جعفر الغرابي
الحوار المتمدن-العدد: 2560 - 2009 / 2 / 17 - 02:43
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يُخيل للبعض ان العلمانية عبارة عن جهاز تكنولوجي متطور ياخذ المجتمع الى معالم حديثة ومتمدنة بعيدة كل البعد عن التخلف والعبثية في شتى المجالات الحياتية خصوصا العلمية والاجتماعية, وما ان يتربع هذا النظام على عرش السلطة فان الرُقي والازدهار يعم البلد في جميع مرافقه الاقتصادية والسياسية والعلمية.وفي الحقيقة ان هذه الرؤية لم تنجم الا عن دراسة خاطئة في الاستقراء والقياس التاريخي ,كون الواقع لا يفيدنا باي رابطة ضرورية تجمع العلمانية مع التطور,والدليل على ذالك هو وجود كثير مم الدول التي يقوم نظامها على اسس علمانية وما زالت تراوح في اماكنها او بالاحرى تعود الى الخلف,ويقع قباله في الوقت ذاته تطور وتقدم كثير من الدول التي رفضت النظام العلماني.وعلى ضوء هذا الامر فلا نجد اي مبرر للخضوع تحت هذه النظرية المستوردة بصورة خاطئة والتي تحمل بين طياتها قصر النظر والخلط بين الواقع الاجتماعي الغربي والعربي,فضلا عن المقارنة الغير مدروسة ما بين تاثير الدين القائم في اروبا على المجتمع , والذي جعل من هذا المجتمع في خندق قتال واحد ضد التسلط والهيمنة الدينية - لقد كانت التجربة التي خاضها المجتمع الاوربي في عهد السلطة الكنائسية صعبة الى حد افقد المجتمع اهم العناصر المدنية الناشطة ومنها الطبية والعلمية والفكرية ,اخصها التي تقف بنحو الضد من نظريات سفر التكوين وعقيدة الصلب والفداء,هذا بالاضافة الى حرمان المراة من حق التعليم وممارسة نشاطها العملي حسب النصوص المقدسة و المفعمة بالاجحاف لدرجة حرمانها من اهم الحقوق الانسانية الا وهي ازالة الامها عند الولادة.فقد كانت المراة شخص معدوم الوجود على الصعيد الاجتماعي والسياسي ولا يحق لها المشاركة في اي فعالية تدعم من خلالها النظام القائم انذاك ,او اي راي يكون له اعتبار,وقد استمرت قضية ابعاد المراة عن المشاركة في بناء المجتمع لغاية القرن التاسع عشر, ففيه سمح للمراة بالادلاء بصوتها في الانتخابات والحق في تملك العقار ومزاولة العمل بحرية.وقد يصعب تصوير الوضع انذاك من جميع النواحي الاساسية التي يقام عليها النظام الاجتماعي ,ولاجل ذالك يتوجب دراسة التاريخ الاوربي بتعمق والاطلاع على المظاهر السائدة في ذالك الزمن, والتي حالت المجتمع الى المطالبة باقامة النظام العلماني ,والذي ينص على ابعاد الكنيسة عن التسلط وقيادة الجماهير,لذا فقد كانت النظرية العلمانية مؤسسة على اساس مبدا ومطلب جماهيري في كل البلدان الاوربية, ولم تقم على اساس نظرية علمية مدروسة يكون بقدورها ان تعمم في جميع المناطق العالمية,كون الواقع الذي نشات به هذه المبادى يخالف تماما واقعنا الخاص, هذا بالاضافة الظروف الموضوعية التي احاطت بتلك البلدان كانت مغايرة تماما لما يطوف حولنا الان من اوضاع, وعليه فان من الخطا الفظيع تعميم المبادى العلمانية على سائر البلدان واعلانها الاداة الوحيدة التي تحقق نهوض المجتمع نحو الافلاك السماوية.
- يقول براتند راسل في كتابه الدين والعلم .-ص 100
ان التلقيح ضد الجدري اثار عاصفة من الاعتراض جانب رجال الدين وتصدت جامعة السوربون للهجوم على التلقيح على اساس لاهوتي وقام قسيس انجيلكاني بنشر موعظة جاء فيها ان قروح ايوب ترجع دون شك الى ان الشيطان قام بتلقيحه واشترك كثير من قساوسة اسكوتلاندا في اعداد بيان جاء فيه ان التلقيح يعتبر محاولة لاصابة حكم الله وتقديره بالارتباك...ثم يقول في ص 102
وقد كان اكتشاف التخدير مناسبة اخرى تدخل فيها اللاهوتيون للحيلولة دون التخفيف من المعاناة الانسانية ففي عام 1847 اقترح سيمسون استخدام التخدير في حالات الولادة ولكن رجال الدين اعترضوا على ذالك وذكروا على الفور بان الله قال لحواء في الاصحاح 3 اية 16 من سفر التكوين بالوجع تلدين اولادك فكيف يتحقق ذالك اذا كانت المراة تحت تاثير مخدر الكلورفورم؟
في الحقيقة ان هذه الاحداث تمثل الجزء البسيط بالمقارنة مع الحقيقة التي عاشتها اوربا تحت الواقع الديني والتسلطي.وكما ذكرنا فان الفرد الغربي ظل تحت وطاة التخلف والعبودية والاستحواذ الروحي لقرون عدة, حيث ان المرء كان يشعر بالتبعية الى السلطة الدينية في جميع حياته الاجتماعية,حتى ظهرت الكنيسة اللوثرية او البروتستانتية التي كانت تعبر عن موجة الغضب تجاه الهيمنة البابوية, والتي كانت تشكل تيارا اصلاحيا يعد المجتمع بالخلاص والحرية, الى ان الحال لم يختلف عما سبق فقد بدات الحروب وقتل الملايين بسبب الاختلاف في التوجهات الدينية وبقيت السلطة الدينية هي المهيمن الاكثر على الساحة حتى منتصف القرن الثامن عشر,ولم تجني الشعوب الاوربية من هذه التسلطات سوى القتل والتنكيل بشتى انواعه البشعة ,ناهيك عن الحرق الجماعي لعدة مجاميع لمجرد اتهامها بالهرطقة ومنهم الالبيجيين.فقد كان من السهل ان يتعرض المرء الى القتل والصلب بدعوى مخالفة نص من نصوص الكتاب المقدس او عدم الخضوع لسلطة البابا الالهية,في الوقت ذاته كان البابا يتنعم بارقى الملذات من ملبس وماكل ونساء ,في حين ان الشعوب كانت تتضور جوعا وحرمانا من اقل الوسائل المعيشية.وبناء على هذه الاحداث ظهرت العلمانية كمطلب اممي واجتماعي للخلاص من حال العبودية والتخلف والحروب الطائفية,وكان هذا المطلب يشكل ردة فعل تجاه الاوضاع التي عاشتها المجتمعات الغربية,وكان تحقيقه يمثل الخيار الوحيد الذي ياخذ المجتمع خارج مطب الصراعات والاستغلال والاستعباد...
الخلاصة
ان المجتمعات تختلف فيما بينها من ناحية الاسس والمبادى والتقاليد , وتبقى في حياتها تعيش تحت وطاة العوامل الخارجية والداخلية التي تهيمن على خلق النزعات والتحولات من وضع الى اخر, مثل العامل الاقتصادي والنفسي والبيئي,والظروف الطارئة التي تقسر المجتمع على ان يعيد ترتيب اتجاهاته وتطلعاته ,هذا بالاضافة الى التباعد الجغرافي الذي يخلق تباينات فكرية ولغوية وثقافية ينتج من خلالها المتجه الاخلاقي للمجتمع والذي يعطيه مكتسب خاص يخالف به المجتمعات الباقية,من حيث الامتثال الى الواقع وكيفية تقبل الافكار وخلقها وفق القيم المطلوبة.ومن خلال كل هذه العوامل يظهر المجتمع بالصورة المتاثرة على هذا النحو البنائي,وتتشكل على اساسها البنية الفوقية, والتي تمثل خلاصة التوجه الفكري الاجتماعي.ومن هنا بامكاننا ان نفهم ان الواقع الاجتماعي للانسان لايشكل سوى نظم خاصة ليس بمقدورها الزحف نحو اماكن تختلف من ناحية النشاة والحضارة,او بالاحرى ان تطبيق اي مبدا ناجح بمجتمع ما لايعني بالضرورة نجاحه في اماكن اخرى, والسبب في ذالك يعود للاختلاف الظروف المحيطة بكل انواعها,فضلا عن التوجه الفكري الذي ناله المجتمع من خلال تجاربه الخاصة على مر الزمن...
#جعفر_الغرابي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟