|
الصحفى الذى لم يفقد عفته
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 2548 - 2009 / 2 / 5 - 10:08
المحور:
الصحافة والاعلام
منذ اليوم الأول لتأسيس هذه الجريدة، أى منذ ما يقرب من سبعة عشر عاماً، أرى شريف جلال وأتكلم معه ستة أيام فى الأسبوع فى أمور كثيرة، بعضها يخص عملنا اليومى فى "العالم اليوم"، وبعضها الآخر يتعلق بمهنتنا المهددة بأخطار وتحديات شتى وبعضها الآخر لا صلة له بالعمل من قريب أو بعيد. وبهذا التواصل اليومى الوثيق تصبح العلاقة المهنية مع فريق العمل جزءاً حميماً من حياتنا الإنسانية المشتركة بكل ما فيها من حلو ومر. وكأى عمل جماعى .. فإن فريق العمل يتكون من بشر. ولأنهم بشر فإنهم متنوعون تنوع الحديقة بورودها وأشواكها. وفى هذا الفريق كان – وأعتذر عن استخدام كلمة "كان" – شريف جلال مثل زهرة الياسمين.. بلا أشواك وبدون مخالب أو أنياب. فهذا صحفى شاب .. مهذب بالفطرة، ومؤدب بالسليقة.. لم أسمعه مرة واحدة على مدار سبعة عشر عاماً ينطق بكلمة نابية أو لفظ جارح، برغم أن المناخ العام – وبخاصة فى المطبخ الصحفى فى معظم المجلات والجرائد – موبوء بألفاظ الشوارع الخلفية واللغة السوقية غير المنضبطة. وهذه مسألة تحتاج بحثاً ودراسة لمعرفة جذورها وأسباب تفشيها على هذا النحو. لكن شريف جلال كسر هذه القاعدة غير الذهبية وحافظ على عفة اللسان حتى آخر يوم من حياته (وأعتذر أيضاً عن كلمة أخر يوم). وأذكر ان المرة الوحيدة التى رأيته فيها غاضباً كانت حين جاءنى وقد فارقت الابتسامة المعهودة وجهه وقال لى بحسرة: إن الزميل فلان الفلانى كلمنى فى التليفون بصورة غير لائقة وبألفاظ غير مقبولة.. مما اضطرنى إلى إغلاق التليفون لقطع هذه المكالمة غير المهذبة. وطلب منى "عتاب" هذا الزميل!!.. وفقط!! وليست "عفة اللسان" هى الفضيلة الوحيدة التى حافظ عليها شريف جلال. وإنما هو حافظ أيضاً على "عفة اليد". فهو لم يطالب يوماً بقرش ليس من حقه، ولم يقبل على نفسه أن يحصل على قرش لم يبذل عرقاً من أجل استحقاقه. ولذلك فإنه لم يسمح لنفسه فى يوم من الأيام بأن يتنصل من مسئولية أو "يزوغ" من موعد أو يتأخر عن واجب أو ينتحل الأعذار للتهرب من مهمة. بل كان – وأعتذر مرة ثالثة عن هذا الفعل الماضى السخيف – نموذجاً للدقة فى المواعيد والاتقان فى العمل. وبمناسبة الحديث عن الاتقان – وهذه قيمة تكاد أن تكون منقرضة للأسف الشديد – لاحظت أن شريف جلال من المخرجين الفنيين القلائل الذين يقرأون كل كلمة فى المادة الصحفية التى يقوم بتصميم إخراجها على صفحة الجريدة، فى حين يكتفى الغالبية بـ "قياس" المساحة التى تحتلها هذه المادة من أجل "تسكينها" حسب "الحجم".. والسلام. وأذكر أنه كثيراً ما جاءنى – وهو يرسم إحدى الصفحات – ليسألنى عن معلومة معينة أو رقم معين يراه غير منطقياً. وكثيراً ما كنت أجد شكه فى موضعه. أى أن إتقانه لعمله كان يتجاوز مهمة إخراج "الشكل" ويصل إلى "المحتوى" وكنا نتدارك بذلك أخطاء تفوتنا جميعاً.. المحرر ورئيس القسم ومحرر الديسك .. وأنا أيضاً. وتنقلنى هذه الملاحظة السابقة إلى ملاحظة أخرى مرتبطة بها، وهى أن شريف جلال كان – وأعتذر للمرة الرابعة عن هذا الفعل الماضى المرعب – قارئاً ممتازاً فى وقت انحسرت فيه هذه العادة حتى لدى الكثير من الصحفيين، لدرجة أننا أصبحنا مبتلين بأناس لا يتورعون عن ارتكاب جريمة الكتابة فى حين أنهم لا يجيدون القراءة أصلاً! بعكس هؤلاء واظب شريف جلال على القراءة بنهم، وكثيراً ما استعار منى كتباً عديدة، وأظن أنه استعار منى رواية صنع الله ابراهيم الأخيرة منذ ثلاثة أيام .. لكنى لم أطالبه بإعادتها بسرعة .. لأول مرة!! وإلى جانب كل هذه السجايا الجميلة ظل شريف جلال "إنساناً" رقيقاً يقف إلى جوار زملائه فى أوقات المحن والشدائد.. يهرع لمساندة زميل تعرض لوعكة صحية، أو دعم زميل فى ضائقة مالية، أو الدفاع عن زميل ارتكب هفوة يمكن التغاضى عنها او تعرض لظلم يجب رفعه. ولأننى من مدرسة لا تميل إلى التأبين أصلاً، وإذا لزم الأمر فإن هذا التأبين يجب أن يكون موضوعياً دون الاكتفاء بالتعاليم التى تحثنا على "ذكر محاسن موتانا"، فقد حاولت التنقيب عن شئ غير "المحاسن" فى سيرة شريف جلال – لكنى أقسم أننى لم أتذكر نقيصة واحدة اللهم حفاظه الشديد على صحته والامتناع عن القهوة والشاى والسجائر وكافة أنواع "المكيفات". ورغم أنه لم يكن من جيلى، بل تفصلنا أجيال، جيلان أو ثلاثة أجيال على الأقل، فإن دماثته وثقافته وانسانيته ومخاصمته للافتعال والإدعاء والالتواء قربت بيننا المسافات وحطمت الحواجز كما لو كنا أبناء جيل واحد. وعندما يكون المرء قريباً منك إلى هذه الدرجة فإنك لا تستطيع أن تدرك مقدار أهميته لديك إلا عندما تفقده.. وبخاصة بهذه الصورة المباغته والعبثية بعد أن كنت تأخذ وجوده كحقيقة مسلم بها. وبالأمس فقط .. وأنا أسير فى وداعه إلى رحلة الأبدية أدركت أنى أودع جزءاً من نفسى وعزيزاً من أفراد أسرتى. وها نحن نلف وندور .. ونعود من سرادق عزائك يا شريف لنصدر – بدونك – الجريدة التى أخذت سبعة عشر عاماً من عمرك وأعمارنا ،لأول مرة بدون تواجدك الجسدى، لكنك حاضر معنا بذكراك وفضائلك وروحك الجميلة. ويا لها من حياة!
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بعد أفولها فى دافوس: الشمس تشرق على مدينة المانجو
-
قمة الكويت (1) .. الاقتصاد فى بئر النسيان
-
قمة الكويت (2) .. المدخل الإنتاجي بديلا عن المدخل التجاري ..
...
-
قمة الكويت(3) .. حقوق الإنسان .. والاقتصاد
-
جرس انذار .. صحافة الميكروباص .. وميكروباص الصحافة!
-
أخيراً .. بصيص من الأمل
-
إسرائيل تريد إلقاء مسئولية أمن غزة على »الناتو«.. وعبء الاقت
...
-
التحرر من الأوهام
-
التوافق الوطنى المفقود.. فى مواجهة زلزال غزة
-
مفارقات دبلوماسية!
-
إزالة آثار عدوان غزة
-
يا رجال الإعلام العرب.. اتحدوا
-
إعادة النظر فى كعكة «السلطة» المسمومة
-
نحن أفضل من أمريكا وأحسن من الغرب .. ولو كره الكافرون!
-
فقه الأولويات: إسرائيل هى العدو الآن .. يا عرب
-
فضيحة تغريم جابر عصفور
-
دبرنا يا وزير الاستثمار .. السطو على -قلب- القاهرة!
-
-عيد- الفساد!
-
عالم ما بعد الولايات المتحدة
-
حذاء -منتظر الفرج-!
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|