|
من هنا إلى مكة .. يوتوبيا الصادق النيهوم
سالم العوكلي
الحوار المتمدن-العدد: 2555 - 2009 / 2 / 12 - 07:53
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
مثلت الستينيات في الذاكرة الليبية عقد الترميم الكامل لمقومات الكيان الليبي الناشئ ، فهي المرحلة التي أعقبت صراعات عالمية على هذه الأرض، نمت في حضنها صراعات اجتماعية، شكلت الأقاليم والقبائل الكثير من حيويتها. وعلى هامش هذه الصراعات ومن داخل النخب الثقافية برزت العديد من التيارات، محدثة طفرة سياسية، تستجيب لحراك المحيط العربي ، بينما على المستوى الاقتصادي شكلت بداية إنتاج النفط طفرة اجتماعية، تمثلت في ارتفاع نسبي لمستوى الحياة، وفي تبرعم برجوازية وطنية مرتبكة، وحدود غير مرئية لبنية طبقية، بدأت ملامح طبقة وسطى من الأعيان والتكنوقراط تتشكل بخجل صمنها ، وكان افتتاح أول جامعة ليبية العامل الأساسي في تغذية هذه الطفرات بالمحتوى التقني والمعرفي ، إضافة إلى استثمارها كفضاء لحراك ثقافي، ساهم فيه العديد من الطلاب من جميع أنحاء ليبيا، عبر تفاعلهم مع أساتذة مميزين، جاءوا من ثقافات عربية مختلفة، ومع نخب سياسية سابقة، كانت تطرح مشاريعها الهامسة في نسيج الحركة الليبية بكل أقانيمها ، وفي هكذا معطيات خرج العديد من الكتاب المستجيبين لهذه الطفرات في مجتمع مازال يتلمس مكونات هويته وملهمات مستقبله ، وكان النيهوم أبرز المتفاعلين مع هذه المتغيرات ، كنابش أساسي في خصوصية أسلوب نثري تتعلق بهذا الكيان ، وأسئلة تحفر في بنى التخلف وطبيعة العلاقات الأبوية المهيمنة ، وقد تفرد ضمن جيله في تأجيج حس نقدي عالٍ تجاه الكثير من التابوهات المسكوت عنها ، وفي المجمل لم تخلُ كل هذه التداعيات من روح المغامرة والاستعجال، التي شكلت السمة التاريخية لهذا النسيج الاجتماعي ، في الرحيل والحروب والاقتصاد والسياسة ، وفي الإبداع والثقافة والفكر .. وعموماً كانت المغامرة المحسوبة نادراً، أو غير المحسوبة غالباً تمظهراً لهوية مراوغة لا تتحدد ملامحها ، أو تعلقاً بيوتوبيا منسوجة في الفضاء كعرجون بلح يلمع فوق عيني كسيح ، أو درباً إلى الاندثار تحت رمال الصحراء التي تسوقها ريح التاريخ التي لا تهدأ . من هكذا امتداد حائر في الزمان والمكان، ملتبس الهوية ، متضارب الأهواء ، يظهر كاتب سجالي حتى النخاع كالصادق النيهوم، بأسلوبه المناكف وخطابه المركب الذي يجمع نقائض المرحلة وتداخلاتها . الكاتب الليبي النكهة العالمي المواطنة .. الخادم بنثره الرشيق سجع الأفكار ، الهيبي الرافض لاصطلاحات الثقافة الغربية ، الذي يقول: إن الحاج الزروق في داخلي ، والذي يقول أيضاً : أنا لا اتفق مع الليبيين في شيء .. السائح في تراث ليبيا بنظارته السوداء ، المثير للأسئلة المقلقة والأجوبة المربكة ، النازح من مدينة الملح إلى مدينة الثلج ، و من سباخ المدينة الكوزموبولية التي كرسته نجماً إلى بحيرات الاتحاد السويسري الذي يعتبره نموذجاً للديمقراطية المباشرة ، المتنصل من خرافات الماضي اللائذ بخرافات المستقبل ، المستبدلُ أساطير الثيولوجيا بأساطير العقل، الدوغمائي المتهكم على كل الأطروحات السائدة ، الشعبوي ضد مفهوم الشعب ، الاسلاموي ضد الإسلام ، والديمقراطي ضد الديمقراطية ، الملحد الورع ، العلماني الأصولي ، اللائذ بديمقراطية الجامع من ديمقراطية البرلمان ، الطليعي الرافض مصطلحات المجتمع المدني لأنها لم ترد في القرآن ، الصابٌ جام غضبه على نص السلطة المرتهن لسلطة النص ، المصلحُ المتفائل المفكرُ المتشائم ، الليبرالي عضو اللجنة التأسيسية للاتحاد الاشتراكي العربي ، صاحبُ الأسلوب المبتكر ذي التقنيات الرفيعة والسلاسة و البساطة في الوقت نفسه ، الأسلوب الرشيق التي لا تروض خفته ما يضج في داخله من تقريرية واستفزاز.. رافضاً من حيث الشكل ميّال إلى البساطة واختزال المسائل الشائكة في صفحات قليلة، عبر سبر أغوار التضادات الحادة التي تؤول إلى إطلاقه عنان الجدل بين الكثير من الثنائيات التي تتقاذفه، والتي تعكس حالة فصام منهجي في أفكاره، السارحة في حريات و نثر المدن الحديثة ، والمرتبطة في الوقت نفسه بنرجسية القرية و إغراء الذاكرة و قوالب المكان الذي تشكل فيه مبكراً ،ما أنتج في مجمله جدلاً مهماً داخل كتابة النيهوم، بين الزمان و المكان، وبين الأسلوب و الفكر ،وبين العقل والمشاعر. مع ولع بإنتاج ترقيماته الخاصة التي تُلخص قضاياه المعقدة في ثلاثيات عديدة تمثل الأثافي التي تنهض عليها طريقته في المحاجة، والإدلاء بالأسباب المقنعة التي تقوم مقام التحليل العلمي، الذي كثيراً ما يتجنب الخوض فيه. فالقرآن أعاد توزيع المال بين ثلاث خانات _ والصلاة الإسلامية تؤدى وفق شروط ثلاث _ والمرابون اليهود غابت عنهم ثلاث حقائق _ والاقتصاد تتغير أنماطه خلال ثلاث مراحل _ ونظرية الحزب الواحد تقوم على ثلاث قواعد إدارية ، و غير ذلك من الثلاثيات التي تسم في الوقت نفسه سيكولوجية الأداء السياسي العربي بالشكل الذي يحيلها إلى شعارات ثورية صادحة، وهو المنهجُ نصفُ العلمي الذي يحيل الكثير من الإشكاليات المعقدة إلى نوع من المماحكة الفكرية، التي تتعامل بانتقائية واضحة مع واقع تاريخي وراهن متشابك ، الأمر الذي من شأنه أن يخدم منظومة فكرية مشوشة، تتعامل مع الظواهر، وخارجة في الغالب من دائرة السببية .. حيث لا يُعرف النيهوم إلا بالسخرية من الأطروحات الأخرى، مشيراً إلى مواطن خراب البداهات عبر وضعها في بؤرة الشك أو السخرية : فالمسجد فكرة قديمة، أما الجامع ففكرة لم يعرفها أحدٌ قبل الإسلام ـ و كلمة شعب مصطلحٌ عبراني _ والأمة نظام جماعي موجه أساساً لهدم نظام الشعب _ وإسرائيل لم تهزم العرب بل هزمت نظمهم السياسية _ والأحزاب العربية هي مجردُ وكيلٍ تجاري للأحزاب الرأسمالية الغربية _ والفقه الإسلامي الذي يسمي نفسه علماً لم يشهد طوال تاريخه تجربة علمية واحدة _ والشعر المسخرُ لتغطية عورات الواقع شعر أعور في حد ذاته يحتاج إلى مساندة مستمرة من الله و البوليس _ و طريقنا الأوحد أن نجمع ثقافتنا المترجمة ونعطيها لبرميل القمامة لكي يصبح برميلاً مثقفاً . و فوق هذه النبرة التهكمية _ التي من شأنها أن تُعرض هذه الزوايا المعتمة لضوء مشاكس وتصدع الكثير من المقدسات العقلية ، مفضية بها إلى دائرة التساؤل _ يطرح النيهوم آراءه الجريئة ، التي ولدت الكثير من الردود المنفعلة والغاضبة ، غالباً ما تبرأ من الرد عليها أو مجادلتها ، كونها تعيده إلى حقل معرفي ناضل بكد من أجل الخروج منه . فهو عبر كليشيهات صادمة يطرح مداخل مستفزة للتشكيك في مفاهيم تاريخية ودينية اكتسبت شرعيتهاذ من كثرة تداولها ، مفضياً إلى أسئلة مازالت في ثقافتنا في طور المسكوت عنها ، دون أن يترك عبر إحكام مغاليقها أي فضاء للتشاور معها ، ( فلا نص قرآني بالحجاب ـ ونظرية أرض الميعاد ليست دينية بل مصرفية ـ وقواعد الإسلام ليست خمساً ـ والنبي محمد ليس أمياً ـ وارتباط القومية بالعامل الاقتصادي وليس بوحدة الدين والأرض واللغة ) وهو إذ يستخدم ذخيرته اللغوية والتأويلية في الكشف عن مواطن الخلل في هذه الترسيمات فإنه يستبدلها بترسيماته الخاصة، التي تحاول بصياغتها الواثقة التمنع عن فكرة الخطأ أو الحوار معها ، منتجاً بهذه المعالجة الحاذقة حقلاً من صراع المثنويات ـ أغزر تشويشا وأكثر اختزالاً ـ يتأرجح بين طرحه للدين كأيديولوجيا للأزمنة السالفة ، والأيديولوجيا كدين للأزمنة الراهنة ، أو التردد بين عصرنة الإسلام وأسلمة العصر ، وهو سجال لا يخلو من عناصر الحيوية فيه وإن كان يقدمه بلغة غاية في التجريد والتعميم ، يبرز مأزقها عند التعامل مع جذور هذا الجدل التاريخية، ومن ثم تجليها في علاقات الواقع الراهن ، وهي رغبة التقويض نفسها التي أعاد بها كتابة تاريخ ليبيا ، وهاجس التأسيس الملتبس الذي أسهم به في صياغة نظرية لتاريخنا اللاحق ، كمصدر متوارٍ لأفكار سابحة في فضاء فكري لا يخلو من الحدس والتكهن ، طارحاً في أكثر من مكان أيديولوجيته الخاصة، في مزيج من العقل والدوغما والنستالجيا والحلم الشاعري. حيث شكل بامتياز تجسيداً لما يمكن تسميته تجاوزاً بالفكر التجريبي ، إذ لا يتخلى عن غبطة المخيلة وصدفة الإلهام وعن شعرية اللغة ومجازاتها الواسعة، في طرحه لأكثر المسائل الفلسفية والفكرية تعقيداً ، وبالتالي عكست هذه الخلطة ـ في سياق الجدل بين الواقع وتهويماته السحرية ـ حالة قصوى من اللعب اللغوي ، ومن فضاءات الاستعارة وتقنيات المفارقة، وهو يتصدى لأطروحاته المتعلقة بمسائل إجرائية تفسر التاريخ والتراث لتشيد نظرياتها في السياسة والاقتصاد والاجتماع ، أو بمعنى آخر ، انزياح الفكر الرؤيوي -الذي يتوسل يوتوبياه في الماضي المعدل - إلى فكر إجرائي يعمق المسافة أكثر بين الحلم والواقع ، بين الرؤيا والرؤية ، بين التاريخ وتأويله ، بين النظرية والنظر ، وهي المسافة الحائرة نفسها التي يتقصى أبعادها في روايته (الحيوانات) التي يبني من خلالها وجهة نظره التأويلية لمأساة المسيح (الذي أتى - في منظوره - بفلسفة لا علاقة لها بالواقع) . فهل كان النيهوم المسيح الليبي الذي صُلب على ألواح الحلم المتعالي عن أنين الأرض ووحلها ؟ وهو الذي رغم تصريحه في لقاء أجرته معه صحيفة الأسبوع الثقافي عام 1978 قائلاً : أنا دائماً خارج الجماهير ولا يمكن أن أكون معهم ، ولا أتفق مع الأخوة الليبيين في شيء " ستكون فيما بعد شطحاته الفكرية التي استلهمها من ثقافة المكان وتراثه في صميم الحياة اليومية لليبيين . لم يخف النيهوم أصالة التمرد في خطابه وإن كان هذا التمرد مربوطاً برسن - يطول أحياناً ويقصر - إلى فكرة مسبقة تتمحور حولها أسئلته الساخنة، التي يراود بها فضاء اليوتوبيا المصفحة - على الأقل بالنسبة له - ضد النقاش ، حيث يصف كل من جادلوه (بأن الحوار معهم هو نوع من الحوار المستحيل بين طرشان) أو (الذين أرادوا أن يناقشوه نقاشاً أكاديمياً بارداً في الوقت الذي أراد فيه أن يخاطب العقول والمشاعر معاً) وهي اللعبة نفسها التي استهوت تلاميذه وقراءه منذ بداياته المبكرة ، وجعلته نجماً في الساحة الثقافية الليبية ، حيث كانت كتاباته الأنيقة واللاذعة في الوقت نفسه، بقدر ما تشبع عقلاً ملجماً بالمشاعر ، تدغدغ مشاعرَ محفوفة بالعقل ، فكان النيهوم النموذج الأكثر وضوحاً لما يسميه "داريوش شايغان" حقل الهجانة الفكرية، أو التصفيح في بنية الفكر ، الذي يبرز واضحاً في ـ ما بعد ـ عبر عمله الدؤوب على تسويغ المقولات الدينية في بنية العقل العلمي أو العكس ، عبر اجتراحه للمبررات الوظيفية للضوابط الدينية ؛ كأن يجعل من الوضوء جدولاً للنظافة ، والصلاة مسلكاً رياضياً ، والصيام ريجيماً صحياً ، والشورى مشروعاً ديمقراطياً ، والجامع المسروق مؤسسة برلمانية. وبالتالي كانت المرجعية الدينية هي حقل المشاعر الذي روض به النيهوم شطحاته الفكرية ، وهي معادلة صعبة تورطت فيها على مدى التاريخ أطروحات الفكر الملفق وأنظمة الإصلاح السياسية التي داهنت بمشاريعها النهضوية الوجدان الشعبي ، ثم سرعان ما تحولت إلى شموليات تطارد ذلك الوجدان المخدوع بهراوتها في الشوارع . أو كما يقول أنسي الحاج في خواتمه: "بإمكان كاتب واحد ، بما له من ثقل معنوي أن يقمع مجتمعه أكثر مما يفعل طاغية " لأنه ثمة شعرة بين الفكر والطغيان تنقطع بمجرد أن يبنى الفكر على يقين صارم لا يراوده شك ، فكر ينهض بقلاعه العصية عن النقد أو الحوار أو التجاوز ، وهي طبيعة الفكر التي تستهوي السياسي الحائر ، والتي غالباً ما يتم الهبوط بها اضطرارياً على أرض مفخخة ، حيث يجد المفكر نفسه وقد تحول إلى مشروع نظري لدوافع السلطة، مشروع مدجج بالحكمة تشكل في تلك المسافة الشاسعة بين اليوتوبيا والواقع التاريخي ، بين المثالية المطلقة والإنسانية المخلوقة من ضلع أعوج . إن النيهوم الذي لا تخونه البراعة في رصد مفاصل الأزمات ، والذي لا يفتأ يشير بإصبع الاتهام إلى مواطن الخلل في بنية العقل الشعبي ( كنقده الموضوعي للتعليم الإلزامي وهيمنة الفقهاء على ذهن الطفل المسحورـ ونقده التاريخي للأحاديث التي جاءت بعد القرآن ـ وللدعوة إلى تطبيق الشريعة في مجتمع غير شرعي ـ أو لإشهار النص المقدس في مواجهة مسيرة العلم التجريبي ـ وللتحريف الرسمي في معنى كلمة "علم" لتشمل رجل الدين الذي يطلق عليه عالماً ـ أو لاعتبار الرأي الفقهي نظرية علمية ) سيطرح بعد ذلك حلوله الإجرائية التي لا ترقى إلى مستوى الأسئلة ، والتي تبدو دون مستوى التحليل النظري ، ومتناقضة مع آليات نقده للأزمة ، فيحلل هذه الإشكاليات المعقدة والمركبة التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية ، ليصل إلى حل أقرب إلى السحر ؛ وهو إن الخلاص من كل تلك الأزمات التاريخية مرهون بتسييس يوم الجمعة ، محيلاً أزمة عطالة هذه الأمة إلى يوم عطلتها ، وهي وصفة أقرب إلى الشعوذة التي طالما ازدراها، وإلى ربط الدولة بالدين الذي طالما اعتبره سبب تأخرنا ، وإلى النوسالجيا الفكرية التي انتقدها كمرض جماعي تعاني منه الأمة . النيهوم الذي يرى (عمر بن الخطاب يضحك في قبره ممن يعتقدون أن الحل في العودة إلى عصر بن الخطاب) لا يتردد في أن يعتبر بيقين لا يراوده الشك : إن الحل النهائي في العودة إلى الجامع يوم الجمعة كخيار ديمقراطي وحيد يرضي المشاعر والعقول، قائلاً : (ليستعيد هذا اليوم المبارك هويته السياسية الضائعة). هو المنحاز إلى طاقة العقل وسحر العصر يلوذ ببركة يوم الجمعة لكي يحل كل مشاكل الأمة العالقة ، وهو القادح بحماس في مفهوم القومية ، والمعتنق لمفردة "الأمة" القرآنية كبديل لمفردة "الشعب" التوراتية، يربط تسييس الجمعة بنهضة العرب "شعبه المختار" قائلاً بيقين جازم ( إذ ذاك فقط .. سيسمع أعداء العرب هدير الزلزال القادم من قلب الأرض .. إذ ذاك فقط ) قافلاً باب أي اجتهاد آخر لتشخيص أسباب الأزمة ،دارجاً في أسلوبه المتهكم سياقاته التوكيدية الجازمة، وهو إذ يقول في مقابلة صحيفة الأسبوع الثقافي عن تعامله مع اللغة العربية ، بأنه نزع عنها كل تأكيد ، سيطرح مشروعاً مختزلاً للديمقراطية بلغة غير ديمقراطية ، ويحاول إنجاز أطروحة للشك في عديد المسلمات بلغة تمتلئ بحروف وأدوات التوكيد . يحذر النيهوم من خطورة الاتجاه إلى التجربة الديمقراطية الغربية ، ناقداً بتحليله الحاذق ـ مرفوقاً بإحصائيات لا يشير كعادته إلى مصدرها ـ تجربة الديمقراطية في دول أمريكا اللاتينية ، كنموذج فاشل لاستعارة نظام ديمقراطي لا يصح إلا لأوروبا ، لكنه لا يقترح أي حل لهذه البلدان التي لا تملك في تاريخها يوم جمعة مبارك . فهل كان النيهوم مشروع أسئلة فقط ؟ أم انه طفرة فكرية في مجتمع عانى إبان تلك المرحلة من عديد الطفرات الاقتصادية والسياسية ؟ أم هو نموذج مدون للتشويش الذي يسم أداءنا الثقافي والفني بوجه عام ؟ أم انه كان ضحية سوء فهم محيط مازال يرتع في حقل معرفي تجاوزه ؟ وهل تحولت الظاهرة النيهومية في ثقافتنا إلى مجرد ملعب لغوي ومحاكاة أسلوبية بعيداً عن تجذير أسئلته التي مازالت طازجة ؟ أم أنه بمعزل عن هذه الأسئلة يشكل امتداداً طبيعياً لهيمنة اللغة بكل تراثها اللعبي على عقل أمة تعتبر حضارتها حضارة نص قبل كل شيء .. أمة بقدر ما يتعزز فيها الوعي الفردي يتراجع عقلها الجماعي ، في غياب الديمقراطية ،عن إنجاز تراكمه المعرفي وقابليته للحوار العلمي المنتج للمعرفة والتقدم ، وهو يقول في هذا الصدد : (إن الأمة التي تفقد عقلها الجماعي لا تملك فكراً بل لغة فقط) . لقد قدم النيهوم تجربته في التفكر والتأمل ، متكئا على بروزه في مجتمع ما قبل حداثي ، يتأسس بعيداً عن مشاريع المنطقة التنويرية ، ولم تتكرس فيه بعد مؤسسات السلطات المختلفة ، وبصدد ترتيب هويته المشوشة مع حصيلة تراثية خام وواقع اجتماعي بكر .. وفي الثقافة والإبداع سيل من النثر الركيك المهادن للتقاليد المجامل للبنى الاجتماعية .. فاستدرك بحذاقة هذه المعطيات ليغزوها بنقده الحارق المشحون بحس تهكمي عال، وبرطانة فكر يهدم كل ما يطاله، ليشيد قلاعه المتطاولة فوق خرائب التاريخ . مدرجاًً خطابه الورع في بؤر التقاطع بين لحظته الشعرية ومبنى القيم الإنسانية. مستغرقاً بعاطفة جياشة في سرديات التراث الروحي قارئا ومؤولا وناقداً جريئاً .. يتشنج لفكرته المسبقة وينتقي من ذرائع الماضي ما يرفدها .. يغوص بأسئلته الذكية في أزمات الراهن ويقدم أجوبته الشافية من الماضي ، مخلصاً إلى حد كبير لتجربته الخاصة في التعلم والتفكير بصوت عال ، منتظراً ـ كما يقول في إحدى مقالاته المنشورة بجريدة الحقيقة (أن أجد لديكم استعداداً للمضي للخطوة التالية .. ولعل بينكم الآن من يستطيع أن يكون أكثر إيجابية مني ، وعلى أية حال : أرجو أن لا ينسى أحد أن ما أقوله يعني بكل إخلاص ثلاث كلمات فقط "هذه تجربتي أنا")
هامش ـ الصادق النيهوم كاتب ومفكر ليبي توفي في جنيف عام 2004 ـ أصدر العديد من الكتب ، منها: فرسان بلامعركة ـ نقاش ـ الحيوانات ـ القرود ـ إسلام ضد الإسلام ـ الإسلام في الأسر ـ صوت الناس . ـ إضاف إلى عمله على إصدار موسوعة "تاريخنا" وموسوعة "بهجة المعرفة" وموسوعة "عالمنا" ـ كما كان أحد الكتاب المثيرين للجدل في مجلة الناقد ، وقد خصصت مجلة الناقد عددها الأخير حول الصادق النيهوم بعد وفاته مباشرة
#سالم_العوكلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا بد من الجلوس خلف المقود المجتمع المدني والعلمانية
-
الكتابة بالأظفار
-
العلم جمالية العقل
-
لغة الهيمنة: هيمنة اللغة ،
-
اليوتوبيا والدكتاتورية
-
من أول السطر
المزيد.....
-
دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك
...
-
مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
-
بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن
...
-
ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
-
بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
-
لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
-
المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة
...
-
بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
-
مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن
...
-
إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا
...
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|