|
فقه النكوص...الخطر على مستقبل الاسلام كحضارة وتأثير
جمال الهنداوي
الحوار المتمدن-العدد: 2552 - 2009 / 2 / 9 - 07:59
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في ظل التطور المتلاحق واللاهث للعقل البشري من خلال سعيه الدؤوب لتطويع الطبيعة واعادة تشكيلها من اجل بناء المجتمعات بكل رؤاها ومفاهيمها المدنية وملاحقة تشعب مناحي الحياة وتكاثف تعقيدات تفاصيلها عن طريق الانفتاح على تجارب ومستنبطات الشعوب واستغلال الخبرات التراكمية للانسانية في تكوين الوطن الامثل الذي يكون الانسان تاجه الاسمى وغايته القصوى. يتبدى للمراقب حيرة ومأزق الفقه الإسلامي المعاصر بارتكاساته المستمرة نحو مرجعياته الطاعنة في القدم المؤسسة على المذاهب الأربعة المغلقة بقرار رسمي سلطاني متابد عصي على السقوط بالتقادم.والامعان في مقاومة أي محاولة لمعايشة الواقع واستنباط أحكام تتوافق مع وقائعه المعاصرة والمتغيرة بحكم الحتمية التاريخية, ويتكاثف هذا المازق مع تعاظم الاعتقاد لدى المتصدين للمهمة المقدسة المتمثلة بالاسلفة الممنهجة للمجتمع بأن السلفية تعتبر النهاية السعيدة والاستجابة الربانية لدعاء الفرد المسلم والنتيجة العليا لكل ما تمخض عنه الفكر الانساني و حتى الإلهي. وخلاصة ما أنتجه العقل البشري من تطور في العقائد الدينية والدنيوية.وأن كل أسرار الكون والحياة البشرية بالضرورة تختبئ طي دفات ألواح مقدسة تحوي علوم الأولين والآخرين محفوظة داخل تلك المرجعيات الصنمية واعتبار اجتهاداتهم وأفكارهم وأنفاسهم وتجشآ تهم وطريقة تعممهم وانتعالهم للخفاف وكل ممارساتهم الحياتية العادية هي الأخرى نصوصاً بالغة القدسية ويجب تسخير كل جهود العلماء الاجلاء في تجميعها وتبويبها وتصنيفها وتدويرها ومن ثم اعادة نثرها على كامل مفردات حياتنا الانسانية الراهنة واخضاع جميع التفاصيل الى الحكم الشرعي مباشرة وربط المجتمع باغلال ذرعها مئات السنين مربوطة بقبور مرجعيات لم تتميز الا برضا الحاكم عنها دون غيرها وبشرط الافتاء بعدم جواز الخروج على السلطان إشكالية هؤلاء القوم تكمن في تواضعهم المعرفي المؤلم بالجانب الحياتي والمعاشي وانقطاعهم التام عن الواقعية وعجزهم الكامل عن رؤية اشتراطات التواصل والتعاطي مع الثابت والمتغير في العلاقات الانسانية وطبيعة العلاقة ما بين الدين كمنظومة اخلاقية وطقوسية ونوع من الوعي والادراك للمقدس كعمق روحي ضامن لاستمرارية وديمومة المجتمعات المؤمنة وبين الحياة كباقة من القيم و المثل او الخبرات التي تتطور ضمن التطور الثقافي للجماعة البشرية. والذي يفاقم من الازمة انهم يظنون أنهم على المحجة البيضاء وانهم يمتلكون الحقيقة المطلقة طوع يمينهم ولكنهم ليسوا على علم ولا اثر ولا شيء ولا دين ولا دنيا بل تشرنق في بطون الكتب المتربة والتلفع بخليط من الالتباس بين عقل بدوي مخلوط ببعض التاريخ المتوشح بقدسية لا تتسق مع مجمل ما جادت به القيم السماوية على بني الإنسان0 وعدم وجود مذهب أو منهج واضح متعلق بالشئون الدنيوية يسيرون عليه .بل احالة مستمرة للمستجدات الى الغيب والسماء واقوال السلف الصالح-او من يرونه هم صالحا- قد لا تتطابق مع ما يراد بها ولكن ايرادها واجترارها المستمر يعوض لديهم عن النقص الفادح في الفهم والتعاطي مع الواقع المعاش ومتطلباته. فالسلفية منذ قرون طويلة تركت شؤون الناس والدنيا لغيرها ، واستأثرت بعالم الغيب مجتهدين لتحقيق النموذج الديني المثالي بمعايير مرتفعة السقف دون مراعاة للظروف والملابسات في كثيرٍ من الأحيان. ثم تأتي مشكلة أخرى تزيد من الطين بلة وهي النفور المفرط من مفردة العقل والفكر لدى هذه الطائفة من المتاسلمين,حتى ارتبط العقل عندهم باتباع المزاج والهوى والشيطان واعتبر" العقل والعقلانية " رجس من عمل الشيطان,ولكي ينأوا بانفسهم عن الليبرالية والعلمانية والفكر عموما لم يجدوا وسيلة انجع من إلغاء ادمغتهم كلية وعدم استخدام عقولهم لان اول من سأل وفكر وقاس في دينه هو ابليس ولا خلاف هنا عن النتيجة المأساوية التي نتجت عن هذا التفكير ..لذا تحتم الايمان بان الناس ينبغي أن يتفقوا في كل شيء تقريباً,مما حدا بالسلفيون ان يضيقوا ذرعاً بالتعددية والاختلافات نظراً لسيطرة قيمهم الغيبية على تفكيرهم والتسليم بصحتها المطلقة والهية مصادرها. وهذا يجعلنا نقرر دون عناء بأن العقل السلفي عقل منمط تلقيني اجتراري استرجاعي يستحضر الأفكار والتطبيقات من الذاكرة السلفية ولا يولدها.!! ولذا فهم شديدو الحنق على من يسأل أو يستفهم او يراجع او يستشكل او يختلف فضلا عن ان ينتقد او يعترض . يقول د. عبد الرزاق عيد"وهناك مدرسة "الحديث" التي تتحرج بل وتتأبى أن تبدي رأياً حتى في ما ليس فيه نص. وعلى هذا فالمعقولية لا تكمن إلا فيما عمل به عقل "السلف"، أي السند والخبر. ولهذا كانوا يترخصون في شروط قبول الحديث حتى ولو كان آحاداً ضعيفاً، لأنه بذلك ينقذهم من إعمال العقل والرأي، فيفيئون إلى النقل مستريحين في ظله من وسوسات العقل". يقول الامام البربهاري في كتابه شرح السنة: اعلمْ رحمك الله انه ليس في السنة قياس ولا يُضرب لها الأمثال ولا تُتّبع فيها الأهواء ، وهو التصديق بآثار رسول الله بلا كيفٍ ولا شرح ، لا يُقال : لِمَ ؟ وكيف ؟ " !! ويقول : " اعلم أن الدين إنما هو بالتقليد, والتقليد لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم " ! وقال : " ومَن قَبْلنا لم يدَعونا في لبس ، فقلّدْهمْ واسترِحْ" وبذلك اقر العقل السلفي بقطيعته الطوعية مع الحاضر والتلفلف بأمجاد السلف الصالح ، واقسار صورة مثالية على عصر مملوء بالفتن والصراعات المذهبية والسياسية وتزيين الماضي وتجميله، وتغييب كوارثه وإشكالياته وتناقضاته الاجتماعية. واضفاء قدسية فوق انسانية على شخوصه. وهنا يكتسب السلف في عقل المتاسلم وجاهة مبهرة ومانعة لاي امكانية لوضع الاحداث الماضية تحت عين النقد والفحص المتجرد من عقد وتراكمات القرون بغبارها وقسوة وحرارة احداثها مما يصيب "العقل"السلفي بفصام التوفيق بين واقع حاضر منفصل عن الماضي وبين اقوال غير قابلة للتطبيق عمليا رغم المكابرة المستمرة بان السلفي يعيش الحاضر ويستشرف المستقبل،فأي مستقبل يستهدف هذا "الفكر" وهو في حقيقته قد فارق حاضره إلى ماضى الأسلاف؛ بعقله وشعوره وأنتمائه واهتماماته.ويدعو إلى تشكيل المجتمع على نسخة القرن الأول الهجري وافتقاره للحساسية الضرورية التي يحتاجها الفرد في اكتشاف المشاكل الممكنة والتي تفترض بالضرورة معرفة الواقع أولا ثم التعرف على المفترض ان يكونه الوضع واكتشاف التناقض بينهما,فالعقل السلفي غالباً ما يفشل في اكتشاف الكثير من المشاكل التي تحيط به، والسبب الرئيس أنه يجهل إلى حد كبير الواقع بتعقيداته وعلاقاته التشابكية، لذلك كان الانحراف مهما كان يسيرا عن ما يقتاتون عليه من احاديث ومرويات و مسندات ومواطيء وصحاح وتفاسير، كُتبت منذ قرون عتيقة، يعتبر في نظرهم بدعة في احسن الاحوال وكفرا بواحا -في المطلق- اغلب الاوقات,والاشكالية الكبرى التي يعانب منها ذلك "العقل" أنه يرى أي خروج على ما خطه له السلف هو انتهاك يستحق التجريم المباشر والتكفير ويستدعي رد فعل يساوي هذه التهم . فـ "اقوال السلف" عند هؤلاء صرح شديد الرسوخ غير قابل للتطويع وفق المتغير ,الذي يجب ان يساير النص في الثبات ولا يتجاوزه مطلقا . ان السماح لسيادة الفكر السلفي الممول بافراط وتغوله داخل مجتمعاتنا الاسلامية وتكريس فقه النكوص والرجعية يستهدف اخراج الإسلام اساسا كمشروع حضاري من منظومة الحضارات الانسانية المتفاعلة وجر المجتمع من تلابيبه والتقهقر به الى قيم البداوة في احط صورها المناهضة للعقلانية والواقعية والاغراق في ايديولوجيات التخندق خلف النص واضفاء قدسية مختلقة عليه مما يشكل خطرا حقيقيا على مستقبل الدين الاسلامي كثقافة وتأثير بل حتى كوجود . يقول الشيخ محمد الغزالي : "إن الإسلام ليس ديناً إقليمياً لكم وحدكم، إن لكم فقهاً بدوياً ضيق النطاق، وعندما تضعونه مع الإسلام في كفة واحدة وتقولون: هذه الصفقة لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فستطيش كفة الإسلام وينصرف الناس عنه".
#جمال_الهنداوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انه الاقتصاد..يا لغبائنا
-
فقه الطغيان.. تداخل التاريخي بالمقدس
-
لك الله يا غزة..
-
فقه الانحراف..شرعنة النخاسة
-
الوصاية الاعلامية ...قضية الحذاء
-
العراق الخليجي
-
الاخلاق والتكنو لوجيا
-
قطر ..بين التجنيس وعشق القرضاوي
-
اعمار الانسان يجب ان يسبق اعمار البنى التحتية
-
ما احوجنا الى ارساء ثقافة التعايش؟
-
الرئيس الامريكي المثالي
-
هنيئاً لكم اوباما
-
قراءات خاطئة
-
الماركسية الامريكية
-
الرأسمالية الافتراضية
-
البحث عن القطب الثاني
المزيد.....
-
-تلغراف-: الروح المعنوية في الجيش البريطاني عند أدنى مستوى
-
نزليهم لاطفالك وفرحيهم حالا!!.. الترددات الطفولية والتي تخص
...
-
المقاومة الإسلامية في العراق: هاجمنا بالطيران المسير فجر الي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تعلن استهداف هدفين للاحتلال في ش
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تنفذ هجومين بالمسيرات على هدفين
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تنفذ هجومين بالمسيرات على شمال ف
...
-
المقاومة الإسلامية في العراق تستهدف بالمسيرات 3 مواقع إسرائي
...
-
أطفالك مش هتعمل دوشه من الآن.. تردد قناة طيور الجنة 2024 الج
...
-
مصر.. رأس الطائفة الإنجيلية يوضح دور الكنيسة في مواجهة ظاهرة
...
-
النمسا: طلاب يهود يمنعون رئيس البرلمان من تكريم ضحايا الهولو
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|