حسن العاصي
باحث وكاتب
(Hassan Assi)
الحوار المتمدن-العدد: 782 - 2004 / 3 / 23 - 07:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لقد شغلت القارة الإفريقية حيزا هاما في اهتمامات الكيان الصهيوني منذ السنوات المبكرة لعقد الخمسينات , وقد انعكس هذا الاهتمام على الدبلوماسية الاسرائيلية التي اخذت تضع القارة في اطار نشاطها وتحركها , حيث احتلت افريقيا مكانة الصدارة بعد الولايات المتحدة واوروبا .
كان بن غوريون صاحب نظرية تطويق الشرق الأوسط بإقامة تحالفات مع الدول الغير عربية, وتبدو إفريقيا هي السوق البديلة ليس فقط لاستهلاك السلع الإسرائيلية مادامت الأسواق العربية مقفلة في وجهها, وإنما أيضا لامتصاص وتمثل العبقرية اليهودية .
ورغم أن الاستعمار قد بدد الثروة الإفريقية واحدث إيقاعا فوضويا في اقتصادياتها , لكن القارة السوداء كانت ومازالت تمتلك الكثير من الإمكانات الهائلة وهو ما أوحى لبن غوريهن بصورة اليهودي الأسود .
وقد ترجم هذا الاهتمام بالقارة الإفريقية في إطار السياسة الخارجية الإسرائيلية على نحو ملموس من خلال إنشاء شبكة من العلاقات الديبلوماسية والسياسية ومن خلال التعاون الاقتصادي والعسكري منذ أواخر الخمسينات , واستطاع الكيان الصهيوني على مدى اكثر من عشر سنوات 1957-1967 ان يحقق مكاسب ديبلوماسية واقتصادية هامة لم يحرزها في أي قارة , ونتج عن هذا النشاط المتشعب والمبرمج خلق وجود إسرائيلي في اكثر من 30 بلدا إفريقيا .
بعد العدوان الاسرائيلي عام 1967 بدأت الأقطار الإفريقية تعيد النظر بهذه العلاقات في ضوء العديد من المستجدات أهمها : أن العدوان الذي شنته إسرائيل على ثلاث دول عربية , نبه الى خطورة هذا الكيان ومايمثله من مصدر تهديد وتوسع , ثم افتضاح طبيعة الدور الاسرائيلي الخطير في إفريقيا , خاصة في انغولا وموزامبيق والكونغو , حيث تعمقت هذه الشكوك حيال نوايا إسرائيل بعد التعاون الاسرائيلي مع الحكومة العنصرية السابقة في جنوب إفريقيا , من اجل محاربة حركات التحرر الإفريقية , الأمر الذي كشف إن هذا التحالف موجه أساسا ضد الأمة العربية والشعوب الإفريقية , ونتيجة لذلك فقد تبلور الموقف الإفريقي بقطع العلاقات مع إسرائيل خلال ثلاث مراحل : بعد عام 1967 وأثناء حرب عام 1973 والفترة التي أعقبتها .
الصفعة الأولى لإسرائيل جاءت من غينيا التي قطعت علاقاتها مع إسرائيل في أول أيام العدوان عام 1967 مما شجع العديد من البلدان الإفريقية الأخرى على حسم أمرها , إذ أقدمت كل من اوغندا وتشاد والكونغو بقطع العلاقات عام 1972 . وفي العام 1973 قبل الحرب قامت النيجر ومالي وبوروندي وتوجو وزائير بنفس الخطوة , وبعد حرب تشرين من نفس العام قامت بقية الدول الإفريقية بقطع علاقاتها مع إسرائيل وهي داهمي , رواندا , فولتا العليا , الكاميرون , تنزانيا , مدغشقر , افريقيا الوسطى , اثيوبيا , نيجيريا , جامبيا , زامبيا , غانا , السنغال , سيراليون , ليبيريا , ساحل العاج , بتسوانا .
والدول التي لم تقطع علاقاتها مع إسرائيل هي جنوب إفريقيا والدول القريبة منها وهي ملاوي , موريشسيوس , ليسوتو , سوازيلاند وهي دول غير متفاعلة مع النظام الإقليمي العربي . ولكن هل سلمت الدوائر الإسرائيلية بهزيمتها وارتضت بإيصاد الأبواب في وجهها ؟ الجواب قطعا لا , لذلك عكفت مختلف الدوائر السياسية والاقتصادية والعسكرية الإسرائيلية على إعداد الدراسات التي اكدت وجوب العودة الى القارة السوداء من خلال قنوات عديدة .
وحتى العام 1975 لم يحقق التحرك الاسرائيلي نتائج كبيرة خاصة على صعيد العلاقات الديبلوماسية ولعل السبب في ذلك يعود أساسا إلى موقف الكثير من الدول الإفريقية لم تكن راغبة في إحداث أزمة في العلاقات العربية-الإفريقية خوفا من إن تحجب عنها المساعدات المالية العربية التي بلغ مجموعها في الفترة ما بين(1973-1982) ما مجموعه 7,5 مليار دولار , لكن الصحيح أيضا إن تلك المواقف لم تكن مبدئية وثابتة بدليل أن عددا من الدول الإفريقية أبقت على النشاط الاقتصادي الاسرائيلي فيها ولم تمسه .
بعد تولي حزب الليكود مقاليد السلطة في إسرائيل عام 1977 , رفعت الحكومة شعار " عائدون إليك يا إفريقيا " فقد عهد إلى دايفد كمحي الذي يحمل شهادة دكتوراه عن حركات التحرر في آسيا وإفريقيا , والذي يرتبط بالكثير من الزعماء الأفارقة بصلة وثيقة ومباشرة , عهد إليه مهمة إجراء اتصالات مع الدول الإفريقية بهدف إفساح الفرصة أمام استئناف العلاقات لإعادة إسرائيل إلى القارة السوداء من الأبواب الرئيسية وليس من الأبواب الخلفية . تصاعدت وتيرة الجهود الإسرائيلية وبلغت ذروتها خلال عام 1985-1986 بعد زيارة شمعون بيريز إلى بعض الدول الإفريقية , لتبدأ مسيرة الخطوات العكسية في إعادة العلاقات بين إسرائيل ودول القارة .
الثغرة الأولى في جدار المقاطعة كانت زائير التي أعادت علاقاتها مع إسرائيل في أيار 1982 ونجحت إسرائيل فضلا عن ذلك في ربط زائير بمعاهدة عسكرية تنص على قيام إسرائيل بإعادة بناء الجيش الزائيري , وايفاد مستشارين عسكريين الى زائير لتدريب سلاح البحرية . الثغرة الثانية في ليبيريا عام 1983 عندما أعلنت عن إعادة علاقاتها مع إسرائيل وبرر وزير خارجيتها هذه الخطوة بان ليبيريا مقتنعة أن استمرار عزل إسرائيل يشكل عقبة أمام السلام في الشرق الاوسط , وان اسباب قطع هذه العلاقات خلال حرب 1973 لم تعد قائمة ,لحقت بهما ساحل العاج والكاميرون وتغو ثم كينيا بنهاية عام 1988 بعد اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بالقرارين 242- 338 , لينفرط عقد السبحة وتثبت إسرائيل أقدامها في القارة خاصة بعد التطورات السياسية التي عصفت بالمنطقة والعالم فيما بعد أهمها حرب الخليج ومؤتمر مدريد واتفاقيات السلام الإسرائيلية العربية , إضافة إلى تدهور وانهيار المعسكر الاشتراكي سابقا .
إن الجهود المتواصلة التي بذلتها الدوائر الاسرائيلية خلال عقدين ونصف لابد ان تثير تساؤلات حول النتائج التي احرزها التحرك الاسرائيلي على كافة الاصعدة , والرد عليها يقتضي الاقرار بان هذا التحرك تم في ظروف دولية ومناخ اقليمي مناسبينوعوامل مساعدة اهمها :
أولا- لم تبدأ التحركات الإسرائيلية نحو القارة الإفريقية من العدم وإنما استثمرت ركائزها في القارة , سواء كانت على شكل نشاط اقتصادي في بعض الأقطار أو الاستعانة بالدول الحليفة كالولايات المتحدة أو ببعض الحكام الأفارقة الذين لم يقطعوا الاتصال نهائيا مع الكيان الصهيوني , ولعل في مقدمة هذه الركائز وجود شبكة متشعبة من الأنصار نجحت الدوائر الإسرائيلية في ربطهم معها , إذ جاء على لسان الدكتور –يهودا باز- مدير المعهد الآسيوي الإفريقي التابع للهستدروت أن هناك 3 رؤساء حكومة و 40 وزيرا و150 من أعضاء البرلمانات و100 محاضر في الجامعات و400 من مد راء التعاونيات و350 من رؤساء النقابات العمالية و37 من أمناء الاتحادات النقابية في القارة السوداء ممن درسوا في إسرائيل واصبحوا من اكثر المؤيدين لها .
ثانيا- نجاح إسرائيل في اختراق القارة السوداء اقترن بتوقف التحرك والنشاط العربي فيها والذي بدا عام 1973 اثر قمة الجزائر التي أقرت برنامج عمل للتعاون العربي –الإفريقي , وقيام الدول العربية البترولية بدعم اقتصاديات الدول الافريقية التي تاثرت بارتفاع اسعار النفط , اضافة الى إنشاء صناديق ومصارف اقتصادية وفنية لدعم التعاون بين الجانبين و لكن الخلافات ظهرت بين الطرفين حول رؤية كل منهما لأبعاد هذا التعاون , أدت إلى توقف هذا الحوار عام 1977 منذ أن شعر العرب بان بعض الدول الإفريقية تنظر إلى الحوار كوسيلة للحصول على مقابل مالي للدعم الذي تقدمه للعرب في صراعهم مع إسرائيل التي سارعت لاستغلال هذه التطورات لمصلحتها معتمدة على وسائلها التقليدية للتغلغل في إفريقيا أهمها التلويح بالمساعدات الفنية والعسكرية .
ثالثا- المتغيرات والعوامل السياسية في المنطقة والاتفاقيات السلمية التي وقعتها إسرائيل مع كل من مصر والأردن وم . ت . ف أثرت بشكل مباشر وقوي على مواقف الدول الإفريقية من إسرائيل بحيث سقطت آخر مبررات المقاطعة .
رابعا- الدور الأمريكي الداعم للجهود الإسرائيلية بلا حدود , واتخذ هذا الدعم عدة أشكال بدءا من تغطية تكاليف التحرك الاسرائيلي من الخزينة الامريكية ذاتها وصولا الى ممارسة كافة انواع الضغوط على الدول الافريقية لاستئناف علاقاتها مع اسرائيل, وربط تقديم المساعدات الاقتصادية بشرط الانفتاح والتجاوب مع المبادرات الإسرائيلية, فضلا عن الاستخدام الذكي من قبل إسرائيل لنغمة حقوق الإنسان التي أطلقتها الولايات المتحدة , فالأنظمة الديكتاتورية في إفريقيا والتي لم يكن في وسع الأمريكيين دعمها لأسباب يصفونها بأنها – أخلاقية – كانت تتولى إسرائيل دعمها بالوكالة وشكل هذا بالنسبة لها فرصة ترسيخ مخالبها في إفريقيا .
حصدت إسرائيل اثر ذلك ثمار نشاطها فعلى الصعيد الاقتصادي تضاعف حجم التبادل التجاري مع الدول الافريقية عدة مرات , فطبقا لتقارير وزارة التجارة والصناعة الاسرائيلية وصل حجم الصادرات الاسرائيلية الى بعض الدول الافريقية3,5 مليار دولار في العام 2002 مقابل فقط 59,3 مليون دولار في العام 1983 ,وهذه الصادرات لا تشمل كل القارة بل تقتصر على بعض الدول منها نيجيريا وكينيا وساحل العاج وإفريقيا الوسطى , أما بالنسبة إلى الواردات الاسرائيلي من بعض الدول الإفريقية فقد بلغت نحو 500 مليون دولار من نفس العام, أما المعطيات الخاصة بالصادرات إلى الدول الأخرى وخاصة زائير وجنوب إفريقيا وتوجو وكذلك حجم الصفقات العسكرية فإنها لا تظهر في التقارير الاسرائيلي وخاصة الصحفية .
واستحوذت الشركات الإسرائيلية على تعاقدات قيمتها اكثر من 4 مليار دولار لإقامة المباني الحكومية ومد شبكات الطرق والجسر وحفر الأنفاق وإنشاء الموانئ وتوافد في اطار هذا النشاط آلاف الخبراء والمستشارين الصهاينة على الدول الافريقية , وكان نصيب افريقيا من صادرات الاسلحة الاسرائيلية كبير حيث جاءت في المرتبة الثانية بعد أمريكا اللاتينية . وتصدر إسرائيل إلى القارة السوداء طائرات النقل والتدريب والطائرات المقاتلة وكذلك الدبابات وأجهزة الاتصال والصواريخ .
وتعد جنوب إفريقيا وزائير وليبيريا ونيجيريا وكينيا من أهم زبائن الكيان الصهيوني في القارة الإفريقية .وقدمت إسرائيل المستشارين العسكريين لمساعدة الجيوش الإفريقية على استخدام تلك الأسلحة , وتقديم المشورة في مجال التدريب والتنظيم وتمكنت اسرائيل عبر هذه القنوات من التغلغل في جيوش بعض الدول الافريقية واجهزة الامن فيها .
اليوم تمر القارة الافريقيةفي أسوا مراحل تاريخها المعاصر عبر ما تشهده من صراعات داخلية وانقسامات سياسية ومشاكل حدودية وحروب أهلية وأنظمة حكم فاسدة , فمن اصل 40 دولة فقيرة في العالم هناك 32 دولة في إفريقيا . ويعتبر اقتصاد إفريقيا من أسوا اقتصاديات العالم, فهي تساهم في إنتاج 2,9 في المائة من دورة الإنتاج العالمي , وتحمل القارة على كاهلها ديونا وصلت إلى اكثر من 400 مليار دولار , وحجم هذه الديون يعادل 80 في المائة من قيمة اجمالي الناتج المحلي الاقليمي , و 25 في المائة من الصادرات, ويقدر نصيب الفرد الواحد من الدين ب 500 دولار أي اكثر من متوسط دخله السنوي .
أن مشكلة الديون الخارجية ستظل اخطر معوقات التنمية والتقدم في إفريقيا , وفي الحقيقة فان القارة السوداء مرهونة تماما لراس المال العالمي , وللبنوك الكبرى وللشركات عابرة القارات , وتجربة اللجوء الى صندوق النقد الدولي لم ينتج عنها سوى المزيد من الخراب والتدهور الاقنصادي وتراكم الديون والانسحاق تحت مقصلة التضخم المالي الذي يقفز قفزا متصلا بلا توقف .
هذا الوضع الذي تعيشه القارة الإفريقية استثمرته إسرائيل إلى أقصى درجة ممكنة في عودتها الى القارة باوجه متعددة , وستعمل اسرائيل بلاشك على انشاء مرتكزات يصعب استئصالها بقرار سياسي او موقف آني وستحاول اسرائيل تطوير شبكة علاقاتها الى مستوى التحالف الاسترتيجي مع بعض الدول الإفريقية.
بالتأكيد أن مثل هذه التطورات ليست في مصلحة الدول العربية , بل أنها تنطوي على تهديد للأمن القومي خاصة بعد نجاح إسرائيل في احتواء إريتريا حيث بات لها موطئ قدم على البحر الأحمر , وهذا يفرض على الأمة العربية ضرورة التحرك لمواجهة الغزو الإسرائيلي للقارة الإفريقية بشتى الوسائل , فالدول العربية بحاجة إلى مراجعة واعية وأمينة بكل علاقاتها بالقارة , والواقع أن مواجهة إسرائيل في إفريقيا لا يتطلب استنفارا في الإمكانيات فحسب وإنما في العقل العربي أيضا الذي غاب عنه وضع تصور استراتيجي لبناء علاقة مميزو مع إفريقيا بالمعنى الشامل , فالدعم العربي لم يرتبط بمشروعات وبرامج محددة وإنما اخذ شكل إعانات للخزينة , دون أن يترك أثرا اقتصاديا أو سياسيا ثابتا.
بقلم حسن العاصي
صحفي وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك
#حسن_العاصي (هاشتاغ)
Hassan_Assi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟