(أوراق في السيرة الذاتية السياسية)
[email protected]
لقد احتل أدب المذكرات في عصرنا الراهن، حيزاً مهماً في الثقافة وصار فناً من الفنون الأدبية البارزة في نقل الخبرة والتجارب الشخصية إلى الآخرين للإستفادة منها على قدر الإمكان في إستخلاص الدروس والعبر. كما وتعتبر المذكرات مصدراً مهماً للمؤرخين والباحثين في حقبة تاريخية معينة. وبالنسبة لنا كعراقيين، كان النصف الثاني من القرن العشرين، من أشد الفترات صخباً وهياجاً وتحولاً، حافلاً بالهزات والزلازل السياسية والإجتماعية المتتالية.
إلا إن كتابة المذكرات تحتاج إلى نزاهة وصدق، مع الذات ومع الآخرين. ولكن، ومع الأسف الشديد، إن كتاب المذكرات الذين ساهموا في صنع الأحداث في فترة تاريخية معينة والحافلة بالأخطاء والكوارث، نراهم يبرؤون أنفسهم من هذه الأخطاء ويحاولون إقناع القراء بأنهم كما لو كانوا معصومين عن الخطأ. أما ما حصل من كوارث ندفع ثمنها خلال أربعة عقود الماضية، فهي ليست من صنعهم بل من صنع غيرهم!! هذا ما لمسته من قراءاتي لأغلب المذكرات. ولكني أستطيع القول، وبقناعة كافية، أني فوجئت بمذكرات الدكتور عزيز الحاج، فلأول مرة أقرأ لكاتب سياسي ساهم في صنع الأحداث، خاصة في عقدي الخمسينات والستينات وما رافقها من هزات عنيفة، يمارس نقداً ذاتياً لاذعاً وصارماً ويحاسب نفسه عليها حساباً عسيراً، كاشفاً عن الأخطاء الجسيمة التي وقع فيها ودفع ثمنها هو وغيره. وقد ذهب الحاج في نقد الذات إلى أبعد من اللازم، بل إلى حد التقريع وجلد الذات.
يظهر ذلك بوضوح في كتابه الذي صدر تواً إلى الأسواق والموسوم ب: شهادة للتاريخ (أوراق في السيرة الذاتية السياسية)، عن مؤسسة الرافد-لندن، في نيسان 2002. ويقع الكتاب في 628 صفحة من القطع المتوسط وإخراج جميل يغري على القراءة. ولكن ليس فن الإخراج وصقالة الورق وأناقة الطباعة التي تغري على القراءة فحسب، وإنما المحتوى المثير والشيق الذي يدفع القارئ إلى المواصلة وكأنه يتابع فيلماً وثائقياً شيقاً بغض النظر عن كوننا نتفق مع الكاتب أو نعارضه. فعزيز الحاج مهما كان موقفنا منه، معروف بسلاسة إسلوبه ووضوح لغته وبلاغة كتاباته وغزارة معلوماته، متجنباً الغموض والحشو والحذلقة اللفظية.. وهو الذي قال عنه الراحل الدكتور رحيم عجينة في مذكراته (وأنا أنقل من الذاكرة) أنه (الحاج) متمكن من كتابة أي موضوع عند تكليفه مهما كانت الأجواء صاخبة ومزعجة. إذ نعرفه ومن خلال مؤلفاته السابقة ومقالاته الكثيرة في الصحف، أنه يتجنب الإسهاب ويعتمد التركيز، غايته إيصال الفكرة إلى القارئ بمنتهى الوضوح.
يتكون الكتاب من 32 فصلاً، موزعاً على عشرة أقسام. يبدأ بمقدمة يسميها(كلمة لا بد منها)، يشرح فيها الأسباب التي دعته لكتابة مذكراته وهو في السبعينات من عمره ومتى بدأ بكتابتها. ويقول أنه نشر بعضاً من مذكراته في الماضي ولكن في العقدين الماضيين حصلت عنده قناعات أدت إلى تغيير الكثير من تحليلاته ووجهات نظره ولا سيما في السنوات الثلاث الماضية. وبذلك فهذا الكتاب هو الأقرب إلى الحقيقة التي يراها المؤلف وفق قناعاته الجديدة ويشرح الأسباب. يعترف الحاج أنه لم يدَّعِ يوماً أنه كان ملاكاً أو بطل خارق أو صانع معجزات، بل أشار مراراً إلى أخطائه الكبيرة ومساوئ مواقف له، وتوقف لديها بروح النقد الذاتي في منتهى الصرامة.
وفي شهادته هذه يشرح الحاج التطورات الفكرية التي حصلت عنده والتي أدت إلى تغيير قناعاته من شيوعي متمسك بصرامة بأيديولوجية الماركسية-اللينينية، ناذراً حياته في النصف الأول منها لتحقيق أهدافه الآيديولوجية، وقضى منها عشر سنوات في سجون نقرة السلمان في عز شبابه، إلى الإيمان بالديمقراطية والتعددية والقبول بفن الممكن. ولتبرير هذا التغيير في المواقف، يستشهد الحاج بحكمة للروائي الفرنسي الخالد فكتور هيجو: " إنه لثناء باطل أن يقال عن رجل إن إعتقاده السياسي لم يتغيَّر منذ أربعين سنة… فهذا يعني أن حياته كانت خالية من التجارب اليومية والتفكير والتعمق الفكري في الأحداث… إنه كمثل الثناء على الماء لركوده وعلى الشجرة لموتها…".
وبعد أن يستعرض المؤلف، في تلك الكلمة، الكوارث الكبيرة والزلازل المتتابعة التي أصابت العراق و الشعب الفلسطيني والعالم، وإنهيار المنظومة الإشتراكية، وانفراد أمريكا في الساحة الدولية، فيتساءل: "فما قيمة تجربة صغيرة كتجربتي؟ وما نفع إدراج خلاصتها في صفحات؟ وهل هذا من مواضيع الساعة؟"
ويرد الحاج على هذه الأسئلة فيقول: " إن عليَّ واجباً أمام تاريخنا الحديث (الذي رافقتُ صنع بعض أحداثه)، أن أتوقف أمام ما يخصني أمانة للتاريخ، واستنباطاً لبعض العبر والدروس التي قد تكون ذات فائدة ما." ويضيف: " إن هذه الصفحات تكتب للتاريخ وفي الوقت نفسه للقارئ المعني والمهتم، وسأكون شاكراً لكل نقد منصف، ولكل تصحيح أو إضافات في الوقائع." ويرجو القراء وزملاء الأمس في القيادة المركزية لإرسال شهاداتهم إن أمكن وكذلك صور شهداء القيادة المركزية لعامي 1968 و 1969 ومنهم أحمد الحلاق ومتي هندو وصالح العسكري لوضعها في الطبعة الثانية "سواءً كنتُ حياً أو قام بالعمل بعض أصدقائي.".
وبمثل ما ينتقد الحاج ماضيه نقداً صارماً، يتمنى على الآخرين لو فعلوا مثله. ويقول إن التقييم المنصف والنزيه والعلمي للظواهر والأحداث والمواقف السياسية، هو الذي يعالج كل الجوانب ويزن الإيجابي والسلبي. وينطبق ذلك على تقييم دور الأحزاب والتيارات السياسية العراقية ورموزها من الشخصيات. وكما أن هناك من لا يرون من عزيز الحاج غير أخطائه وعلاقاته السابقة بالنظام، فإن هناك في الوقت نفسه، من لا يرون في تاريخ الحركة الشيوعية العراقية غير أخطائها وتخبطاتها وانقسامتها. فهم ينظرون إلى النصف الفارغ من القدح فقط، وأن الحركات والأحزاب الأخرى أيضاً ارتكبت أخطاء قاتلة دون أن يجرؤا على تقديم أي نقد ذاتي، لا بل ما زالوا يتشبثون بتلك المواقف الخاطئة ويدافعون عنها بحماس ويعتبرونها في أدبياتهم ومذكراتهم من الأعمال البطولية الخارقة في الوطنية والقومية مثل محاولتهم إغتيال الزعيم الوطني عبدالكريم قاسم وإنقلاب 8 شباط 1963 وغيرهما من الأعمال التي أوصلت العراق إلى ما عليه الآن. وبذلك يؤكد الحاج أن تبعة المآسي العراقية الراهنة تمتد جذورها إلى أخطائنا جميعاً منذ ثورة 14 تموز 1958.
ويختتم المؤلف في تعريف كتابه بقوله: "إن دراسة أخطاء أمس هي، لخدمة التوثيق التاريخي، ولغرض الإستعبار وتوظيف دروس الإخفاقات والكبوات لصالح الحركة الوطنية العراقية. وإن شهادتي الحالية شهادة للتاريخ ومن منا لا يقف أمام التاريخ؟!".
إن شهادة الحاج ليست سيرة ذاتية عن تاريخ حياته الخاصة والعامة فحسب، وإنما هي عبارة عن رحلة عبر التاريخ العراقي السياسي الحديث بشكل عام، مبيناً دوره في أحداثها، مسلطاً الضوء على أهم منعطفاتها. وبذلك فهي مراجعة سريعة واعية وقراءة نقدية لهذا التاريخ والأحداث الكبرى التي غيرت مجرى تاريخ العراق. فيستعرض في (تداعيات العام الجديد) تلك الفترة التي تعرض فيها إلى الإعتقال عام 1969 وما عاناه في المعتقل ويرد على تلك الكتابات والقصص المتناقضة التي نشرت عنه وحاولت تشويه صورته والمفرطة في السلبية.
وكما بينت أعلاه يتكون الكتاب من 32 فصلاً في عشرة أقسام وهناك ملاحق تضم وثائقاً ومراسلات مهمة . وبذلك يغطي الكتاب أغلب الجوانب المهمة والمنعطفات الكبرى في تاريخ العراق الحديث مولياً إهتماماً كبيراً إلى تاريخ الحركة الشيوعية في العراق. ففي القسم الأول، يتطرق المؤلف إلى مراحل تكوين الحركة الشيوعية، نشوئها، الخلل في التكوين المعرفي والثقافي، الإستبداد الداخلي بإسم المركزية الديمقراطية، إشكالية العنف الثوري، والعلاقات مع السوفيت..الخ. ويتكون هذا القسم من خمسة فصول.
أما القسم الثاني فيتكون أيضاً من خمسة فصول، ويتطرق المؤلف إلى نضال الحزب الشيوعي في الفترة الممتدة من 1946 إلى 1958. والقسم الثالث يغطي ثورة 14 تموز 1958 إلى يوم إغتيالها في 8 شباط 1963 والصراعات السياسية خلال تلك الحقبة الملتهبة.
أما القسم الرابع فيتكون من فصلين حول الردة الدموية في 8 شباط 1963 وبداية الكوارث والمجازر ضد الشيوعيين والوطنيين الآخرين. يتكون القسم الخامس من تسعة فصول كلها تدور حول انشقاق الحزب الشيوعي وولادة القيادة المركزية التي تبنت الكفاح المسلح وعن معارك الأهوار والغموكة وغيرها ودوره في هذه الأحداث.
أما فصول الأقسام: السادس والسابع والثامن فتدور حول مرحلة عودة البعثيين للحكم سنة 1968 وما بعدها واعتقاله وإطلاق سراحه وعلاقته بالسلطة والوظيفة.. الخ. ويتكون القسم التاسع من فصل واحد يضم مناقشة تتضمن الخلاصة والاستنتاج واستخلاص الدروس والعبر، ثم تليه مجموعة من الوثائق والرسائل والبيانات والبلاغات الحزبية والرسائل المتبادلة ومنها بين الحاج وصدام حسين، كذلك حوارات صحفية ..الخ
والقسم العاشر والأخير فيحتوي على مواد نشرت في صحيفة الثورة وغيرها من الصحف لها علاقة بالحاج والحركة الشيوعية. ثم هناك ملحق آخر بعنوان: آراء ووجهات نظر نشرت في صحف مختلفة عن تجربة القيادة المركزية وعن عزيز الحاج بالذات، لمجموعة من الكتاب السياسيين نذكر منهم: نايف حواتمة، عزيز السيد جاسم، علي منهل، عباس كليدار، جواد الحائري، فاضل الربيعي، وآخرون. كذلك رسائل متبادلة بين المؤلف وعدد كبير من الكتاب. وينتهي الكتاب بمجموعة من الصور الفوتوغرافية، الشخصية والعائلية والعامة تضفي على الكتاب قيمة فنية ومعرفية.
هذا عرض سريع، وفي منتهى الإيجاز لتعريف القراء الكرام بهذا الكتاب الصادر تواً عن دار الراصد في لندن، أعتقد أنه جدير بالقراءة من قبل المهتمين بالشأن العراقي. وحبذا لو يحذو الآخرون حذوه في هذه الجرأة النادرة في ممارسة النقد الذاتي على ما أرتكبوه من أخطاء بحق الشعب وبحق أنفسهم، سواءً على مستوى الأفراد أو الحركات، لمعرفة جوانب مهمة من تاريخ العراق الحديث، ولاستخلاص الدروس والعبر، إضافة إلى ما يضم الكتاب بين دفتيه من غزارة في المعلومات وكمية نادرة من والوثائق المهمة التي لا يستغني عنها أي باحث في الشأن العراقي.
******
الكتاب: شهادة للتاريخ (أوراق في السيرة الذاتية السياسية).
الناشر:
Al-Rafid, 348 Harrow Road, Paddington, London, W9 2HP
Telephone: (0044) 0207-266 4342