أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - طلعت الطيب - هل يصلح المؤتمر الخامس للحزب الشيوعى ما افسد الدهر؟















المزيد.....



هل يصلح المؤتمر الخامس للحزب الشيوعى ما افسد الدهر؟


طلعت الطيب

الحوار المتمدن-العدد: 2568 - 2009 / 2 / 25 - 08:59
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


فى الفرق بين الخيار الماركسى العتيد ومفهوم ادارة الازمات ليورغن هابرماس (١)

تابعت وسط مشغوليات متعددة فعاليات افتتاح المؤتمر العام الخامس للحزب الشيوعى السودانى وان كان بشكل متقطّع ، ولم اندهش عند سماعى لتكرار السكرتير العام الاستاذ محمد ابراهيم نقد، نفسه ، عند اعتذاره عن تأخر عقد المؤتمر الى مدة تتجاوز الاربعة عقود من الزمان، وكانت قيادته قد فعلت نفس الشىء بتسجيل الاعتذار فى الوثائق المقدمة للمؤتمر العام . لكن اربعة عقود هى بالتأكيد عمر لاجيال كاملة وفترة طويلة جدا حدثت فيها تغييرات عاصفة على المستويين المحلى والعالمى . فقد شهدت الفترة بين النصف الثانى من ستينات القرن الماضى وحتى الآن استيلاء المشروع الاصولى الاسلامى على السلطة السياسية فى السودان ومآلات ذلك التغيير الرهيب على كل الواقع السودانى المرير والذى نعيشه الآن ، اما على مستوى العالم فقد شهدت تغييرات ضخمة ايضا كان من اهمها انهيار حائط برلين الشهير واختفاء ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتى (العظيم) والمنظومة الاشتراكية، اختفاءا تاما شاملا، من على وجه البسيطة. والاهم من كل ذلك ، وعلى المستوى الفكرى والفلسفى ، الزعم القائل بأن نهاية الالفية كان تعد نهاية للحداثة التى بدأت منذ اكثر من خمسائة عام تقريبا مع بداية الكشوفات الجغرافية الشهيرة وحلول عهد المستعمرات ، وأن الفترة بين المؤتمرين الرابع والخامس قد شهدت وفقا لهذا الزعم ميلاد ما بعد الحداثة Postmodernism و ما بعد البنائية
وغض النظر عن اتفاق او اختلاف القارىء مع الزعم الاخير، الاّ اننى لا اعتقد انه او ، انها، يمكن ان تختلف حول الاهمية البالغة لفترة الغياب التى جسدها اهم حلقة من حلقات الممارسة الديمقراطية لاى منظومة بشرية ، وهو ما عرف بقيام المؤتمرات العامة الدورية من اجل الحوار لتجديد الرؤى والبرامج وانتخاب قيادات جديدة. ورغم ذلك يقدّم السكرتير العام وسكرتارية اللجنة المركزية (سلم) اعتذارا شفهيا عن عدم اتخاذهم لقرار عقد المؤتمر العام من قبل، حيث كان الظرف مواتيا خاصة فى الفترة التى تلت انتفاضة ابريل عام ١٩٨٥م. ولا غبار على الاعتذار فهو فضيلة انسانية عظيمة ولكن تبقى الاشكالية فى مصداقية الاعتذار نفسه فى حالة غياب الضمانات الخاصة بعدم حدوث مثل ذلك التأجيل مرة اخرى ، حيث يتحوّل الاعتذار حينئذ الى مجرد (اعتراف كنسى كاثوليكى ) لا طائل من ورائه ، لا اعتقد انه يليق بحزب تجسّد فكرة زعم العقلانية والعلمية لديه قاعدة الهرم فى كل بنائه الفكرى مثلما ظلّت فكرة الادّعاءات الاخلاقية تقوم بنفس المهام على قاعدة هرم البناء الفكرى الاصولى الاسلاموى الذى بدأ يتداعى. وبذلك تصبح مسألة عدم توفر الضمانات لعقد المؤتمرات فى مواعيدها هى بمثابة مطالبة للعضوية بتوقيع شيك على بياض والانتظار السلبى لفترات اخرى قادمة لا يعلم مداها الاّ الله، وفى تقديرى الامر يتعلق باشكالية فكرية جسدتها الوثائق المقدمة الى ذات المؤتمر العام الخامس حينما أكدّت على فكرة تمسّك الحزب بالماركسية كمنهج ومرشد، وهو يعنى الاستمرار فى ذات النهج القديم والذى يقوم على ما عرف بمبدأ ( المركزية الديمقراطية) او اسمها الجديد المقترح (الديمقراطية المركزية) !، وهو بناء تنظيمى يقوم على قاعدتين اساسيتين مهمتهما اعاقة أعضاء الحزب بأن تغلق فى وجوههم جميع الابواب المفضية الى امكانيات التعبير الحر عن ارادتهم . فمبدأ خضوع الهيئات الدنيا للهيئات العليا، ومبدأ عدم السماح بالتحرك والتنسيق الافقى بين الوحدات والهيئات الحزبية الذى يعتبر تكتل وتآمر يستحق المحاسبة ، يضع كل التنظيم فى مقام الميت بين يدى الغاسل. والغاسل فى هذه الحالة هو السيد السكرتير العام ومن معه من اعضاء القيادة المركزية وهو مفهوم كما نرى لا يختلف عن وضع او مفهوم امير الجماعات الاسلامية وشيوخها من اهل ( الحل والعقد) !
منهج الاعتذار الشفهى والتلاعب بالالفاظ كما فى محاولة تخطى المركزية الديمقراطية بعد تنامى الوعى حول مساوئها وكثرة النقد والطرق عليها كمبدأ معيب انسانيا ناهيك عنه سياسيا، من خلال اقتراح تغييراسمها ليصير (الديمقراطية المركزية) وهو تخطى لفظى يشابه احمد وحاج احمد فى المثل الشعبى الشهير. وهو نفسه النهج المتبع عندما تمّ تقديم رؤية حول حركة ١٩ يوليو تتنصل من المسؤولية باطلاق تلك العبارة الفضفاضة الشهيرة التى تمت استعارتها من القائد المصرى سعد زغلول (ان الحركة شرف لا ندعيه وتهمة لا ننكرها)، ثم هو نفس نهج التخطى الخطابى عند الحديث عن المناقشة العامة والاقرار بالتغييرات التى حدثت على خارطة العالم ولكن رغم ذلك يلى اتباع ذلك الاقرار وثائق تتمحور حول (التمسك بالماركسية كمنهج ومرشد)، هو نفسه عند الادعاء بتقبل الحزب وايمانه بالديمقراطية التعدّدية فى المجتمع السودانى ثم مصادرتها داخل التنظيم والاصرار على تبنى الماركسية كمنهج وحيد اوحد، وهو نفس النهج عند التصريح برفض قرارات المحكمة الجنائية استنادا على مقررات مؤتمر القمة الافريقى المتزامن مع اصدار بيان جماهيرى يحفل بالمتناقضات لامتصاص غضب العضوية، وهى مجمل مظاهر فكرية تميزت بمحاولات الجمع بين المتناقضات والتوفيق بين المستحيلات، ولكن على مستوى النص اللغوى فقط، مع ترك الواقع يموج بها، فتترك عصيّة على الحل.. وهو منهج فى القيادة لا يورث حكمة، ولا يبنى تنظيما طموحا ، كانت قد درجت عليه قيادة الاستاذ محمد ابراهيم نقد منذ توليه مهام قيادة الحزب.
على ان أكبر ما يواجه الحزب ومؤتمره العام من مشكلات هى عزلته التامة عن العالم وما يمور به من احداث سياسية مهمة وتطورات فكرية هائلة على مستوى العلوم الانسانية ، اهم ملامح ذلك التغيير الهائل هو غروب شمس المدارس والمناظير الاجتماعية التى تدّعى الاحاطة التامة والشاملة بكل شىء، وغروب شمس الحوار والنزاع الشهير الذى كان يحدث فى العالم بين مدرستين فلسفيتين احدهما من اليمين والاخرى من اليسار، واعنى بالمدرسة الاولى البنائية الوظيفية Structural – Functionalists اما الثانية فهى التى يمثلها منظور النزاعات او الصراع اذا صحّت الترجمة لكلمة Conflict theorists . وقد بدأ ذلك الصخب يخبو ويفقد بريقه مع نهاية سبعينات القرن الماضى، مما هيأ المناخ لظهور اتجاهات جديدة تماما فى العلوم الانسانية تقوم على نقد مجمل تجربة الحداثة ومسألة التخندق فى تيار على حساب الاخر على زعم اعتبار صحته الكلية ، وظهر بدلا عن ذلك جيل جديد من علماء الاجتماع والفلسفة يضع امامه فكرة الاستفادة من كل الاتجاهات الفلسفية الموجودة واعادة انتاج وتركيب مفاهيم جديدة منها Synthesis وهو الاتجاه الذى بلغ حد التراكم المركّز ودرجةالاجماع على اهميته فى الوقت الذى يدخل فيه الحزب الشيوعى مؤتمره بوثائق تؤكد على (نقائه الماكسى ) والتمسك بالماركسية كمنهج ومرشد!، بدلا عن الاستفادة من الماركسية وكل الافكار والاتجاهات الانسانية الاخرى وتاكيد اهميتها جنبا الى جنب مع (مشروع التحرر الماركسى ) وليس الماركسية ، اذ ان الماركسية كنموذج للمعرفة او بارادايم Paradigm يحمّل فى طياته كثير من المفاهيم الشمولية والفاشية التى قادت الى الوصاية على الطبقة العاملة اولا ثم على كل المجتمع المدنى ثانيا بعد وصولها الى السلطة وتحوّلها الى بيروقراطية لا تعدو ان تكون سوى نسخة طبق الاصل مما كان قد حذّر منه ماكس فيبر فى اقفاصه الحديدية iron cages والتحوّل الى مشروع للسيطرة ، وذلك بتبنيه لمفاهيم المركز والكلية totalities او Holistic theories وكلها ظهرت فى اخطاء ماركس وتنبؤاته بجملة من الاحداث كان يعتبرها بمثابة حتميات لا بد من حدوثها نتيجة لاستخدامه المبدا المادى فى التحليل او(المادية التاريخية) التى لا ياتيها الباطل من بين يديها ابدا !، فكان تنبؤه بحدوث الثورة البروليتارية فى انجلترا باعتبارها اكثر المجتمعات الرأسماية نضوجا ، ثم حتمية انهيار المجتمعات الرأسمالية وقيام دولة دكتاتورية البروليتاريا، وحتمية زوال الطبقة الوسطى وهكذا . مع ان كل هذه التنبؤات ما قامت الاّ على اكتاف (ايمان فلسفى) وليس على معلومات تجريبية وهو المنهج العلمى الذى تزعم الاحزاب الشيوعية اتباعه ! اضافة لهذه الخصائص الفكرية المرتبطة بعدد من التنبؤات الفاشلة، كانت الماركسية تراهن على حتمية قيام دولة العمال، وهو مشروع تمّ التبشير به دون توفر معلومات دقيقة تعززه وتعضده، وهو يشابه التناقض الذى يمثله ادّعاء الموضوعية التامة والعلمية ثم ترشيح العمال كرسل للجنة الاشتراكية القادمة، ترشيح العمال بناءا على ايمان فلسفى مجرد مبدأ غائى يجد سنده فقط فى نموذج المفاهيم الدينية والغيبية وليس العلوم التجريبية ، وهو لا يعد عيبا فى حق الاديان طالما ظلت القيم هى موضوع المجتمعات الانسانية ... ولكن العيب يكمن فى انعدام الانسجام فى منطق من يعتقد ان المجتمعات البشرية يجب ان تخضع للمعرفة التجريبية وحدها، ويقوم باستنباط قوانين ومقولات من العلوم الطبيعية بزعم امكانية تطبيقها على المجتمعات البشرية ، وهو بالضبط ما فعلته الماركسية فى بناء (ماديتها التاريخية) ، والغائية Teleology جرثومة كان كارل ماركس قد ورثها عن الحداثة ، وهى ظاهرة فكرية عبّر عنها المرحوم الخاتم عدلان وصورها خير تصوير حينما كتب فى دراسته الانيقة (آن أوان التغيير) ما يلى:
( يصعب الحديث عن الطبقة العاملة السودانية الا اذا تعاطينا مع التلفيق ، وحددنا بصورة مسبقة وتحكمية ، ان الماركسية اللينينية هى تلك الايديولوجية وعلى الطبقة العاملة ان تتبناها رغم انفها وفى هذه الحالة لا يكون هناك فرق بين ان تتبنى هذه الايديولوجية او ان ترفضها ، لاننا لم نضع اعتبارا لهذا القبول او الرفض، فى وصف الماركسية بانها ايديولوجية الطبقة العاملة. ونحن قد فعلنا ذلك وما زلنا نفعله . ولكن الوصاية المبثوثة فى هذا القول لم تعد محتملة اليوم . فالوعى الديمقراطى قد تنامى بصورة تجعل من مثل هذا الادّعاءات فادحة الثمن على المروجين لها.
ان ازمة المشروع الماركسى تتمثل فى هذه النقطة بالذات ، وقد راهن هذا المشروع على حصان بدا جامحا ولكنه اصيب بالوهن فى منتصف الطريق . ولعله سيكون من المفيد ان نتذكر ان تعلق ماركس بالبروليتاريا كان فى اساسه تعلقا رومانسيا لفتى لم يتعدى العشرين الا قليلا عندما كان يبحث عن العدالة المطلقة ، فاستعار دون ان يعى مفهوم المسيح المخلص ، واصبغه على طبقة اثارت شفقته ، واستفز شقاؤها حسه العميق بالعدالة . وقد ظل ماركس فى نضجه وشيخوخته امين امانة مدهشة ، لمشروع كان قد صاغه فى صباه . ان من يقرأ نصوصه حول العمال الفرنسيين ، والعمال المهاجرين الالمان - الذين يشع النبل من اجسادهم - سيدرك بسهولة ما نرمى اليه . ان المطلع على اعمال ماركس لن يجد فى ترشيحه للبروليتاريا لقيادة التاريخ الانسانى سوى اسباب واهية .)

يهمنا التأكيد هنا على ان الحزب الشيوعى بقدر ما يدخل مؤتمره الخامس بكامل النقاء الماركسى ، فانه انما يدخله بكامل اغترابه ايضا عن روح العصر وطبيعة معالجته لقضاياه ، فقد هجرت العلوم الانسانية تقاليد التخندق فى مدارسها القديمة والتخلى عن مقولة ان الحق لا يعرف الاّ من خلال تلك المناهج ، الى الاستفادة من كل اساليب البحث العلمى التى وفرّتها المناظير والمدارس الاجتماعية المختلفة بكل الوان طيفها السياسى وحدثت عملية تكامل بين هذه المدارس لاضاءة الظواهر الاجتماعية حيث يستطيع منظور ما كشف العتمة واجزاء ما منها حسب طبيعة الموضوع المراد تقصيه ومعرفته ، وقد كان للتركيب الجديد ميزات وفوائد عظيمة فى معالجة قضايا الواقع الاجتماعى والسياسى فى عالمنا المعاصر مثل قضايا التنمية ، والعدالة الاجتماعية، المرأة العالم الثالث ، والبيئة الخ ..
أهم المحاولات التى يمكن الاشارة اليها فى هذه السانحة هى اعمال البريطانى انتونى قيدنز Anthony Giddens المعروفة باسم Structuration وهو يعتبر على يمين الطيف السياسى، لانها تعطى فكرة جيدة عن كاتب استطاع ان يتخطى الحواجز الدوغمائية القديمة able to crossover his traditional boundaries وهى السمة التى تميّز الجيل الجديد من الباحثين فى مجالات العلوم الانسانية والاجتماعية كما سبق ان ذكرت. كما ان هناك امثلة ممّن فعل نفس الشىء من يسار الطيف السياسى من امثال يورغن هابرماس Jurgen Habermas وهو آخر فلاسفة مدرسة فرانكفورت المعاصرين ، وقد اخترت ان تكون بعض اعماله موضوع الجزء الثانى من هذا المقال، حيث سنرى كيف استطاع ان يقدّم تفسيرا جيدا للسؤال الذى عجز فلاسفة الحداثة عن التصدى له، والسؤال هو:
كيف استطاعت الرأسمالية ان تتعايش مع تناقضاتها وان تنمو وتتطوّر ؟
وسوف اتعرض انشاء الله لشرح آلية (اضفاء الشرعية ) legitimation اذا صحّت ترجمتى المتواضعة وكيف انها مكّنت الدولة الرأسمالية من النمو دون انفجارها من الداخل بفعل تناقضاتها الداخلية كما ادعى كارل ماركس يوما ما .
هذا ويعتبر هابرماس اهم من قاموا بمعالجة نظرية جيّدة لما عرف بالبناء الفوقى superstructure فى الماركسية الذى كان قد تحوّل الى اداة للسيطرة فى النموج الماركسى بدلا عن التحرر، وذلك من خلال تحرير المفهوم الفلسفى للخصوصية عن طريق جعل الكلى عوالم ثابتة وليست تجريد فلسفى كجوهر يتم تعميمه على الظاهرة المراد استنطاقها ، ولذلك سنلاحظ تقسيمه للمجتمع الرأسمالى المتقدّم الحالى الى ثلاثة انسقة تتفاعل مع بعضها من خلال تنسيق الدولة مع القطاع الخاص والجمهور من اجل ادارة الازمات ، وهو ما اسماه هابرماس بالعقلانية التواصلية.

هل يصلح المؤتمر الخامس للحزب الشيوعى ما افسد الدهر؟
فى الفرق بين الخيار الماركسى العتيد ومفهوم ادارة الازمات ليورغن هابرماس (٢)


حول مفهوم الازمة ( Crisis ):
فى خطابه الاخير بدامر المجذوب، قدّم البشير خطاب تحذيرى للغرب كعادته لكنه كان مشفوعا هذه المرّة ببشرى قرب انهيار الرأسمالية، وربما كان الرجل مدفوعا (بازماته) الخاصة نظرا لملاحقة المحكمة الجنائية الدولية له . لكن من المؤكّد أن الازمة المالية الاخيرة التى بدأت العام الماضى استدعت شبح المفكر كارل ماركس فى أذهان الملايين من سكان هذا الكوكب ، ولم يكن الاستاذ محمد ابراهيم نقد استثناء حينما صزّح بذلك فى كلمته الافتتاحية التى القاها على المؤتمر العام الخامس للحزب الشيوعى فى قاعة الصداقة، وان كان قد عبّر بشكل ما عن سعادته بسبب قناعاته النظرية خاصة بعد ان خزله الواقع بعد فناء الاتحاد السوفيتى (العظيم) حيث قام الرجل باستثمار فكرى كان قد كرّس كل حياته من اجله وبدا من الواضح صعوبة ان يرى حقيقة انهيار ذلك البناء ، وهنا ينطبق المثل الشعبى الشهير حقيقة ( الغرقان يتعلّق بقشة) وهو تعبير وصفى للحالة لا علاقة له باحترامنا لتجربة الرجل ايا كان اختلافنا معها. على اية حال قصدت ان اقول ان الملايين التى استدعى خيالها ماركس ربما تكون قد فعلت ذلك رغم انها لاتشارك السكرتير العام للحزب الشيوعى افكاره وقناعاته النظرية. تفسيرى الشخصى لذلك يتصل بمفهوم ماركس التقليدى (للازمة) كما سأبين لاحقا.
من الثابت ان كارل ماركس كان يعتقد بأن ازمة النظام الرأسمالى هى اقتصادية ابتداء، وذلك فيما يتعلق بانتاج وتوزيع واستهلاك السلع المادية. يتكىء هذا المفهوم على فرضة اساسية مفادها ان ازمة النظام الراسمالى تكمن فى انهيار قيمة الارباح على المدى البعيد وهو ما دفع بالرأسمالية الى البحث عن اسواق جديدة حتى فيما وراء البحار ، وهو ما اطلق عليه مرحلة الامبريالية (١) . هذه الفرضية تشكّل حجر الزاوية فى زعم الماركسية الشهير القائل بأن تناقضات النظام الرأسمالى هى تناقضات غير قابلة للحل مطلقا، علاوة على ان الهبوط فى الارباح يفسر حرص الصناعات الرأسمالية على تخفيض اجور العاملين مصحوبا بزيادة الانتاج وتحسين الكفاءة فيه من خلال التطوير المستمر للتكنولوجيا ، وهو قول سليم لا اتحفظ عليه مثل تحفظى على الاعتقاد الاول المتعلق بحتمية الانهيار للرأسمالية لو حتى على على المدى البعيد.
فى اللغة الانجليزية يوجد اختلاف بين كلمة مرض disease وكلمة مرض illness حيث المقصود بالاولى المرض فى شكل وبائيات او تغيرات باثولوجية تصيب الصحّة وتنحرف بها ، وبهذا المعنى تكون الكلمة الاولى تعبير عن المرض كحالة موضوعية موجودة خارج الانسان Objective ، بينما تعنى الثانية احساس المريض نفسه بالمرض وتجربته معه وهى تعبر عن حالة ذاتية Subjective. فى هذه الحالة فان تعريف كلمة (أزمة) هو تلك المرحلة الحاسمة بين انهيار المريض اوموته وبين مصارعته للمرض والانتصار عليه مما يعنى الشفاء والعافية . فاذا حدثت العافية نشكر الله على نعمتها ونكون قد انتصرنا على المرض (الموضوعى) وتحررنا من الاحساس بالضعف وعدم القدرة على امتلاك المصير التى كاد المرض ان يسلبنا اياها.
اما فى مفهوم (الازمة) فى الميثولوجيا الشعبية والادبيات الكلاسيكية والتراجيديا منذ عهد أرسطو وحتى هيجيل ، فان مفهوم (الازمة) يعنى نقطة التحوّل فى صيرورة الكوارث التى يخبئها القدر والساعية دوما الى تحطيم الانسان وسحق هويته وتدمير كل القيم والتقاليد التى يحملها. حيث ان التناقض والصراع بين الاقدار اللعينة وشخصية الانسان شىء ملازم للحياة وصراع ازلى لا نهاية له! ويمكن للاقدار ان تنتصر على الانسان مالم يستطيع الاخير استعادة حريته وقدرته والقضاء على القوة الاسطورية لتلك الاقدار اللعينة. وقد ورثت الاديان لاحقا ذلك المفهوم (للازمات) واستوعبته فى الصراع بين الخير والشر يتجاوز مسألة التغلّب على القدر او الشر فى تحرّر الذات ليصل الى مسألة الخلاص البشرى فى الدنيا والاخرة. وبذلك فان (الازمة) وفقا لهذا المفهوم المتعلق بالتناقض والصراع المتناميان حيث لا مفر من الاصطدام, قد ساد الاجواء الفكرية والروحية لا نستثنى وثنية الاغريق او مسيحية الرومان بل امتد ليشمل كل الاديان السماوية. وحينما بدات عمليات تأسيس علم الاجتماع الحديث فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، كان لا بد من التأثر بهذا المناخ وقد كان كارل ماركس هو اول من يرث هذا المفهوم التقليدى ويطلق كلمة (ازمة) وفقا له على كل النظام الاجتماعى !!!
ربما كان هذا الارتباط النفسى الخفى بمفهوم (الازمة) هو ما جعلنا نكون اقرب لمفهومها الماركسى عند حدوثها كما فى الازمة المالية الاخيرة وهو مايفسّر استدعاء خيالنا لماركس بدليل ان الاستدعاء كان قد تمّ فى اذهان الملايين ويشمل ذلك المتديّن منهم ممن يعتبر ماركس عدوا له لماديته التى شكلّت مفاهيم جديدة فى الفلسفة والعلوم الاجتماعية. وعليه اعتقد بصحّة التلميح الذى اطلقه السيد سكرتير عام الحزب الشيوعى على انى احتفظ بحقى فى اختلاف القراءة والتفسير بسبب ما ذكرته بعاليه.
نترك الارتباط النفسى بماركس فيما يتعلق بمفهوم الازمة لنعود ونتذكر ان الثيمة الاساسية لافكار الرجل ترتكز على حتمية انهيار النظام الرأسمالى بحكم تناقضاته الداخلية الغير قابلة للحل . بينما تختلف توصيفات هابرماس عنه اختلافا جوهريا حيث يعتقد الاخير ان (الازمة) هى من خصائص الرأسمالية الحديثة حيث تضعف مناعتها عند التعرّض للازمات. ولنتذكر هذا الفرق الجوهرى حينما اتعرض فى المقال الاخير لمفهومى اضفاء الشرعية وادارة الازمات.(2)
واواصل انشاء الله

مراجع:
(1) Luxemburg, Rosa. 1951. The Accumulation of Capital. Agnes Scharzschild,
Trans. London:Routledge and Kegan Paul
(2)Habermas, Jurgen 1975. Legitimation Crisis.Boston: Beacon Press


هل يصلح المؤتمر الخامس للحزب الشيوعى ما افسد الدهر؟
فى الفرق بين الخيار الماركسى العتيد ومفهوم ادارة الازمات ليورغن هابرماس (٣)

بينما يعتقد كارل ماركس بحتمية انهيار المجتمع الرأسمالى كما اوضحت فى الحلقات الماضية من سلسلة المقالات، حيث ان الاستقرار المؤقت الذى تنعم به هذه المجتمعات الرأسمالية فى رأيه ، انما يحدث بفضل عوامل اهمها عامل ايديولوجى يتعلق باستخدام الطبقة البرجوازية الحاكمة لاليات تزييف الوعى False Consciousness . فان يورغن هابرماس يعتقد أن الاستقرار فى المجتمعات الرأسمالية تعود أسبابه الى توفير الدولة للحاجات الادارية التى تدير دفة ما يعرف باشكاليات اضفاء الشرعية Legitimation وهى العمليات الخاصة باستمرار الدولة فى كسب تأييد الاغلبية الصامتة من الشعب بمستوى معقول من النجاح.
خلال القرن السابق خاصة بعيد الحرب العالمية الثانية، حدثت تغيّرات كبيرة فى بنيات المجتمعات الرأسمالية وفى كيفية ادارة المشروع الرأسمالى ، يهمنا هنا اثنين من تلك التغيّرات. الاول خاص بمدى نمو وتركز رأس المال حيث تمت هيمنة الشركات الاحتكارية Monopoly وشركات ما يعرف بالقلة الاحتكارية Oligopoly على حساب التنافس الحر الذى عرفت به الراسمالية على بداياتها . بمعنى اخر اصبحت الشركات المهيمنة على السوق قليلة العدد وهى تستطيع ان تسيطر على النشاط الاقتصادى من خلال تثبيت غير رسمى للاسعار والتحكّم فى الاسواق وتوجيهها من خلال الاعلانات التجارية وغيرها ، ولا ينحصر هذا التحكّم فى الصناعة وانما يتعداها الى التسويق بواسطة تكامل رأسى لمختلف الوظائف والفعاليات الصناعية تحت مظلة واحدة . افضل مثال على ذلك الثلاثة الكبار فى صناعة السيارات Big Three وهم شركات فورد وكرايسلر وجنرال موتورز.
اما التغيّر الثانى الذى أصاب بنيات الرأسمالية فقد تمثّل فى نمو وتطور الدولة وتدخلها فى شؤون القطاع الخاص ، وقد بدأ هذا التدّخل فى كل الديمقراطيات الليبرالية الغربية تقريبا بعيد الحرب العالمية الثانية، لا فرق بين تلك التى تحكمها احزاب سياسية محافظة او التى تحكمها اشتراكيات ديمقراطية. فالهدف من التدّخل كان دائما هو الاطّلاع بمهام ادارة الاعمال والانشطة الاقتصادية. ويأخذ الدور الذى تلعبه الدولة عدد من الاشكال مثل تنظيم المنافسات الاقتصادية وضبطها - من خلال التشريعات ومراجعة الاستثمارات الاجنبية - ضبط التلوث البيئى والحد منه ، تقديم الدعم والقروض والاعفاءات الضريبية لتحفيز الاستثمارات . وقد أصبح تدخل الدولة المتزايد واحدا من حقائق العصر ، كما اصبحت الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص فى ادارة وتخطيط الاعمال الاقتصادية احدى اهم سماته الظاهرة.

لغرض الدراسة والتحليل، فقد قام هابرماس بتقسيم الدولة والمجتمع الرأسمالى الى ثلاثة انسقة ، وهى الاقتصادى ، الادارى ، والنسق الخاص باضفاء الشرعية Legitimation System
أولا النسق الاقتصادى :-
وهو يتكون من قطاع عام احتكارى ، وقطاع خاص احتكارى ايضا بالاضافة الى قطاع ثالث تنافسى. يتميّز القطاعين الاول والثانى اضافة الى الطبيعة الاحتكارية وشبه الاحتكارية ، بكثافة راس المال حيث الاستثمارات فى مجالات مثل البترول ، والالكترونيات ، وصناعة السيارات، والفضاء والتسلح . ويشكل هذين القطاعين ما يعرف بسوق العمل الرئيسى حيث التعاقدات المعروفة باسم الاتفاقات الجماعية Collective agreements والتى توفر اجور عالية وضمانات وظيفية كافية مثل التأمين والترقيات . اما ما يميّز القطاع الثالث وهو قطاع صناعة الخدمات وتجارة التجزئة والتوزيع ، فهو كثافة العمالة والانخفاض النسبى فى الاجور وعدم توفّر الضمانات الوظيفية الكافية التى يتمتع بها العامل فى القطاعين الاول والثانى .
ثانيا النسق الادارى:-
يرمز للاشكال والمهام التى يؤديها جهاز الدولة الادارى المسئول عن الضبط والتخطيط، حيث تكون ادارة الاعمال الاقتصادية مسؤولية مشتركة بين الدولة والقطاع الخاص . هذا الوضع الادارى للدولة الرأسمالية يمكن تأريخه بنهاية فترة الركود الاقتصادى العظيم الذى ضرب الولايات المتحدة حينما ادخلت ادارة الرئيس الديمقراطى ثيودور روزفلت ما عرف باسم الصفقة الجديدة New Deal ، اما بريطانيا فقد بدأت السير فى هذا الاتجاه بنهاية الحرب العالمية الثانية وذلك بادخال حكومة العمال بقيادة كلمنت اتلى ما عرف بخدمة الصحة الوطنية National Health Service . واليوم فان كل الحكومات الغربية تقوم بادارة دفة الاقتصاد واوجه نشاطه المتعدد بما فى ذلك اتجاهات الاستثمار، تقديم الدعم والقروض، عروض السعر الخاص بالتعاقدات الحكومية ، تقديم ضمانات الاسعار وغيرها . اضافة الى تدخلات الحكومة من اجل تأمين الاستقرار الاقتصادى بشكل غير مباشر بالاستثمار فى مشاريع البنى التحتية (مواصلات، اسكان، تعليم، ابحاث، تنمية ورعاية صحية فى بعض الدول الخ....
بالتحطيط الاقتصادى المنسّق مع القطاع الخاص، تسعى الدول الرأسمالية المعاصرة نحو منع حدوث الاضطرابات الخطيرة فى الدورات الاقتصادية المتعاقبة.
ثالثا نسق الشرعية :-
او اضفاء الشرعية ، وهو يمثل مجمل البناءات الايديولوجية (سياسية واقتصادية) للدولة الهادفة الى احداث حالة من الاستقرار والاجماع الجماهيرى العام . حيث يعتقد هابرماس انه ومن خلال هذا النظام تعمل الطبقات الحاكمة على تطوير الاستراتيجيات والميكانيزمات لاستقطاب التأييد الشعبى بقدر الامكان اضافة الى مهام تخفيض حدة التوترات الطبقية. يتم تأكيد او تركيز شرعية الدولة من خلال تقوية الحقوق المدنية (حق التصويت، حرية التعبير، حق التملّك الخ...) وذلك جنب الى جنب مع عملية عكسية تهدف الى اضعاف المشاركة الايجابية فى مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية، حيث يعمل النظام فى هذه الحالة على تشجيع وتعزيز الهوية الفردية للمواطنين Individual Identities (كمواطن فرد وعضو اسرة) وذلك على حساب الهوية الجماعية ٍSocial or Collective Identity ( اى كعامل او مستهلك)، ويصف هابرماس هذه العملية او الصياغة المتناقضة الخاصة بتقوية العلاقات الفردية على حساب العلاقات الطبقية او علاقات المجموع ، بعملية (خصخصة المجتمع المدنى ) اذا وفّقت فى ترجمتى لعبارة Civil Privatism ويعتبر هذا النوع من الخصخصة اهم اداة فى ميكانيزمات المساومة الطبقية التى تحدث فى المجتمع class compromise كما سنرى .
اضافة الى الوضع المؤسساتى لتقاليد خصخصة المجتمع المدنى ، هناك عدة طرق تقوم الحكومات والوكالات التابعة لها ، بعمليات اضفاء الشرعية. اهم تلك المجهودات تعتبر الخاصة بحل النزاعات فى مواقع العمل على اعتبار انها المهدد الاكبر لعمليات التراكم، وقد تمّ ادارتها بنجاح من خلال عملية التفاوض الجماعى The Process of Collective bargaining حيث اصبحت بموجبها دوائر العمال والادارات والدولة ، شركاء partners فى اتخاز العديد من القرارات ومن بينها تحديد هيكل الاجور، لكن هذه هذه الشراكة تنحصر فقط داخل القطاعين الاقتصاديين الاول والثانى المشار اليهما بعاليه حيث الطبيعة الاحتكارية وكثافة الاستثمار وايضا (وجود النقابات العمالية المعترف بها) . ساهمت هذه السياسة فى شق صفوف العاملين حيث اصبح هناك شريحتين ، الاولى تمتع بحماية نقابية قوية واعتراف من الدولة ووضع اقتصادى مريح وشرائح اخرى من العاملين ذوى الاجور الضعيفة نسبيا والضمانات الوظيفية الغير كافية وتشمل فئات العاملين فى القطاع الاقتصادى الثالث وهو التنافسى الخدمى الذى كنت قد اشرت اليه خلال تعرضى للنسق الاقتصادى بعاليه. وهذا يعنى انك قد تكون من ذوى الياقات البيضاء ولكنك تتقاضى اجرا يقل كثيرا عن ذوى الياقات الزرقاء من عمال مصانع السيارات مثلا، وذلك لمجرد كونك تعمل فى القطاع الاقتصادى التنافسى الثالث !
يهمنا التأكيد على حقيقة ان عملية فض النزاعات الصناعية هذه التى تمارس فى الدول الرأسمالية المعاصرة، فيما يخص القطاعين العام والخاص الاحتكاريين ، قد تمّ السيطرة عليها تماما من خلال المساومات التى تتم فى التفاوض الجماعى اضافة الى تثبيت وادارة الاسعارالتى تساعد عليها الطبيعة الاحتكارية للقطاعين المذكورين. هذا الواقع اعان الدولة على ضرب وحدة العاملين بطرق مختلفة. ظهور قطاعات من العمالة ذات الاجور العالية واخرى ذات اجور منخفضة هو تفاوت بيّن فى مستوى المعيشة بين ابناء طبقة واحدة !. قادت الطبيعة الاحتكارية للدولة الى بروز ظاهرة الازمة* الدائمة فى القطاع المالى ، الى حيّز الوجود وذلك حيث ان طبيعة عمليات المساومة يعقبها دائما تقدم عملية التراكم الراسمالى للقطاع الخاص على حساب مؤسسات القطاع العام. ولذلك فان وجود تكلفة اجتماعية عالية كمخلفات لعملية تراكم الارباح التى يجنيها القطاع الخاص ، هى سمة ملازمة لطبيعة المساومات التى تحدث فى الديمقراطيات الليبرالية، خاصة فى واقع العولمة الذى نعيشه . يتم تمرير هذه التكلفة او الخسائر ان شئت الدقة ، التى تحدث فى القطاع العام الى طبقة العاملين بعدد من الطرق. ولان الاحساس السلبى للدوائر المختلفة فى المجتمع بهذه التكلفة مختلفا نتيجة لتفاوت نصيب كل منهم ، فانه يحدث تفاوت اخر فى المستويات المعيشية لهؤلاء - تشمل كلمة هؤلاء دوائر المرضى ، كبار السن، العاطلين، المتشردين، المستهلكين، الاباء والامهات الخ -.كل هذا التفاوت يخدم الغرض المتعلق بتكوين مجموعات متفاوتة فى مصالحها الاقتصادية special interest groups مما يضع عقبات اضافية تقطع اية امل ممكن فى اتحاد العاملين او وحدتهم working class solidarity ولذلك اعيد ما كتبته بان الرأسمالية المعاصرة تجبرنا على تعريف انفسنا كافراد على حساب كوننا اعضاء فى طبقة واحدة ، حيث تمت عملية اغتيال ادارى للهوية الطبقية هذه ، مما يجعل المواطن فى الديمقراطيات الغربية يبحث دائما عن حلول فردية لمشاكله، سياسية كانت ام اقتصادية .
اتطرق فى المقال القادم باذن الله، الى طبيعة التحديات او - الازمات - الثلاثة التى يعتقد هابرماس انها تواجه المجتمعات الرأسمالية الحديثة.

* يجدر الاشارة الى ان استخدام كلمة ازمة فى هذا المقال مقصود بها ضعف مناعة المجتمع وليس مفهوم الازمة الماركسى المتعلق بالتناقضات وحتمية انهيار الرأسمالية ، اذ ان مفهوم ماركس يعتبر ميتافيزيقى متوارث كما شرحت فى المقال السابق .
المرجع التالى هو المعتمد فى هذا المقال والذى يليه:


(2)Habermas, Jurgen 1975. Legitimation Crisis.Boston: Beacon Press




ى الفرق بين الخيار الماركسى العتيد ومفهوم ادارة الازمات ليورغن هابرماس (٤)



قبل اسبوعين تقريبا، احتفلت الصين بالسنة الصينية الجديدة حيث تطلق اسم (عام الثور) على هذا العام ، ويرمز عام الثور فى الثقافة الصينية الى التفاؤل تجاه المستقبل و يعتقد اهل الصين ان من يعمل بجد فانه حتما سيجنى فوائد ذلك العمل والاجتهاد، وهو يحمل نفس المعنى المتعارف بيننا ( من كد وجد). وربما شهد الناس فى كل اسواق مدن امريكا الشمالية الكبرى احتفالات الجالية الصينية الضخمة بهذه المناسبة حيث نظمت مهرجانات الرقص من داخل حيوان التنين المحمول و المصنوع من الجلود و اللدائن dragon.
القيم التى تشجع على العمل والاجتهاد متوفرة وسط مختلف مجتمعات العالم واديانها وثقافتها، وهى قيم تصبح عادة مهددة فى فترات الركود الاقتصادى ، او حين تكون ادارة الاقتصاد قائمة على فلسفات خاطئة تراعى مصالح قلّة من البشر على حساب مجموع الشعب. وقد شهدنا ونشاهد على عهد الانقاذ كيف ان الحركة الاسلاموية منذ استيلائها على السلطة فى السودان عن طريق الانقلاب العسكرى فى العام ١٩٨٩م ، قد رفعت شعارها الشهير الولاء قبل الكفاءة حيث تمّت السيطرة على الوظائف وتوفيرها فقط لعضوية التنظيم الدينى الاصولى وكل من يدور فى فلكهم، كذلك رأينا كيف قادت سياسات التعليم العشوائية الى ظهور عشرات الالاف من الخريجين ضعيفى التاهيل اولا ، ثم ظاهرة انعدام فرص تشغيلهم ثانيا. وهكذا فان قيم العمل work ethic هذه تتعرض للاغتيال حينما ينعدم ما يشجع الانسان على العمل والاجتهاد مثلما حدث للاجيال عديمة الحظ التى عاصرت (ثورة الانقاذ ) .
هذا يقودنا الى محاولة فهم اولى ازمات المجتمعات الرأسمالية المتقدمة والتى اطلق عليها يورغن هابرماس اسم ازمة الاخلال بالتوازن البشرى anthropological balance وهى تشير الى ازمة القيم التى كانت تحض على الاجتهاد والعمل حيث تجد المجتمعات الرأسمالية صعوبة كبيرة فى عملية الصياغة الاجتماعية socialization للافراد من اجل تشجيعهم على العمل والمشاركة فى الانتاج و بناء المجتمع ، يحدث ذلك عادة عند انعدام فرص الدراسة الجيدة او فرص العمل فى القطاعين العام والخاص بسبب تخفيض الوظائف وميزانيات التعليم عند حدوث الركود الاقتصادى . وبذلك تصبح التقاليد والاعراف وقيم العمل والمشاركة، فى خطر لان الواقع يفقدها قدرتها على تحفيز افراد المجتمع وتشجيعهم على الكد والمشاركة والاجتهاد.
اما الازمة الثانية التى تواجه المجتمعات الرأسمالية المتقدمة فهى حاجة رأس المال الخاص للتوسع والتراكم على حساب المصادر الطبيعية وتلويث البيئة ، ولذلك تواجه الدولة صعوبات جمّة فى التوفيق بين حماية المصالح الخاصة هذه وتشجيعها على النمو، وفى نفس الوقت حماية البيئة من التلوث وعلى رأس ذلك تأتى اهمية تخفيض انتاج الغازات المتولدة من التصنيع للحد من ارتفاع درجة حرارة الكون فى المستقبل. وهى مسالة تحتاج الى تخطيط اجتماعى مركزى من قبل الدولة الرأسمالية ، وتعتبر مهمة شاقة فى المجتمعات الرأسمالية بالنظر الى طبيعة رأس المال وميله العظيم نحو تراكم الارباح.
الازمة الثالثة والاخيرة التى تواجه المجتمعات الرأسمالية المتقدمة هى مسالة التسلح بشقيها النووى والتقليدى وهى ترتبط بميل رأس المال الى تراكم الارباح على المدى الطويل ايضا ( فى القطاع العام الاحتكارى كما اوضحت فى الحلقة السابقة حينما تناولت النسق الاقتصادى) والسلاح سلعة غير منتجة فى حالة السلم وتوفر الاحساس بالامان والثقة بين الشعوب ، وستستمر حالة تراكم السلاح هذه حتى مع زوال ( العدو الخارجى الحقيقى او المتوهم) مالم تتم - حسب ما يرى هابرماس - عملية اعادة تنظيم هذه الصناعة بحيث تتبع الى القطاع العام شكلا وموضوعا.
اعلاه هى الازمات الدولية الثلاث التى يعتقد يورغن هابرماس بانها تنشأ بفعل الديناميكيات الاقتصادية والادارية للعالم الرأسمالى ، وهى عمليات او ازمات تتولد داخليا مع تطور ونمو المجتمعات الرأسمالية المعاصرة . على ان اهم هذه الازمات هى الاجتماعية المتمثلة فى عمليات اضفاء الشرعية Legitimation crisis وهنا المقصود بالازمة هو وسائل الدولة لتأمين التزام وولاء الجماهير حتى تعمل وتشارك فى المجتمع الرأسمالى المعاصر.
يعتقد هابرماس أن الحاجة لزيادة الكفاءة الانتاجية ( المصاحبة لتراكم الارباح الرأسمالية) فى المجتمعات الرأسمالية المعاصرة تاتى دائما على حساب عملية اضفاء الشرعية ( ضمان ولاء اغلب الجماهير للدولة) . وكما راينا فى الحلقة الماضية فان الحاجة الى رفع الكفاءة تقابل بتدخل من جهاز الدولة الادارى فى محاولة تنظيم وتنسيق ودفع الاقتصاد. ورغم ان تدخلات الدولة هذه تساعد على تجنب الدورات الاقتصادية التقليدية ( مراحل الركود الاقتصادى ) ، الاّ ان ذلك يتم على حساب العاملين ، اى ان الفاتورة الضخمة لهذا النوع من الادارة تدفعها الطبقات الوسطى والدنيا. وتاخذ شكل تضخم دائم وازمات مالية ( عجز فى ميزان المدفوعات، وديون) وافقار على المدى الطويل للقطاع العام ( التعليم، الرعاية الصحية، الخدمات الاجتماعية المختلفة) . ولذلك يعتقد هابرماس ان تدخل الدولة وتمدد دورها فى النظام الرأسمالى الحديث يجلب معه مزيد من الاحتياج الى عمليات اضفاء الشرعية Legitimation .
السبب فى ان المزيد من تدخل الدولة يميل الى خلق مزيد من الاحتياج لعملية اضفاء الشرعية من اجل ادارة (الطوارىء) التى قد تتصاعد كى تصبح (ازمات) ، يكمن هذا السبب فى الدور المتناقض الذى يقوم به جهاز الدولة ومحاولته للتوفيق بين مصالح متضاربة. فجهاز الدولة مناط به حماية وتنمية مصالح متناقضة من اجل المحافظة على كل من الكفاءة الانتاجية والشرعية فى ذات الوقت. هذه المصالح مقصود بها مصالح اصحاب رأس المال ومصالح الدولة الرأسمالية، ثم مصالح الجمهور العريض لان ولاء الجماهير يعتبر اساسى من اجل ضمان استمرارعمل مختلف قطاعات المجتمع. على انه ومن خلال مجهوداته فى التخطيط الاقتصادى وعقلنته، وتسيير دفة المؤسسات ( من اجل ضمان تواصل تراكم راس المال) والقطاعات الاجتماعية، فان جهاز الدولة يضطر الى مصادمة التقاليد والقيم الموجودة فى المجتمع. فى هذه الحالة فان رفع الكفاءة الانتاجية يأتى على حساب القيم الثقافية للمجتمع الرأسمالى التقليدى مثل اخلاق العمل work ethic ويدخل فى نزاع معها. وكما زكرت فى صدر هذا المقال فان النزاع مع القيم التى تقوم بالصياغة الاجتماعية للافراد socialization ، يحمل معه جرثومة الفتك بتلك القيم والاعراف مما يهدد الثقافة الرأسمالية نفسها حيث كانت تلك القيم والتعاليم تقوم بدورها فى تحفيز الانسان على العمل والاجتهاد، الامر الذى يدخل المجتمع فى ازمة اضفاء الشرعية. خلال مثل هذه الازمة ، فان الايديولوجيات التقليدية التى كانت تعمل فى اتجاه تكامل الافراد مع المجتمع الراسمالى المعاصر قد يتم اهمالها او التضحية بها لمصلحة بديل ما على شاكلة توصيفات راديكالية من اجل احداث الفعل الاجتماعى المطلوب.
ان الحاجة لادارة الاحتياجات المتنامية بفعل ارتفاع الكفاءة الانتاجية (التكنولوجيا) ياتى دائما على حساب اضفاء الشرعية ذو الطابع التقليدى ولذلك يعتقد هابرماس ان ادارة الازمات واضفاء الشرعية (ضمان ولاء غالبية الجماهير) اصبح فى حد ذاته يمثل الازمة المركزية فى المجتمعات الرأسمالية المتقدمة.


مراجع:
Habermas, Jurgen 1975. Legitimation Crisis.Boston: Beacon Press


هل يصلح المؤتمر الخامس للحزب الشيوعى ما افسد الدهر؟
فى الفرق بين الخيار الماركسى العتيد ومفهوم ادارة الازمات ليورغن هابرماس (٥ - ٥)

فى الحلقات الاربع السابقة كنت قد توجهت بانتقادات الى قيادة الحزب الشيوعى ومؤتمره العام الخامس، على انى اختم اليوم سلسلة هذه المقالات باعادة تلك الانتقادات لاهميتها كونها تتعلق بأهم قضيتين وهما الديمقراطية (الاصلاح الديمقراطى فى السودان) واخرى تعتبر اشكالية حداثية (مفهوم الازمة عند كارل ماركس).

اولا قضية الاصلاح الديمقراطى داخل الحزب الشيوعى:-
أعتقد جازما بانعدام مصداقية الاستاذ محمد ابراهيم نقد حينما أعلن اعتذاره وتحمله مسؤولية تأخّر انعقاد المؤتمر العام الخامس لاكثر من اربعة عقود من الزمان، خاصة وان الظروف السياسية كانت تسمح بقيامه بعد انتفاضة ابريل ١٩٨٥م وهى الظروف نفسها التى اختارت فيها قيادة الحزب الاحتفال بالعيد الاربعين للتأسيس ، بدلا عن عقد المؤتمر العام الخامس. اتهامى للاستاذ نقد بانعدام المصداقية فى اعتذاره ذاك يعود الى أن الاعتذار لم يصاحبه تعديل للمبادىء التنظيمية التى تحكم الحياة الداخلية لحزبه ، الامر الذى لا يوفر ضمانات لعدم تكرار مثل تلك الاخطاء الفادحة، حيث تمّ تعديل المركزية الديمقراطية لأن يكون اسمها الجديد هو الديمقراطية المركزية مع احداث تغييرات اجرائية شكلية لا تمس الجوهر، فتظل قواعد الحزب الشيوعى غير قادرة على التنسيق الافقى من اجل اجبار القيادة على عقد المؤتمرات العامة فى حالة تقاعسها عن فعل ذلك ، لانها ببساطة ما زالت مقطعة الاوصال بفعل المركزية التنظيمية التى تحرّم التنسيق الافقى بين الهيئات القاعدية للتنظيم.

ثانيا حول مفهوم الازمة عند كارل ماركس:-
كنت قد كتبت عن احتفاء السيد نقد فى كلمته الافتتاحية للمؤتمر بقاعة الصداقة، بما عرف بالازمة المالية العالمية الاخيرة. ولا اختلاف من جانبى حول حقيقة ان تراكم رأس المال الخاص يأتى على حساب دافع الضرائب ، خاصة من ابناء وبنات الطبقات الوسطى والدنيا، وهو ما أشار اليه يورغن هابرماس حينما تحدث عن عمليات تدخل الدولة واضفاء الشرعية التى كنت قد كتبت عنها فى المقالين الاخيرين Legitimation System ، ولكن الخلاف كان حول مفهوم (الازمات) عند كارل ماركس والذى لا يخرج عن كونه استبطان واستلاف لمفهوم الازمات الذى كان سائدا فى عصره سواء المفهوم السائد فى وثنية الاغريق او مسيحية الرومان او الموجود فى كل الاديان السماوية وربما يذكرنا الانفجار الدراماتيكى الحتمى للرأسمالية بفعل تناقضاتها الداخلية والثورة التى تقودها الطبقة العاملة، يذكرنا بقوم عاد وثمود فى القصص القرآنى. ولا تسريب على الاديان طالما ظلّت القيم هى موضوعات المجتمعات الانسانية، ولكن تصبح المسألة مدعاة للتهكم حينما تصدر من نظرية اجتماعية تدّعى العلمية وتتدثر بلباسها. لعل الاختفاء الدرامى لما كان يعرف بالاتحاد السوفيتى (العظيم) والمنظومة الاشتراكية هو الاقرب الى ظاهرة اختفاء نظام اجتماعى كامل فى لمح البصر، وهو من سخرية الاقدار!

الماركسية ابن غير شرعى للمدرسة التجريبية:-
تقوم المادية التاريخية على تعميم جوهر القوانين الطبيعية وتسميه الكلية الفلسفية ثم تقوم بتطبيقه على المجتمعات (الخصوصية الفلسفية) وهو الامر الذى يضعها فى تضاد مع المدارس الانسانية بما فى ذلك مدرسة فرانكفورت التى يمثلها هابرماس برغم من ان هذه المدرسة نشأت برأسين احدهما ماركسى والاخر هيجيلى، ولكنى ازعم بانها انفصلت عنهما تماما ، ويمكن مناقشة هذا الزعم على مستوى الافتراضات التخصصية الاساسية domain assumptions . وهنا اعنى الجوانب الايديولوجية، الانطولوجية (طبيعة المعرفة)، والابستمولوجية اى المعرفية . فى الجانب الاول كنت ذكرت ان الحزب الشيوعى السودانى حينما دخل مؤتمره الخامس بكامل النقاء الماركسى ، فانه انما دخله ايضا بكامل اغترابه عن العصر، وهو العصر الذى زالت فيه الحقبة التى تزعم فيها نظرية ما قدرتها على الاحاطة التامة والشاملة بكل شىء وامتلاكها لمفاتيح الحقائق، وذهبت الى ذمة التاريخ وخف الضجيج الذى كان يثيره الصراع بين البنائية الوظيفية من جهة اليمين ونظرية الصراع من جهة اليسار وذلك حتى انقطع تماما مع نهاية سبعينات القرن الماضى. بدا الان عصر جديد يقوم على التركيب synthesis من كل النظريات والاستفادة من كل جديد فى الابحاث الاجتماعية. وقد رأينا كيف قام هابرماس بابراز التناقض بين تراكم رأس المال والقيم الثقافية واعتبارها تشكل الازمة المركزية للمجتمعات الرأسمالية المعاصرة حيث السعى الى انجاز الكفاءة بفعل نزوع رأس المال الخاص نحو تراكم الارباح الذى يأتى على حساب الوظائف والتعليم والصحة، يستدعى تربية جديدة واعادة صياغة اجتماعية حيث لم يعد هناك حافزا للعمل بعد ندرة الوظائف واتشار البطالة. ما يهمنا هنا هو امران : الاول استخدام ادوات البنائية الوظيفية جنبا الى جنب مع نظرية الصراع او النزاع ، اما ثانيا: فهو استخدام الانسقة الثلاثة الاقتصادية والادارية والشرعية كعوالم ثابتة فى محاولته لفهم التحولات التى طرأت على المجتمعات الرأسمالية المعاصرة وذلك بدلا عن تعميم جوهر فلسفى كلى يقوم بتخريب معرفة الخصوصية الفلسفية . ولعلنا هنا نتذكر الاكذوبة الماركسية الكبرى المعروفة باسم نمط الانتاج الاسيوى وكأن هناك خصوصية واحدة فقط تقع خارج اطار المجتمعات الاوروبية الغربية ومركزيتها ، بدلا عن عوالم متعددة وتجارب وثقافات بشرية غنية ومتنوعة.
فى الجانب الوجودى فمن الواضح ان ماركس لم يستطع التخلص من التقاليد النظرية السائدة فى عصره، مثلما لم يستطع الخروج عنها وجدانيا حينما قام باستلاف مفهوم الازمة كما ذكرنا سابقا. فقام باعتماد المجتمع كاشكال ومؤسسات وطبقات على حساب الافراد وخصما عليهم ،اذ اعتبرهم مجرد قطيع سالب، وهو شكل من التفكير يعرف بالكلية sociological holism لانه يقوم بتغييب الانسان الفرد ، ويقابل مفهوم الكلية هذا مفهوم اخرشبيه فى التطرف لكنه مضاد فى الاتجاه، يعتقد باهمية الافراد ويختزل المجتمع على اعتباره مجرد تجريد ، ويعرف بمذهب الفردية sociological individualism ، وعند التحدث عن تقاليد العصر ربما يقفز الى الذهن ايميلى دوركهايم ودراسته الشهيرة عن الانتحار حين نجح فى توضيح ان معدلات الانتحار تتحكم فيها عومل خارجة عن الافراد، عبارة عن حقائق اجتماعية ضاغطة عليهم ، وقد اضاء بذلك معارف كبيرة حول الظاهرة الاجتماعية ، ولكن ليس كلها، حيث تظل هناك مساحات واسعة مظلمة تحتاج الى دراسة كل حالة اتنحار على حدة ، واستجواب من كانوا حول القتيل لمعرفة دوافع الانتحار هذا اضافة الى العامل الذاتى المتعلق بالتردد فى تسجيل حالات الوفاة كانتحار نسبة لتعارضها مع الاديان والقيم السائدة فى كل المجتمعات تقريبا ، يعتبر الانتحار عيب وعار يلتصق باقارب القتيل ولذلك يتردد مسؤول الاحصاء فى المستشقي كثيرا قبل تقيده الوفاة كانتحار. ذلك يعنى ان معدلات الانتحار المسجلة رسميا والتى اعتمد عليها دوركهايم تقل كثيرا عما يحدث فعلا فى الواقع.
على الصعيد الابستمولوجى وهو المتعلق بكيفية معرفة الحقائق الاجتماعية، فقد انحازت الماركسية الى المدرسة الطبيعية التى لا تعتقد بوجود فرق اساسى بين دراسة العلوم الطبيعية وبين دراسة المجتمع البشرى ، ولذلك فان الهدف من دراسة المجتمع هو تفسيره من اجل التنبؤ بالظواهر الاجتماعية المتكررة، حسب زعمها. تعتد هذه المدرسة بتركيب النظريات الاجتماعية بناءا على التحليل القائم على علاقات السببية.
وفى العلوم الطبيعية مثلا يتم دراسة ظاهرة الكسوف الشمسى من اجل فهم الاسباب والتنبؤ بمكان وزمان الكسوف القادم بالدقة المطلوبة. جدير بالذكر ان تنبؤات ماركس حول الانفجار الحتمى والدرامى للمجتمعات الرأسمالية عن طريق التغيير الثورى للبروليتاريا تعتبرها المدرسة التجريبية او الطبيعية تنبؤات غير علمية لانها لم تطرح اسباب كافية وجدول زمنى لحدوث ذلك (الانفجار العظيم) Time frame وهى محقة فى ذلك ، مما يعنى ان الماركسية تعتبر ابنة غير شرعية للمدرسة الطبيعية.

خاتمة::-
فى مقابل المدرسة الطبيعية ظهرت وتطورت المدرسة الانسانية humanism حيث تشكل مدرسة فرانكفورت الفلسفية عصبها الحى بجانب اخريات، تعتقد ان دراسة المجتمع البشرى تختلف عن دراسة العلوم الطبيعية، وان دور البحوث والدراسات الاجتماعية هو فهم النشاط الانسانى وتفسيره سواء اخذ ذلك النشاط شكل كلمات شفهية او خطاب مكتوب وموثق او سلوك اجتماعى متكرر. ولذلك فهى تعتمد اضافة الى السببية، على التحليل التفسيرى Hermanuetic analysis وهو تحليل يقوم على محاولة فهم وترجمة المعانى الانسانية للنشاط interpretation and understanding وبينما تقوم المدارس الطبيعية على دراسة موضوعها البشرى من الخارج عن طريق الملاحظة والتجربة ، فان المذهب الانسانى يختار دراسة موضوعه من الداخل باتباع طريقة التفسير والفهم وهو بذلك يكون قد اختار مشروع ابستمولوجى مختلف تماما.
تعتبر عقلانية ماكس فيبر ودراسته حول البيروقراطية والاقفاص الحديدية واخلاق العمل البروتستانية من نماذج النظريات التى لا يمكن اختبارها تجريبيا، ولكنها ومع ذلك ، فقد استخدمت بخصوبة بالغة فى حقل الدراسات الاجتماعية مما يؤكد ضعف حجج اصحاب المذاهب الطبيعية. وعقلانية فيبر اضافة الى التحليل النفسى عند فرويد والبنائية الوظيفية شكلت كلها اساس التركيب النظرى الذى قامت على اكتافه النظرية النقدية عند هابرماس. فباستخدام فهم معانى النشاط الانسانى عند فيبر مثلا يمكننا معرفة وتفسيرالنشاط العملى لاعضاء ما كان يعرف بالجبهة الاسلامية بعد الانقلاب العسكرى لما عرف (بثورة الانقاذ)، حين وفر لهم الانقلاب الانفراد بالوظائف العليا الحساسة على حساب اصحاب ذوى الكفاءات الذين طردوا بحجج الاحالة الى الصالح العام، فاعتقد هؤلاء ان ما اصابهم ما هو الاّ فتحا ربانيا ورزق اتى به الله نفسيرا للاية الكريمة التى تبشر بنزول الرزق على من آمن واتقى. وهو مفهوم يقترب كثيرا من ظاهرة صكوك الغفران الذى كانت تمارسه الكنيسة الكاثوليكية فى العصور الوسطى . فى مقابل مفهوم اخر للنشاط الانسانى يعتقد ان الايمان يقوم على العمل الجاد وحب الاخرين والتسامح والتقشف والابتعاد عن التبذير وهو مفهوم يتبناه عدد من المستنيرين دينيا فى السودان وعلى رأسهم مدرسة الفكر الجمهورى بطابعها الاصلاحى لانه يقترب كثيرا من مفهوم التقشف فى الاصلاح الدينى البروتستانى الذى كان ماكس فيبر قد افاض فى شرحه حيث يكون الانسان وفقا للمفهوم الاخير منتخبا فقط من قبل العناية الالهية ولذلك فهو يعمل بكثير من الاجتهاد فى اتجاه التقشف وعمل الخير ( وهو مفهوم يبتعد كثيرا عن مفهوم الكنيسة الكاثوليكية حيث ضمان دخول الجنة ومنح مفتاحها وهو منح كان قد قدمه الترابى من خلال ممارسته النظرية على اية حال لكل اعضاء تنظيمه السياسى تمييزا ومحاباة، على حساب بنى جلدتهم . جيدر بالذكر ان الروح الاصلاحية البروتستانية ( الكالفانية) هى التى ساعدت على تراكم راس المال فى مراحله الاولى حيث لم يتم تبديده كما فعلت فرنسا الكاثوليكية حينما بددت ثرواتها على عهد لويس الرابع عشر على ما اعتقد. الاصلاح الدينى ودوره فى ذلك التراكم كان قد اغفله كارل ماركس وذلك كنتيجة طبيعية للعيوب النظرية التى لخصناها فى عاليه وقد قدم ماركس انصاف الحقائق فى العديد من قضايا الفلسفة والسياسة والاقتصاد ولا يمكن بالطبع تخطيه كفيلسوف كان قد صعد اساسا على اكتاف عمالقة سبقوه ، فاستطاع ان يتبين بعض دروب الغابة الشائكة، بيد ان تخطى البناء الفلسفى الذى اشاده والمسمى ماركسية ، اصبح ضرورة من اجل الاصلاح الديمقراطى والشفافية فى المجتمع.



#طلعت_الطيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- وفاة الملحن المصري محمد رحيم عن عمر يناهز 45 عامًا
- مراسلتنا في الأردن: تواجد أمني كثيف في محيط السفارة الإسرائي ...
- ماذا وراء الغارات الإسرائيلية العنيفة بالضاحية الجنوبية؟
- -تدمير دبابات واشتباكات وإيقاع قتلى وجرحى-.. حزب الله ينفذ 3 ...
- ميركل: سيتعين على أوكرانيا والغرب التحاور مع روسيا
- السودان.. الجهود الدولية متعثرة ولا أفق لوقف الحرب
- واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
- انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
- العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل ...
- 300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - طلعت الطيب - هل يصلح المؤتمر الخامس للحزب الشيوعى ما افسد الدهر؟