هادي الخزاعي
الحوار المتمدن-العدد: 779 - 2004 / 3 / 20 - 08:21
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
كلي هسبه, أسم كردي يطلق على أحد الأودية السحيقة التي تتدلى من قمم جبل متين الممتد لمسافات طويلة تصل الى العشرات من الكيلومترات الوعرة بأرتفاعاته المختلفة التي تتراوح بين الأمتار وآلاف الأمتار, حيث تنحدر ولكيلومترات عديدة مفازات وسفوح كلي هسبه الجميل الذي يعني بالعربية(وادي الخيول).وكثيرا ما تسائلنا نحن الأنصارالقادمين من بطاح العراق الجنوبية الغارقة بالعواصف والريح الصحراوية المثقلة بالحروحبات الرمل,حيث عسكرنا في هذا الوادي سنوات عديدة ومديدة ونحن نقارع نظام الدكتاتورية الفاشية,نظام صدام الذي باد وأنتهى, أقول تساءلنا, عن أسباب هذه التسمية الشاعرية.. وادي الخيول!؟. ولكننا بقينا نجتر ذات السؤال في جلساتنا المشتركه حول مواقد النار ونحن نحتسي الشاي الثقيل,الذي سماه الخالد فهد ـ يوسف سلمان يوسف ـ بخمرة الثوار,كما كنا نطرح ذات السؤال في أوقات أستراحات المفارز الأنصاريه التي عادة ما تكون بالقرب من منابع الماء بعد المشي ساعات طويلة, وفي كل أجترار, كنا نبقى بلا أجابة.
وادي الخيول ..رنين يملء الذهن بالأيحاء,وأول الأيحاءات التي تراود ذهن, سامع رنين هذا الأسم هي ضجة الدواب وصدى صهيل الخيل المتناوب وصخب حوافرها وهي تضرب الجلاميد التي تطرز الطريق. ولكنك وأنت في ذلك الوهاد العجيب, لاتسمع غيرالصمت وصوت الجندب وخرير الماء المنساب من رأس العين التي تتوسط الوادي, وهو يجري في الساقية الممتدة من العين الى القرى وبساتين المنطقة ترويهم ويرونها,أحيان لا تظهر هذه الساقية للعيان,تسري تحت الصخركما لو أن هاجسها الأسرار والغياب, وفي أحايين أخرى تضيع بين الأكمات الخدرة والشقوق الصخرية المستعصية.
صيف وادي الخيول كان حارا خانقا رغم الأخضرارالمغبرلأشجار البلوط التي تعبر عن كسوة الطبيعة الصيفية للوادي,وأخضلال ظلها بذاك الفيءالمتراقص الشفيف, الذي يفترش الأرض كفراء نمر مرقط .أما شتاءه, فجبة الثلج لا تفارقه, وبرده صعب كحره الفارط بالرطوبة, أليس ذلك امر يدعوا للدهشة ,لقد كنا نختنق باشجار الجقل(البلوط) والجوز التي تجبرنا على النوم أذا ما تمددنا تحت أغصانهاالحالمه,وقد فسر بعض العارفين بالزراعة ذلك,بأن شجرة الجوز تطرح كميات هائلة من الأوكسجين بسبب أوراقها الكثيفة فيؤدي بجسم الأنسان الى الأسترخاء فيغلبنا النوم اللذيذ تحت فيء تلك الأشجار الوارفة والحانية كعاشقة حالمة,أنها واحدة من عجائبيات كلي هصبه أو بلغة الضاد وادي الخيول .
وادي الخيول.. حقا أنه بحر من الحجر والشجر,موانئه تلك الغرف الصخرية المعدودة على أصابع اليد,التي كانت تأوي الأنصار, بأعمدة دخانها الشتوية, الباسقة كعلامات تعجب تمتطي سطوح تلك الغرف المرصودة من مختلف العيون, من عين الطير الى الطائره ومن عين الدب الى فوهة المدفع.
يتمدد وادي الخيول من أعالي متين نازلا حتى تذوب حوافه غير المتناهية عند خواصر دشت بروالي بالا, هذا المسطح الأرضي المتمواج كبحر هائج, والذي يسكنه الكلدوآشوريون منذ آلاف السنين,الى جانب أخوتهم الكورد. قرية تلد أخرى, مسكه, كاني ماسي(عين السمكه), كاني بلاف(عيون الماء المنتشره), بازه, والعديد من القرى والبساتين. أما من جهة متين الثانية فان ناحية بامرني المتفاخرة باشجار لوزها وفستقها ورمانها والتين, تستلقي مسترخية بوجه الشمس وهي تضاحك مصيف سرسنك الذي يشبه الصليب بضؤه الليلي الوادع, فيبدو كسطح بحيرة يضربها النسيم فلا يستقرالضوء على مائها .
حين تركب ظهر جبل متين, لا تغريك وعورته بالتفكيربأن هناك حياة بشرية تكتنف ضلوعه وخواصره,ولكنك كلما تحدرت الى قاعه,تتناهى الى مسامعك أصوات بشرية..أصوات رجال ..أطفال ..نساء,وعندما تكون عند أقدامه تماما, يفتح وادي الخيول أبوابه لك من خلال صوت متماسك لنصيرة أونصير.. توكي؟(من تكون), فأذا كان ليلا, فعليك أن ترد بكلمة السر
وأذا كان نهارا, فتعلن عن غرضك ليسمح لك بدخول وادي الخيول..فتتجلى أمام ناظريك تفاصيل المكان..غرقة الطبابة, المطبخ والى جانبه المطعم الذي يتناول الأنصار فيه وجبات طعامهم , تنورالخبز,السجن,الأداره, صف تعليم القراءة والحساب للأطفال, الحمامات,المحارس,قاعات النوم, المكتبة, اللاسلكي, مخزن التموين,الأعلام.. أنها الحياة بكل تفاصيلها وجزئياتها. يأخذك العجب من هذا التنظيم والترتيب,فمذ يوم أستأنس الوادي بهولاء البشرفوق العادة, دبت في أحشاءه حركة غيرحركة الضواري وحيوانات الجبل.. دب الأنسان بكل عنفوانه وأصراره, فكانت تلك أولى شهادات وادي الخيول على أول اقتحام للأنصار.. أنصار الحزب الشيوعي العراقي
وهم يرسمون حلم نضالهم على سفوح جبال كوردستان العراق.. وطن حــر
وشعب سعيد.
آه وادي الخيول..آه ياكلي هسبه الذي شمخ بك الأنصار مثلما شمخت بهم
وهم يسرجون الطرق البعيدة ساعات وساعات كي يقولوا بالمنشور والبندقية أنا هاهنا.. نحمل أحلام الفقراء والبسطاء في قلوبنا..ولأجل ذلك وضعنا فوق أكفنا شرايين دمانا لنخيط بها الحلم القرمزي.. لقد كنت وفيا يا وادي الخيول حين أمنا سفوحك السرية رسائل الأهل وجوازات سفرنا المنتهية تواريخها منذ بعيد وجثامين شهداءنا وموتانا وساق النصير أبو نصار التي بترت مرتين بسبب رصاصة في عملية مطار بامرني العسكريه ..وهذه ثاني شهاداتك التي تزين الجبين بالألق ..
للأنصار في شهادتك يا وادي الخيول عن عملية قضاء مانكيش فخر وفرح,
أنت يا وادي الخيول الخل الذي مهد سفوحه كي يقود النصير أبو حازم التنكجي وبمساعدة رفاقه الأنصار المدرعتين التي غنموها من العملية الى أبعد نقطة فيك ..لم
تكن للمدرعة من قيمة عسكرية للأنصار,لكنها كانت في ذلك المكان كنصب
لأنتصار على الطغيان والدكتاتورية, أنتصار هوامش الحلم وحوافه, فما بالك لوتحقق كامل الحلم ..سيكون لأطفال العراق كل الأقلام الملونة يرسمون بهاعلى تخومه آلاف الشموس والرايات.
أذكر فيك يا وادي الخيول قاعة أكتوبرالتي كانت تأوي أحتفالاتنا شتاءا.. كم قصيدة خاطبتنا, وكم جريدة ومنشورقرئنا, وكم نكتة خفيفة وثقيلة سمعنا,وكم أزكمتنا رائحة الجواريب, ثم ألا تذكر شخيرالنصير أبو صلاح الذي لا يتوقف..نعم ..نعم ذلك الفلاح الكردي الطيب ذو اللحية الكثة,أتذكركيف كان يتحايل عليه بعض الخبثاء فيوقضوه بحجة أن وقت الصلاة قد حان, فكان يصلي ربما أربع مرات في الليلة الواحدة, وفي الصباح وعند التجمع للفطور, يشكربكل محبة الذين أيقضوه للصلاة لأنه ببساطة الفلاح الكردي يحب الصلاة ..آه يا ابا صلاح وانت تداعب البنجبسمار(كلاشنكوف) ببعض أشعار شاعرالثورة واللهب كوران,كأيقونة سماوية تستحق التقديس, تجعل بقية الأنصار يختصرون حكايتهم بجملة كوران ,أعطني بندقية وصخرة ولفافة تبغ وليحترق العالم.
أتذكر يا وادي الخيول أحلام النصير الحجي أبو البابنك, حين أراد ان يشبعنا اللحم,ذلك المشتهى شبه المستحيل,فجاب القرى ليشتري أرنبة وأرنب, يتكاثران فيستحيلان الى مزرعة من الأرانب,ولكن بعد ثلاثة شهور,لم يحدث لاهذا ولا ذاك,رغم أنهما كانا يعيشان كأي أرنب وأرنبه,ولما تقصى الحجي بكل همته المستباحة من تعليقات الأنصار الطريفه عن أسباب عدم أنجاب أرانبه لتلك المزرعة التي وعد بها الأنصار. وبمساعدة من صديقه اللدود أبو عصيمه أكتشفا أن الأثنين, الأرنبة والأرنب كانا ذكورا.. لاتزال الضحكات الشامته للأداري ناصر,راعي الأبل في صحراء العراق يرتحل أزيزها من أعطافك يا وادي الخيول الى رحاب القلب, وهي واحدة من شهاداتك عن المضحك حد الدمع الذي كان يؤلف حيواة أولائك البشر المتفانون..فاتني أن أخبرك أن الحجي قد توفاه الأجل قبل أعوام في ألمانيا,ومن جملة ما ترك الى جانب زوجته وأبنته الصغيرة , مجموعة من الكتب التي تبحث في طب الأعشاب, كتلك التي كان يستدل منها الى أعشابك وزهورك غير المألوفة فتستحيل بخبرته الى مراهم وشراب للعديد من أوجاعنا وأمراضنا.
عرس النصيرة دروك؟.. نعم من ينسى ذاك يا وادي الخيول, رقص الجميع
الى آخر المدى.. نسى الجميع أنهم مطلوبين من الموت المجاني الذي كان يغدقه بلا حساب مجنون الغرس .. هي أيضا واحدة من شهاداتك التي يجب أن يدرك أبعادها الأبناء.
الأحتفاء بشهاداتك يا وادي الخيول عصا نتوكى عليها حين الحديث عن أسفار الملائكة ومحطات الرحيل والليل الذي أستطال الى صباح نريده أن يكون مديد, حتى نكمل حكاياتنا بلا ليل ولا شهريار.
شهاداتك يا وادي الخيول فريدة ولكنها ليست الوحيده, فسوف لن تتوقف شهرزاد من سرد حكايات الليل والنهارللسبعين التي فاتت والحكايا التي ستكون.........
#هادي_الخزاعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟