سلام مسافر
الحوار المتمدن-العدد: 2569 - 2009 / 2 / 26 - 09:43
المحور:
سيرة ذاتية
كنت اقنيت الجزء الثالث من مختاراته في مسقط ، ظهر الثلاثاء . صباح الخميس ، قرات نعيه في صحف المنامة ، وخلال الرحلة القصيرة من العاصمة العمانية الى عاصمة البحرين ، استغرقت الى حد عدم الشعور بالتحليق مع الطيب صالح .
بين كلية الاداب ، وحي المنصور ببغداد ، انقضت رحلة الباص بسرعة ، وكان" بناي" ، صاحب اكبر " بسطة " لبيع الكتب في الباب الشرقي ، تساهل معي في سعر " موسم الهجرة الى
الشمال " . رواية لم تفارق عذوبتها مخيلتي ، مثل اول قبلة في شارع خلفي بحي الوزيرية ، المضوع بعبق الشبوي . وبالمحاولات الناجحة دائما ، لاخراج كتب من المعهد الثقافي البريطاني ، امام اغماضة ، نحسبها ، متعمدة ، للسيدة الانكليزية ، امينة المكتبة ، كانت تمد بعنقها الجميل ، تراقب . لكنها تبتسم ، حين تفضح قمصان الصيف على الاجساد الهزيلة ، كتب التاج البريطاني ، تتسرب تباعا من رفوف المركز ، وفيه تعلمنا اولى عبارات الغزل الشكسبيري ، ممزوجا بعصير البنات .
لم استفق ، من موسم الهجرة الى الشمال ، الا في هزيع الليل ، وفي اليوم التالي ، حملته مع دفاتري الى صديقتي النجفية ، ذات العينين ، الواسعتين ، والصوت الرخيم ، ورثته عن اب كان في موسم العزاء يبكي الحسين ، وفي ايام السنة الاخرى ، يعيش حياة مليئة ، ويستمتع بقراءة " ادب
النصارى " ويهتف مقهقها ، " العزايات مهنة ، والحياة لاتحتمل البكاء على الماضي " .
تلقف زملائي ، رواية الطيب ، وبدانا نبحث عن مؤلفاته ، ونتابع برامجه ، ونصخب بالجدل حول تفوقه على روايات السرد ، ونبحث عن موقفه السياسي ، على وقع مذابح قادة الحزب الشيوعي في السودان ، وكنا ، مصابين ، باعراض تصنيف المثقفين ، وفق خانات الاحزاب ، وبعضنا ، كان ينتحل للمبرزين في عالم الثقافة ، مراكز حزبية وهمية ، من منطلق ان كل مبدع مجيد لابد وان يكون شيوعيا ، او قريبا من الحزب . انها ستالينية ، ابتكرها رهط من المثقفين العراقيين ، ولازمت الحركة السياسية العراقية ، الى ان وصلت سفينتها ، في بحر الدماء المتلاطمة ، الى مستنقع الهلاك والتشظي ،والتواطؤ ، تتكسر باحذية المارينز .
قبل رحلتي الى مسقط باسبوعين ، كنت في الخرطوم ،وبحثت عن مؤلفات الطيب صالح ، في عدد من مكتبات العاصمة السودانية ، فلم اجد له اثرا ، بين اكوام الكتب عن احكام الوضوء ، وفقه النجاسة ، وصراعات الف حزب في بلد يحتل المرتبة العاشرة من حيث المساحة في العالم ، والاولى في القارة السمراء . سالت مرافقي ، السائق السوداني ، عن مؤلفات مواطنه ، فاستغرب الاسم ، واقترح ان نذهب الى مكتبة يعرفها في ام درمان ، لعلنا نجد اثرا " لصاحبك " ؟
رحلت الى جوبا ، عاصمة الجنوب ، ولم ابحث عن مكتبة ، فالطقس الحار ، في ارض امحلت على مدى ربع قرن تقريبا ، ببارود الحرب الاهلية ، يمنعك حتى من التفكير . اشعة الشمس ، مثل اسنان " الدريل " تخترق الجسد . وفي المدينة لايوجد غير شارع واحد معبد بالاسفلت ، طوله خمسة كيلومترات ، يصل الى مدرج خطر لاقلاع الطائرات .
ابتسمت موظفة الامم المتحدة ، انطوانيت من كينيا ، حين سالتها عن محلات بيع الكتب ، وردت بغنج خلاسي ، يكشف عن جمال يوقع الطير من عشه ، في سماء لاهبة " ليس ثمة متسع من الوقت هنا للمطالعة ، بالكاد نستطيع التواصل مع العالم عبر الانترنت ، وفي الاماسي ، نشاهد افلام المغامرات " .
انطوانيت ، سمعت بالطيب صالح " الانكليزي " وقرات نتفا عنه . وابيضت عينيها اللوزيتن ، مثل الندف ، حين حدثتها ، عن مشاهد من موسم الهجرة الى الشمال ، واخبرتها ان السلطات في الخرطوم منعت الرواية " لانها اباحية " . تعهدت بمتابعة " الموضوع " ونحن نتعانق عائدا الى الخرطوم . كانت انطوانيت ، كافحت ليوم ضجرها ، بقادم " ابيض " من روسيا . لم اخبرها بجنسيتي الاصلية ، خوفا من ان تنهمر على الاسئلة المعروفة عن الوضع في العراق ، الذي فارقته قبل ثلاثة عقود ، فاض خلالها نيل الطيب صالح ، المعتل ببلاغة العربية ، فترشق قلمه ، ونحت اجمل القصص والحكايات .
لازمني هاجس الطيب صالح منذ ان وطات ارض السودان ، وكان خياله يلاحقني ، فكنت
" اقيس " هامات ، وحركات ، وسكنات ، النساء والرجال من التقيت على ضفاف النيلين ، بابطال الروائي الذي نعته الصحافة العربية بعناوين تكاد تتشابه تصب كلها تقريبا في مفهوم " الصراع بين الشمال والجنوب " وذهب البعض الى القول بان الاديب السوداني ، تنبا بنظيرية صمؤيل هانتينغتون ، التي لم يقراها احد الى النهاية ، او هكذا اعتقد ، عن صراع الحضارات .
تسطيح ، يفرغ الروائي العظيم من سيل ابداعه ، ويحوله الى ، منظّر . انها الستالينية ، التي لم يتفرد مثقفو العراق ، بصناعتها ، بل انها النمطية ، التي سعى الطيب الراحل ، الى تهشيمها ولاندري مااذا ، كان الوعي العربي سيتخلص منها ولو في اليوبيل المئوي لرحيل الكاتب السوداني . الحي ، المتواضع ، المدوي ، والحاني على اهله .
في الخرطوم ، صادفت ، ارملة المربي الاديب ، عبد الله الطيب . سيدة انكليزية ، في الخامسة والثمانين ، ستون حولا منها ، امضتها في السودان ، ولفت بريشتها الساطعة ، البلد الشاسع من اقصاه الى اقصاه . وحين فرقها الموت عن زوجها ، اثرت البقاء في ارض السواد ، المشرقة ، فلاشيء يشدها الى ضباب الوطن الام .
غريزيليا ، الطيب ، طلقت الالوان الزيتية ، وخطت بالالوان المائية ، لوحات تزدحم بها جدران بيتها الوادع في الشارع الميمون باسم زوجها ، المفتوح على جنينية ، متفتحة الزهور على مدار العام .
اعتذرت الرسامة بانكليزية مقعرة " انا عجوز ، والعجائز ، خرفات ، وربما اقول كلاما صريحا لايعجب الكثيرين " . كانت غريزيليا الطيب ترد على سؤالي حول اعمال الطيب صالح .
لم يمنعني ردها المقعر ، من الالحاح بالسؤال . فردت بلهجة سودانية ، معجمة بانكليزية عذبة
" الطيب صالح اعرفه جيدا ، ولكني اعتقد انه خبير بالدعاية لنفسه اكثر مما يستحق " .
لاحظت ، ان البوم صور ارملة الكاتب عبد الله الطيب ، يخلو من تذكار مع الطيب صالح ، رغم ان الاديبين السودانيين ، عاشا سنوات متقاربة ، اعوام الطيب صالح ، في الغربة ، واعوام عبد الله الطيب بين لندن والسودان . وفهمت قبل ان تكمل السيدة التي لم تكدم زرقة عينينها ، شمس افريقيا ، ولم يكل بصرها تدفق الالوان في ارض الله المشرقة ؛ ان صراع الوسط الثقافي ، وربما على خلفيات حزبية وسياسية ، في السودان ، مر على مجلسها . وان غريزيليا ، الوفية لرفيق حياتها ، لاتريد ان يتفوق احد على عبد الله الطيب ، في المفاضلة . ولم اكن بهذا الصدد ، لكني وددت ان اسمع اي شي عن الطيب صالح ، الذي لازمني كالهاجس ، في الخرطوم ، ولاحقني في مسقط ، وقرات في صحف المنامة ، نعيه ، واستغرقت في الرحلة الطويلة بين البحرين وموسكو بقراءة الجزء الثالث من مختاراته .
فيض من الادب الرفيع ، صبه الروائي العظيم في اوان ، تزخر بالجمال .
اليس من النيل برافديه ، الازرق والابيض ، ارتوى الطيب ، واغتسل والداه ، قبل ان يزرعا نطفة اورقت شجرة مثقلة بالفاكهة المحرمة ، وبكل انواع الطيب ؟؟
كاتب وصحافي عراقي مقيم في موسكو
#سلام_مسافر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟