علي السعدي
الحوار المتمدن-العدد: 154 - 2002 / 6 / 8 - 07:06
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
>كان العراق ولعقود خلت واحدا من أكثر بلدان المنطقة استقرارا من الناحية الديموغرافية، فبالرغم من الاهتزازات السياسية التي كان يتعرض لها بشكل شبه متواصل والتي منحته تلك السمعة المدوية في كثرة القلاقل والاضطرابات التي طالما رافقت مجيء حاكم وذهاب آخر، الا ان المجتمع العراقي ولكونه قد نشأ بمعزل عن الحاكم وأفرز آليات تراتبيته الاجتماعية والوطنية وتراكماته النفسية التي غذت فيه الشعور بقوة الانتماء الوطني لبلد كان حكامه قد أسقطوا عليه، وذلك بفعل تداخلات واعتبارات لا شأن مباشر له بها، ظل متماسكا الى حد كبير بفعل أنماط انتمائية عشائرية او دينية او قومية راسخة الجذور، فالاحساس بعدم تمثيله من قبل <<مؤسساته الحاكمة>> التي لم تبذل بدورها جهدا للاندماج في المجتمع العراقي، ربما لمعرفتها المسبقة بلا شرعيتها وفقدانها الثقة والتواصل معه، بمقدار سعيها لتفكيك بنية ونسيج ذلك المجتمع بشتى الوسائل والادوات ليسهل من ثم السيطرة عليه وتطويعه، جعلا ذلك المزيج المتداخل والمتكون من إحساس بالقهر والظلم من جهة وتواتر عمق الانتماء الى العراق من جهة اخرى ينصهران في دواخله ليشكلا معا تلك السبيكة النفسية ذات الخصوصية الفريدة من نوعها، والتي توقف أمامها الكثير من الباحثين والمفكرين محاولين استجلاء كنهها وماهيتها ومتتبعين بالتالي المآل الذي سيكونه العراق في هذه المرحلة او تلك من مراحل سيرورته التاريخية وحاضره وبالتالي نوعية النظام الذي يصلح لقيادة شعب من هذا النوع في المستقبل.
>وقد اختلف اولئك الباحثون في قيام الكيفية الحاكمة، فرأى بعضهم ان الحكم الشمولي هو نتاج طبيعي للمجتمعات النهرية التي تحتاج بشكل دائم الى حكومات مركزية تحافظ على وحدتها وتماسكها، فيما رأى البعض الآخر ان المجتمع العراقي لم تتح له فرصة حقيقية لخوض تجربة وفرز ما يلائمه، وبالتالي فهو مؤهل تماما لبناء ديقراطيته الخاصة.
>ومما هو معروف ان ذلك السهل الرسوبي الخصب والغزير المياه الواقع بين صحراء قاحلة تحده من الجنوب والغرب وشمال جبلي وِّعر، قد جعلا منه مركز جذب واستقطاب لأقوام وجدت فيه ما يوفر لها ملاذا ومستقرا ليس بالضرورة آمنا لكنه من الغنى والوفرة ما يستحق القتال من اجله والبقاء فيه، وهكذا تشبث به أبناؤه وطغى حكامه ذلك الطغيان المدمر الذي ترك آثاره على جسد وروح العراق وشعبه، وليس من دون دلالة وصف بابل بأنها تتكلم بألف لسان لكثرة وتنوع ما كان فيها من سكان. ولا يبدو للمتتبع ان هذا الامر قد تغير بشدة كما بدأ بالتغير في الثلاثة عقود الاخيرة من عمر العراق الذي أصبح للمرة الاولى مصدر هجرة ونزوح لتلك الاعداد الكبيرة من المهجرين والمهاجرين والمنفيين المنتشرين في جهات الدنيا الاربع، لكن هل يمكن لتلك الضارة ان تصبح نافعة يوما فيساهم اولئك في وضع ما اكتسبوه من خبرات في بلدان المنافي لبناء أسس جديدة تسهم في رسم مستقبل العراق؟ في بحث أعدته المؤسسة العربية للدراسات والبحوث الاستراتيجية عن الهجرة وأبعادها السياسية متخذة من العراق نموذجا، ذكرت فيه ان ظاهرة النزوح المتزايد من بلد كالعراق هي في جوهرها ذات جذر سياسي وان اتخذت مظاهر وأشكال شتى، وقد أدرجت تلك الهجرات تحت عنوانين رئيسيين:
>الهجرة القسرية وهي تلك التي تتم تحت تهديد وضغط من سلطة اجتماعية او سياسية مباشرة، والهجرة الاقتصادية او الناتجة عن كوارث طبيعية، والوجه الاول كان ولا شك السمة البارزة لأسباب هجرة العراقيين كما بات معروفا، اذ لم يشهد العراق خلال تاريخه القريب كوارث طبيعية او حروب اهلية تجبر العراقي على مغادرة بلده كما لم يدرج العراق ضمن الدول الفقيرة حتى ما قبل اكتشاف البترول نظرا لاتساع مساحته وأراضيه الصالحة للزراعة والانتاج، اما النكسات ذات المنشأ الاقتصادي فهي بمعظمها ناتجة عن سوء الادارة الحاكمة التي استنزفت خيراته المادية في حروب عبثية لا مصلحة له فيها، كما حاصرت او شردت طاقاته العلمية والثقافية والفكرية والمهنية بشكل منهجي الى درجة إفقاره من تلك الطاقات الابداعية. وتدليلا على ذلك ما أوردته مجلة الزوراء التي يشرف عليها عدي وتحت قائمة <<المرتدون>> اسم أكثر من مائتي مثقف بين شاعر وروائي ومترجم ومخرج وكاتب كانوا قد غادروا العراق اما من تبقى فقد أفرغته من مضامينه وجعلته في معيتها تابعا لها او ناطقا باسمها منفذا لما تريد، هذه الوقائع مجتمعة جعلت من العراق بلدا مستنزفا الى درجة يصعب تصور امكانية اعادة بنائه وإدخاله مجددا في مسار التطور من دون مساهمات فاعلة من جميع ابنائه أولا، اما اشقاؤه وأصدقاؤه فهناك القلائل ممن يجدون في عودة العراق سليما معافى مصلحة حقيقية لهم.
>وفي البيانات والاحصاءات التقريبية للأعداد الموجودة خارج العراق تبين ان هناك ما يقرب من ثلاثة ملايين مهاجر عراقي من أجيال وفئات عمرية مختلفة يمثل سن الشباب حجمها الأهم، بينها نسب عالية من الكفاءات رفيعة المستوى في مجال اختصاصاتها، وقد جاء على خارطة التوزع العراقي في مختلف البلدان كالآتي:
>ما يقرب من مليون في الجمهورية الاسلامية الايرانية
>ربع مليون في الاردن
>100 ألف في كل من أستراليا والنروج وألمانيا
>50 ألفا في السويد
>40 ألفا في الدنمارك
>25 في سوريا
>20 في أميركا يضاف اليهم 12 ألفا كانوا في معسكر رفحة المملكة العربية السعودية كما ان هناك آلاف اخرى موزعة في مختلف البلدان التي لم تدرج في القائمة الاحصائية، ومن حيث نوعية بلدان اللجوء وأوضاع العراقيين فيها من النواحي السياسية والاجتماعية يدرج اللاجئون في صنفين: أولئك الذين يعيشون في البلدان ذات الانظمة الديمقراطية أوروبا أوستراليا كندا أميركا البلدان الاسكندنافية وهؤلاء يتمتعون بكافة المزايا التي يتمتع بها رعايا تلك الدول من ضمانات صحية واجتماعية وسياسية وغيرها من الاجراءات التي أسهمت في عملية الدمج والتذويب داخل مجتمعات تلك البلدان وهذه بمجملها قد قدمت حلا نموذجيا للاجئين من مستوى حياتيا لم يكن ليتوفر لهم داخل وطنهم الأم، اما لجهة انتماءاتهم السياسية وامتداداتها في العراق، فلا يبدو ان فصائل المعارضة العراقية على اختلاف تلاوينها وطيفها العقائدي او السياسي قد نجحت في استقطاب الكثير، اذ تبدو نسبة <<اللامنتمين>> او المستقلين مرتفعة الى درجة يصعب حصرها، وبالتالي فليس مستغربا كون العدد الغالب على خارطة الاغتراب العراقي يتكون من اولئك الذين خرجوا من العراق للبحث عن حلول فردية يستطيعون من خلالها ايجاد مصير أفضل لهم او لعائلاتهم بعد أن يئسوا من صنع مستقبلهم في العراق ناهيك بحاضرهم، وعليه فهم مستقرون في بلدانهم الجديدة الى درجة تظهر فيها موضوعة العودة الى العراق او الارتباط الفعلي بقضاياه وإشكالاته مسألة عاطفية أكثر من كونها واقعية او قابلة للتطبيق الفعلي.
>اما الصنف الثاني فهم العراقيون المقيمون في البلدان العربية او الاسلامية وهؤلاء بحصيلة إجمالية هم الذين تقع على كواهلهم معاناة المنفى ومشاكل الغربة التي لا نهاية او حل لها، فهم من دون وثائق ثبوتية رسمية ولا أوضاع قانونية معترف بها ونتيجة لذلك يعيشون على هامش مجتمعات اللجوء ولا مساهمات حقيقية سوى بعض الهوامش من منتديات وجمعيات ثقافية او اجتماعية أقاموها هنا وهناك هي دون مستوى الطموح بحكم الظرف المحيط، وهكذا يمكن تلمس حجم المعاناة فيمن انقطعت بهم وبعوائلهم سبل العيش وأصبحوا أمام خيارين: العودة الى العراق ومواجهة سوء المصير الذي ينتظرهم هناك بظروف هي أصعب بكثير من الظروف السابقة اذ انهم خرجوا لأسباب سياسية بالضرورة وهذا ما يميزهم عن الأجيال اللاحقة، واما البقاء حيث هم لمواجهة المجهول الذي لا أفق له، وعليه فهؤلاء هم الاكثر حماسة ومصلحة بالتغيير قياسا بغيرهم من المنفيين او المهاجرين العراقيين وان كانت تجاربهم أقل غنى وتنوع من أخوتهم في البلدان الديموقراطية، لذا فمساهمتهم المستقبلية ستكون ذات أثر محدود وذلك لمحدودية ما اكتسبوه من خبرات أقله في آليات العمل الديموقراطي وكيفيته.
>وحسبما جاء في دراسة اخرى أعدها بنك المعلومات العراقي حول الاجيال العراقية في المهجر متخذين من التواجد العراقي في إيران نموذجا، ظهر ان الجيل الثاني من أبناء المهاجرين والمهجرين هي الأقل التصاقا بل ومتابعة لما يحدث في العراق وهم مهددون بفقدان الكثير من المقومات والروابط التي تشدهم الى وطنهم بما فيها عوامل اللغة ومنهجياتها الثقافية والمعرفية، فقد كشفت الدراسة ان نسبة 3,57% تمارس بشكل جزئي الكتابة باللغة العربية فيما تساوت كفتا المداومين على الكتابة باللغة الأم مع أولئك الذين لا يستخدمونها ابدا كما ان نسبة 4,69% لديها الرغبة في التدوين بواسطة اللغة البديلة، هذا الامر يشير بوضوح ان لغة المنشأ بدأت بالانحسار لدى الجيل الثاني مخلية المكانة والمكان لصالح لغة البلد المضيف نظرا لضخامة المؤثرات التي تعزز فرص اللغة الثانية في واقعهم المعيشي والتربوي. اما ما يمكن تلمسه هنا فهو ان الذات العراقية ما زالت حاضرة بنسبة معقولة لدى أبناء الجيل الثاني يتجلى ذلك في المحافظة على شيء من الموروث العشائري والخصوصية العراقية، وان شابها الكثير من القلق والالتباس نتيجة لانقطاع وشائج التواصل مع الأهل والأقارب في العراق خشية التسبب بإلحاق الأذى بهم من قبل أجهزة النظام، حيث يتعرض الأهل الى ضغوطات أمنية وإجرائية يتم بموجبها استدعائهم الى التحقيق وربما الاعتقال في حال ثبوت اتصالهم بالخارج خصوصا مع إيران هذه الحالة وغيرها أدت الى انكفاء تدريجي بدأ يشكل ظاهرة يجب دراستها بعمق من قبل المهتمين بالشأن العراقي كي لا تؤدي بمحصلتها النهائية الى انفصال أجيال بأكملها عن جسد العراق، كما أشارت الدراسة على ان المصادر المعرفية عن الوطن لدى أبناء الجيل الثاني تتلخص فيما تتناقله الأسر عن العراق ومصادر بعض صحف المعارضة العراقية والصحف الايرانية وقد جاءت النسب على الشكل التالي:
>97,60% عن طريق أسرهم وذويهم 8,37% يتواصلون مع أنباء العراق بواسطة صحافة المعارضة في حين لم تمثل الصحف الايرانية سوى 4,13% من مصادر المعلومات.
>هذه الدراسة قد لا تصلح قياسا نموذجيا لحالة الشباب العراقي المغترب نتيجة الاختلاف الثقافي والديني شبه المتطابق في إيران نسبة الى غيره من البلدان والمجتمعات الاوروبية والاميركية نظرا لاختلاف المفاهيم ومنظومة القيم والأعراف التي قد لا تسهل كثيرا من موضوعة الاندماج والتذويب الكلي، لكن ذلك لا يمنع الافتراض بأن الاجيال الجديدة ستفقد الاهتمام والرابط الذي يشدها الى قضايا العراق، وبمرور الوقت ستألف الاندماج مع مجتمعاتها البديلة لتصبح جزءا منها الى درجة عدها عمليا خارج الحسابات المستقبلية للعراق، واذا عرفنا طبيعة الشريحة الكبرى من هؤلاء المهجرين وانتمائاتهم المناطقية والمذهبية والعشائرية، يمكن استنتاج القصدية وراء ما يجري من خلال إحداث شرخ سكاني لا تعود فيه الغالبية العظمى من العراقيين ممثلة بفئة معينة وبالتالي إسقاط صبغة تركيبية لشكل الحكم الذي سيقوم هناك متلائما مع التغير الديمغرافي الذي أحدثته هجرة هذا العديد الملاييني من سكان العراق الذي لا يستبعد ان يكون مترافقا مع ما يخطط له كحلّ مزمع للقضية الفلسطينية.
>نستنتج من ذلك ان القسم الأهم من جموع المغتربين وفي اطار سعيها لحلول فردية قد وجدت بالفعل تلك الحلول في بلدان الاغتراب وأصبحت قضايا العراق شبه منسية او أقله لم تعد في اطار الخيارات المركزية بالنسبة اليهم، وهكذا تبدو الرهانات على <<جيوش>> مغتربة تجندها المعارضة ومن ثم تزجها في عملية التغيير المنشود في العراق، هي أقرب الى الأمنيات منها الى عوامل واقعية.
>
كاتب عراقي مقيم في لبنان