد تغيير الأمر الواقع الحاضر، وتلغي آثار الماضي المؤلم، لبناء مستقبل تراه مشرقاً.. وكان تحرير فلسطين، كل فلسطين، هو القاسم المشترك الأعظم بين كل هذه التنظيمات.. ووجدنا أنفسنا نحن جيل العشرينيات في خضمّ هذه الغابة من البنادق، نعيش أملنا وألمنا وأحلامنا. كنا نرى ما لا نرضى عنه ولكننا نسكت، لأن الحلم الذي تشكل من صراخ الرصاص ومواكب الشهداء كان أكبر من الوقوف أمام صراعات لم نكن نفهم الكثير من تفاصيلها، ونقنع أنفسنا بأن الجميع سيصل في الوقت المناسب إلى المكان المناسب، وستلتقي كل الجداول في البحر الذي يحتاجها ليكبر.. عادت فلسطين غضّة طرية رائعة المذاق، وأصبحت، لا مخيم عقبة جبر وحده، قريب المنال، بل بلدة أبي وجدّي كذلك. كان شاطئ يافا يقف منتظراً، وجبل الكرمل يطلّ مرحّباً من أقاصي الشَّمال، بل والقدس لا تقوى على الانتظار الطويل، نخاطبها كلها هاتفين « نحن عائدون». وكانت أيلول.. وسقطنا في هوّة لم نكن نعرف لها قراراً.. هذا دمٌ آخر.. واجهاض آخر لحلم جديد وثورة جديدة، وانبثاق أسطوريّ لألمٍ، يستعصي على النسيان.. هناك حريق في القلب والبيت والأحلام. وكان اعتقال طويل وعذابات مضنية.. وضعونا في سيارات عسكرية، ومن ثمّ إلى سورية.. وكان موعدنا المخيم.. مخيم اليرموك.. المخيم الخامس.. قُطر مضيف آخر، وحياة أخرى مختلفة، وتعرّف جديد على حياة أناسنا الذين سبقونا باللجوء إلى هنا. واستمرار في حياة هي مزيج من الفوضى والعسكرتاريا والصراع الفصائلي.. دم جديد في مخيم جديد، ومرارة جديدة.. وحده الأمل بالعودة حادي أرواحنا.. وكان اعتقال طويل آخر.. وعذابات جديدة مضنية، مع اغتراب عميق قاس. في رحلة أخرى إلى قُطر عربي جديد أردنا أن نعمل لنقيم أود أطفالنا، وفي الغربة جاء طفلي الأول.. ولم أتمكن من التآلف مع المحيط، فقررت المغادرة، وكان مخيم الوحدات وجهتنا. لا يستقبلنا سوى المخيم، ولا يحنو علينا سواه.. ناسنا وأهلنا ومعايشو ألمنا، وحاملو طموحاتنا، ومشاركونا في اقتسام الأمل البعيد.. اهتزت الصور المتعددة وتداخلت.. من معنا، ومن ضدنا؟ وطرحنا أسئلة كثيرة وكبيرة لم نكن نجرؤ على طرحها من قبل، وبدأت الأمور تأخذ منحى آخر.. نريد حياة تريدنا، وتحمي أملنا وحلمنا بوطن نسكنه، وليس فقط يسكننا.. مرّت سنوات شاقّة، وكبر الأولاد، لكن الجيل الثاني لم ينتظر.. مات أبي، ولحقته بعد شهور قليلة أمي.. وبقيت الذاكرة تعيد الحكاية وتوسّعها ليتلقاها القادمون الجدد من الأجيال اللاحقة، لكنني لاحظت أن حكايتنا تزداد ألماً ويخفت فيها صوت الأمل.. جاءت أوسلو.. وطُلب منا العودة للوطن.. هكذا مرّة واحدة. كان للكلمة وقْع غريب، العودة إلى الوطن؟؟؟ وألف إشارة استفهام تطرق أدمغتنا.. لم نستطع العودة ونحن في أوج قوتنا، فهل نعود ونحن في أضعف حالاتنا؟؟؟ تداعت الصور الأخيرة ونحن نعبر الجسر ونخضع للتفتيش.. كان الجنديّ الإسرائيليّ ذا سحنة لا يمكن لي أن أنساها.. أليس هو من رأيته ذات هجوم، وكان يمكن أن يقتلني أو أقتله؟؟ خفضنا رؤوسنا، ولم نسمع هتاف مارسيل خليفة: منتصب القامة أمشي، مرفوع الهامة أمشي.. لم نُرد أن يخطر الآن في مخيالنا المتعب المنهك المستنزف.. قال الضابط المسؤول: سنذهب بهذه المجموعة، وكنت منهم، إلى عقبة جبر. سمعت الاسم.. شهقت.. ثم انفجرت ضاحكاً بجنون، ولا أدري كيف احتمل صدري كل تلك الشهقات والصرخات. ها أنذا أعود من جديد إلى حيث بدأت. خمسون عاماً ونيّف.. نصف قرن ونصف عقد لتكتمل الدائرة.. دائرة حياتي» سكت مضيفي، وأدركت أنه وصل إلى حالة من الألم لا يُطاق.. دخلت حفيدته الصغيرة، برشاقة ظبي، احتضنها، ثم نظر إليّ وقال: «تخيّل، هذه الصغيرة ولدت في رام الله، وأبوها وُلد في بنغازي في ليبيا، وجدُّها وُلد في عقبة جبر، ووالد جدِّها وُلدَ في كفر عانة، وجدُّ جدِّها وُلدَ في بيت دراس.. أيُّ شتات هذا؟؟ واحد فقط وُلد خارج فلسطين، وهذا جيّد» هي ذي قصّة صديقي وزميل عمري.
#مروان_العلان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا تحاولوا.. فالشرخ أوسع
-
صحراء
-
من يوميات نخلة عربية
-
نص على جسد (القسم الأول)
-
نص على جسد (القسم الثاني)
-
الحوار الضرورة.. والتمدّن المفتَقَد
-
أمّي التي أرختْ ضفائرَها
-
المرأة: المتن والهامش
-
منظمة التحرير الفلسطينية: من الكفاح المسلح إلى المفاوضات
المزيد.....
-
الأردن.. ماذا نعلم عن مطلق النار في منطقة الرابية بعمّان؟
-
من هو الإسرائيلي الذي عثر عليه ميتا بالإمارات بجريمة؟
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
إصابة إسرائيلي جراء سقوط صواريخ من جنوب لبنان باتجاه الجليل
...
-
التغير المناخي.. اتفاق كوب 29 بين الإشادة وتحفظ الدول النامي
...
-
هل تناول السمك يحد فعلاً من طنين الأذن؟
-
مقتل مُسلح في إطلاق نار قرب سفارة إسرائيل في الأردن
-
إسرائيل تحذر مواطنيها من السفر إلى الإمارات بعد مقتل الحاخام
...
-
الأمن الأردني يكشف تفاصيل جديدة عن حادث إطلاق النار بالرابية
...
-
الصفدي: حادث الاعتداء على رجال الأمن العام في الرابية عمل إر
...
المزيد.....
-
العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية
/ هاشم نعمة
-
من -المؤامرة اليهودية- إلى -المؤامرة الصهيونية
/ مرزوق الحلالي
-
الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها
...
/ علي الجلولي
-
السكان والسياسات الطبقية نظرية الهيمنة لغرامشي.. اقتراب من ق
...
/ رشيد غويلب
-
المخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أور
...
/ كاظم حبيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟
/ هوازن خداج
-
حتما ستشرق الشمس
/ عيد الماجد
-
تقدير أعداد المصريين في الخارج في تعداد 2017
/ الجمعية المصرية لدراسات الهجرة
-
كارل ماركس: حول الهجرة
/ ديفد إل. ويلسون
المزيد.....
|