|
هل تعود سورية إلى النظام الديمقراطي
منذر خدام
الحوار المتمدن-العدد: 785 - 2004 / 3 / 26 - 10:22
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
شحادي جنيد تعقيب : د. منذر خدام هذا العنوان يطرح تساؤلات عديدة مضمرة فيه ، من قبيل : هل عرفت بلدنا في يوم من الأيام الديمقراطية؟ وكيف؟ ولماذا تلاشت تلاشي الندى عند أول شعاع شمس؟ وهل هناك بلد عربي واحد ديمقراطي حافظ على نهجه خمس سنوات على الأقل؟ وفي الجواب على هذه التساؤلات أقول إن بلدنا حاولت منذ عام 1943 بناء ديمقراطية سياسية تمثلت في انتخاب مجلس نيابي لمدة أربعة سنوات،وانتخبت رئيسا للجمهورية هو شكري القوتلي،وكانت الصحافة والأحزاب علنية وشرعية،باستثناء الأحزاب التي كانت تؤيد المحور.بعد أيار من عام 1945 استمر النظام السياسي الديمقراطي من حيث الشكل حتى آذار من عام 1949. خلال هذه المرحلة مارست الأحزاب الموجودة على الساحة العمل السياسي بحرية وكان لها مقراتها وجرائدها ، وكان لبعضها نوابا في البرلمان.غير أن صدور القرار الذي منع الحزب الشيوعي السوري من العمل السياسي بعد 29/11/1947 ، أخذ يشوش الحياة الديمقراطية، مع أن الحزب الشيوعي ذاته لم يتوقف عن العمل السياسي بصورة شبه علنية وكذلك كانت تفعل بقية الأحزاب في حال تعرضت للمنع والملاحقة. كنا يومها بحاجة إلى مؤسسات تدمج وتوحد المجتمع، فكانت مصانع النسيج والأسمنت والكبريت والصابون والمواد الغذائية في دمشق وحلب، كما كانت تلك الشبكة من المدارس التي يعمل بها جيل وطني متحمس من المعلمين يقوم بنشر المعرفة في المدينة والقرية والبادية ، في بلد كان نحو 95% من عدد أفراده أميين.وكانت الجامعة السورية بدمشق واحدة من أبرز أركان الاندماج الوطني والبحث العلمي،والنشاط السياسي والاجتماعي ،فيها درس ، ومنها تخرج قادة سوريون وعرب ،ومفكرون لعبوا دورا هاما في تاريخ المنطقة .وكان الجيش السوري ، كما كانت الأحزاب السياسية المختلفة،مركز دمج ووعي خصوصاً بعد هزيمة 1948 .غير انه بسبب ضعف القاعدة المادية الحديثة للنظام السياسي التعددي وهشاشة التحالف البرجوازي الإقطاعي وانتشار الفكر الثوري لدى الشباب الذي كان متأثرا بالبلدان الكليانية أكثر من بلدان الغرب الاستعماري الداعمة للعدو الصهيوني، تحول الجيش إلى قاعدة معادية للنظام الديمقراطي التعددي ،وأدخل بلادنا نفق الدكتاتوريات العسكرية من آذار عام 1949 وحتى غاية شباط 1954. غابت خلال هذه الفترة الانتخابات النيابية التنافسية ،وسادت مجالس عسكرية أو نيابية معينة كما ساد الحكم القائم على الحزب الواحد معظم هذه المدة (حركة التحرير). قمعت الدكتاتوريات الحريات والمطالبين بها وألغت الصحف وزجت في السجون أعدادا من الديمقراطيين والمتدينين، ومن الأحزاب الثورية مثل البعث والشيوعي.وبمقاييسنا الحاضرة كانت الإجراءات التعسفية للسلطات محدودة ،فلم تستطع إلغاء هامش الحرية فمؤسسات الدولة كانت محدودة، والأجهزة مليئة بالمتعاطفين. وكانت الوطنية تملأ نفوس الكثيرين من الضباط الحاكمين،كان هناك شيء من العقل والعقلانية في التعامل بعد انهيار نظام أديب الشيشكلي تحت ضربات الجيش الذي انسحب إلى ثكناته بعد أن أقام هيكلا شرعيا مؤقتا على أساس دستور عام 1950 الديمقراطي التعددي. عاد هاشم الأناسي رئيساً وسعيد الغزي رئيسا للوزراء وعادت الأحزاب جميعها إلى العمل،كما عادت الصحف والمجلات.جرت انتخابات نزيهة حرة هي الأولى والأخيرة في صدق تمثيلها (إلى حد ما كي لا نبالغ ) لمختلف تيارات الشعب السوري الأساسية: حزب الشعب، الحزب الوطني،حزب البعث، القومي السوري، الحزب الشيوعي ، الأخوان المسلمون،تكتلات المستقلين،كتلة العشائر،وكان المجلس يتألف من 143 نائبا فيهم معظم زعماء سورية السياسيين والاقتصاديين والدينيين، أذكر من هؤلاء الأفذاذ بعد الرئيس شكري القوتلي،ناظم القدسي معروف الدواليبي رشدي الكيخيا عبد الوهاب حرمد، رشاد برمدا مخائيل أليان عبد الرحمن الكيالي صبري العسلي اكرم الحوراني صلاح الدين البيطار خالد بكداش عبد الكريم زهور حسين مريود حنا الكسواني عبد الرؤوف أبو طوق طراد الملحم هاشم الهادي هايل سرور وكثيرون سواهم ممن كانوا على مستوى رفيع من المسؤولية. لقد كان مجلس 1954-1958 أقوى مجلس عرفته سورية حتى هذه اللحظة.الوضع التعددي أعطى صحافة حرة تمثل معظم قطاعات الشعب وأحزابه،فعلى سبيل المثال أذكر الصحف المؤيدة للحزبين الكبيرين الوطني والشعب وهي القبس والأيام وبردى، وقد كانت تتمتع باستقلالية حتى عنهما،وتنقدهما نقدا لاذعا.وكان للبعث جريدتان: البعث والرأي العام. وللإخوان المسلمين:المنارة. وللقوميين السوريين:البناء،و للشيوعيين: النور. كما جرت انتخابات لاتحاد العام للعمال وجمعيات الفلاحين وروابط المعلمين ونقابات الحرفيين وغرف التجارة وروابط الأطباء والمحامين ورجال الدين وسواهم.وكانت انتخابات حرة نسبيا لم يشهد لها القطر مثيلا حتى يومنا هذا وكانت القاعدة الاجتماعية للديمقراطية تتوطد وتتوسع على حساب القاعدة التقليدية ومركزها السياسي أحياء المدن القديمة والمؤسسة الدينية،وفي الريف مركزها نظام إقطاعي يتقلص نفوذه باستمرار تحت ضربات المدرسة والثقافة والقوى الثورية وفي المقدمة منها البعث الاشتراكي والشيوعي،وكانت مؤسسة الجيش توطد أقدامها باستمرار حاملة ورقة تحرير فلسطين،واستفادت كثيرا من فشل العدوان الثلاثي في عام 1956 ومن توجه عبد الناصر شرقاً.وهنا يحصل الانسجام بين القوى القومية الاشتراكية والشيوعية ومؤسسة الجيش التي لعبت الدور الأساس في إقامة الوحدة مع مصر،إزاء الديمقراطية والتعددية ومن يومها قبرت التعددية والحرية سياسيا واقتصاديا،وسارت بلادنا في نفق الأحادية تحت شعارات الوحدة والتحرير والاشتراكية. فأين نحن من هذه الشعارات وأين هذه الشعارات منا؟ هذا هو الرد على السؤال : هل عرفت بلادنا الديمقراطية؟أقول نعم عرفت ذلك مرة واحدة على قاعدة ضعيفة مخلخلة، غير ناضجة، مما أدخلنا في نفق قوامه وهم الوحدة وتحرير الأرض وإقامة الاشتراكية بدون الديمقراطية والتعددية وسيادة القانون واحترام كرامة الإنسان وعلنية الصحف والمجلات والأحزاب واقامة قاعدة ثابتة للشرعية أساسها الانتخابات الحرة والتفويض المؤقت لكل أربع سنوات مثلاً. وهنا ندخل في جدل البنية وما يترتب عليها من نظام سياسيي واقتصادي في ظل متغيرات وصراعات دولية معقدة دخلت متاهة بعد تلاشي أحد القطبين وارتهان مصير الأمم إلى قوة غاشمة واحدة هي قوة الإمبريالية الأمريكية كيف يمكن لبلادنا أن تعود إلى نظام برلماني تمثيلي يقوم على دستور تعددي يفصل بين السلطات الأربع التشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلامية، يشرع لعلنية الأحزاب على قاعدة وطنية واجتماعية،ويقر علنية وسائل الإعلام المتنوعة وحريتها. ويقيم مفهوما عصريا لشرعية النظام أساسه صراع سلمي للبرامج عبر مختلف الطرق الشرعية الإنسانية بعيداً عن العنف ،يتوج بانتخابات حرة تكون فيصلاً بين الحكومة والمعارضة، في ظل احترام متبادل وتنافس سلمي لما فيه رفاه المواطن وازدهار الوطن،ويكون ذلك من خلال مبدأ تبادل المواقع نتيجة الانتخابات،وهذا هو أساس الشرعية الدستورية البرلمانية التعددية العلنية السلمية عبر وسائل إنسانية للوصول إلى أهداف إنسانية أيضاً. هل هذا ممكن في بلادنا؟. في الواقع الحالي يبدو ذلك غير ممكن ، ويبدو أن البديل الديمقراطي غير متبلور بعد . وعلى افتراض حصلت تغيرات مفاجئة وغير مدروسة فقد ينجم عنها فراغ دستوري وفوضى سياسية كبيرة جداً قد ينجم عنها صراعات دامية تبدأ ضد خصوم الأمس وتشتد بين القادمين الجدد على مسائل دستورية أساسها كيف يمكن الاستقرار على مبدأ واضح للشرعية وكيف يتجسد ذلك بدستور ديمقراطي تعددي تضعه جمعية تأسيسية منتخبة من ممثلي المجتمع الحقيقيين المتناقضين المتصارعين خصوصا بعد انقطاع طويل عن ممارسة الديمقراطية وتوكيل أمر السياسة والاقتصاد والحياة والموت والعباد والبلاد إلى القيادات الكاريزمية. السؤال هو هل نحن متفقون على مبدأ الشرعية واصل السلطات؟ أقول بصراحة إذا لم نتفق على الحد الأدنى من تصور ديمقراطي فإن المصير هو القتل والتدمير والجوع والتدخلات الأجنبية وربما الدخول في استحالتين هما : استحالة التغلب على الأنظمة الدكتاتورية أولا واستحالة تكوين بديل أفضل ثانياً. من المعروف أن ثمة اختلاف على أصل السلطات وعلى مبدأ الشرعية. فهناك من يقول أن الله وحده أصل الشرعية والسلطات من خلال كتابه المبين موكولا إلى أهل الحل والعقد أو الإمام المعصوم، وإن الهدف هو إقامة جمهورية إسلامية تكون الحاكمية فيها لله.هذا منبر للقول قوي وأصل راسخ من مبادئ أصل السلطة والشرعية،لكنه منبر متعدد وفيه اجتهادات عديدة قديمة وحديثة لا تقبل التقريب تحمل في طياتها إمكانيات واقعية للاقتتال والتنازع كما هو حاصل في أفغانستان وفي غيرها من البلدان الإسلامية. وهناك من يقول بأن أصل الشرعية ومصدر السلطات والحكم هو الشرعية الثورية الذي يعني من الناحية العملية تفرد الحزب الواحد وقائد الحزب بالسلطة وقيام دكتاتوريات شمولية..الخ. ومع أن التاريخ امتحن هذا الخيار وأسقط العديد من أعمدته،لكنه مع ذلك فهو موجود وهناك بعض الأنظمة العربية التي لا تزال متمسكة بهذا الخيار. والخيار الثالث الذي تقول فيه بعض القوى الاجتماعية في منطقتنا العربية هو خيار العقد الاجتماعي المستند إلى تراثنا وتقاليدنا ومستفيدا من التجارب الإنسانية في هذا المجال . الدستور هنا يمثل هذا العقد، بما يعنيه ذلك من انتخابات دورية وتبادل للسلطة بصورة سلمية، وسيادة القانون..الخ . هذه هي الخيارات الثلاث التي سوف تواجه مرحلة ما بعد الدكتاتورية. ومع أن الخيار الثالث يبدو الأكثر استجابة لحاجات الناس والمجتمع،إلا أنه يفتقر إلى الركائز والبنى والأسس التي سوف يقوم عليها،وإذا لم تنتشر الثقافة الديمقراطية وتبنى الأسس اللازمة لقيام مؤسسات الخيار الديمقراطي، سوف يظل شعارا بلا مضمون سرعان ما يزوي ويموت مثل اخوته من الراحلين ..الوحدة والحرية والاشتراكية.أما إذا نجحنا في التأسيس الجيد للديمقراطية نكون قد ساهمنا في إعادة الروح للوحدة والحرية والاشتراكية لتساهم في صنع التاريخ. من الملاحظ أنه تجري في بلادنا تحولات باتجاه علاقات السوق واتخذت خطوات تشجع على الاستثمار مثل القانون رقم عشرة ،ورفع الدعم بشكل تدريجي وتحرير سعر الصرف، وتشجيع التصدير ، ودعوة الرأسمال العربي والأجنبي للاستثمار في سورية..الخ.غير أن العائق الأكبر في وجه هذه التحولات نحو اقتصاد السوق يتمثل في جمود الحياة السياسية وتكلس مؤسساتها،وان البلاد لا تزال تدار في ظل قانون الطوارئ والأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية العديدة المخالفة للدستور وتدخل الأجهزة الأمنية في جميع مجالات الحياة وخصوصا في الحياة الاقتصادية.أضف إلى ذلك يحتاج النشاط الاستثماري إلى تحرير الاقتصاد وإنشاء البنوك الخاصة وسوق للأوراق المالية..الخ. في الواقع لا تستطيع الديمقراطية أن تتقدم في ظل السياسات الحكومية السابقة ولا بد من تغيير جذري على هذا الصعيد.وربما يلعب الانفتاح الاقتصادي دور المشجع على هذه التحولات المطلوبة. فبدون المشروع الاقتصادي الحر يصعب التفكير بالمشروع الديمقراطي،وبقدر ما تكون المشاريع الخاصة راسخة ومربحة بقدر ما ينتقل لاحقا نشاطها إلى المجال السياسي دفاعا عن مصالحها. إن وجود قيادة برجوازية للاقتصاد ومن ثم للسياسة أمر هام جدا لتعميم الديمقراطية وديمومتها ففي ذلك قوة إضافة جديدة تضاف إلى قوى المثقفين والعمال والفلاحين وكل من له مصلحة في إشاعة الديمقراطية في البلاد.
تعقيب د. منذر خدام عندما ننظر إلى الوراء في تاريخنا السياسي بحثا عن إرث ديمقراطي، لا نجد ما نتوقف عنده سوى بعض التجارب الديمقراطية الهشة التي تعود إلى فترة ما بعد الاستقلال وتحديدا إلى فترة الخمسينات.فمنذ عام 1943 حاولت سورية بحسب رأي السيد أبي عيد أن تبني نظاما سياسيا ديمقراطيا كان من نتيجته انتخاب مجلس برلماني لمدة أربع سنوات، كما انتخب شكري القوتلي رئيسا للجمهورية. خلال هذه الفترة كانت الأحزاب تمارس نشاطها العلني وتصدر صحافتها.. لكن مع حل الحزب الشيوعي السوري في أواخر العام 1947 بدأت سلسلة من التراجعات عن الخيار الديمقراطي كان من أسبابها حسب السيد أبي عيد ضعف القاعدة المادية الحديثة للنظام السياسي وهشاشة التحالف البرجوازي الإقطاعي ، بالإضافة إلى انتشار الأفكار الثورية اللاديمقراطية المتأثرة بالأنظمة الكليانية دون الأنظمة الغربية الاستعمارية. المسألة باعتقادي أكثر تعقيدا، وإن ضعف التوجه الديمقراطي في صفوف شعبنا وخصوصا لدى الشباب، ليس مرده تأثرهم القوي بالأنظمة الكليانية( أي الأنظمة الاشتراكية السابقة) دون الأنظمة الغربية، بل لأن هذه الأخيرة التي استعمرت المنطقة وجزأتها لم تكن حريصة مبدئيا على تجذير الخيارات الديمقراطية في البلدان العربية و ناصبتها العداء. في تلك المرحلة كانت القوى الاستعمارية حريصة على ترتيب أوضاع المنطقة في إطار الأحلاف الاستعمارية هذا من جهة ، وعلى تدعيم المشروع الصهيوني في فلسطين من جهة ثانية ، بالإضافة إلى خصائص المشروع الرأسمالي الطرفي من جهة ثالثة. في إطار هذه الظروف والمعطيات أخذت تتبلور الحركات السياسية وتتحدد سلوكياتها ومواقفها. فمن جهة كان الحلف البرجوازي الإقطاعي الهش محكوما بتوازنات حرجة بين البرجوازية الصاعدة المتصيرة كولونياليا، وبين القوى الإقطاعية الشرسة في دفاعها عن مصالحها. فعندما كان يزداد ثقل العنصر البرجوازي كانت تتعزز الميول نحو الديمقراطية السياسية على الرغم من افتقارها إلى الأصالة والجدية،وبالعكس كان يتم التراجع عن المكتسبات الديمقراطية مع نمو تأثير القوى الإقطاعية. من جهة أخرى كان المد الوطني يتنامى تحت راية القومية العربية كرد فعل على التجزئة التي اصطنعها الاستعمار في الوطن العربي وعمل على استقرارها وتوطيدها، وإنشائه للكيان الصهيوني في منطقة القلب منه، وإخفاق الحلف البرجوازي الإقطاعي في حرب عام 1948 أمام العصابات الصهيونية . ففي سبيل الوحدة العربية وتحرير فلسطين تم التخلي عن الديمقراطية،بل وإدانتها باعتبارها من مفرزات الاستعمار.فمنذ الاستقلال وحتى عام 1963 توالت الأنظمة الدكتاتورية العسكرية التي تخللتها فترات قصيرة حكمت خلالها أنظمة ديمقراطية غير مستقرة. فمن عام 1949 وحتى عام 1954 حكم حزب حركة التحرير تحت راية الدكتاتوريات العسكرية، لكن بعد سقوط نظام أديب الشيشكلي عادت الحريات للظهور لفترة قصيرة انتعشت خلالها الأحزاب السياسية التي كانت موجودة في تلك المرحلة مثل حزب الشعب والحزب الوطني وحزب البعث والحزب القومي السوري والحزب الشيوعي ..الخ كما استمر بالعمل حزب حركة التحرير برئاسة مأمون الكزبري، وجرت انتخابات جديدة على أساس دستور عام 1950 وكانت الأكثر نزاهة في تاريخ سورية المعاصر، تمخض عنها مجلس نيابي ،اعتبر في حينه من أقوى البرلمانات في سورية.واستمرت التجربة الديمقراطية حتى عام 1958 حيث تم القضاء عليها تحت راية الوحدة ، ومنعت بالتالي الحياة السياسية الحزبية الحرة بقوة القانون والبوليس. عند هذا المستوى من العرض يصل السيد أبي عيد إلى جواب إيجابي عن سؤاله:هل عرفت سورية الديمقراطية يوما من الأيام؟ أما عن سؤاله هل تعود سورية إلى النظام الديمقراطي؟ يبدو السيد أبو عيد سلبيا ومتخوفا وهذا ليس بلا وجه حق بالتأكيد.فالتحول من وضعية الدولة الأمنية الكلية إلى وضعية الدولة الديمقراطية يتطلب تحولا عميقا في البنية الاجتماعية وفي طابع الدولة وفي تكوين الحياة السياسية والحزبية وفي تكوين الشخصية الفردية..الخ. ولتحقيق ذلك يتخوف السيد أبو عيد من احتمال نشوب صراعات دموية ليس فقط بين القوى القابضة على السلطة والقوى المعارضة لها، بل وبين القوى المعارضة ذاتها.وللتقليل من ممكنات هذا الاحتمال يدعو السيد أبو عيد إلى تحقيق الحد الأدنى من التفاهم بين القوى الاجتماعية والسياسية التي تتبنى الديمقراطية.ويرى السيد أبو عيد أن هذا الحد الأدنى يقف عند مسألة الشرعية.هنا يميز السيد أبو عيد بين من يقول بالشرعية السماوية، أي أن شرعية السلطة ،أي سلطة ،هي من عند الله. هؤلاء سوف يقودون البلاد إلى وضعية شبيهة بوضعية أفغانستان حسب السد أبي عيد،نظرا للخلافات الكبيرة بين من ينتمون إلى هذا الاتجاه. وهناك من يقول بالشرعية الثورية، وبالتالي لا يؤمن بالخيار الديمقراطي. لقد امتحنت الحياة هذا الخيار لمدة تزيد عن أربعة قرون وهو موضع شك وتساؤل في الوقت الراهن في جميع البلدان العربية، بل وأخذ يتداعى ويسقط في بعض البلدان العربية. لكن هناك مصدر ثالث للشرعية تقول به بعض القوى الاجتماعية التي تتميز بميولها الليبرالية، وهو الشرعية القائمة على أساس التعاقد الاجتماعي، هذه الشرعية التي يجب أن تراعي كما يقول السيد أبو عيد(( تراثنا وديننا وتاريخنا وثقافتنا وتستفيد مما حققه الإنسان من تقدم )).ومع أن السيد أبا عيد يبدو منحازا إلى هذا الخيار ، فإنه يرى انه كأخواته ،الوحدة والحرية والاشتراكية،سوف يظل شعارا فارغا إذا لم يتوفر له الأساس المادي والثقافي الضروري لبنائه بصورة سليمة، بما يعنيه ذلك من حرية سياسية واقتصادية.وفي بحث السيد أبي عيد عن أساس اقتصادي لهذا الخيار الديمقراطي، لا يجد سوى المشروع الحر، الذي يرى فيه ((أول حاضنة للديمقراطية خصوصا إذا كان إنتاجياً))، لذلك فهو يطالب بـ (( تنشيط وتدعيم كل ما يقوي القطاع الخاص)) ويعتبر أن (( الترويج للاقتصاد الحر هو خطوة إلى الأمام في إقامة المشروع الديمقراطي)).ويستطرد السيد أبو عيد قائلا أنه((بقدر ما تكون تلك المشاريع راسخة ومربحة بقدر ما ينتقل قادتها من مجال النظرة الاقتصادية الضيقة إلى مجال أرحب، مجال السياسة لا حبا بالسياسة فقط، بل دفاعا عن مصالحهم)). وحتى لا يبقى السيد أبو عيد ، وهو الماركسي السابق المدافع عن الديمقراطية الاجتماعية لعقود من السنين، أي شك حول خياره الديمقراطي الحر يتابع فيقول ((إن بناء قيادة برجوازية للاقتصاد ثم للسياسة أمر هام في تدعيم الديمقراطية وديمومتها)). هكذا إذا،رغبات عديدة ومتنوعة لدى السيد أبي عيد، لا يكلف نفسه عناء استقصائها في الواقع العياني.وحاله هذه هي، فمن الطبيعي أن لا يتساءل عن الطبقة التي تقف وراء الأنظمة الدكتاتورية وتعيد إنتاجها، وأين هي البرجوازية من كل ذلك.لقد أصبحت الديمقراطية لدى السيد أبي عيد ولدى غيره المسطرة التي يقاس بها التاريخ، وأنها لصيقة عضويا بالبرجوازية وبالمشروع الخاص.لذلك نراه لا يهتم بالقضايا الوطنية الصغيرة منها والكبيرة، من لقمة الخبز إلى الوحدة وتحرير فلسطين، ولا يتساءل فيما إذا كان ثمة علاقة بين الديمقراطية وبينها. في اعتقادي أن الديمقراطية لن تكون مفهومة من قبل أغلبية الناس إذا لم ترتبط بهمومهم.وإذا كانت قيادة البرجوازية للمشروع الديمقراطي هي الضمانة لنجاحه حسب السيد أبي عيد، فمن أين نأتي للسيد أبي عيد بهذه البرجوازية ،ونحن نعلم أن البرجوازية المحلية كانت على طول الخط تقف وراء الأنظمة الحاكمة.ثم هل نظر السيد أبي عيد في ظروف بلدان عربية أخرى حيث المشروع الخاص هو المنتشر بدون أية عقبات، ومع ذلك تسود الدكتاتورية،بل ربما أسوأ أنواع الدكتاتوريات من نظم عائلية وقبلية وعشائرية، هذا عداك عن استنزاف وتبذير الثروات الوطنية. ولا يتساءل السيد أبو عيد ،جريا على عادته ، عن الإمكانية الفعلية للقطاع الخاص للقيام بإنجاز المشروع التنموي الديمقراطي بأفاق ديمقراطية.نحن نعتقد مثل العديد من مفكري العالم الثالث انه لا يمكن الاستغناء عن دور الدولة الفاعل في تطوير الاقتصاد والمجتمع ككل.ومع أننا نتفهم تخوفات السيد أبي عيد،المتعلقة باحتمال انهيار بعض الأنظمة الدكتاتورية دون أن يكون هناك بديل ديمقراطي متبلور،وما يمكن أن يتسبب به حصول ذلك من تفجر الاحتقانات في المجتمع على شكل حروب أهلية وطائفية ..الخ لكن لا نصل إلى الحد الذي يهجس به ، فرهاننا لا يزال كبيرا على وعي شعبنا ووطنيته. مع ذلك ففي قول السيد أبي عيد ما يجب أن يحفزنا ويستنفر شعورنا بالمسؤولية ، وبالتالي ينشط حواراتنا بما يرفع من مستوى وعينا بقضية الديمقراطية يساعدنا على بلورة تصور للنظام الديمقراطي يكون أكثر ملاءمة واستجابة لمصالحنا الوطنية والقومية ، ويعبر عن رغبات أوسع الفئات الاجتماعية التي لها مصلحة حقيقية في إنجاز مهام المرحلة الوطنية الديمقراطية .وإن مساهمتنا المتواضعة في أشغال هذه الندوة كانت مكرسة بكاملها لهذا الغرض.
#منذر_خدام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيادة الرئيس....
-
الحزب السياسي ودوره في الصراع الاجتماعي
-
الإسلام والديمقراطية
-
الصراع الطبقي في الظروف الراهنة
-
الديمقراطية بالمعنى الإسلامي
-
قراءة في الحدث- الزلزال العراقي
-
الديمقراطية التي نريد
-
الصراع الطبقي وأشكاله
-
أزمة الديمقراطية في الوطن العربي
-
البناء الاجتماعي ومفاهيمه الأساسية
-
المادية التاريخية وسؤالها الأول
-
الديمقراطية: معوقات كثيرة …وخيار لا بد منه
-
المادية الجدلية وسؤالها الأول
-
الديمقراطية بين الصيغة والتجسيد
-
المنهج الماركسي واشتراطاته
-
شي بحط العقل بالكف....
-
منطق الفكر
-
نقد الفكر مقدمة لنقد السياسة
-
الديمقراطية وبيئتها المفهومية في الوعي السياسي العربي
-
الديمقراطية والنخبة
المزيد.....
-
بعد استخدامه في أوكرانيا لأول مرة.. لماذا أثار صاروخ -أوريشن
...
-
مراسلتنا في لبنان: غارات إسرائيلية تستهدف مناطق عدة في ضاحية
...
-
انتشال جثة شاب سعودي من البحر في إيطاليا
-
أوربان يدعو نتنياهو لزيارة هنغاريا وسط انقسام أوروبي بشأن مذ
...
-
الرئيس المصري يبحث مع رئيس وزراء إسبانيا الوضع في الشرق الأو
...
-
-يينها موقعان عسكريان على قمة جبل الشيخ-.. -حزب الله- ينفذ 2
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب ويلتقي ولي العهد
-
عدوى الإشريكية القولونية تتفاقم.. سحب 75 ألف كغ من اللحم الم
...
-
فولودين: سماح الولايات المتحدة وحلفائها لأوكرانيا باستخدام أ
...
-
لافروف: رسالة استخدام أوريشنيك وصلت
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|