دهام حسن
الحوار المتمدن-العدد: 2541 - 2009 / 1 / 29 - 06:01
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
أول دستور عرفته سوريا هو الدستور العثماني الذي صدر عام 1876 باسم "القانون الأساسي للدولة العثمانية" وجاء هذا الدستور تماشيا مع توجهات السلطنة العثمانية لإجراء إصلاحات سياسية، للحد من الحكم المطلق، ونزولا عند مطالب شعوب السلطنة وتذمرها من المظالم المنتشرة في الدولة، ويبدو أن هذا الإحساس راود العثمانيين عقب استتباب الأمر لسلطة البرجوازية الصناعية في أوربا، والشأو الذي بلغته من تطور وازدهار، مع خشية السلطنة من تطلع هذه الدول إلى "تركة الرجل المريض" بيد أن السلطان عبد الحميد عطل الدستور في عام 1888، ثم أعيد العمل به عقب الانقلاب الذي أطاح بعبد الحميد في عام 1908، قادت الانقلاب جمعية الاتحاد والترقي، فأعيد العمل بدستور 1876 حتى انهيار الدولة العثمانية، وانـزيـاحها عن بلاد الشام.
بعد التحرر من النير العثماني المستبد قام المؤتمر السوري بوضع دستور 1920 الذي عرف باسم "القانون الأساسي للملكية السورية العربية"، لكن هذا الدستور الجديد ما أن أبصر النور في ظل الحكم الوطني، حتى جاء اجتياح القوات الفرنسية للأراضي السورية متوجهة إلى دمشق في صيف عام 1920. تميز هذا الدستور بطابع علماني وبنفس ديمقراطي، فاستأثرت الحريات الديمقراطية باهتمام جاد من قبل المجلس النيابي (المؤتمر السوري) الذي وضع الدستور.
في خضم الثورة السورية الكبرى التي عصفت بالبلاد، فقد جاءت الثورة لتعضد من أزر الحركة الوطنية السورية، فاضطرت السلطات الفرنسية أن تدخل في تفاهم ومساومة ومصالحة مع البرجوازية السورية المتمثلة بالكتلة الوطنية، وعلى أثرها جاء ميلاد دستور عام 1928. وقد تميز هذا الدستور بحماية الملكية الخاصة, وعدم جواز انتزاعها من أحد إلا للمصلحة العامة، وفي هذه الحال يعوض المتضرر تعويضا عادلا، ولم يتطرق الدستور إلى أملاك الإقطاعيين، كما طالب الدستور بحماية الصناعة الوطنية. ثم عطل المندوب السامي الفرنسي الدستور خلال بضع سنوات في الثلاثينيات، لكن فوز الكتلة الوطنية بانتخابات 1943 أعاد الحياة لدستور 1928من جديد، وتم انتخاب شكري القوتلي رئيسا للجمهورية في عام 1948 لكن في آذار من العام التالي 1949 جاء انقلاب حسني الزعيم وسط التناقضات الاجتماعية الحادة، وصراع الحركات السياسية وتنافسها على السلطة، سعى حسني الزعيم دون إيمان منه لاستمالة الطبقات الدنيا، واجتذاب القيادات الداعية للإصلاح، فراح يناشدها بشعارات مثل الدعوة للحريات وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتهيأ لوضع دستور جديد للبلاد، لكن انقلاب سامي حناوي في آب من العام نفسه 1949 لم يمهله لما يفكر فيه.
في تشرين الثاني من عام 1949 جرت انتخابات الجمعية التأسيسية التي تحولت بعد ذلك إلى مجلس نيابي لوضع دستور للبلاد. لقيت مواد الدستور منا قشات واسعة وحادة ساهمت فيها مختلف الشرائح الاجتماعية وسائر الصحف ومن مختلف المشارب نظرا لتمتعها بحريات واسعة فتعارضت الآراء جراء تعارض المصالح لقد جاء الدستور الجديد ملبيا لتطلعات الشريحة الواسعة في مجتمعنا السوري وملائما بالتالي للواقع السوري المعيش. جوبه هذا الدستور بهجوم مركز من القوى الراديكالية مجتمعة - قومية- ماركسية – إسلامية – كون الدستور حسب زعمهم ثمرة من ثمار الليبرالية، وأيضا أنه يعكس الفكر الغربي الليبرالي.
في كانون الأول من عام 1949 وقع الانقلاب الثالث قام به أديب الشيشكلي لكنه يبدو أنه ضاق بالأمر الواقع ضاق بالدستور الذي وضعه المجلس التأسيسي كما ضاق بالقوى السياسية فقام بحركة انقلابية جديدة في تشرين الثاني من عام1951 فطلع بدستور جديد عرف بدستور أديب الشيشكلي وكان هذا في عام 1953 فجاء الدستور الجديد في مواده مطابقا للدستور الذي وضعته الجمعية التأسيسية والذي صار يعرف بدستور1950 إلا أن الدستور الجديد وسع من صلاحيات رئيس الجمهورية فأعطيت له صلاحيات مطلقة وهمش دور السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية "مجلس الوزراء".
في كانون الثاني من عام 1954بدأ النضال المسلح ضد الشيشكلي وانطلقت شرارته من جبل الدروز كما كانت منطلقا للثورة السورية الكبرى ثم انتقل إلى شمالي سوريا وكانت حلب مقرها وانضمت إليها القوات المسلحة التي هي بالأساس مسيسة فـفـر الشيشكلي خار ج سوريا.
تعد الفترة مابين 1954- 1958 من أكثر الفترات ناصعة في تاريخ سوريا ما بعد الاستقلال. لم تعش سوريا مثلها أجواء ديمقراطية، تم إلغاء دستور الشيشكلي لعام 1953 وأعيد العمل بدستور عام 1950 في هذه الفترة تعززت روح المواطنة وانكفأت العصبيات القبلية والطائفية.
تحققت الوحدة بين مصر وسوريا في شباط عام 1958 وفي بدايات آذار أعلنت دولة الوحدة عن دستور جديد مؤقت فجاء إلى حد كبير مطابقا لدستور الشيشكلي 1953. السير على نهج النظام الرئاسي، تمتع رئيس الجمهورية بصلاحيات مطلقة، ثم أعقب الرئيس عبد الناصر بعد أسبوع من صدور الدستور, أعقبه بقرار يقضي بحل الأحزاب، وعدم جواز تأسيس أحزاب جديدة، جاء هذا القرار ضربة في التطور الديمقراطي المتصاعد في سوريا.
في أيلول عام 1961 وقع انقلاب عسكري، وأعلن انفصال سوريا عن مصر؛ وجاء العمل بدستور مؤقت في الفترة التي عرفت بعهد الانفصال، وهو إلى حد كبير متوافق مع دستور عام 1950 في كثير من مواده، ثم كان دستور مؤقت جديد في عام 1964 إلى أن يحوز بموافقة الشعب على دستور دائم، من أهم أفكار مواد هذا الدستور :المساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات، صون حرية الفرد، عدم تحري أحد أو توقيفه، صون حرمة المساكن، حرية الاعتقاد واحترام جميع الأديان، استقلال النقابات.
في عام 1969 أصدرت القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي دستورا مؤقتا اعتبر فيه حزب البعث هو القائد في المجتمع والدولة، وعد أيضا اقتصاد الدولة اقتصادا اشتراكيا مخططا، أي جاء التشديد على المركزية.
في عام 1973 تم وضع دستور دائم للبلاد. أعد الدستور سوريا دولة (ديمقراطية- شعبية – اشتراكية) وأكد على دور الحزب في قيادة المجتمع والدولة وقيادة الجبهة الوطنية التقدمية، وأشار إلى حق المواطنين في الاجتماع والتظاهر، وبموجبه يتم الترشيح لمنصب رئاسة الجمهورية من مجلس الشعب بناء على اقتراح القيادة القطرية لحزب البعث.
لقد أنجز دستور عام 1928 وسوريا كانت تحت هيمنة المستعمر الفرنسي، ومع ذلك يؤخذ واحدنا بمواد الدستور دهشة، كيف ينجز مثل هكذا دستور في ظل الاستعمار الفرنسي، وبحق يعد إنجازه مفخرة للقوى الوطنية في سوريا, والدولة ذات التكون والتوجه الليبرالي، ومع ذلك كما بينا قبل قليل، فقد قوبل بالرفض من القوى الراديكالية للأسف.
من أهم مواد هذا الدستور : (سورية جمهورية نيابية), (السوريون لدى القانون سواء وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفي ما عليهم من واجبات والتكاليف، ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الدين أو المذهب أو الأصل أو اللغة), (حرية الاعتقاد مطلقة), (حرية الفكر مكفولة، فلكل شخص حق الإعراب عن فكره بالقول والكتابة), (حرية إنشاء الجمعيات وعقد الاجتماعات مكفولة), (الأمة مصدر كل سلطة), (السلطة التشريعية منوطة بمجلس النواب).
لا ننسى أن هذا الدستور قد تم إنجازه في ظل سيطرة المستعمر الفرنسي.
أما دستور عام 1950 فقد أنجزته الجمعية التأسيسية في ظل ديكتاتورية سامي الحناوي عام 1949 واستمر العمل به في حكومة الشيشكلي الديكتاتورية أيضا - ما عدا فترة حاول الشيشكلي إبطاله- إلى انقلاب الأخير الثاني في عام 1951 هذه الفترة من عام 1949 إلى سقوط الشيشكلي في عام 1954 وصمت بفترة الأنظمة الديكتاتورية، وهذا صحيح إلى حد بعيد مقارنة بالفترة ما قبل عام 1949 وما بعد سقوط الشيشكلي حيث شهدت سوريا حتى في ظل المستعمرين صحافة حرة، وقضاء مستقلا، وبرلمانا منتخبا، وأحزابا مرخصة ومؤسسات ونقابات وجمعيات ..الخ
من أهم الأفكار التي تضمنتها مواد دستور 1950: (السيادة للشعب لا يجوز لفرد أو جماعة ادعاؤها) في حين أن دستور عام 1973 اعتبر (حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية) جاء في دستور عام 1950 (للسوريين حق الاجتماع والتظاهر بصورة سلمية ودون سلاح) كما جاء: (للسوريين حق تأليف أحزاب سياسية على أن تكون غاياتها مشروعة ووسائلها سلمية وذات نظم ديمقراطية) في حين أن دستور عام 1973 كفل : (للمواطنين حق الاجتماع والتظاهر سلميا) وأيضا (لكل مواطن حق الإسهام في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية) دون أن يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى تأليف الأحزاب السياسية.
إن نظرة متأنية وفاحصة وأكثر توسعا وعمقا من إيجازنا هذا لعرض الدساتير، واختزالنا لها، تقودنا إلى حقيقة واحدة وحيدة يتيمة إلى أية درجة نحن ماضون في التراجع والتقهقر، وبمرارة نقول :هل أصاب أحد الكتاب عندما اتخذ "الحنين إلى الاستعمار" عنوانا لمؤلف له؟ وهل الدعوات الكثيرة الداعية للعودة إلى العمل بدستور عام 1950 أي العودة بالتاريخ إلى الوراء أكثر من نصف قرن في ظل التقدم المتسارع للأمم وفي ظل الثورة المعلوماتية، هل مثل هذه الدعوات تعد خطوة إلى الأمام؟ أم أن التاريخ حكم علينا أن نظل في عربة الماضي؟ أو بالأحرى على متن سفينة الصحراء، نحدو آخر الناس، فلن تنتظرنا القوافل السائرة في طريقها الصحيح وإلى مبتغاها المنشود..!
#دهام_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟