بسام البغدادي
الحوار المتمدن-العدد: 2556 - 2009 / 2 / 13 - 08:00
المحور:
الطب , والعلوم
هل نحن خلائق غير قابلة للتطور أبداً؟ ام نحن أحياء على قمة سلم التطور المتفاعل و المتواصل؟ في الموضوع أدناه سأتناول أهم ما يتناوله المنظرين لنظرية الخلق ضد نظرية التطور.
نظرية الخلق تنص على أن كل الاحياء الموجودة اليوم هي موجودة بالشكل التي هي عليه الان لان الله أرادها ان تكون بهذا الشكل التي هي عليه عندما خلقها فجأة من العدم قبل ستة الاف سنة. كل الاحياء مقصود بها, كل الاجناس و الفصائل بكل أنواعها, من الاحياء احادية الخلية كالبكتريا و حتى أكبرها و أكثرها تعقيداً مثل الثدييات على مختلف أنواعها.
يتخيل البعض في أحيان كثيرة بأننا هنا أمام جدلية لخيارين ينقض احدهما الاخر و لا ثالث لهما و يجب ان يكون احدهما صحيحاً. و فيما لو تم نقض نظرية التطور فأن نظرية الخلق هي النظرية الوحيدة حينها. لهذا يقوم المنظرين لأسطورة الخليقة بالبرهنة ضد نظرية دارون للتطور بنفس الحماس برهانهم لصالح قصة الخلق, ولكن هذا أعتقاد خاطئ بالطبع. فقد كان لنظرية التطور وحتى وقت قريب نظريات علمية عديدة منافسة, وليس مستحيلاً ظهور نظريات أخرى تقوم بتفسير اشياء أخرى لم تفسرها نظرية التطور بعد ولكن ما علاقة هذا بنظرية الخلق؟ وهل نظرية الخلق هي نظرية علمية اساساً؟ هل تقوم بتفسير شئ ما ولو جدلاً؟ كل ما تقوم به نظرية الخلق هو أرجاع مصدر كل شي الى قدرة غيبية لا يمكن اثبات وجودها؟ اي أننا ندور في حلقة مفرغة وبدل ان نقول لا نعرف نضع اسم تلك القوة الغيبية كجواب لكل سوآلاتنا.
لا يمكن ان تقوم نظرية علمية على انقاض نظرية أخرى ابداً. النظرية العلمية هي تفسير واضح لحقائق ثابتة من خلال مبدأ معين يمكن تجربته و تمحيصه من الجميع. وفي اليوم الذي سنترك فيه نظرية دارون للتطور مثلاً فلا يمكن ان نعود الف سنة للوراء لأيقاض خرافة بابلية و نسميها عبثاً نظرية علمية من اجل تفسير الطبيعة. بل سنتجه للامام تماماً كما يعلمنا التأريخ العلمي عندما يتم نقض نظريات لعدم ثباتها و محاولة أيجاد نظريات أخرى تفي بالغرض, ليس فقط لملأ الفراغ الناجم عن غياب تفسير طبيعي ما ولكن لرغبتنا بمعرفة الدافع الكامن خلف ظاهرة معينة ما و قدرتنا على استغلال هذا الدافع لمصلحة انسانية بحتة.
نظرية التطور للاحياء هي ليست نظرية غيبية ازلية ابدية, بل هي نظرية حية نابضة و متطورة في حد ذاتها, النظرية الشائعة اليوم و التي تعرف بالداروينية الحديثة تختلف في كثير من النقاط عن تلك النظرية التي نقرأ عنها في كتاب (اصل الانواع) الذي صدر قبل 150 سنة. حجم معرفتنا بالاحياء و الاجناس يختلف عن ما كان عليه قبل 150 عام, علومنا الطبيعية, الجينية, الوضيفية, التركيبية, الخ تختلف اختلافاً كبيراً عن تلك التي كانت متوفرة لصاحب النظرية نفسه. كل هذا التطور العلمي اعطى لنظرية التطور قاعدة علمية رصينة و ثابتة مثلما لم تحظى اي نظرية علمية أخرى.
في حقيقة الامر فأن نظرية التطور هي تفسير طبيعي بل و بديهي و تحصيل حاصل لا مفر منه مهما حاول البعض انكاره. فاذا كانت هناك فروقات مختلفة بسيطة بين الافراد في النوع الواحد وجزء من هذه الفروقات سينتقل بالوراثة بالتدريج الى مجموعة معينة من الابناء, وكل واحد من هؤلاء الابناء سيقوم بنقل جزء بسيط آخر من الفروقات الخاصة به الى ابنائه, اذن التطور حقيقة واقعة لا محالة, المسألة فقط مسألة وقت قبل ان نحصل على فروقات كبيرة نوعاً ما كي ينفصل النوع الى نوعين مختلفين وهلم دواليك. لكن هذا لا يروق لمن يؤمن بأن الثلاثين مليون جنساً الموجودين على الارض اليوم جائوا كما هم عليه اليوم عن فجأة عندما أراد الله ان يكونوا فكانوا.
فما هي أهم الشبهات التي يثيرها المؤمنين بنظرية الخلق على نظرية التطور لدارون؟
أولا: الحلقة المفقودة, اي غياب للاحياء او بقاياهم العضوية المتحجرة التي تتوسط الاجناس الموجودة الان؟
هذا كذب و ضحك علني على الذقون و أستغلال لمعرفة الناس المحدودة بعلوم المتحجرات المكتشفة. ربما لم تتوفر سلاسل متكاملة من المتحجرات لدارون عندما كتب كتابه الشهير اصل الانواع ولكن تتوفر لدينا اليوم سلسة طويلة عريضة من مراحل تطور تلك المتحجرات تصف وصولها الى الاجناس المتبقية اليوم. من أهم هذه المجموعة المتكاملة من المتحجرات هي تلك المتحجرات التي تصف وبشكل واضح الانتقال من الزواحف الى الثدييات, سلسلة متكاملة أخرى لدرجة لا تترك مجالا للشك هي تلك السلسلة التي تصل الى جد الانسان الحالي (الهوموسابين) الى فترة تصل بين اربعة و خمسة ملايين سنة للوراء. كما ان السلسلة دقيقة و متكاملة من الهوموسابين الى الانسان الحالي. أجناس كثيرة قريبة من الجنس الانساني الان تم الكشف عن بقاياها بالاضافة الى سلسلة متكاملة تصل الانسان الحالي بالهوموسابين. ماذا نحتاج اكثر من هذا؟ هل هناك حلقة مفقودة بعد؟
نعم توجد حلقة مفقودة لمن يريد ان يختلق حلقة مفقودة. قبل ان يتم الكشف عن طير أركيوبتركس وهو الذي عاش قبل 150 سنة و يكون حلقة الوصل بين الزواحف و الطيور كانت الكنيسة تقول بأنه لا وجود لتلك الحلقة المفقودة بين الزواحف و الطيور. ولكن بمجرد الكشف عنه في المؤتمر الصحفي صرح المنظرون لنظرية الخلق بأننا نملك الان حلقتين مفقودتين, بين الزواحف و الاركيوبتركس و الاركيوبتركس و الطيور, وعندما تم الكشف عن متحجرات تمثل حلقة الوصل الضائعة هذه, اكتشفنا فجأة بأن المنظرين لنظرية الخلق يصرخون بأنه لدينا الان اربعة حلقات مفقودة, وهلم دواليك في جدلية فارغة لا يستمتع بها الا أصحابها.
ثانيا: لم ير أحد في يوم ما ان نوع جديد من الحيوانات او الاحياء يتطور؟
كذب و ضحك على الذقون, لنفس السبب القديم وهو جهل المتلقي للاكتشافات الطبيعية التي تجري على ارض الواقع يومياً. عدد لا حصر له من علماء الطبيعة قاموا برصد و تسجيل تطور انواع جديدة من الاحياء الموجودة اليوم بيننا, الكاتب S L Weinberg يعطي في رسالته العلمية Reply to M Denton شرح مفصل و دقيق لانواع عديدة و كثيرة لاحياء تطورت على مستوى النوع. مثال آخر يتم الاشارة له غالباً هو التطور الذي طرأ على الفراشات اللندنية اثر الثورة الصناعية و تغير لونها الى اللون الاسود, الظاهرة تعرف بأسم industrial melanism لمن يريد ان يعرف عنها المزيد. الخلاصة اننا نرى و بشكل واضح ان هناك انواع جديدة تتطور دائما ولكن لم يرى احد ما يوماً ما ان هناك نوع ما يخلق؟
ثالثا: أذا كان اصل الحياة مواد طبيعية غير حية موجودة في الطبيعة لماذا لم نستطيع بث الحياة في خلية واحدة في المختبر من نفس المواد التي تتكون منها الخلية الحية؟
هذا جهل صارخ بنظرية التطور التي لا علاقة لها اساساً بمصدر الحياة, من جهة ثانية هذا جهل علمي خطير لنظرية النشوء لأوبارين و هالدان Oparin-Haldane و التي يتم الصاقها عادة بنظرية التطور لسبب ما في قلب يعقوب. حيث يطلبون أعادة عملية كيميائية معقدة جداً امتدت لملايين السنين و محيطات من الماء في باحة المختبر وفي انبوبة اختبار. من ناحية ثانية, نطالب بنفس الدليل في خلق حياة في المختبر في ابنوبة اختبار من قوة الهية مزعومة. حتى يتم اثبات العكس فيتم الاخذ بأكثر النظريات منطقية حسب قانون شفرة اوكام للفصل بين النظريات الجادة و الهزلية.
رابعاً: أذا كان التطور يتم من خلال الطفرات الوراثية اذن لماذا كل انواع الطفرات الوراثية التي نعرفها مرضية بل و مميتة لاصحابها؟
الجواب بكل بساطة هو ان هذه الطفرات الوراثية التي تؤدي بأصحابها الى الموت او على اقل تقدير تحد من قدرتهم للتكاثر دليل واضح على الانتخاب الطبيعي الذي يعمل بشكل واضح في الطبيعة. وفي اليوم الذي تحصل طفرة وراثية معينة تعطي لحامل هذه الطفرة صفة أعلى تميزه عن باقي نوعه و تزيد من فرص حصوله على الغذاء و التناسل سيستمر نوعه الذي يحمل هذه الصفة و ينقرض تدريجاً النوع الذي يفتقد لهذه الصفة.
خامساً: أذا استطاعت الطبيعة أن تصنع هذا الانسان بكل ما به من تعقيد من خلال التطور لماذا لم تطور الطبيعة اشياء مختلفة أخرى مثل الساعة او الحاسوب؟
وهذا سوآل آخر يحمل بين طياته دليل واضح على الازدواجية في الرؤيا و الجهل بماهية الطبيعة و محاولة تشبيه الطبيعة و الباسها صفة الغائية التي نصبو لها نحن البشر في كل ما نصنعه. أولا فأن كل هذه الاشياء التي صنعها الانسان لها نظير طبيعي له في الطبيعة بشكل او بآخر و بأننا لم نصنع اي شي لا وجود حقيقي له في الطبيعة لسبب بسيط هو قدرتنا المحدودة في تخيل ما لا وجود له بشكل مطلق. من جهة ثانية فأن السوآل نفسه نحمله الى صاحبه عن سبب غياب هذه الاجهزة المعقدة لخدمة البشرية منذ بدء الخليقة اذا كان هناك خالق خلق هذه الخلقية اذن لماذا لم يوفر لها هذه المستلزمات التي احتاج الانسان الانتظار بضعة ملايين من السنين كي يطورها عندما كان بأشد الحاجة اليها؟
سادساً: هل يعقل ان اصل الانسان كان قرداً؟
هذا دليل فاضح على الافلاس الفكري و العلمي و المنطقي و وجهة نظر ضيقة و تحقيرية لهذه الحياة المدهشة و الرائعة , هذا ليس سوآلاً بل استهزاء بذكاء المتلقي و كبرياء فارغ مليئ بالهواء المريض بقصص صبيانية. لا طبعاً, اصل الانسان ليس قرداً لان كل من الانسان و القرد يقعان على نفس المسافة من الجد المشترك الذي توارثوا منه صفاتهم المتشابهة حتى اليوم, كما اننا و الافعى ايضاً نقع على نفس المسافة من جدنا المشترك, كذلك الفيل و الزرافة و حتى الفيروسات و البكتريا. لا يوجد نوع هو اكثر قدم من الاخر و نوع آخر جديد , بل تتواجد اليوم الاحياء كلها على قمة سلم التطور الذي امتد لملايين و ملايين من السنين حتى وصل الينا, و سيستمر الى ملايين السنين الاخرى اذا لم يوقفه متغيير طبيعي معين قد يعيده الى نقطة الصفر.
جميع الكائنات الحية اليوم تتواجد على مسافة متساوية من جدها المشترك ولا يوجد نوع اقرب الى هذا الجد من غيره من الكائنات. ولكن المشكلة ان هذا السوآل يتحول بمجرد طرحه الى سوآل شخصي تتدخل فيه المشاعر و الاراء الشخصية و الرغبات الدفينة في الاستعلاء, بالاضافة الى الرواسب الفكرية المتأصلة فينا القادمة من زمان تصور الانسان انه خلق بصورة خاصة و على صورة الاله بمعزل عن الكائنات الاخرى. ولكن لمن يتصور بأن الانسان خلق بمعزل عن الكائنات الاخرى فأن زيادة معلوماتنا عن الاحياء ووضائف جسمها و تكاثرها المتطابقة تماماً و أطرافها الاربعة و هيكلها العظمي و الجهاز الدموي والهظمي و التناسلي و التنفسي, هذه كلها مشاكل محرجة لمن يؤمن بأن الانسان خلق على صورة الاله بمعزل عن الكائنات الاخرى.
حتى أن محاولة تميزنا بالعقل (الروح) الذي يدعي البعض اننا نمتلكها لوحدنا دون الكائنات الاخرى جميعاً قد اصبحت محل تساؤول مع تقدم البحوث العلمية النفسية و تقدم دراستنا لفصوص العقل المتشابهة الوضائف بين الانسان و كائنات عديدة اخرى. حتى المشاعر التي يمتلكها الانسان تجاه عائلته و اقاربه أو وطنه مشاعر يمكن رصدها لكائنات اخرى تعيش في الطبيعة. فلماذا هذا الكبرياء الفارغ و محاولة الاستعلاء الكاذبة؟ نعم أنا انسان, أمتلك من الاشياء ما تفتقده الكثير من الكائنات الاخرى ولكن بالمقابل هل نستطيع ان نتوقف و نتأمل بالكم الهائل من الاشياء التي تمتلكها الكثير من الكائنات ولا امتلكها انا؟ وهل هذا يعطيها افضلية علي في ضروف معينة مثلاً؟ ابسط مثال هو في حال قيام حرب نووية في العالم و موت البشرية كلها بسبب الاشعاعات النووية فأن مجموعة كبيرة من الصراصر ستسود الارض لان تركيبة خلايا جسمها تجعلها لا تتأثر بالاشعاعات النووية. فهل ستتصور الصراصر حينها بأن الله خلقها على صورته؟
لمن يريد أن يؤمن بأن الله خلق كل شئ في ستة أيام فله كل الحرية بأن يؤمن بما يريد ولكن ان يدعي بأن أيمانه هذا يمتلك من التفسيرات العلمية ما يكفي كي يكون نظرية علمية مقبولة فأن هذا أجحاف و ظلم كبير للعلم و أستهانة لا تغتفر للعقل الانساني المتطور و الرائع الذي اكتسبناه نتيجة ملايين من السنين من التطور و التجربة و المثابرة حتى أعتلينا اليوم قمة سلم التطور المتواصل. فتحية للحياة, وتحية للعقل وتحية لدارون بعيد ميلاده المائتين.
تحية طيبة وسلام
بسام البغدادي
#بسام_البغدادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟