|
القراءة العلمية للظاهرة الدينية مدخل نحو التأسيس للعلمانية
إدريس جنداري
كاتب و باحث أكاديمي
(Driss Jandari)
الحوار المتمدن-العدد: 2562 - 2009 / 2 / 19 - 08:27
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن أهم ما يعلمنا إياه الفكر الحديث ؛هو أن نتعامل مع مجموع الظواهر الإنسانية تعاملا علميا ؛ عبر وضعها في سياقها الخاص ؛ و محاولة فهم و تحليل مكوناتها ؛ و سواء ارتبطت هذه الظواهر بالاجتماع أو بالسياسة أو بالدين ... فإن المنهج العلمي واحد؛ يسعى إلى الدراسة و التحليل ؛ بهدف استخلاص النتائج العلمية و تعميمها على شكل أسس نظرية؛ لتتحكم في الممارسة العملية. هكذا تعامل الفكر الغربي الحديث مع مجموع قضاياه بمختلف أشكالها؛ و صاغ النظريات العلمية و الفلسفية؛ بهدف فهم هذه القضايا فهما علميا دقيقا؛ و لذلك فقد استطاع الوصول إلى الحلول الناجعة لمختلف الإشكالات؛ التي واجهته في مسيرته الحضارية. لكن و على الخلاف من ذلك تماما ؛ تعامل الفكر العربي مع مختلف قضاياه المصيرية بشكل ارتجالي ؛ ينطبع بالكثير من الأدلجة ؛ في غياب أبسط مقومات البحث العلمي ؛ و لذلك لم نجن على مر القرون إلا الخيبات و الهزائم المتتالية ؛ و لم ننجح في أية مهمة حضارية منذ السقوط المدوي للحضارة العربية ؛ و سطوع نجم الحضارة الأوربية . و لعل الفشل الذريع الذي نعاني منه حتى حدود الآن ؛ يتمحور حول فشلنا في مقاربتنا للظاهرة الدينية المرتبطة بالإسلام خصوصا ؛ و ذلك عبر الفشل في تقديم الأجوبة العلمية الصحيحة على الأسئلة الإشكالية ؛ التي ما تزال تطرح نفسها علينا بإلحاح ؛ و لعل من أهمها : كيف يمكن التأسيس للدولة العلمانية المدنية في الثقافة العربية الإسلامية ؛ مع حضور قوي لمعالم الدولة الدينية ؟ كيف يمكن التأسيس للديمقراطية كثقافة و كممارسة ؛ مع حضور قوي لأدبيات تكرس الاستبداد ؟ هل الحل يكمن في الثورة على المنظومة الدينية الإسلامية ؛ باعتبارها تعرقل التأسيس للدولة العربية الحديثة ؟ أم على العكس من ذلك؛ لابد من القراءة العلمية للظاهرة الدينية كمدخل وحيد و آمن نحو التأسيس للعلمانية و التمدن و الديمقراطية في الثقافة العربية ؟ كلها أسئلة جوهرية؛ تقودنا بشكل مباشر إلى محاولة البحث في إشكال العلمنة و التمدن و الديمقراطية؛ و هو إشكال يرتبط بمفهوم الدولة الحديثة؛ التي فشلنا في تأسيسها إلى حدود الآن ؛ حيث يخيم التطرف بجميع أشكاله سياسيا و اجتماعيا و دينيا ؛ و ينذر بعواقب وخيمة ؛ تهدد مستقبل الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج . و يرتبط هذا الفشل جوهريا بفشل مماثل على مستوى قراءة النص الديني قراءة علمية؛ من منظور العلوم الحديثة؛ كما حدث مع المسيحية؛ التي أسست للإصلاح الديني عبر إخضاع النص الديني للتشريح العلمي؛ بهدف اختبار الكثير من الحقائق الدينية؛ و الكشف عن تهافتها. و قد مهدت هذه الخطوة لمسار جديد ؛ سيدخله الفكر الغربي ؛ حينما سينجح في القطع مع قرون من الظلمات ؛ التي سادت أوربا ؛ حيث كانت الكلمة الفصل في السياسة و العلم و الاجتماع و الاقتصاد للنص الديني ؛ الذي يبرر سلطة الإكليروس ؛ و يمنحهم حق الإنابة عن الله في حكم الشعب ؛ بل و يمنحهم كذلك حق توزيع صكوك العفو والغفران على هذا الشعب . هكذا يمكن أن نفهم أن الفكر العلمي و الفلسفي الغربي قد واجه خصما دينيا أكثر قوة و صلابة ؛ من الخصم الديني ؛ الذي يمكن أن نواجهه في الثقافة العربية الإسلامية ؛ و مع ذلك انتصر العلم و التفكير ؛ و استطاع أن يؤسس لمرحلة جديدة في التاريخ الإنساني ؛ لم يسبق لها وجود من قبل . يذهب (بول ويليامز) إلى أن الإصلاح الديني في أوربا قد مهد الطريق نحو العلمانية ؛ التي ستؤسس للفصل بين السلطة الروحية و السلطة المادية ؛ لكنه يؤكد أن هذا الرهان لم يتحقق للوهلة الأولى بل مر بمراحل ؛ متدرجا في ذلك من الأبسط إلى الأعقد : في المرحلة الأولى : تم نزع الصبغة الإكليروسية عن المسيحية ؛ مع محاولة إضعاف السلطة الاجتماعية للإكليروس و الكنسية. في المرحلة الثانية: تم نزع الصبغة القدسية عن السلطة الدينية ، الأمر الذي سهل نزع الصبغة القدسية عن السلطة السياسية وجعلها ذات صبغة دهرية la Sécularisation في المرحلة الثالثة: تم تأكيد الحقوق الفردية، وتمت شرعنة التعددية ؛ كما تم التأسيس لحرية الوعي و التفكير ؛ وصولا في الأخير إلى الفصل بين الكنيسة والدولة . (1) يقدم لنا هذا المسار أكثر من درس على مستوى التأسيس للعلمانية المنشودة في الثقافة العربية؛ لكن من منظور علمي دقيق؛ يأخذ بعين الاعتبار التجارب المغايرة؛ و خصوصا التجربة المسيحية في أوربا؛ التي تقدم نفسها كنموذج يستحق الدراسة و التحليل؛ كما يستحق الاستفادة منه في بناء تجربتنا الخاصة . و لعل هذا هو ما يناضل من أجله الأستاذ محمد أركون في مشروعه الفكري التنويري؛ محاولا القيام بمهمة مزدوجة: من جهة يحاول صياغة مفهوم علمي للعلمانية؛ باعتبارها فصلا بين السلطتين الروحية و المادية؛ و ليست باعتبارها إيديولوجية في الصراع ضد الدين؛ كما حدث في التجربة الفرنسية و التجربة التركية؛ و كما رسخته الشيوعية. يقول في هذا الصدد : " هنا يمكن أن نحتاط جيدا ؛ العلمنة لا ينبغي لها هي الأخرى أن تصبح عقيدة إيديولوجية ؛ تضبط الأمور و تحد من حرية التفكير ؛ كما فعلت الأديان سابقا ؛ و العلمانية النضالية laïcisme المعادية للدين في الغرب ؛ ربما ذهبت في هذا الاتجاه " (2) و من جهة أخرى يسعى إلى محاولة التأسيس لقراءة جديدة للنص الديني ؛ على ضوء المنجزات العلمية الحديثة ؛ من لسانيات و سوسيولوجيا و أنطروبولوجيا و سيكولوجيا ... و ذلك للكشف عن مجوعة من الحقائق ؛ التي ظلت مقدسة ؛ و من بينها أن الإسلام دين و دنيا ؛ و أن الله ما فرط في الكتاب من شيء ؛ إلى غير ذلك من الأوهام ؛ التي ترسخت في الثقافة العربية الإسلامية باعتبارها حقائق مطلقة . و هكذا يؤكد الأستاذ محمد أركون : " على ضوء ما قلناه ؛ فإن مراجعة نقدية لتاريخ الإسلام و للتراث الإسلامي تفرض نفسها بإلحاح اليوم ؛ و هذا الأمر يتطلب عملا ضخما و هائلا ؛ يجب الاعتراف هنا بالتقدم الساحق للغرب ؛ الذي كان قد أنتج مئات الأعمال النقدية في هذا المجال " (3) هكذا يبدو أن الأستاذ محمد أركون على درجة كبيرة من الوعي بخطورة الظاهرة الدينية؛ التي تتطلب مجهودا فكريا و علميا كبيرا ؛ هو وحده القادر على ضبطها في مجالها الخاص؛ حتى لا تتجاوز حدودها المرسومة. و لعل هذا الوعي هو ما مكن هذا المفكر التنويري من روح نقدية مزدوجة ؛ لا تحابي الغرب و لا تتملق له ؛ و لا تعتبره النموذج المثالي ؛ و في نفس الآن لا تحابي التراث العربي الإسلامي باعتباره يشكل الهوية و الانتماء ؛ بل على العكس من ذلك تحضر الروح النقدية في قراءة التجربتين معا ؛ مع التزام كبير بروح الموضوعية و البحث العلمي الرصين . فما أحوجنا إلى هذه القيم العلمية النبيلة اليوم؛ حتى نتمكن من الخروج من جعجعة الإيديولوجيا التي تكتب و تتكلم كثيرا من دون أن تضيف أي شيء جديد؛ يمكنه أن يسير بأمتنا العربية نحو التقدم و الازدهار؛ على درب التمدن و الديمقراطية و العلمانية. الهوامش: 1- jean Paul william : encyclopédie du protestantisme – paris -1996 – p : 843.
2- محمد أركون – تاريخية الفكر العربي الإسلامي – ترجمة: هاشم صالح – المركز الثقافي العربي – ط:2 – 1996 – ص: 293 – 294.
3- نفسه – ص : 294 .
#إدريس_جنداري (هاشتاغ)
Driss_Jandari#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما بين العلمانية و العلمانوية : في الحاجة إلى القراءة العلمي
...
-
في الحاجة إلى النقد المزدوج : ما بين التطرف اليساروي العلمان
...
-
في الحاجة إلى نبذ ثقافة الشيخ و المريد : تعقيبا على مريدي وف
...
-
بعد الحلقة الأخيرة من سلسلتها : وفاء سلطان امرأة عابرة في كل
...
-
الظاهرة الحمساوية و الظاهرة الليبرمانية : لا بد من تدارك الخ
...
-
العراق الجديد : الفينيق ينبعث من رماده
-
طابور الهزائم : تاريخ من الشعوذة و السحر
-
ما بين خالد مشعل و محمود عباس : صراع التصريحات في وضع فلسطين
...
-
بعدما فشلت في الخارج صواريخ القسام تسعى إلى قلب المعادلة في
...
-
الدرس الذي يجب أن يستوعبه العرب :العثمانيون الجدد أصحاب مصال
...
-
بداية انكشاف أسطورة النصر الإلهي الحمساوي
-
الأصولية الدينية: الإعجاز في خدمة الأجندة السياسية
-
القضايا العربية و الرهان الخاطئ على إدارة أوباما
-
حزب الله لم يكن يتوقع قوة الهجوم و حماس لم تكن تتوقع استمرار
...
-
نخبة محور الممانعة : العمى الإيديولوجي في خدمة تاريخ من الهز
...
-
أحداث غزة و معجزة النصر الإلهي : الأصولية الدينية و التسويق
...
-
ما بعد أحداث غزة: في الحاجة إلى استلهام روح فكر التحرر الوطن
...
-
من نتائج أحداث غزة : حماس قوية داخليا ضعيفة خارجيا
-
الانفتاح الروائي كخطة لمساءلة الراهن السياسي المغربي : رواية
...
-
الأدب وسؤال المؤسسة في الممارسة الأدبية العربية المعاصرة
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|