نادر غانم
الحوار المتمدن-العدد: 2561 - 2009 / 2 / 18 - 03:44
المحور:
الادب والفن
إذا نظرْنا إلى المُوسيقى الغربيّة نلاحِظ فضَاءاً واسعاً مِن الألوان والأشكال التي تعبّر بشكل قوي عَن واقِع مُعيّن. نبدأ في العُصور الوُسطى حيث الموسيقى الكلاسيكيّة ذاتها كان لها نصِيب مِن التغيير, فعَباقِرة مِثل موزارت وبيتهوفن استطاعوا أن يثوروا على ما كان شائع في أيامهم تِلك مِن مُعتقدات حَوْل الموسيقى وأتيا بنهْج جَديد مِن التأليف المُوسيقيّ. تعرّضوا للكثير مِن النقد وعاشوا حَياةً مَريرة إذ أنّ موزارت في آخر أيامه مَات مِن الإفلاس وأخذ يُؤلف أرْخص أنواع الموسيقى لِما كان شائع مِن مَسَارح التهْريج والتطبيل آنذاك كتِلك التي نراها اليَوْم بكثرة في مِصر. أمّا بيتهوفن فقد عَاش ومَات فقيراً. بالرَغم مِن كل ذلك فبَعْد رَحيل هَؤلاء تيقظ النقاد والمؤلفون الذين تلوهم إلى أهميّة أعمال هؤلاء العَبَاقِرة, تبنوهم ومشوا على خُطاهم. وبذلك أصْبح موزارت وبيتهوفن مِن عَمَالقة الموسيقى حتى يَوْمنا هذا, وهو طبْعاً ما يَستحِقونه مِن لقب.
تطوّرتْ الموسيقى الكلاسيكية حتى القرن التاسع عشر, ثم ظهرتْ الموسيقى الفولكلورية أو الشعبية, تلاها موسيقى البلوز والجاز, ثم موسيقى الروك.
موسيقى الروك كانتْ شيئاً جَديداً إذ أنها تبنتْ الثوْرة كمفهوم, وعندما أقول ثوْرة أقصِد ثوْرة بكل ما تعنيه الكلمة مِن مَعنى؛ بدأتْ بانتقاد الحُكومات والسِياسات والإستبداد والعُنف والظلم والقمْع السِياسي والتعليم والعُرُف الإجتماعيّة والحَرْب وكل ما شابه. مِن ناحية أخرى تبنتْ مَفاهيم ثوريّة للغاية كالحُريّة الفرديّة و السَلام والعَدَالة الإًجتماعيّة. ذلك لا يَعْني أنها تخلتْ عن المَفاهيم التقليديّة, بلْ على العكس هناك رَصيد رائع وسِجل مُهم في موسيقى الروك لمفهوم الحُب مثلاً.
وبذلك استقطبتْ الناس وبخاصة فِئة الشباب, واكتسبتْ شَعبيّة لا مَثيل لها. ثم تطورتْ أساليبها وتعددتْ أشكالها, وخاضتْ في ساحة الإقتتال.
كثير مِن نجوم الروك لمْ يكتفوا بتأليف أغاني ذات مَفهوم جديد, بلْ دافعوا عن آرائهم بقوّة كما حَدَث في الولايات المُتحدة في فترة السِتينات إذ رفض بَعْض مُغني الروك الذهاب إلى خِدمة الجَيْش الإجباريّة وفضّلوا المَبيت في السُجون لسنواتٍ عِدّة. كل هذا غيّر الرأي العام, فانتشرتْ المُظاهرات بشكلٍ واسع وظهرتْ حَرَكة الهيِبّيز التي نادتْ بالسَلام والحُب , بالإضافة إلى حَرَكات المُساواة الإجتماعيّة والحَرَكات المُناهِضة للعُنصريّة. استمرتْ موسيقى الروك تؤلف وتفضَح ما تقوم به الحُكومات.
وبالرغم مِن فشل موسيقى الروك في إحداث خرْق مَلموس في البُنية السِياسيّة, فقد تعلم الناس في الغرْب عَبْر موسيقى الروك أهميّة التعبير عن الذات, واستطاعتْ قلب مَوازين الموسيقى رأساً على عقب حيث أنها أعلنتْ للبشريّة أجمعْ بأنّ الموسيقى هي ليست فقط أداة للمَرَح والسَرَح بلْ هي أيضاً أداة للتعبير والتغيير.
ليس هذا فحسب بلْ كان تأثير موسيقى الروك قويّاً خارج الغرْب, فبدأ بالإنتشار في أطرافٍ مُختلفة مِن العالم. وهنا لا بُدّ أن نذكر نِجم الروك الصينيّ (تسوي جيان) الذي بدأ بتأليف مُوسيقاه في بداية الثمانينات في بكين حيث لم تكنْ الصِين تعرف شيئاً عن موسيقى الروك, والرقابة في هذه البُقعة مِن الشرْق الأقصى قد تفوق الرقابة في بلادنا العربيّة آلاف المرّات حتى هذه اللحظة. مِن الواضح أن فناناً كهذا قد اختار مِشواراً فنيّاً انتحاريّاً إذ أنّ أغانيه ذات الطابع السياسي قد مُنِعَتْ مُنذ بداية مِشواره, وتشددتْ الرقابة عليه بشكل خاص بَعْد مَجْزرة (تيان آن مِن) التي أوْدت بحَياة الكثير مِن الشباب الذين تظاهَروا سِلميّاً مُنادِين بالديمقراطيّة. بَعْد المَجْزرة اعتصم تسوي جيان عن طريق الإمتناع عن الأكل لمُدّة طويلة, لمْ يستسلم واستمر في تأليف أغانيه. بدأتْ موسيقى الروك بالنموّ في هذا البلد الذي يُعاني شَعْبه وما زال مِن حِرْمان الحُريّة السِياسيّة, وتكاثر فنانو الروك الشباب في كلِ مَكان يُؤلفون ويَعرضون موسيقاهم على الأغلب بالسِرّ إلى أنْ أمستْ موسيقى الروك اليَوْم لاعِب مُهم في ساحة الموسيقى في الصِين, وبذلك وجدتْ السُلطات نفسَها مُضطرّة إلى فك الحِصار عن تسوي جيان حيث سَمَحتْ له السَنة الماضِية للمرّة الأولى مُنذ ظهوره بالعَرْض في بكين العاصمة. العَرْض كان أكبر مِمّا توقع تسوي جيان حيث وَجَد نفسَه أمام جُمهور ذي شريحة عريضة كان يُقدّر فنه طوال هذه السنوات ولكن بالسِرّ. كان هذا هو بلا شك انتصار تسوي جيان الذي كان يَنتظره طوال سَنوات الرَقابة وأصْبح لقبه الآن .
تطوّر الموسيقى لمْ يتوقف عند موسيقى الروك, بل استمر و ازدهر بوُصول مَناهج جَديدة كموسيقى الراب والهيب هوب والريغي وغيرها. ثم جاءتْ الموسيقى الإلكترونيّة مُطعّمة بثورة مِن نوْع مُختلف عُنوانها . ثورة ليس فقط في المَفهوم بلْ أيضاً في الشكل, فهذا النهْج مِن الموسيقى قادِر بكل بلاغة على تبني أيّة آلة موسيقيّة أوأي صَوْت مُحتمل سَواء كان بشر, حَيْوان, نبات, شارع, بَيْت, سيّارة....إلخ.
نهْج قادِر أيضاً على التلاعُب في تسارُع النغم حيث مِن المُمْكن أن يَصِل النغم إلى أقصى حُدود السُرعة أو على العكس إلى أقصى حُدود البُطء.
هذا التلاعُب مَكن النهْج مِن التعْبير بشكل قوي عن المشاعِر أو المَفاهيم المُراد التعْبير عَنها.
للأسف فإنّ انطِباع كثير مِن الناس عن الموسيقى الإلكترونيّة هو بأنها فقط موسيقى المَرَاقص الليليّة وأنها مُرتبطة بتناوُل المُخدّرات. على العكس فإنّ الموسيقى الإلكترونيّة تشعّبتْ وتبنتْ الكثير مِن المَفاهيم التي لا تقِل أهميّة عمّا سَبَقها. مِن ناحِية أخرى فإنّ مَفهوم الثوْرة ليس بالجَديد فيها أو عليها فقد بدأ-على سَبيل المِثال- ظهور الشِعْر في الموسيقى الإلكترونيّة بوُضوح, فكان في ذلك مَزيج رائع مِن حُريّة النغم المُطلقة وكلِمات الشِعْر المُنتقاة بدِقة.
مِنها ما تحدّث مثلاً عن ثقافة السُكان الأصليّين في بَعْض البُلدان البَيْضاء حديثة النشوء كسُكان أستراليا الأصليّين أوالهُنود الحُمْر في أمريكا الشماليّة الذين تمّ قمْعُهم واستثناء ثقافتهم خارج تاريخ هذه الدُوَل. بَعْض مُؤلفي الموسيقى الإلكترونيّة أخَذوا على عَاتِقهم التحدّث عن قضَايا كهذه وبذلك تحدّوا وجهاً لوجه طبيعة مُجتمعاتهم ودُوَلهم بالأكمل. طموح الموسيقى الإلكترونيّ لم يتوقفْ هنا بلْ استمر وظهر ما يُسمّى بـ <خلط المناهج>, وبذلك تولدتْ عشرات المناهج الموسيقيّة فمِنها مثلاً ما هو جاز حَديث أو روك إلكتروني أو ما شابه.
كل هذا وأكثر...فما زالتْ الموسيقى في الغرْب تعطِي وتزوّد وتنشأ وتخلِط وتجرّب وتجرُؤ وتتحدّى وتتغيّر وبالتالي تُغيّر.
مِن المؤسف أن نرى مَدَى الإنحطاط والرُكود الذي أضحتْ عليه الموسيقى العربيّة. وهذا بالطبع ليس بالشيء المُفاجئ بَلْ هو ببَسَاطة انعكاس للواقِع المُخزي الذي نمرّ فيه. فالإنحطاط قبل كل شيء هو إنحطاط سِياسي اقتصادي اجتِماعي أخلاقي نفسي, جَمَاعيّ وفرْديّ في نفس الوقت.
لا أريد الإطالة في موّال (البَكي على الحَال), فهو مَألوف لدى جميعنا. لقد فشِلتْ الموسيقى العربيّة بشكل واضِح في التغيّر أو التغيير.
ما زلنا نستمِعْ إلى أم كلثوم التي أصبحتْ كوكبَ شرْقنا لسَبَب واضِح وبسيط هو أنّ مِحور أغانيها المُستمر والوحيد هو الكبْت الجنسي الذي يُعاني مِنه مُجتمعنا العَرَبي مُنذ الأزَلْ. المَطلوب هنا ببساطة هو شطب مُصْطلح <طرَبْ> مِن قاموس الموسيقى العربيّة. الموسيقى ليستْ فقط طرَب, بلْ هي أداة, وَسيلة, وسِلاح قادِر على التغيير. فلنستخدمْ هذا السِلاح بحِكمة أكبر!
#نادر_غانم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟