أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - هايل نصر - قاضي التحقيق القاضي الأكثر إثارة للجدل2/2















المزيد.....


قاضي التحقيق القاضي الأكثر إثارة للجدل2/2


هايل نصر

الحوار المتمدن-العدد: 2562 - 2009 / 2 / 19 - 10:18
المحور: دراسات وابحاث قانونية
    


إصلاح يصل إلى الإلغاء
تحدثنا في المقال السابق عن الجدل المثار حول بقاء أو إلغاء قاضي التحقيق من القضاء الجزائي الفرنسي, ونرى من الفائدة , بعد أن طُرح موضوع الإلغاء من قبل رئيس الجمهورية, بعد 20 عاما من الجدل, بمناسبة احتفال محكمة النقض الفرنسية ببدء العام القضائي الجديد 17/01/2009 , الإشارة لبعض المواقف التي عبر عنها قضاة ونقابات قضائية, ورجال قانون وبعض الأحزاب السياسية من اليمين واليسار.
أكثر ما يحلم به رجل دولة في المركز الأول في المسؤولية هو تخليد اسمه بربطه بانجاز قانوني أو قضائي كبير. نابليون بونابرت لم ير في حكمه وفتوحاته وحملاته العسكرية مجدا غير منازع فيه, بقوله عام 1804 " مجدي الحقيقي ليس في الانتصارات التي حققتها في الأربعة عشرة معركة. معركة واترلو ستمحو ذكريات كل انتصاراتي. ولكن الشيء الذي لا يمحى, والذي سيبقى خالدا هو قانوني المدني" ( code civil le) . وكان شارل ديغول بإعلانه دستور الجمهورية الخامسة التي يعتبره البعض, والى اليوم, انه فصله على مقاسه, يعتز بما حدث في عهده من تطوير, وإصلاح, وبناء للمؤسسات القضائية. كما كان يفتخر فرنسوا ميتران بان من أهم انجازاته, في مدة رئاسته لفترتين متتاليتين, التي سيذكر بها هو إلغاء عقوبة الإعدام.
وضمن طموحات ساركوزي التي لا تخفيها تصرفاته, الحلم رغم كل شيء, بأن يصبح في مستوى سابقيه, وأن يربط باسمه انجازا قضائيا, فاقترح على عجل الانتهاء من الجدل المستمر منذ أكثر من 20 عاما, بإلغاء قضاء قاضي التحقيق.
وقبل عرض إصلاح ساركوزي في هذا المجال نشير إلى أن القضاء الجزائي الفرنسي يأخذ بإلاجراءات التحقيقية procédure inquisitoire. التي تتميز بأنها سرية. كتابية. غير وجاهية. ويجري التحقيق فيها بمبادرة القوة العمومية. دور المحامين خلالها سلبي فليس لهم أية سلطة تحقيق. قاضي التحقيق المستحدث عام 1808 والمستقل ابتداء من عام 1958, عليه أن يقوم بالتحقيق بالإثبات والنفي في الوقت نفسه. ويصدر أمره في الاتهام فقط. في هذا النوع من الإجراءات يحتل الاعتراف مكانة هامة. إجراءات طرأ عليها أكثر من 130 تعديلا بين الأعوام 1958 و 2003, لم تترك قاضي التحقيق مثلما وصفه بلزاك الرجل " الأقوى في فرنسا ".
في حين أن الإجراءات الإتهامية procédure accusatoire في النظام القضائي الانكلو سكسوني شفهية. علنية. وجاهية. مباشرة التحقيق تعود إلى الأطراف المتنازعة. وفيها يُعتبر الاتهام والدفاع متساويان أمام القاضي. ودور القاضي دور الحكم فيما يتعلق بالأدلة والمرافعات. يؤسس الاتهام على مفهوم "الشك المعقول doute raisonnable" . المرحلة السرية في التحقيق قصيرة جدا.
يدرك ساركوزي, المعروف بإعجابه بالنظام الأمريكي,ان بمطالبته إلغاء قاضي التحقيق يكون قد أثار مسألة تعني الكثير, ليس فقط للقضاة, ومعاوني القضاء, والقانونيين, وإنما كذلك للمتقاضين والمواطنين العاديين, ولكل متعلق بالتقاليد القضائية الفرنسية, وبالتاريخ الفرنسي , والقومية الفرنسية التي تصل عند قطاعات كبيرة من مختلف الطبقات الاجتماعية حد الشوفينية, وبان ذلك سيلهب نقاشا سوف لا ينتهي في فترة قريبة, يبقى هو فيها مركز ومحط الاهتمام والدعاية, واعتبر الكثير من هذه الفئات إن ذلك يعادل ثورة قضائية غير برئيه يقودها رئيس الجمهورية .
في خطابه في افتتاح العام القضائي أمام محكمة النقض في التاريخ المذكور أعلاه أعلن ساركوزي: " نعم العلاقات بين السياسة والقضاء في بلدنا الموسوم بتقاليد معينة, يمكن اعتبارها تنافس, وفي أحسن الأحوال حذر متبادل..مضيفا أن الاستقلال الضروري لقضاة الحكم الذين يمارسون السلطات القضائية, والاستقلال الذاتي المعتدل, تبعا لقاعدة التسلسل الوظيفي, والتي هي شرف قضاة النيابة, هي ضمانات للمساواة والنزاهة في ممارسة العدالة في بلدنا..."علينا إيجاد إجراءات جزائية جديرة بعصرنا". أي أن تكون أكثر حرصا على الحريات الفردية. .. وان تسود ثقافة الأدلة les preuves, ولا يبقى الاعتماد على ثقافة الاعتراف فقط. وان يحضر المحامون من الساعة الأولى للتوقيف garde à vue . على فرنسا أن تتحول إلى نظام جديد يتحاشى الإجراءات الاتهامية الصرفة الموجودة في العديد من الدول الانكلو سكسونية لتأخذ بنظام "وجاهي contradictoire " يمزج النظامين المذكورين . يتمنى الرئيس تعزيز المرافعات بين الاتهام والدفاع خاصة عند فتح الدعوى والوضع في الحبس الاحتياطي, الذي ستقرره جلسة علنية مؤلفة بتشكيل قضائي جماعي. ويريد وضع حد لسرية التحقيق الجنائي الذي هو أسطورة, ولكن لتحل محله سرية حقيقة للتحقيق.
قاضي التحقيق حاليا مكلف بالتحقيق في القضايا القضائية الأكثر خطورة, فهو قاض حكم مستقل عن السلطة التنفيذية, يقود مع الشرطة القضائية تحقيقات إثبات ونفي, فهو في الوقت نفسه محقق وحكم, مكلف ببناء الوقائع وإعداد الملفات, بهدف تنظيم الدعوى. هذه الشخصية المركزية في الإجراءات الجزائية في فرنسا تعتبر وحيدة جدا ومعزولة جدا. وهذا ما جعل قاضي التحقيق موضوع نقد غير منقطع منذ أكثر من 20 عاما.
ويذهب إلى القول بأنه لم يعد من المقبول المزج بين سلطات البحث التحقيق, والسلطات القضائية لقاضي التحقيق. فقاض مكلف بالتحقيق بعقلانية, لا يستطيع في الوقت نفسه ضمان حقوق الشخص المشتبه به .. قاضي التحقيق في وضعه الحالي لا يستطيع ضمان حقوق المشتبه فيه, وان يكون حكما, كيف يمكن آن نطالبه باتخاذ إجراءات إكراه بشكل يمس خصوصية الحياة الخاصة, عندما يكون قبل كل شيء مقاد بضرورة تحقيقه؟ . لذلك حان الوقت لان يترك قاضي التحقيق juge de l’instruction le مكانه لقاض للتحقيق juge de l’instruction يراقب مجريات التحقيقات ولا يمكنه ان يديرها.
يتضمن أيضا اقتراح الرئيس إعطاء سلطة الحبس الاحتياطي لقضاة حكم في تشكيل جماعي بجلسة علنية, إلغاء قاضي الحريات والحجز الذي تم استحداثه عام 2000.
استغل ساركوزي, في عرضه لمشروعه, الفضيحة القضائية المعروفة بقضية اوترو (عندما وضع قاضي التحقيق Fabrice Burgaud 12 شخصا في الحجز لمدة شهور لتتم تبرئتهم فيما بعد من قبل محكمة النقض , وقد رد البعض على ذلك هل نحن متأكدون بان هذه الفضيحة كان يمكن عدم حدوثها لو كان نائب الجمهورية مكان قاضي التحقيق في هذه القضية؟ ) ليبرر مثل هذا الإصلاح.
ومنه, يجب أن يذهب التحقيق الجزائي الذي يديره قضاة التحقيق, باعتبارهم قضاة مستقلون عن السلطة التنفيذية, إلى النيابة وقضاتها. وهؤلاء يتبعون السلطة التنفيذية, بطريق تعيينهم, و في مهنتهم, وفي تنظيمهم التدرجي الذي يوصل إلى وزير العدل. وعليه فان تحويل سلطات قاضي التحقيق المستقل, إلى نيابة عامة تتبع الحكومة, سوف لا يلقى رضاء وقبولا كافيين إذا لم تشمل هذه " الثورة القضائية" إصلاح النيابة العامة وصولا بها إلى الاستقلالية.
حين رأت لجنة القضاء الجزائي وحقوق الإنسان لعام 1990 التي كان يرأسها البروفيسور Mireille Delmas-Marty إمكانية إلغاء قاضي التحقيق ربطته بشروط تحدد مسبقا, ولم تخف إشكالية وتعقيد مثل هذا الإصلاح القضائي, خاصة بعد أن تبين لها صعوبة «فرضية قطع مطلق للروابط التي تربط النيابة العامة بالسلطة التنفيذية" .
تذهب اللجنة المذكورة للمطالبة بإلغاء قاضي التحقيق وإنما أرادت إنشاء أقطاب pôle تحقيق. وحصلت بهذا الصدد على التصويت على قانون 2007 الذي نص على إنشاء, ابتدأ من عام 2010 , قضاء تحقيق جماعي ينظر بالقضايا بهيئة جماعية من 3 قضاة بدلا من قاض واحد كما هو معمول به حاليا. علما بان عدد قضاة التحقيق محدود, 649 قاض, قياسا بعدد قضاة المؤسسة القضائية البالغ 8300 قاض. وهم معزولون. كما ان اللجنة البرلمانية التي تشكلت للنظر بقضية اوترو فكرت بالتعديل ولم تفكر بإلغاء قاضي التحقيق.
اعتبر اتحاد نقابات القضاة union syndicale des magistrats , الاتحاد الرئيسي للقضاة, فكرة الإلغاء هذه مخزية honteuse لأنها أولا تقود إلى " تعصب قديم لمسؤولين سياسيين". و"هذا تراجع في العمل الديمقراطي ونحن نعارضه" كما أعلن كريستوف Regnard رئيس الاتحاد.
أكثر من مئة قاض ومحام وكاتب ضبط استنكروا في تجمع لهم على درج قصر العدل في 7 جانفي إلغاء مهام قاضي التحقيق, مطالبين المجتمعين في مقر محكمة النقض, غير البعيدة عنهم, لسماع كلمة رئيس الجمهورية حول هذا الموضوع, الاستماع لاستنكارهم وغضبهم. لان هذا الإلغاء هو إلغاء لأحد الركائز الأساسية التي يقوم عليها النظام القضائي الفرنسي.
وكانت تعلو تصريحات في هذه التظاهرة للتعبير عن القلق والاستنكار والتشكيك مثل: نرفض ان يكون القضاء تابع للسلطة السياسية. كيف يمكن للنيابة المكلفة بملاحقة المشتبه بهم وتوجيه الاتهام لهم في جلسات المحاكم, أن تباشر البحث عن القرائن التي تقوم عليها تبرئتهم؟. سيؤدي هذا التعديل إلى خلل كبير في عمل العدالة. لا يمكن تصور مثل هذا التعديل دون تقديم ضمانات لحقوق الدفاع. وعلى اللافتات التي كانوا يرفعونها كتب: نائب (الجمهورية أو النائب العام) = قضاء تابع للسياسة = قضاء بمعيارين.
وشارك العديد من قضاة التحقيق المشهورين في التظاهرة, مثل قاضي التحقيق في مكافحة الإرهاب Marc Trévidic, , وعميدة قضاة التحقيق في باريس Françoise Deesset , وقاضية التحقيق قي قضايا الصحة العمومية Marie-Odile Bertelle-Geffroy وكانوا يصرحون بأن " مهمتنا هي البحث عن الحقيقة, ومهمة النيابة هي توجيه الاتهام ". إضافة لمحامين متخصصين في القانون الجزائي بينهم Patrick Maisonneuve و Françoise Cotta و Léon-Lef Forster عبروا عن معارضتهم ورفضهم لهذا الإصلاح.
معتبرين انه إذا مر هذا التعديل فانه سيكون على المشتبه فيه إثبات براءته, وهذا يحمل اللامساواة : فليس كل المتقاضين يملكون إمكانيات دفع التكاليف الباهظة لدفاع جيد". كما طالبوا بوقف التهويل, و وضع حد للأسطورة القائلة بان قاضي التحقيق "الرجل الأقوى في فرنسا", فقد " سحب من امتيازاتنا اختصاص الحبس الاحتياطي". "ما يغضبني, صرح قاض تحقيق متخصص في القضايا المالية, انه لصالح بعض الأفعال المتعمدة, الدعائية, التي تجلب الأضواء الإعلامية , يتم تقرير إصلاح لا يعبأ بالمبادئ الأساسية لنظامنا القضائي". ( Yves Bordenave, le monde électronique, 8/12/09 ( .
نقابات القضاة عبرت عن غضبها من إصلاح ترى فيه " نهاية لاستقلال القضاء الجزائي. وفيه موت نظام قضائي مستقل لان النيابة من السلطة". واعتبر رئيسها كريستوف ريكنار أن الأمر ليس إلا مجرد ثأر رجال السياسة من الملاحقات القضائية التي قام بها قضاة التحقيق في الثمانينات والتسعينات في قضايا الفساد".
"صحيح انه قبل 20 عاما كانت هناك مطالبات بإصلاح قضاء التحقيق. ولكن المسألة أثيرت حديثا, وبقوة اثر التوقيف العنيف للمدير السابق لجريدة ليبراسيون Vittorio Pilippis , وقضية اوترو. وكانت اللجنة البرلمانية للتحقيق في قضية اوترو لاستنتاج العبر قد ردت عام 2006 اقتراح إلغاء قاضي التحقيق" .
وصرحت Marie-Odile Bertella-Geffroy قاضية التحقيق في القطب الصحي بان " موت قاضي التحقيق لم يعد ممكن تلافيه. تُسحب منا منذ سنوات سلطات عديدة, وتضاف علينا رقابة متزايدة. فنحن اليوم القضاة الأكثر خضوعا للرقابة في فرنسا. نحن متخصصون. نقود تحقيقات معقدة تتطلب وقتا طويلا وخبرات". " لا أرى كيف يمكن للنيابة أن تبني و تقود الملفات التي تخضع لاختصاصها حاليا وفي نفس الوقت ستنظر في القضايا المعقدة والحساسة التي يتطلب التحقيق فيها وقتا طويلا".
وبرأي قاضي التحقيق المشهور Renaud Van Ruymbekc أن مثل هذا الإصلاح يجب أن يتضمن مسبقا " استقلال النيابة. وتمكين المحامي من الوصول إلى الإجراءات.". " إذا ما تحقق ذلك يمكن النظر في إمكانية تحويل قاضي التحقيق إلى قاضي للتحقيق". ويضيف " يصبح قضاة النيابة مستقلون إذا ما توفرت لهم نفس الضمانات المتوفرة لقضاة الحكم, في التعيين, واستحالة توجيه الأوامر والتعليمات لهم. وعدم قابليتهم للعزل." المشكلة, كما يرها, أن الإصلاح الذي يريده رئيس الجمهورية, لا يتضمن أية إشارة لمسالة الضمانات التنظيمية لقضاة النيابة". ويخشى أن يتحول الأمر, على المدى البعيد, عكس ذلك. أي إلى "توظيقية" قضاة النيابة. وعلى سؤال إذا ما كان إلغاء قاضي التحقيق فيه حماية للأوساط السياسية والمالية من العدالة, أجاب بان هذه إمكانية واردة. ويتضمن خطرا كبيرا. وهذه وسيلة أكيدة لوضع حد لظهور قضاة تحقيق مثل أولئك الذي حققوا في القضايا السياسية والمالية في التسعينات. ( Alain Salles, « le Monde fr.14 janvier 2009 )
" مثل هذا الإصلاح يصطدم بمشكلة من الصعب إخفاؤها وهي الحقوق الفردية. اليس في هذا تعزيز كبير لقوة النيابة العامة؟. ما هو المرجع للمواطن في مواجهة تصرف أو الامتناع عن تصرف النيابة؟. زيادة السلطات بيد النيابة العامة على حساب القضاة المستقلين عن السلطة التنفيذية في التحقيق في قضايا خطيرة ألا يتضمن تراجا عن حقوقنا؟ إجابة وحيدة يمكنها التغلب على هذه العقبة : جعل قضاة النيابة مستقلون عن السلطة التنفيذية على غرار ما تحقق في الديمقراطيات الأخرى."
ويرى إن الإصلاح المقترح لا يقلل من سوء سير القضاء, كما تبين من قضية اوترو. مذكرا بان في تلك القضية وُضعت المؤسسة القضائية بأكملها موضع التساؤل : قاضي التحقيق فيها لم تتم ملاحقته, وإنما تم توقيف قاض أخر هو قاضي الحريات والحجز, وملاحقة النيابة, وكذلك غرفة الاتهام. فحصر الموضوع بقاضي التحقيق يعتبر خطأ كبيرا.
لا يعتقد نائب الجمهورية في نيس Eric de Montgolfier procureur de la République, بان "الجدل حول استقلال النيابة سيكون مسألة رئيسية في إعلان الإصلاح الحالي. المسألة الأساسية لا يجب أن تكون الاستقلال التنظيمي للقضاة, ولكن الاستقلال الفكري . الجدل الحقيقي هو حول استقلال أقسام الشرطة القضائية في مجريات التحقيق. تحقيقات الشرطة القضائية تكون بلا فائدة إذا لم ينفذ محققوها الأوامر والتعليمات الصادرة لهم عن قاضي التحقيق أو عن النيابة. الاستقلال في قيادة التحقيقات شيء جوهري. ومن جهة أخري موقع قاضي التحقيق اليوم ضعيف. إذ عليه أن يكون في الوقت نفسه محقق وقاض في القضية التي ينظر فيها. وهذه مهمة صعبة, إن لم تكن مستحيلة, على رجل واحد".
يرى الأخصائي في القانون الجزائي Paul Lombard بان هذا الإصلاح للإجراءات الجزائية هو الأكثر أهمية منذ وجود قانون الإجراءات والى اليوم. ويعطي لكل فاعل فيها مكانه الطبيعي ودوره الأساسي, وخاصة بتمكين قاض حكم من مراقبة الحريات الفردية.
ولكن, كما يرى, يجب أن يعزز الإصلاح المذكور حقوق الدفاع بتمكين المحامي من القيام بشكل فعال في التحقيقات. غير آنه, و في المستقبل, ستبقى مشكلة رفع الدعوى مع الادعاء بالحق المدني, التي ترفع حاليا أمام عميد قضاة التحقيق, مشكلة حقيقية. فلا يحب تجريد الضحية من الوسائل التي تتيح له تحريك الدعوى العمومية. ( Mathieu Delahousse, 08/01/2009).
اما البروفسور في Collège de France والذي استوحى ساركوزي غالبية اقتراحه من تقريره المحرر عام 1990 , فيرى أن مقابل إلغاء قاضي التحقيق, وإحالة التحقيقات إلى النيابة تحت رقابة قاض للتحقيق يعتبر حكما بين الاتهام والدفاع, لا بد من توافر شروط منها: إصلاح النيابة ووضع تنظيمي جديد لها. تعزيز حق الدفاع. ومنح سلطات حقيقية لهذا القاضي المدعو لمراقبة تحقيقات النيابة. دون تحقيق هذه الشروط يصبح الإصلاح ترقيع إضافي, وفيه خطورة على سير العدالة. خاصة وان النيابة اليوم تبدو أكثر خضوعا لوصاية وزارة العدل مما كانت عليه في التسعينات.
وعبر المحامي Léon-Lef Forster عن معارضته لإلغاء قاضي التحقيق " النيابة تملك تقرير ملائمة أو عدم ملائمة الملاحقات. وواقع إنها ستستطيع قيادة التحقيقات أمر سيء. سيئات هذه الصيغة تظهر مما هو معمول به حاليا منذ بداية التحقيقات الأولية التي تقود إلى التكليف المباشر citation directe أو المثول الحال comparution immédiate : فحقوق الدفاع لا تحترم. والوجاهية غير مضمونة. هذه الإجراءات في هيمنتها التعسفية سوف لا يستطيع قاضي التحقيق مراقبتها بشكل فعال وحقيقي.
ويذهب للقول إن قاض للتحقيق, حسب ما يطرحه الإصلاح الجديد, لا يمكنه فعل أفضل ما تفعله غرفة الاتهام اليوم.


جمعية حقوق الإنسان
عبر Jean Danet عضو اللجنة المركزية لجمعية حقوق الإنسان LDH والمسؤول عن مجموعة العمل القضائي في اللجنة المذكورة, عن انتقاده لطريقة طرح مسالة إلغاء قاضي التحقيق, مذكرا بان السلطة التنفيذية كلفت, منذ شهور, لجنة مهمتها عرض اقتراحات لإصلاح القانون الجزائي وقانون الإجراءات الجزائية. على أن تقدم تقريرها الأولي في 1 جويليه/ تموز 2009 . وقبل انتظار التقرير المنتظر ودون احترام للتكليف المذكور أعلن رئيس الجمهورية عن إصلاح الإجراءات الجزائية : يجب إلغاء قاضي التحقيق وإبداله بقاض للتحقيق, مما جعل عضوين من أعضاء هذه اللجنة يسارعان للاستقالة.
مضيفا, إذا أردنا النظر في القضاء الجزائي من زاوية حقوق الإنسان, علينا الانطلاق من مدى مراعاة حقوق الدفاع. وشروط الدعوى المنصفة. ومن تعادل أسلحة أطراف الدعوى. وهذا يقود, بين أشياء أخرى, لطرح تساؤلات منها: في مرحلة تحقيقات الشرطة القضائية, أي سر مهني؟ ولصالح من؟. ما هي المعلومات المقدمة للجمهور؟ ومن قبل من؟. ما مدى الحماية لقرينة البراءة؟. ما هي الترتيبات الوجاهية بين الدفاع والاتهام لتحاشي أن يجد الدفاع نفسه أمام المحكمة, بعد تحقيقات جرت خلال شهور, دون أن يكون له آلية للإطلاع الكافي عليها, ودون أن يستطيع لاحقا الإجابة عليها, فأين إذن تساوي الأسلحة؟. كيف يمكن في فترة التوقيف garde à vue , حيث تتم التحقيقات الأولية, رفض دفاع حقيقي, مثلما هو الحال عليه في الدول المجاورة لفرنسا؟ .. مثل هذه التساؤلات تبين مدى ضرورة الإصلاح, على أن يبدأ بإصلاح النيابة. وجعل قضاتها قضاة حقيقيين, مستقلين, على الأقل فيما يتعلق بشروط تعيينهم. ( libertés, justice, supprimer le juge d’instruction : coup de force et brouillage des pistes, LDH)
في الأوساط السياسية كان الاستنكار عاما وردود الفعل عنيفة وخاصة في المعارضة.
الحزب الاشتراكي:
عبر الحزب الاشتراكي عن قلقه الكبير من احتمال إلغاء قاضي التحقيق كما يريد ساركوزي في اقتراحه.ففي هذا خطر مزدوج:
1 ـ يؤدي للإضرار باستقلال القضاء بإحالة التحقيق لقضاة نيابة يخضعون للسلطة التنفيذية, وهذا, حسب ما هو معمول به حاليا, تدخل في أعمال القضاء عن طريق النيابة.
2 ـ يعرض مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القضاء لضرر كبير. فالمتقاضي يفقد حق تحريك الدعوى العمومية إذا ما كانت النيابة غير مقتنعة بذلك. وقاضي التحقيق لم يعد يجمع أدلة الإثبات والنفي. ويصبح في هذه الحالة عمل المحامين أكثر صعوبة وتعقيدا, وبالتالي أكثر كلفة مادية, مما يجعل توفر الدفاع الجيد المكلف ماديا غير متاح لمن لا يمتلك الإمكانيات الكافية لذلك. ولهذا يدعو الحزب إلى الحذر الكبير و التعبئة الشاملة لمواجهة المساس بالعقد الجمهوري. (منشور في : عدالة. امن. منشورات المكتب الوطني للحزب الاشتراكي 6 جانفيه 2009).
كما أعلن André Vallin iأمين عام في الحزب مكلف بشؤون القضاء بان هذا الاستعجال العجيب بإلغاء قاضي التحقيق سيرتب نتائج ثقيلة. " يسود الاعتقاد اليوم ان ساركوزي لا يريد توازن سلطات في بلدنا".

الحزب الشيوعي الفرنسي:
اعتبر الحزب الشيوعي في بيان صحفي بعنوان ساركوزي يريد قضاء في أمرة السلطة التنفيذية, أن مسألة إلغاء قاضي التحقيق, وطرحها في هذا الوقت بالذات, وبشكل يبحث عن كسب إعلامي, وكأن قضاة التحقيق وحدهم المسؤولون عن سوء عمل القضاء, ودون أن يسبق ذلك طرح هذه المسألة إصلاح تنظيمي للنيابة العامة, فيه خطر على الحريات الفردية, وعلى استقلال القضاء في مواجهة السلطة التنفيذية. وذكّر بيان الحزب انه عام 1990 تساءلت اللجنة القضائية لحقوق الإنسان التي كانت ترأسها Miriel-Delmas-Marty اذا ما كان إسناد, مسؤولية التحقيق, في كل الحالات, لمؤسسة هي عكس قاضي التحقيق, لا تتمتع باستقلال تنظيمي تجاه السلطة التنفيذية لا يصبح خطيرا على سير القضاء الجزائي؟.
كما يُذكر بان لجنة التحقيق البرلمانية في قضية اوترو أشارت إلى ضرورة أن يتم استقلال النيابة قبل إصلاح التحقيق.
في الوضع الراهن للأمور, يصبح اقتراح رئيس الجمهورية بإلغاء قاضي التحقيق كمؤسسة مستقلة, بهدف إسناد التحقيقات القضائية كاملة للنيابة, ترجمة لإرادته بوضع يد السلطة التنفيذية على القضاء, وبشكل خاص في القضايا الحساسة. (الحزب الشيوعي المكتب الصحفي باريس 6/1/2009)
كما اعتبر ت الحركة الديمقراطية في خطاب رئيسها فرنسوا بايرو في الجمعية الوطنية للحزب في 8/0/2009 نقلته محطة LCP البرلمانية, أن اقتراح رئيس الجمهورية بإلغاء قاضي التحقيق هو إضرار بالمؤسسة القضائية واستقلالها, وتضييق للديمقراطية. ومساس بالديمقراطية ومبادئ العدالة.
كما أعلن الأمين العام الوطني للخضر " آن هذا الإصلاح يأتي تطبيقه في ظرف سيئ : ظرف يتم التشكيك فيه بكل القوانين الصادرة في التسعينات والمتعلقة بمكافحة الفساد ". وأعلن نائب رئيس الجبهة الوطنية بان "القضاء الفرنسي ليس بحاجة, في وقتنا هذا, لمثل هذا الإصلاح, وإنما هو بحاجة لوسائل الاستقلال, ولان يظهر على انه اقل تسييسا ". كما آن العديد من أعضاء الاتحاد من اجل الجمهورية حزب الرئيس نفسه, لم يتحمسوا للإصلاح المذكور, باستثناء حماس Georges Fenech عضو لجنة اوترو , قاض تحقيق سابق, ونائب في الجمعية الوطنية عن الحزب المذكور, بقوله إن إلغاء قاضي التحقيق هو" تحرر من الوارث المباشر للمحقق الجنائي النابليوني" لصالح " قاض للتحقيق نزيه ومستقل".
وأخيرا, و مراعاة للإمكانية المحدودة لمساحة مقال في جريدة, نكتفي بما سبق عرضه. ولكن نرى من المناسب الإشارة لعريضة قدمها عدد من قضاة غير منتظمين في نقابات قضائية وطرحوها لتوقيعها ممن يرغب. وقد جاء فيها:
" أعلن رئيس الجمهورية عن إرادته في إلغاء قاضي التحقيق وحتى قبل انتظار مذكرات لجنة ليجر Léger.
"يتجاوز القلق من هذا الإلغاء مكاتب قضاة التحقيق, ويشارك فيه شركاء ومعاونو القضاء, والمواطنون. وقد أكدت لجنة التحقيق البرلمانية, في قضية اوترو, مبدأ الاحتفاظ بقاضي التحقيق. مقترحة أن يكون التحقيق من قبل هيئة قضائية من قضاة التحقيق, وليس من قاض واحد. وبناء على قانون 5 مارس/اذار تم تشكيل أقطاب للتحقيق. وأنه, ابتداء, من 1 جانفي 2010, يُسند التحقيق لقضاء جماعي يتكون من هيئات تضم كل منها ثلاثة قضاة تحقيق.
نرفض تركيز سلطات التحقيق وإدارة الشرطة القضائية بيد نائب الجمهورية, الخاضع, في الوضع الحالي, وظيفيا وتنظيميا للسلطة التنفيذية, وان يجرد المواطن من الطريق القانوني الذي يسمح له برفع الدعوى أمام قاض مستقل, بعيدا عن الضغط والإكراه السياسي المباشر وغير المباشر.
نحن القضاة, وموظفي العدالة, ومعانو وشركاء القضاء, والمواطنون, نُذكّر بتعلقنا بمبدأ التحقيقات تحت رقابة وممارسة قاض مستقل, لضمان وجاهية حقيقية للمحاكمات, ووضع وسائل القوة العامة في خدمة البحث عن الحقيقة, مهما كانت الأحوال ولأوضاع الاجتماعية للمشتبه فيه أو للمشتكي. وهذا أمر متعلق بوظيفة أساسية في الديمقراطية, وعمل جوهري من أعمال العدالة".
من المعلوم أن العديد من الدول الغربية والعربية تأخذ في قضائها الجزائي بقاضي التحقيق, على النمط الفرنسي. وان العديد من تلك الدول الغربية, المانيا, ايطاليا, بلجيكا, البرتغال, قامت إما بإلغاء قاض التحقيق, أو بتقلص اختصاصاته إلى حد بعيد.
ونأمل أن تعطي بلداننا العربية نوعا من الأهمية للقضاء, ولما يجري في عالمنا المعاصر من إصلاحات قضائية , وان لا تعتبر الأمر يعني فقط الآخرين, وبأنها ليست من الآخرين.د. هايل نصر



#هايل_نصر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن أية ديمقراطية يدافع هذا الغرب؟.
- صقور وحمائم ووقف حذر لإطلاق الشتائم
- مظاهراتهم ومسيراتنا
- مجلس الأمن أي امن !!!
- عام جديد في عالم متحضر
- غزة تُقصف. وقصف عربي عربي مضاد.
- القضاء الجزائي الفرنسي في عيون رجاله
- لجنة عربية لمراقبة حقوق الإنسان في الوطن العربي. عهر سياسي
- إلى الحوار المتمدن
- في العداء للديمقراطية
- حق اللجوء, التفاف على المضمون وتعسف في التطبيق
- سلطات ثلاث والى جانبها رابعة
- في -السلطة- القضائية و فصل السلطات
- سنوات جزائرية
- قاضي التحقيق القاضي الأكثر إثارة للجدل
- نفاق -ديمقراطي-
- أسماء وصفات ومسيرة اندماج عرجاء
- فن المحاكمة (5/5) l’Art de juger
- فن المحاكمة 4 L’Art de juger
- صعق فتاة عربية بقرار


المزيد.....




- الخارجية الفلسطينية: تسييس المساعدات الإنسانية يعمق المجاعة ...
- الأمم المتحدة تندد باستخدام أوكرانيا الألغام المضادة للأفراد ...
- الأمم المتحدة توثق -تقارير مروعة- عن الانتهاكات بولاية الجزي ...
- الأونروا: 80 بالمئة من غزة مناطق عالية الخطورة
- هيومن رايتس ووتش تتهم ولي العهد السعودي باستخدام صندوق الاست ...
- صربيا: اعتقال 11 شخصاً بعد انهيار سقف محطة للقطار خلف 15 قتي ...
- الأونروا: النظام المدني في غزة دُمر.. ولا ملاذ آمن للسكان
- -الأونروا- تنشر خارطة مفصلة للكارثة الإنسانية في قطاع غزة
- ماذا قال منسق الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط قبل مغادر ...
- الأمم المتحدة: 7 مخابز فقط من أصل 19 بقطاع غزة يمكنها إنتاج ...


المزيد.....

- التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من ... / هيثم الفقى
- محاضرات في الترجمة القانونية / محمد عبد الكريم يوسف
- قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة ... / سعيد زيوش
- قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية ... / محمد أوبالاك
- الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات ... / محمد أوبالاك
- أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف ... / نجم الدين فارس
- قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه / القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / اكرم زاده الكوردي
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / أكرم زاده الكوردي
- حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما ... / اكرم زاده الكوردي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - هايل نصر - قاضي التحقيق القاضي الأكثر إثارة للجدل2/2