|
التطرف : بين الفكر والظروف .
طارق حجي
(Tarek Heggy)
الحوار المتمدن-العدد: 2541 - 2009 / 1 / 29 - 10:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يعتقد البعضُ في الدولِ التي إستشرى فيها "التطرفُ" الذي يستمد شعاراته من الدين الإسلامي أن "فكراً معيناً" هو الذي يولِّد هذا التيار ، وأن الظروفَ المعيشيةِ ليست هي منبع هذا التيار . ويعتقد هؤلاء أنهم على حقٍٍ عندما يضربون الأمثال بمجتمعاتٍ فقيرةٍ إلاَّ أن "تيارَ التطرفِ" (والذي يسمي نفسه بالإسلامي) لم يتعاظم فيها . وفي المقابل ، فإن البعض يعتقد أن الظروفَ المعيشيةِ هي "المفرخةُ" الأساسية لفكرِ وتيارِ وحركةِ التطرفِ . ويعتقد أصحابُ هذه النظرة أن الظروفَ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ هي المسئولُ الأول عن المناخِ الذي يُنبت تيار التطرف .
وعادةً ما تكون حكوماتُ العالمِ الثالثِ (حيث يوجد التيار الأصولي المسمى بالحركة الإسلامية) من أنصارِ وجهةِ النظرِ التي ترى أن "التطرفَ" فكرةٌ خبيثةٌ يروج لها البعضُ بدوافعٍ ولأغراضٍ سياسيةٍ وأنها لم تنتج عن الظروفِ المعيشية . وعادةً ما يكون المثقفون بوجهٍ عام وأولئك الذين يعطون العناصر الاجتماعية الوزن الأكبر من أنصارِ وجهةِ النظرِ التي ترجع التطرفَ للظروفِ المعيشيةِ .
وإذا كنت قد أوليت موضوع الأصولية الإسلامية آلاف الساعات من وقتي وقراءاتي ومتابعتي بما في ذلك المتابعةِ التي يصح أن توصف بأنها "متابعةٌ ميدانيةٌ" – فإنني أَعطي نفسي الحقَ في الاجتهادِ في هذه المسألةِ وأقول أن الحركةَ الأصوليةِ الإسلامية نتجت وإستشرت بفعل العاملين الذين يعتقد فريقٌ من المحللين أن أحدهما هو المسئول الأوحد بينما يعتقد فريقٌ آخر أن ثانيهما هو المسئول الأوحد . فالحقيقة – في اعتقادي – أننا يجب أن نميِّز بين "وجود فكر الأصولية الإسلامية" وبين "انتشار تيار الأصولية الإسلامية" إِنتشاراً واسعاً في مجتمعٍ من المجتمعاتِ .
أَما "وجود فكر الأصولية الإسلامية" فيرجع لوجودِ المفكرين الذين يؤمنون بالمرجعيةِ الدينية (الإسلامية في هذه الحالة) كأساسٍ لتنظيمِ المجتمعِ بكل ما تعنيه عبارةُ "تنظيمِ المجتمعِ" من معانٍ ودلالاتٍ . ومما لا شك فيه أنه من الطبيعي أن يوجد في أي مجتمعٍ توجد به أغلبيةٌ سكانيةٌ مسلمة "فكرٌ" يرى أن إصلاحَ حالِ المجتمع وتنظيم شئونه ينبغي أن يكون على أساسٍ من المرجعية الدينية. ولكن من الطبيعي أيضاً أن يكون هذا الفكرُ مجردَ "تيارٍ واحدٍ" ضمن تياراتٍ فكريةٍ أخرى في المجتمع ومن الطبيعي أيضاً أن يكون تياراً محدوداً إلى جوارِ التياراتِ الأخرى التي تنتمي للحاضرِ والمستقبلِ . أما "انتشار تيار الأصولية الإسلامية" بين أعدادٍ كبيرةٍ من أبناءِ وبناتِ مجتمعٍ معينٍ فأمرٌ لا يرجع إلاَّ للظروف المعيشية أي للعواملِ الاقتصاديةِ / الاجتماعيةِ والتي يكون تخلفُها داعياً لأصحابِ الفكرِ المسمى بالإسلامي لكي يروجوا لنظريتهم بصفتها "المنقذ" من براثنِ الواقعِ بما يتسم به من ظروفٍ معيشيةٍ مترديةٍ.
وفي إعتقادي أنه من الطبيعي أَن تُكرر حكوماتٌ عديدةٍ في دولِ العالمِ الثالثِ أن التطرفَ ليس إلا ورماً فكرياً خبيثاً وأنه لا يرجع للظروفِ المعيشيةِ ، لأنها ليست بوسعها إلا أن تقول ذلك ، لأن إعترافها بأن الظروفَ المعيشيةِ هي التي ولدت وأنتجت ودعمت انتشار هذا التيار سوف يجعلها تعترف في نفسِ الوقتِ بفشلها في إدارةِ المجتمع ذلك الفشل المتمثل في تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والذي في ظله أمكن لفكرِ الأصوليةِ (المحدود والمتواضع على المستوى النظري والفكري) أن يقيض له الذيوعَ والشيوعَ بين أعدادٍ كبيرةٍ من أبناءِ وبناتِ المجتمع .
وفي إعتقادي ، أن وجودَ الفكرِ الأصولي في حد ذاته ليس بذي خطرٍ كبيرٍ . فالفكرُ الأصولي الإسلامي يفتقد لأيةِ قدرةٍ على الانتشارِ وجذبِ الأتباعِ والمؤمنين به بمعزلٍ عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إذ أنه (بكل المعايير) فكر بسيط تجاوزه الزمنُ والعلمُ . وأنا لا أقصد هنا "الدين" وإنما "فكر الأصوليين" وهو عمل بشري لا قدسية له ولا يملك أصحابُه أن يقولوا أنه هو "الدين ذاته" وإنما هو "فهمهم الخاص للدين" .
وفي إعتقادي أن الخطورة تكمن كلها في الظروف المعيشية . ففي ظلِ ظروفٍ معيشيةٍ مترديةٍ تخلفت فيها الدولةُ عن تقديمِ أساسياتِ الحياةِ من الرعايةِ الصحيةِ والتعليمِ وسلسلةِ الخدماتِ الأساسيةِ لوجودِ حياةٍ كريمةٍ ، في ظلِ ظروفٍ من هذا النوع يتقدم الأصوليون بسلسلةٍ من الخدماتِ في هذه المجالات ومعها "فكرهم الأصولي" وكأن ما يقدمونه من خدماتٍ هو جزءٌ لا يتجزأ من فكرهم الأصولي – والحقيقة أنه لا توجد أية صلة بين ما يقدمونه من خدمات طبية وتعليمية ومجتمعية وبين فكرهم الأصولي – وإنما هي مكيافيلية سياسية في المقام الأول تلك التي جعلتهم ينتهزون فرصة تردي الظروف المعيشية ويقدمون سلسلة من الخدمات مع تقديم موازي لفكرهم الأصولي .
وفي إعتقادي أن مواجهةَ حركاتِ التطرفِ بالأدواتِ والوسائلِ الأمنيةِ (رغم ضروريتها وأهميتها) لا تقدم أيَ حلٍ للمشكلةِ من أساسِها . فالوسائلُ الأمنية هنا تشبه من يقطع فروعَ الشجرةِ مع بقاءِ الجذعِ والجذورِ . وقد يكون قطعُ الفروعِ في أوقاتٍ ومراحلٍ معينةٍ ضرورياً لأبعدِ الحدودِ حتى لا يفقد المجتمعُ ذاته ويسقط في يد الأصوليين الذين لا فرصة معهم لإقامةِ مجتمعٍ مدني أو عصري أو متقدمٍ من أية وجهةٍ نظرٍ ناهيك عن فقدان الأمل نهائياً في الحرية والديموقراطية وحقوق الآخرين .
ولكن من المؤكد أن التعامل بالوسائلِ الأمنيةِ فقط يسمح بنكساتٍ لا يمكن تجنبها بشكلٍ مطلقٍ. وأعتقدُ اعتقاداً جازماً أن وضعَ الدولةِ لخطةٍ محكمةٍ لكي تقوم بكلِ الخدماتِ التي ينتظرها أبناءُ وبناتُ المجتمعِ منها هو الوسيلةُ الوحيدةُ لحصرِ تيارِ الأصوليةِ في حدودِ الاهتماماتِ الفكريةِ (المتواضعة للغاية) لعددٍ قليلٍ من أبناء المجتمع . وأعني هنا أن سحبَ البساطِ من تحتِ أقدامِ الأصوليين عن طريقِِ قيامِ الدولةِ بما يقدمه الأصوليون من خدمات يجعل ثمانية أو تسعة من كلِ عشرةِ أشخاصٍ ممن كان من المحتمل انجذابهم لدعوةِ تيارِ الأصوليين ينصرفون عن هذا التيار وشعاراته الجذابة والتي لا تستند على أي فكرٍ عميقٍٍ أو تجاربٍ ناجحةٍ . وسيبقى واحدٌ أو اثنان تنطلي عليهما تلك الأفكارُ البسيطة والتي لا أساس لها من المنطق أو التجربة ، وهو أمر طبيعي ، فالخطورة في جذب الأعداد الكبيرة (بفعل الظروف المعيشية) وليس في وجود جيوب صغيرة من المؤمنين بفكر لا يملك بدون الظروف المعيشية المتردية أن يجذب إلا أعداداً صغيرة من أصحاب الاستعداد الشخصي للميل لأفكارٍ انفعاليةٍ تميل للشطط دون أن يكون لها حظ من العلم أو المنطق أو التجربة الناجحة .
#طارق_حجي (هاشتاغ)
Tarek_Heggy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يا عقلاء السعودية : إتحدوا !!
-
لو كنت سعوديا شيعيا
-
الولايات المتحدة ومستقبل العالم
-
مؤسسات الديموقراطية أهم من صندوق الإنتخابات
-
مشكلة الأقباط فى مصر
-
مشروع ثقافي لمصر المستقبل
-
البشرية … وأمريكا… ومسيرة التمدن
-
المستقبل : ننتظره .. أم نصنعه ؟
-
ضرورة الفهم الثقافي للسياسات العالمية
-
ملف التعصب ... أم ملف الأقباط
-
تعليم عصري … أو الطوفان
-
هاجس الغزو الثقافي
-
هويتنا .. بين البقاء والزوال
-
التعليم ... وصناعة المستقبل
-
مهازلستان
-
حول غياب العقل النقدي
-
حواراتنا .. بين الحضارة والفاشية
-
هل للإبداع والفكر -جنسية- ؟
-
نظرات في سلبيات الشعوب
-
نظرات في المسألة القبطية
المزيد.....
-
المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح
...
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|