|
المذهب الظاهرى والمنطق (2)
عابد القادر الفيثورى
الحوار المتمدن-العدد: 2545 - 2009 / 2 / 2 - 03:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
(2)الخلفيةالسياسية والاجتماعية الباب الاول : الفصل الأول
حياة ابن حزم والخلفية السياسية والاجتماعية
اعتقد أن دراسة مفكر وأديب وفقيه كابن حزم ، في جانب من جوانب تفكيره أو في مجموعها ، دون الرجوع إلي حياته والظروف الاجتماعية والسياسية التي مر بها يفقد فكره معني هاما فيه أن لم يشوهه . أن دراسة إنتاج المفكر وأعماله الفكرية وكأنها أتت من خارج العالم الذي يعيشه الناس ، يعطي القارئ شريحة واحدة فقط من شرائح متعددة من المعاني متداخلة ومترابطة . واجب الباحث أن ينظر لهذه المعاني كلها وعلاقتها ببعض ، حتى يفهم ويستفيد من خبرة المفكر الذي يدرسه ويفيد قارئه أيضا . ابن حزم ظاهرة فكرية ظهرت في القرن الرابع الهجري في الأندلس . كي نفهمها بدقة كان من الضروري التعرض إلي حياته والظروف السياسية والاجتماعية التي عاشها والتي كان لها الأثر في نموه الفكري واختياراته الفكرية . إن دراسة المفكر في ضوء البيئة السياسية والاجتماعية التي ظهر فيها بدأت عمليا علي يد برتراند رسل في كتابه ” تاريخ الفلسفة الغربية ” . وعملي هنا سيكون استمرارا لهذا المدخل الجديد نسبيا في عرض الفكر وتقييمه . لقد تناول كثير من المؤرخين لسيرة ابن حزم جوانب حياته وظروف عصره وكأنها شيء منفصل تماما عن اهتماماته الفكرية . سأحاول فيما يلي أن أبين دور حياته وظروفها السياسية والاجتماعية في اهتماماته واختياراته الفكرية . ولد ابن حزم في بلد كان فردوس زمانه في البلاد الإسلامية – اعني الأندلس – اسمه الكامل ” علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ” (1) وكنيته أبو محمد . يقول المراكشي انه قرأ اسمه هذا بخط يده علي ظهر كتاب من تصانيفه . اتفق معظم المؤرخين القدامى علي هذه التسمية . غير أننا نجد اختلافات كثيرة ، وبالذات عند الباحثين المحدثين . ، حول أصله العرقي . رغم أننا لا نقبل العرقية ولا نعتبرها عاملا واضحا يمكن عزله وبالتالي يمكن بيان تأثيره في سلوك الإنسان وتفكيره ، إلا أننا رأينا وجوب الإشارة لهذه النقطة نظرا لان بعض علماء الغرب جعل منها قضية عامة تتعلق بالعبقرية والشعوب التي يمكن أن توجد فيها هذه الخاصية . رد المؤرخ الأسباني سانتشيت البرانس “في دراسة مستفيضة عبقرية ابن حزم إلى خصائص سلالته الأسبانية ” (1) وقد سايره في التأكيد علي انتماء ابن حزم إلي السلالة الأسبانية دوزي ونيكلسون وجولد زيهر . (2) يوضح المؤرخ الأسباني سانتشيت في كتابه “ابن حزم قمة أسبانيا ” رأيه فيقول : “أننا نستطيع أن نفهم ابن حزم فحسب إذا وضعناه وسط سلالته الأسبانية ” (3) ما يريده سانتشيت التأكيد على أن ابن حزم مفكر أوربي وان عبقريته الفكرية لن يتضح معناها إلا إذا درسناها في هذا الإطار . اعتقد أن من الواجب علي ما دمت اربط بين الفكر وظروف الحياة التي يعيشها المفكر أن انظر في هذه الدعوى ليري القارئ معي أن كان من الممكن أصلا إثبات نسب ابن حزم الأسباني الأوروبي . في البداية نقول أن هناك اختلاف بين الباحثين - قدماء ومحدثين - حول أصله الأسباني من خلال وجهات النظر المختلفة لديهم ، يمكننا أن نقسمهم إلي فئتين : تؤكد الفئة الأولي علي انتماء ابن حزم إلي العجم الأسبان ويتصدرها أبو مروان ابن حيان . يقول أبن حيان ” كان من غرائبه انتمائه في فارس ، وإتباع أهل بيته له في ذلك بعد حقبه من الزمن تولي فيها أبوه الوزير المعقل في زمانه الراجح في ميزانه ، احمد بن سعيد ابن حزم لبني أمية أولياء نعمته ، لا عن صحة ولاية لهم عليه، فقد عهده الناس خامل الأبوة مولده الاورمة من عجم “لبله” وجده الأدنى حديث عهد بالإسلام …حتى تخطي علىٌّ هذا على رابية “لبله”، فارتقي قلعة اصطخر من ارض فارس ، فالله اعلم كيف ترقاها (4) هذه رواية مؤرخ قديم وهو الوحيد من القدماء الذي أكد نسبة ابن حزم للعجم الأسبان . بالنسبة للمحدثين ، نجد الدكتور طه الحاجري يستند في كتابه “ابن حزم صورة اندلسية” على هذه الرواية ويري فيها اليقين ، اعتقادا منه أن “صناعة الأنساب وتلفيقها وتنسيقها صناعة كانت رائجة في الأندلس رواجها في العراق ، وانه ليقل أن نجد رجلا من الموالي من أهل المشرق إلا وله نسب عربي نسقت فيه الأسماء العربية اسما وراء اسم ، .. لينتقل بذلك من الضعة التي وسم بها الشعب المقهور في بلده، المغلوب على أمره ، إلى عزة الشعب الغالب الفاتح المنتصر”(1). بناء على هذه الحجة يساير الدكتور الحاجري ابن حيان ويقول :”إن ابن حزم خرج من أسره من أهل أسبانيا الغربية ، كانت تقيم في لبله ، وكانت تدين بالنصرانية ، وظلت على نصرانيتها بعد الفتح الإسلامي أمدا غير قصير ، حتى اعتنق حزم ، الذي يحمل اسمه وينتسب إليه صاحبنا الإسلام “(2). أما عن الفئة الثانية فهي ترد سلالة ابن حزم إلى اصل فارسي وتؤكد ولائه لبني أمية ، وهذه الفئة تضم كافة المؤرخين القدماء ، والباحثين المحدثين خلاف سالفي الذكر . بالنسبة لآراء هذه الفئة سأهتم بوجه خاص بما أثبته الفقيه الورع الحميدي تلميذ ابن حزم في كتابه “جذوة المقتبس ” والذي يقول فيه : “على بن احمد بن سعيد بن حزم بن غالب أبو محمد ، أصله من الفرس ،وجده الاقصي في الإسلام اسمه يزيد مولي ليزيد بن أبي سفيان “(3) ولعله يساير أستاذه ابن حزم فيما يقوله عن نسبه (4). يتوالى المؤرخون في إثبات نسب ابن حزم الفارسي وولائه الأموي (5) ، وقد جمع قولهم جميعا “الاتابكي” إذ يقول : “علي بن احمد بن سعيد ، ابن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان ابن يزيد ، مولي يزيد بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية الأموي الفارسي الأصل ثم القرطبي المعروف بابن حزم “(6) ، وزاد ابن خلكان “وجده يزيد أول من دخل الأندلس من آبائه “(7) في المحدثين يؤكد الأستاذ عبد الكريم خليفة على انه “ليس هناك ما يدعو ابن حزم للانتساب إلى الفرس دون الأسبان ، فهم جميعا من العجم وليسوا عربا ، وكان الأولون وثنيين يعبدون النار بينما كان الثانون مسيحيين ، ولا يوجد أي داعي لابن حزم يدفعه إلى أن ينتسب في الوثنيين دون المسيحيين المتدينين بدين سماوي”.(1) للأسف لم تسعفنا المصادر بمعلومات واضحة عن أم ابن حزم، ولم نجد اى إشارة لها من قبل المؤرخين . الغريب أن ابن حزم نفسه لم يذكر أمه مع انه ذكر أبيه عدة مرات . بل ذكر الكثير من النساء بأسمائهن في كتابه “طوق الحمامة ” عدا عن كتابته لرسالة في “أسماء أمهات الخلفاء”. هل لم يكن لأمه دور فعال في نشأته ؟ هل لم يعرفها معرفة واعية ؟ لا اعتقد بأنه غاب عن ذهن من عالج فن الحب وأنواعه ، ذكر أمه لو انه عرفها في سن وعيه . قد يجوز لنا أن نخمن بأنها شقراء الشعر من معرفتنا بميل أبيه لشقر الشعور (2)، وهو ميل نجده عند ابن حزم نفسه (3). بخصوص قضية نسب أبيه ، لا اعتقد أن أياً من الفئتين استطاعت تثبيت رأيها بطريقة حاسمة في غيبة دليل أو أدلة تاريخية مُرضيِّة تماما . يمكنني أن استعرض نواحي القوة والضعف في رأي الفئتين في التالي : 1. يمثل كلام ابن حيان وجه نظر تاريخية فردية إذا ما قورنت بوجهة نظر باقي المؤرخين المسلمين . لكننا نعلم أن اغلب المؤرخين لا يزيد عملهم على النقل دون التمحيص . أضف لهذا أن ابن حيان متعاطف مع ابن حزم غير متحيز ضده كما هو واضح من فحوي كلامه جملة . 2. للأسف لا يعطي ابن حيان تفسيرا للسبب الذي جعل ابن حزم يغير نسبه إن صدقنا هذه الدعوى . واضح من كلام الأستاذ عبد الكريم خليفة غياب أي سبب ديني لهذا . نضيف لهذا انه ليس هناك فيما يبدو أي إحساس بالضعة لهزيمة أسبانيا أمام جيوش المسلمين ، ومحاولة الهروب من هذا الإحساس بالانتماء للفرس لان جيوش الفرس هزمت أمام جيوش المسلمين . لكن يبدو من كلام ابن حزم انه ينظر بإجلال كبير لماضي فارس ، ولعله لم يجد في ماضي أسبانيا مثل هذا الذي وجده في ماضي فارس ، ومع هذا فان قارئ رسالة ابن حزم في “فضائل أهل الأندلس”(1) لا يري في كاتبها إحساسا بالضِعْة لانتسابه لأسبانيا ومحاولة الهرب لأمجاد المشرق . 3. يبدو من حديث ابن حزم في رسالة “طوق الحمامة ” عن عواطفه الصدق . كذلك فهو يعتز بان أفضل خصاله الوفاء وعزة النفس (2) فلماذا يكذب في نسبه دون داعٍ ؟. 4. لا يمكن أن نأخذ كلام الدكتور طه الحاجري على انه حجة لان ابن حزم لم ينسب نفسه للعرب ، وبالتالي فكلام الدكتور الحاجري لا علاقة له بموضوعنا . 5. أليس من الجائز أن يكون كلام ابن حزم وابن حيان صادقا ؟ بمعني أن ابن حزم في أصله العرقي خليط يمثل في فرع منه فارس وفي آخر الأندلس ؟ . هذا احتمال كبير خصوصا في حضارة اندمجت فيها الشعوب بحيث تداعت العرقية الصرفة بشكل واضح . أيا كان الأمر إن ما يمكننا أن نؤكده هو إن ابن حزم كظاهرة فكرية لا تفهم إلاّ في إطار الفكر العربي الإسلامي والحضارة العربية الإسلامية . وان اختياراته الفكرية ضمن هذا الفكر وهذه الحضارة أملتها ظروف الحياة التي عاشها في الأندلس الإسلامية. هذا هو المهم وهذا ما سنشغل أنفسنا به . ولد ابن حزم على ما يذكر صاعد “آخر يوم من شهر رمضان سنة أربع وثمانون وثلاثمائة وهو ابن اثنين وسبعين سنة إلا شهرا ” (3) .نشأ في قرطبة مسقط رأسه . تتفق المصادر التاريخية على أن اصل أسرته من بلدة “منت ليشم” بإقليم”لبله” انتقلت إلى قرطبة واستقرت بها.(4) لا نعرف بالضبط تاريخ انتقالها . ولا الدافع الذي دفعها إلى التخلي عن موطنها الأصلي . هناك احتمال بأن تكون هذه الهجرة جاءت اثر هجمات النورمانديين والفِرنجة على ذلك الإقليم – في النصف الأول من القرن الثالث الهجري ، وعلى وجه التقريب في عهد الخليفة محمد بن عبد الرحمن الثاني (238-273 هـ) ، مما دعى الأسرة إلى البحث عن المكان الذي تأنس فيه الاستقرار والهدوء . ولم تجد أمامها في ذلك الوقت سوي قرطبة ، المعقل الأمين الذي بدا يتبوأ لريادة الغرب الإسلامي حضاريا . يري بعض الباحثين المحدثين أن “حزم ” هو الذي هاجر من إقليم لبله إلى قرطبة ، ويأتي هذا الاعتقاد بناء على الدور الذي يمثله “حزم” في تاريخ الأسرة مما جعلها تنتسب إليه . غير أننا نجد رواية أخري انفرد بها ياقوت نقلا عن محمد بن طرخان الذي قال : “قال لي محمد بن العربي : أن أبا محمد بن حزم ولد بقرطبة ، وجده سعيد ولد “بأونبه”ثم انتقل إلى قرطبة وولي فيها الوزارة “.(1) يدلنا هذا على أن أسرة ابن حزم كانت تتمتع بمكانة بارزة في الحياة السياسية منذ انتقالها إلى قرطبة وان “سعيد ” أول من انتقل إليها، وهو الذي بني أمجادها حيث تولي منصب الوزارة ، ربما في عهد المستنصر الأموي الذي قضي نحبه في اليوم الثاني من صفر عام 366 هـ . لقد امن الحَكم ولاية العهد لابنه الطفل هشام المؤيد ، الذي كان عمره احد عشر عاما عند وفاة الحكم . وكانت أمه صبح هي التي تشرف على أمره ، وتتمتع بالنفوذ المطلق منذ توليه الحكم . استطاع ابن أبي عامر “المنصور” احد موظفي الدولة أن يكسب عطف السيدة صبح ، فأسندت إليه بعض المناصب الهامة في القصر . وتمكن بفضل ذكائه أن يصل إلى منصب الحجابة ، وان يتولى تدبير الممالك ، بينما كان الخليفة الصوري هشام محجوبا في قصره . ليس له من الحكم سوي الرمز . أحاط المنصور نفسه بطبقة من رجال الأندلس النابهين فكان منهم الشعراء والأدباء والعلماء والفقهاء . من بينهم نجد والد الإمام أبي محمد ، احمد بن سعيد بن حزم ، الذي شغل منصب الوزارة . يصفه ابن حيان : “الوزير المعقل في زمانه ، الراجح في ميزانه ، …، كان احد العلماء من وزراء المنصور محمد بن عبد الله بن أبي عامر ، ووزر لابنه المظفر من بعده “(2) يلخص لنا ابن الابّار قصة ارتقاء المنصور العامري الحكم واستقلاله بإمارة الدولة دون الخليفة الأموي ثم دخوله التاريخ كمؤسس للدولة العامرية في الأندلس بقوله : “تصرف أول أمره في الوكالة لصبح أم هشام . والنظر في أموالها وضياعها ، … ، ولما انقض العدو على اثر ذلك وخيف الاضطراب ، ولم يكن عند المصحفي (3) عناء و لا دفاع ضمن محمد بن أبي عامر لصبح أم هشام سكون الحال وزوال الخوف واستقرار الملك لابنها على أن ُيمد بالأموال . فدانت له أقطار الأندلس كلها وأمنت له ، ولم يضطرب عليه منها شيء أيام حياته بحسن سياسته وعظم هيبته ، … ، فما زال يبطش بأعدائه إلى أن صار الخليفة حينئذ – هشام بن الحكم – ليس له من الأمر غير الاسم ” (1) . لقد تمكن المنصور من الوقوف في وجه القشتاليين الذين اغتنموا فرصه موت الحكم المستنصر وقاموا بغارات متوالية على المناطق الخاضعة للدولة . ولعل هذا كان من أهم العوامل التي أدت إلى تثبيته . بعد أن اطمأن إلى استتباب الأمن والدعة في البلاد ، بدأ في تصعيد منصبه . فأمر بالدعاء له على المنابر ، ونقش اسمه على السكة ، وأصبحت الكتب والأوامر تصدر باسمه . ثم انشأ مدينة الزاهرة سنة 368 هـ على نهر قرطبة ، بعد أن حشد لها الصناع وجلب لها الآلات الجليلة ، وتوسع في مخططها ، وبالغ في رفع أسوارها وشحنها بأسلحته وأمواله ، وخصص ما حولها لوزرائه وقواده وحجابه ، فابتنوا بها كبار الدور والقصور . لقد أصبح ابن أبي عامر سيد البلاد . رغم ذلك لم يدعو إلى نفسه بالخلافة ، خوفا من اشتعال الفتنة والثورة من الداخل ، لعدم انتمائه للبيت الأموي . يحدثنا ابن حزم في رسالة “نقط العروس” أن المنصور فكر في أن يتسمى بالخلافة لكنه تراجع بعد المشاورة . يقول ابن حزم : “والمنصور محمد بن أبي عامر أراد ذلك وجمع للمشورة فيه قوما من خواصه فيهم ابن عياش وابن فطيس وأبي رحمه الله ، فأما ابن عياش وابن فطيس فصوبا ذلك له ، و أما أبي رحمه الله فقال لهم : إني أخاف من هذا تحريك ساكن . والأمور كلها بيدك . ومثلك لا ينافس في هذا المعني “.(2) توضح هذه القصة مدي القوي التي كان يتمتع بها عامة الناس في الحكم وتحديد شخص الخليفة . كذلك تبين القصة بُعد نظر احمد بن سعيد وفهمه الدقيق لقوة الشعب . وهذا هو ما رآه المنصور فيه على ما يبدو . إذ أن المنصور كان قد استوزره قبل سائر أصحابه في سنة 381 هـ . وبلغ من ثقته به أن كان يستخلفه على المملكة في أوقات معينة . في عام 370 هـ انتقل المنصور إلى قصره بالزاهرة مبتعدا عن مدينة قرطبة مقر الخليفة الأموي . انتقل بانتقاله وزيره احمد بن سعيد وأسرته من دورهم القديمة الواقعة في الجانب الغربي من قرطبة إلى قصرهم الجديد بمدينة المنصور ، بعد أن أصبحت المقر الفعلي لإدارة دفة البلاد . تبين الملاحظات المتناثرة التي يوردها ابن حزم في “طوق الحمامة”مدي فخامة القصر الذي قضي فيه مراحل حياته الأولي في ذلك الوسط المترف وبين الجواري اللائي كن على حظ كبير من الثقافة الأدبية والفنية . وما يحيط بالقصر من حدائق ومشارف جميلة تطل على مدينة قرطبة بالكامل .(1) فكأن ابن حزم قد حظي بأفضل ثمرات الحضارة التي وصلت لها الأندلس حتى وقته . لقد كانت فترة عهد الدولة العامرية (الأموية اسميا) من أزهر عهود الأندلس - لا من الناحية السياسية فقط – بل من نواحي أخري عديدة خصوصا العلمية ، حتى أصبحت الأندلس عامة وقرطبة خاصة أكبر مثابة للآثار الأدبية العربية . لاشك أن العصر الأموي عموما يمثل عصر العرب الذهبي في الأندلس من حيث نهضة الأدب والعلوم والفنون وازدهار العمران . ففي هذا العهد بنيت المساجد والقصور والمدارس والمكتبات وأنشئت الحدائق والبساتين حتى أن قرطبة غدت تنافس بغداد في المشرق . قال الحجاري في وصف قرطبة : “كانت قرطبة في الدولة المروانية قبة الإسلام ، ومجتمع أعلام الأنام ، بها أستقر سرير الخلافة المروانية ، وفيها تمخضت خلاصة القبائل المعدية واليمانية ، واليها كانت الرحلة في الرواية ، إذ كانت مركز الكرماء ، ومعدن العلماء ، وهي من الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد “.(2) وقد أشاد الكثير من المؤرخين بالمركز العلمي والحضاري الذي حظيت به قرطبة خاصة والأندلس عامة في عهد الدولة الأموية . قال ابن حزم :”اخبرني تليد الفتي ، وكان على خزانة العلوم بقصر بني مروان بالأندلس ، أن عدد الفهارس التي كانت فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة ، في كل فهرسة خمسون ورقة ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين فقط”.(3) وسط هذه الحياة الاجتماعية المترفة ، وهذا الوسط المتحضر ، نشأ ابن حزم في قصر أبيه الوزير ضمن أفراد الطبقة الأرستقراطية التي كانت تسكن قصور الزاهرة . استمرت فترة إمارة المنصور نحو سبعة وعشرين سنة وفي أواخر رمضان عام 392 هـ مرض مرضا شديدا أدى إلى وفاته . تولى بعده منصب الحجابة ابنه عبد الملك الملقب “بالمظفر”. بموت المنصور تنفس الناقمون عليه من الصقالبة والأسبان الصعداء ، وغمرتهم موجة الفرح ، فلقد دمر المنصور بلادهم واكتسح حصونهم ومعاقلهم وشرد جيوشهم وأذلهم وأزال سيادتهم . فظن بعضهم أن “الفرصة سنحت للتحرر من نير الحكم القائم والعودة إلى نظام الخلافة .ولكن السلطات العامرية كانت ساهرة ، فقبض في الحال على عدد من المحرضين ،…..،وأستتب الأمن لعبد الملك “(1) ، الذي ورث الكثير من صفات أبيه واجتمع الناس على حبه لعدله ، وإنسانيته، وحمايته للشرع ، وسهره على الرعية . ويذكر انه مما تقرب به إلى قلوب الناس انه اسقط سدس الجباية على جميع البلاد . ظلّ احمد بن سعيد بن حزم في منصب الوزارة الذي تقلده من أيام المنصور ، واستمرت أسرة ابن حزم على علاقتها الوطيدة مع البيت العامري ، حتى أننا نجد صاحبنا أبو محمد بن حزم ، بين مجالس المظفر الأدبية سنة 396 . يستمع في صحبه والده إلى المطارحات الشعرية والمحاورات الفكرية (2) ، يبدو من هذا أن احمد بن سعيد كان يعد ابنه الإعداد السليم فكريا باعتبار أن هذا الإعداد هو السُلّم الحقيقي للتقدم السياسي . “حكم عبد الملك المظفر ستة أعوام وبضعة اشهر ، قضي معظمها في متابعة الغزو ،…، ولم يقع تبديل في طرق الحكم ، فكان الخليفة هشام كعهدة أيام المنصور محجوباً في قصر”(3) . توفي المظفر في ظروف غامضة ، وأعقبه أخوه عبد الرحمن المنصور الملقب “بشنجوال”وتولي الحجابة لهشام المؤيد ، وجلس غداة وفاة أخيه بقصر الزاهرة ، غير أنه لم يرث شيئا من صفات أبيه وأخيه ، فابتعد عن الدين وطعن فيه قولاً وفعلاً ، وهمّ بالانهماك في الشرب ومتابعة المحرمات ، واشتهر بالزندقة ، فكان نحسا علي نفسه وعلى أهل الأندلس قاطبة(4) . بدأت طلائع الثورة وأمارات التغير من قبل العامة والخاصة في الظهور وبالذات ممن ينتمون إلى بني مروان . لم يهتم عبد الرحمن هذا بما يجري حوله وما يحاك ضده بل حدثته نفسه بأن يصبح ولي عهد للخليفة هشام المؤيد . وبالفعل تمكن من إقناع الخليفة بإصدار مرسوم يتولى بموجبه عبد الرحمن منصب ولاية العهد ، وتمّ تعميم المرسوم على كافة أرجاء الأندلس. ما أن شاع الخبر في قرطبة وما حولها ، حتى بدأت الأحقاد تتوقد وتطلع البعض للعمل الفعلي ، عندها انتهز أحد أحفاد عبد الرحمن الناصر – محمد بن عبد الرحمن ابن عبد الجبار – الفرصة ، وقاد ثورة استولي بها على قصر الخليفة ولقب نفسه بالمهدي وقتل عبد الرحمن المنصور في اليوم الثالث من رجب 399 هـ . بهذه الثورة بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الأندلس عامة وقرطبة خاصة – مرحلة الصراعات السياسية – بعد استقرار وهدوء استمر فترة غير قصيرة .
#عابد_القادر_الفيثورى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
-
بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م
...
-
مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|