|
اطفال العراق .. سياسيون
حنان عزيز العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 2573 - 2009 / 3 / 2 - 05:47
المحور:
حقوق الاطفال والشبيبة
ان اول مسحة ألم من اجل الوطن عرفتها، عندما كنت طفلة في العاشرة من العمر كانت عندما يتم ايقافنا في الاصطفاف المدرسي لنقرأ النشيد اليومي (لاحت رؤوس الحراب .... تلمع بين الروابي) وما ان نصل الى البيت الاستشهادي المصحوب بذلك اللحن الجنائزي الذي يقول : (ياأمنا لن نعودا عن خصمنا او نبيدا) (وان ذهبت شهيدا نادي فتوة للجهاد) نادي نادي نادي ...هي نادي فتوة للجهاد حتى تخنقني العَبرة وتنهمر الدموع السخية الساخنة على الوجه المتجلد في الصباح الكانوني مع التيه الذي يصيب تلك الفتاة المرتجفة الشفاه وهي تسير الى الصف الجليدي، لتبدا المعلمة درسها الاول بالطلب (بفرك اليدين ببعض) لاسترضاع الحرارة التي لن تدر من اجساد تعاني دماؤها من فقر مدقع ، حاملة بين يديها كاس من ( الشاي بالحليب الساخن) تعلوه سحابة من بخار يتقطر على شفتيها المترفتين مشيرة اليه (This is acup) ثم تسأل (what is this) هنا تسخن الحناجر بالاجابة (This is acup) وتبقى تلك الفتاة في العاشرة تعيش مسار الذهاب الى الجهاد ومن ثم الاستشهاد وهل ان امها ستبقى تنادي هيا فتوة للجهاد ... ؟ منذ اكثر من اربعين عاما صودرت احلام وحكايا الطفولة العراقية لصالح تسييس وادلجة العقائد والافكار لدعم (العملية السياسية) (للحزب والثورة) ، وكما تم تجيير الانتماء في كل شي لصالح ايديولوجية (الحزب الواحد) تم تجيير حتى الانتماء العائلي ايضا لصالح ( .....). الا ان في حنايا الكثير من الاطفال كانت تعشعش تلك (القبرة الحكيمة) التي ترفض السلطوية المتاخمة لارصفة العمر بكل زواياه وخفاياه، فقد تجاوزت ما مرَّ على الارض من اعراف وصلت الى تدخل الحاكم باختيار رفيقة العمر (رفيقة _ عفوا لا احب هذه المفردة ولكن وضعتها للضرورة ). الا اننا بعد ان قفزنا الى ما بعد المرحلة الابتدائية صرنا وثلة من اطفال المحلة لا نتسلى كما كان اقراننا (بمجلتي والمزمار – والرسوم المتحركة) بل كان ديدننا الحصول على الكتب الممنوعة وكان اول ديوان شعر قراناه (الكمر والديرة- للقمر الشاعري السيد عريان السيد خلف) لا لانه شعر جميل وحسب وانما لانه لشاعر سياسي معارض واكثر الابيات ترديدا كان : هلبت مات جيفارا.... وهلبت هو شي منه انكطعت اخبارة !!! عمت عين الاوجاغ الماتشب نارة ... لم نكن نعرف من هو جيفارا ، كما لم نعرف معنى عبارة (هو شي منه) الا اننا كنا ندرك بالفطرة السياسية ان الامر يتعلق بمقارعة الضالمين، الا انني بوصفي المتقدمة على زميلاتي في مادة الادب فقد تفلسفت (مع الاعتذار للشاعر) وشرحت لهن مفردة (الاوجاغ) على انها الموقد الذي نتدفأ عليه في الشتاء، وذلك باستثمار دلالة النار على المدلول الذي يدعو علية الشاعر بالعمى ان لم يثور . يمن علينا بعض السياسيين الآن اغترابهم عن الوطن مع انهم خرجوا من الاحوال الساخنة الى الاحضان الدافئة، وما زال البعض منهم يشعر بانه لم يستوفي حقه من ذلك الاغتراب رغم الدماء الزكية التي اهرقت ثمنا لكيانه ومنصبه ورغم الاموال التي امطرتها عليهم سماء الديمقراطية وفاقت خزانة السلاطين ومكر الشياطين ولكن الفقر المرضي ما زال يعشعش في جيوبهم ، ان غربة اطفال العراق في وطنهم اكبر من غربة نصب الحرية في مكمنه، لانهم غادروا زمنهم والعابهم ، ففي الوقت الذي يهتم فيه اطفال ومراهقو العالم الغربي بالحياة الشخصية للمشاهير من رؤساء ورياضيين ونجوم السينما ولا يعبأون باي من احوال الشأن السياسي، مع وجود فراغ كبير بين أفراد المجتمع وقلة امتلاكهم للحس السياسي والوعي بالقدر الذي يمكنهم من المشاركة في أحداث المجتمع. مع افتقادهم للرؤية الواضحة بما يتخذ من اجراءات سياسية سواء أكان ذلك على المستوى المحلي أم الاقليمي أم الدولي ، وقلة الانتماء لفكر معين . تجد اطفال العراق يعنون بشؤون السياسـة وتفاصيلها فهم مثل الكبار يجتمعون ويفاوضون ويقررون ويحللون ما وراء الأحداث والأحوال ، بل يحورون القضايا السياسية الى لعبة بحجم طفولتهم . فهم رغم أعمارهم وقاماتهم الصغيرة يتسمرون أمام التلفاز ليتابعوا ( حصاد اليوم ) و (الاتجاه المعاكس ) ويعقبون ويعاكسون ويشاكسون السياسيين ، ويتقنوا المصطلحات السياسية و بنود الاتفاقات الدولية ويتابعون آخر الأحداث و التطورات ، وينتظرون الأخبار العاجلة !! . لم تعد العاب الطفولة الساذجة تغريهم ، فهم ليسوا أطفالا عاديين ، فقد اضطروا للعيش بأعمار إضافية تزيد عن أعمارهم .. ، هذا ما لمسناه في متابعة الطفل (حسام علي) منذ ان كان عمره ثلاث سنوات اذ كان يلف قطته الصغيرعلى بطنه بعد ان خدشته باضفارها، وهو يهددها (ساعمل منك حزاما ناسفا وارميك عالأمريكان)، وفي الرابعة من عمره يلعب لعبة التخفي مع الرتل الامريكي بطريقة المقاتل في ساحة الحرب، ولما طغى العنف الطائفي صار يتوجس من هذا الامرحتى عاد يوما من الروضة في الخامسة من عمره رافضا العودة اليها وعندما سئل عن السبب اجاب لان المعلمة (سنيّة) ..! وكيف علمت ياحسام ؟ أجاب عندما قرأت المعلمة القرآن الكريم لم تذكر مفردة العلي العظيم عند التصديق !!!، هل يوجد في العالم باسره مثل هذا الحس المفرط للحدث من قبل طفل بهذا العمر سلبا كان او ايجابا. قد يفسر البعض الامر على انه تأثير بيئي، الا ان العلم ينظر للامر من زاوية اخرى اذ يفضي الى ان الامر يتعلق بذكاء الطفل وتحسسه للاحداث والتفاعل معها وكون تخصصنا العلمي في خصائص نمو الأطفال فاننا نجد ان الأمر يتعدى الى وصول الطفل الى (مرحلة التمثل) وهي المرحلة الاخيرة من تفاعل الطفل مع (الحدث) التي تبدأ بالتكيف والموائمة ومن ثم التقمص وتنتهي بالتمثل، التي تصبح معها (خبرة التلقي) من ثوابت الشخصية ان لم تاتي خبرة اكثر منها تاثيرا لتطفئها او تعززها، فقد تقدمنا بدراسة حول (التأثيرات النفسية للعنف المسلح على الاطفال من خلال تعبيراتهم بالرسم) وجدنا ان تفسير الاطفال يتعدى حدود الحدث وواقعه، اذ طلبنا من الاطفال ان يرسموا ما يشاؤون دون املاء الموضوع عليهم، فعبر طفل بعمر(اثنتي عشرة عاما) وبشكل رمزي عن العنف الطائفي بعلبة الهدايا ... يخرج منها فتيل قنبلة مشتعل ، كتب عليها هدية السياسيين للشعب العراقي، وهذا ما لم يعترف به اصحاب الهدية حتى مع انفسهم، ورسم احد الاطفال (وعمره عشرة سنوات) عندما طلب منه ان يرسم موضوعا بعنوان بلادي، قبة الامامين العسكريين (ع) وهي تُقصف بالطائرات الامريكية ، وعندما أخبر بان القبة الشريفة نسفت من الداخل ، أجاب : ولكن بفعل الامريكان. ان معظم الاطفال يعزون اساليب الخراب والاعمال الارهابية التي لحقت ببلدهم الى الوجود الامريكي في العراق، وهذا ما لا يستطيع البوح به اي سياسي مهما كان مركزه ، من منا لم يشاهد الخطط الذكية في لعب الاقتتال بين الاطفال التي يكون مآلها الانتصار دائما، كما تجد اكثر الانتقادات السياسية صوابا لدى اطفال مابعد الابتدائية ، لقد اقترح احمد عبد القادر ( الرابعة عشرة من العمر) ان يكون هنالك مجلسا استشاريا في وزارة التربية يتألف من اطفال بجميع المراحل الدراسية للنظر في مشكلاتهم ومقترحاتهم لانه لطالما طلب منا المعلم الكذب امام المشرف التربوي كما انه يخفي الامر الخاطئ على المدير والمدير يفعل الشئ ذاته مع مديرية التربية صعودا الى الوزير الذي قد لا يدري بما يجري. صار الطفل العراقي يشعر بأن السياسة تجعل منه رجلا ، كما انه يعدها جزء من طفولته ، كما ظهر مؤخرا حافز جديد في الاعتقاد ان للسياسة مركز مهم ووظيفة مربحة اكثر من التجارة، الا وان (وظيفة سياسي) افضل من وظيفة مهندس او طبيب كما كان طموح الاطفال بعد دخولهم المدرسة مباشرة، مما دفع بالعوائل الى تهيأة اطفالهم لهذه الوظيفة، سيما من قبل اصحاب المهنة ذاتها ليصبح (الولد على سر ابيه) ، ويقود العراق مستقبلا نحو الـ......) . ان واقع الطفل هو الذي يشكل اهتماماته بشكل أساس، فواقع الأطفال في العراق مشبع بالسياسية ، سيما في فترة ما بعد سقوط النظام الأوحد، وتعدد المرجعيات السياسية وتعرضه لكم هائل من الخبرات الصادمة ، مما أثر على تفكيره و سلوكه، الطفل دائما بحاجة إلى فهم ما يجري حوله من أمور، وذلك لمحاولة التكيف مع البيئة المحيطة به، فكلما ازدادت قدرة الطفل على الفهم كان سعيه للتأقلم مع فهمه اكبر واكثرها وضوحا في مرحلة الطفولة المتأخرة وما بعدها التي تدعى بمرحلة (البطولة والمغامرة) . يفضي ما تقدم الى ان الاطفال على اختلاف مراحلهم العمرية يتميزون بـأنهم: 1- اكثر حرية في التعبير عن حقائق الامور، وتصويرها دون خوف او تردد لعدم ارتباطهم باي اجندة او مرجعية حزبية تحدد مسار تفكيرهم ومنطقهم. 2- اكثر قدرة على تشخيص الامور التي تمس واقعهم لانهم اقرب اليه من غيرهم وبإمكانهم وضع الحلول المناسبة لمشكلاتهم . 3- ان آراء هم مجردة عن المواربة والنفاق او (المواقف المصلحية) الا بما يتفق مع مصلحة المجموع، لان مرجعياتهم الأجتماعية ما تزال في طور الاستقلال. لقد تنبهت الحكومات المتقدمة والمترنحة وحتى المتأخرة منها الى اهمية مشاركة الطفل في صياغة الحياة السياسية والاجتماعية من خلال فسح المجال لهم بالتعبير الديمقراطي الحر عن احتياجاتهم ومشكلاتهم ووضع الحلول المناسبة من قبلهم، وان كنا نبغي تنشئة و تنمية الوعي السياسي لدى الابناء لتحقيق الانتماء والولاء للوطن وللنظم السياسية بكافة اشكالها والتي سيتم نقهلا مستقبلا للأجيال، ولتحقيق التماسك الاجتماعي.. فإنه لا بد ان تنتشر بين اعضائه المفاهيم والمعارف المتعلقة بشؤون السياسية فضلا عما يتم اكسابه للطفولة من قيم واتجاهات سياسية يؤمن بها النظام السياسي ويسعى لتأكيدها في تشكيل الافراد. من هذا المنطلق نتمنى ان يؤخذ مقترح الطفل (احمد عبد القادر) بالحسبان وتوسعته الى مجلس اعلى للطفولة يجمع الاطفال المتفوقين والمبدعين (بمثابة برلمان مصغر) وعلى مختلف الاصعدة ويكون له الرأي المسموع والاجابة الفاعلة.
#حنان_عزيز_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أهمية وتأثير التمثيل النسبي للنساء ( الكوتا) في البرلمان ومر
...
المزيد.....
-
كاميرا العالم ترصد خلوّ مخازن وكالة الأونروا من الإمدادات!
-
اعتقال عضو مشتبه به في حزب الله في ألمانيا
-
السودان.. قوات الدعم السريع تقصف مخيما يأوي نازحين وتتفشى في
...
-
ألمانيا: اعتقال لبناني للاشتباه في انتمائه إلى حزب الله
-
السوداني لأردوغان: العراق لن يقف متفرجا على التداعيات الخطير
...
-
غوتيريش: سوء التغذية تفشى والمجاعة وشيكة وفي الاثناء إنهار ا
...
-
شبكة حقوقية: 196 حالة احتجاز تعسفي بسوريا في شهر
-
هيئة الأسرى: أوضاع مزرية للأسرى الفلسطينيين في معتقل ريمون و
...
-
ممثل حقوق الإنسان الأممي يتهرب من التعليق على الطبيعة الإرها
...
-
العراق.. ناشطون من الناصرية بين الترغيب بالمكاسب والترهيب با
...
المزيد.....
-
نحو استراتيجية للاستثمار في حقل تعليم الطفولة المبكرة
/ اسراء حميد عبد الشهيد
-
حقوق الطفل في التشريع الدستوري العربي - تحليل قانوني مقارن ب
...
/ قائد محمد طربوش ردمان
-
أطفال الشوارع في اليمن
/ محمد النعماني
-
الطفل والتسلط التربوي في الاسرة والمدرسة
/ شمخي جبر
-
أوضاع الأطفال الفلسطينيين في المعتقلات والسجون الإسرائيلية
/ دنيا الأمل إسماعيل
-
دور منظمات المجتمع المدني في الحد من أسوأ أشكال عمل الاطفال
/ محمد الفاتح عبد الوهاب العتيبي
-
ماذا يجب أن نقول للأطفال؟ أطفالنا بين الحاخامات والقساوسة وا
...
/ غازي مسعود
-
بحث في بعض إشكاليات الشباب
/ معتز حيسو
المزيد.....
|