|
الصراع الطبقي في الظروف الراهنة
منذر خدام
الحوار المتمدن-العدد: 778 - 2004 / 3 / 19 - 09:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
(8) 1-خصائص الصراع الطبقي في الظروف الراهنة . إن العصر الراهن هو عصر التحولات العميقة في الحياة المادية والفكرية، عصر يزداد فيه العالم ترابطا بشكل لم يكن مألوفا من قبل، ويحصل ذلك بوتائر سريعة ، إنه عصر الثورة العلمية والتكنولوجية، عصر العولمة. نحن إزاء عالم له وجهان بارزان: الوجه الأول ، يتميز بتسارع عمليات الاندماج والتكامل والاشتراط المتبادل. أما الوجه الآخر، فيتمثل في ولادة تناقضات جديدة، وتعمق التناقضات القديمة، سواء على المستوى الداخلي، أو على المستوى العالمي. ففي جهة من العالم تتراكم الثروات، وتتحسن مؤشرات مستوى الحياة باطراد..وفي الجهة الأخرى، ينمو التخلف، والفقر، ويستعر الصراع الاجتماعي بلا أفق واضح، تلجمه العمليات الاندماجية الجارية على الصعيد العالمي. لقد وصلنا فعلا إلى تلك المرحلة التي تحدث عنها ماركس، حيث في مكان تتجمع ثروات كبيرة، وفيض هائل من الإنتاج، وفي مكان أخر يتراكم البؤس والتخلف . كل شيء يتحول في عالم اليوم إلى ضده. فبدلاً من استخدام قدرات الإنسان الإنتاجية الكبيرة المتنامية باستمرار في إشباع حاجاته، تستعمل لإفقاره ماديا وروحيا، وبدلا من أن يتسام الإنسان أخلاقيا وروحيا بفضل إمكانياته الثقافية والمعرفية، ينحط إلى أبشع حالات الدناءة والتكبر والاستهتار بمصيره . عالم اليوم يعبر عن نفسه في مجال البيئة، وتكديس الأسلحة النووية، وتخريب الفضاء، وتراكم الديون، والمجاعات المتكررة، والحروب الأهلية، حتى كدنا نألفها كأشياء طبيعية في حياتنا. تتلف بلدان الاتحاد الأوربي سنويا عشرات الآلاف من الأطنان من المواد الغذائية الجاهزة، في حين ترفض تقديمها إلى الشعوب التي تعاني من المجاعة حفاظا على مستويات الأسعار من الانخفاض. واللافت أيضاً، أن تعمق التناقضات على الصعيد الداخلي، أو على الصعيد العالمي، وما يتولد عنها من صراعات، لا يبدو أمامها أفق للحل وكأنها أصبحت اتجاها قائما بذاته . من الأسباب الرئيسية للوصول إلى هذه الوضعية، أن رأس المال في الوقت الذي يدمج العالم على قاعدة تفارقيه أساسها التناقضات والصراعات، تعمل البرجوازية على السيطرة عليها والتحكم بها. البرجوازية في عصر العولمة تعمل كطبقة عالمية، أما قوى التقدم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية فإنها تفقد أكثر فأكثر قوة تضامنها، ويتعمق تمايزها السياسي، والأيديولوجي وتنمو لديها النزعات الانعزالية وتفقد وحدة الهدف. لقد خلقت عمليات التكامل و الاندماج الجارية عالميا مجموعة من الاشتراطات القانونية بين البنى المختلفة المكونة للنظام العالي، ترتب عليها أثار عميقة ليس فقط في مجال الاقتصاد ، بل وفي مجال السياسة والأيدولوجيا والفكر. من الصعوبة في الوقت الراهن الفصل بين العوامل الخارجية، والعوامل الداخلية للتطور الوطني، وإن مقولة أولوية العوامل الداخلية على العوامل الخارجية تفقد أهميتها باستمرار.مع ذلك لا يجوز إغفال الفروق الجوهرية بين العوامل الداخلية، والعوامل الخارجية المتعلقة بتطور كل بلد .فعلى سبيل المثال تختلف الاشتراطات الموضوعية المتعلقة بتطور البلدان المتخلفة عن مثيلتها المتعلقة بتطور البلدان المتقدمة،لأن العلاقة اللاتوازنية بين الموقع الذي تحتله البلدان المتخلفة وذاك الذي تحتله البلدان المتقدمة تتحكم بها هذه الأخيرة . باختصار لا يستطيع الصراع الاجتماعي الطبقي سواء من ناحية مهامه الملموسة، أو ذات الطابع المستقبلي( المشروع الأيديولوجي ) أو أدواته وأساليبه الاعتماد على العوامل الداخلية فقط، بل لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار وبنفس القدر من الأهمية استطالة العوامل الخارجية في الداخل الوطني. من هذه الزاوية يكتسب الصراع ضد الآثار السلبية لعملية العولمة التي يقودها الرأسمال العالمي طابعا وطنيا أكثر فأكثر . 2-مفاهيم ضرورية لمتابعة التحليل . لقد أوضحنا في السابق خطأ النظر إلى الصراع الطبقي في الرأسمالية عموما، وفي الرأسمالية التابعة خصوصا ، على انه صراع بين طبقتين محددتين تماما، تقف كل منهما في مواجهة الأخرى ، فهذا لا يحصل إلا في التجريد النظري . لقد ميز الماركسيون الكلاسيكيون بين مفهوم" الطبقة بذاتها "ومفهوم" الطبقة لذاتها" وكان لهذا التمييز أهمية نظرية وسياسية كبيرة . من الناحية النظرية ،إن وجود الطبقة العاملة لا يعني أنها تتحرك تلقائيا ضد الرأسمالية ، إذ لا بد لها أولاً، أن تعي حاجتها ،ومصلحتها في هذه الحركة، وهذا لا يتحقق عمليا إلا على نطاق ضيق ، بل إن الفئة التي تعي ضرورة النضال ضد الطبقة البرجوازية ، وتناضل فعلا ضدها ، لا تشكل إلا جزءا صغيرا جدا بالقياس إلى حجم الطبقة العاملة . نستنتج من ذلك أن الفئات الاجتماعية التي تعمل في الحقل السياسي في سبيل الانتقال من الرأسمالية إلى نظام اجتماعي جديد ، أو في سبيل ارتقائه من وضعية إلى أخرى كانت تشكل دائما أقلية في حين كانت الأغلبية الساحقة " خاملة " طبقيا . إن مفهوم " الطبق لذاتها " كثيراً ما يختلط بمفهوم " الطليعة السياسية " علما أن الطليعة السياسية أوسع نطاقا من الطبقة لذاتها ، فهي تضم بالإضافة إلى العناصر السياسية من الطبقة المعنية، تلك العناصر الوافدة إليها من خارجها وتشترك معها في النظرة السياسية والأيديولوجية . لذلك عند دراسة دور أية طبقة ،أو فئة اجتماعية في الصراع الاجتماعي الطبقي،نقترح الاستعانة بجملة من المفاهيم ،يمكنها أن تكسب التحليل مزيدا من الدقة المنهجية. المفهوم الأول هو " وجود الطبقة ". يتناول هذا المفهوم وجود الطبقة كحالة كمية عيانية استنادا إلى ملكية عوامل الإنتاج والأثر الاقتصادي لهذه الملكية.ومن الواضح أن مفهوم " وجود الطبقة "يختلف عن مفهوم" الطبقة بذاتها "، كما جرى استخدامه في الأدبيات الماركسية الكلاسيكية . المفهوم الثاني هو " وضعية الطبقة " . يشير هذا المفهوم إلى تلك العناصر من الطبقة الاجتماعية التي تتميز بخصائص أيديولوجية وسياسية تجعلها مهيأة موضوعيا للنضال في سبيل المشروع السياسي،أو الأيديولوجي الخاص بالطبقة .يقترب هذا المفهوم من حيث دلالته الاصطلاحية من مفهوم " الطبقة لذاتها " . المفهوم الثالث هو " الوضعية الفاعلة للطبقة ".يشير هذا المفهوم إلى العناصر التي تعي وتناضل فعلا في الحقل السياسي في سبيل المشروع السياسي، والأيديولوجي للطبقة المعنية .يختلف هذا المفهوم عن مفهوم " الحزب السياسي " ، فهذا الأخير يضم عناصر تشارك الطبقة المعنية رؤاها السياسية دون أن تشاركها وجودها الطبقي .من هنا كان التمييز بين مفهوم " الخلفية الاجتماعية للحزب السياسي " ومفهوم " الخلفية الاجتماعية الفاعلة للحزب السياسي " يكتسب أهمية كبيرة من الزاوية المنهجية والتحليلية . الخلفية الاجتماعية للحزب السياسي تشمل جميع الفئات الاجتماعية التي يعبر الحزب في برامجه عن مصالحها ، أما الخلفية الاجتماعية الفاعلة للحزب السياسي ، فإنها تشمل جميع الفئات والقوى الاجتماعية والأفراد الذين يجندهم الحزب في معاركه السياسية ،سواء استلهم مصالحهم في خطه السياسي أم لم يستلهم . 3-الطبقة العاملة ودورها السياسي في الرأسمالية . في بحث ماركس حول (العمل المأجور ورأس المال) وفي العديد من دراساته الأخرى المتعلقة بقوانين اشتغال النظام الرأسمالي أشار إلى حصيلتين متضادتين تنجمان عن تطور الرأسمالية : من جهة، يزداد تركيز وتمركز رأس المال، ومن جهة أخرى، تنمو الطبقة العاملة باستمرار لأنها من أخص منتجات رأس المال . كتب ماركس يقول "… إن الرأسمال لا يمكن له أن يتكاثر إلا إذا بودل بقوة العمل ، إلا إذا خلق العمل المأجور [….] . وهكذا فإن تكاثر الرأسمال هو بالتالي تكاثر البروليتاريا،أي الطبقة العاملة " (1). بكلام أخر يشترط نمو رأس المال نمو الطبقة العاملة ،كما إن نمو الطبقة العاملة ،يشترط نمو رأس المال . ينقسم المجتمع الرأسمالي استنادا إلى الفهم السابق إلى طبقتين : الطبقة البرجوازية التي تملك رأس المال، أو تتحكم به، وهي تسير في طريق الانكماش ، والطبقة العاملة التي تملك قوة عملها ، وهي في توسع مستمر . استنادا إلى ذلك كان الاستنتاج الماركسي المعروف بأن الطبقة العاملة هي الطبقة التي أعدها التاريخ للقضاء على الرأسمالية ، وخلق مجتمع إنساني بديل يتطور استنادا إلى برنامج معد مسبقا . لنحاول مناقشة هذه الأفكار في الظروف الراهنة للنظام الرأسمالي في البلدان المتقدمة، حيث الحركة الداخلية للنظام تقود إلى تماثل التشكيلة الرأسمالية مع نمط الإنتاج الرأسمالي . من حيث المبدأ العمل هو مصدر كل قيمة اجتماعية وبالتالي فان تنامي الثروة الاجتماعية مشروط بالعمل المجمد بها. هذه الحقيقة لاحظها المفكرون منذ القديم وظهرت بصورة متسقة عند ابن خلدون ، لكنها لم تجد تعليلا علميا إلا في الماركسية وهذا متفق عليه على نطاق واسع في أوساط الباحثين من مختلف التيارات الفكرية .غير أنه في الظروف الراهنة جرت تعديلات جوهرية على هذه المقولة لا بد من التوقف عندها . يلاحظ، في الوقت الراهن ،وعلى نطاق واسع ، أن الثورة العلمية والتكنولوجية الحديثة تزيح استمرار العمل الحي من الدائرة الإنتاجية ، بل ومن غيرها، وإن هذه العملية الموضوعية المتسارعة،أخذت تؤسس لمسار جديد في التطور التاريخي سوف يفضي إلى عصر جديد تماما، يصبح فيه الفيض النسبي للطبقة العاملة فيضا سكانيا مطلقا .فإنتاجية العمل المتنامية باستمرار جعلت من الممكن لكمية من العمل متناقصة باستمرار أن تخلق كمية من الخيرات المادية متزايدة باستمرار (2). التعديل الأول الذي يمكن إدخاله على مقولة ماركس السابقة هو: أن نمو رأس المال لم يعد يتطلب نمو الطبقة العاملة ، بل على العكس فان نمو رأس المال يعمل على تقليصها باستمرار، باعتبارها مصدرا للقيمة الزائدة ، لكنه يوسعها باستمرار، باعتبارها حاملا لقوة العمل الكامنة . من جهة أخرى لا يستطيع رأس المال النمو إلا بانغلاق دائرة رواجه . بمعنى آخر، إن انتقال رأس المال من شكله النقدي، إلى شكله الإنتاجي، ومن ثم إلى شكله البضاعي لا يحقق لرأس المال أي نمو إذا لم يتحول من شكله البضاعي، إلى شكله النقدي ليعيد سيرورته في دورات متكررة باستمرار. ولكي ينجز رأس المال دورانه الموسع عليه أن يوسع السوق، وأن يخلق طلبا فعالا عليه في شكله البضاعي، غير أن ذلك يصطدم بالفيض السكاني الذي يزداد باستمرار باعتباره أخص منتجات رأس المال. ولتلافي خطورة الفيض السكاني على تقليص السوق، وإعاقة نمو رأس المال من جهة ، ومن جهة ثانية لتلافي مخاطر الصراع الطبقي الناجم عن الفيض السكاني، الذي يهدد النظام برمته يلجأ رأس المال إلى مخرجين رئيسين : المخرج الأول ، عن طريق تنمية القطاعات الخدمية المعروفة بالقطاعات الثالثة. أما المخرج الثاني فعن طريق تعميق دمج العالم ،وتوطيد روابط التبعية للبلدان المتخلفة بالمراكز الرأسمالية .وباعتبار أن القطاعات الثالثة لا تنتج قيما مادية ،ويقتصر دورها في إعادة توزيع القيمة المنتجة في القطاعات الإنتاجية ، فمن أين ، وكيف يتم تغطية نفقات هذه القطاعات ؟ إن الجزء الأكبر من نفقات هذه القطاعات يأتي من مصادر القيمة الجديدة في القطاعات الإنتاجية ( أجور العمل ، وربح البرجوازية المخصص للاستهلاك).يهتم رأس المال عادة بتطوير هذه القطاعات لأنها ضرورية لإعادة إنتاج قوة العمل من النوعية العالية التي يحتاجها، وتأمين الظروف الملائمة لبذخ البرجوازية . أما الجزء الآخر فإنه يتأمن عن طريق التبادل اللامتكافىء مع العالم الثالث . فالقيمة المنتجة عالميا (القيمة الزائدة مضافا إليها جزء من القيمة الضرورية) يتم توزيعها لصالح المراكز الرأسمالية سواء عن طريق تبادل السلع المتبلور فيها كميات عمل مختلفة ، أو عن طريق الأسعار التبادلية الاحتكارية . بالطبع يجري تبادل تجاري ( بضاعي، ومالي ) كبير ،وواسع بين المراكز الرأسمالية ،غير أن الأوالية العامة لتوزيع القيم بين المراكز الرأسمالية تشترط نوعا من التوازن التقريبي، بسبب العمليات الاندماجية الجارية بينها هذا من جهة ، ومن جهة ثانية بسبب تقارب مستويات إنتاجية العمل فيها .أما بخصوص التبادل بين المراكز الرأسمالية وبلدان الأطراف فالعكس يحصل تماما . هنا حركة فائض القيمة تسير في اتجاه واحد من البلدان المتخلفة إلى المراكز الرأسمالية . مما تقدم نستخلص مجموعة من الأفكار الأساسية هي : أ-يتغير التركيب العضوي لرأس المال باستمرار ، مزيحا الجهد الحي لصالح الجهد الجامد( رأس المال الثابت ). يترتب على ذلك تناقص حصة الجهد الحي من القيمة المنتجة الجديدة بالقياس إلى حصة رأس المال .لكن من جهة أخرى تنمو بشكل مطلق حصة كل وحدة من الجهد الحي المنشغل في الإنتاج، الأمر الذي يجعل من الصراع الطبقي قضية غير جدية بالنسبة لبعض الفئات الاجتماعية ،وغير مفهومة في كثير من الأحيان .وإن بعض هذه الفئات، أو عدد كبير من أفرادها ، مثل العلماء ، والعاملين في مجال التطوير العلمي والتكنولوجي، وكبار رجال الإدارة، يبدي ميلا واضحا للتحالف مع البرجوازية في مواجهة الفئات المأجورة الأخرى ، وتلك العاطلة عن العمل ، ليس بالمعنى الموضوعي فقط (نظرا للاشتراك في الوضعية الاجتماعية) ، بل وبالمعنى السياسي المباشر . ب- إن نمو القطاعات الثالثة يعمل على نقل قوة العمل من القطاعات الإنتاجية إليها ، مما يؤدي إلى حصول تغير جوهري في طبيعة العمل المأجور ووضعيته الطبقية .إن تشتت العمال ،بالإضافة إلى ظروف العمل في القطاعات الثالثة المتميزة بالراحة ،والمتعة والأجور العالية ، تضعف من الروابط الطبقية التضامنية بين العمال ، ومن ميلهم إلى النضال الطبقي السياسي . ج-إن قطاع العلم والتكنولوجيا (البحث والتطوير) في الطريق كي يصبح القطاع القائد في الاقتصاد ، وهو ، إلى جانب القطاع المالي ،سوف يوجهان مجمل العمليات الاقتصادية والاجتماعية، مما يمنح العاملين فيهما دورا اجتماعيا متناميا .من الصعوبة بمكان فهم الدور المتعاظم للعلماء والمفكرين والمبدعين عموما في الصراع الطبقي باستخدام أساليب الماركسية التقليدية في التحليل. في الواقع سوف يغلب على دور المثقفين في الصراع الاجتماعي الطبقي في الظروف الجديدة الطابع الملطف لحدة الصراعات الاجتماعية ، يساعدهم في ذلك الموقع القيادي الذي يحتلونه في مجمل العمليات الاجتماعية . د-إن شروط التبادل اللامتكافىء تفترض موضوعيا نوعا من الائتلاف والتحالف بين بعض شرائح البرجوازية (الشرائح الوطنية) وبقية فئات الشعب ، وهذا يخفف من حدة الصراع الطبقي في الداخل ، وينشطه مع الخارج ،فيترتب على ذلك نوع من المساومة التاريخية. من هنا كان تحديد الفئات البرجوازية التي لها مصلحة في تكوين تحالف طبقي واسع في مواجهة الخارج على أساس التضاد بين النزعة الوطنية ونزعة العولمة، بين تأكيد الذات وتطويرها والمساهمة في الحضارة العالمية الإنسانية وفق مبدأ التكيف المتبادل ، أو العمل تحت يافطة العولمة في خدمة المشروع الإمبريالي العام . هـ -إن قانون التوسع الشامل لرأس المال ، وإزاحته البنى الاجتماعية لما قبل الرأسمالية الذي اكتشفه ماركس ، يتأكد اليوم أكثر فأكثر عبر عالمية النظام الرأسمالي . غير أن توسع الرأسمالية المستمر لا يؤدي إلى تماثلها الداخلي كمنظومة عالمية ، بل على العكس، تتبلور في داخلها بنى عديدة ، ويزداد الاستقطاب الداخلي فيها بين بنيتين كبيرتين : بنية رأسمالية متقدمة وأخرى متخلفة ، الأولى تقود وتوجه المنظومة ككل والأخرى تتبع . إن التطور العام للمجتمع الإنساني يسير بصورة عامة في اتجاه واحد ، لكن حركة مكوناته البنيوية تختلف، فهي تتفارق في نفس الاتجاه. السبب في ذلك يكمن في أن التطور اللامتكافىء على الصعيد العالمي يعمق الهوة بين البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة، ويقوي في الوقت ذاته من علاقات التبعية والاشتراطات المتبادلة بينهما. إن جوهر الصراع الطبقي في هذه الوضعية يكتسب طابعا وطنيا عاما موجها أساسا نحو الخارج (3). تأسيسا على الأفكار الثلاثة الأولى يتبين أن وجود الطبقة العاملة ووضعيتها في المراكز الرأسمالية بدأ يطرأ عليهما تبدلات عميقة ، جعلت مفهوم " الطبقة العاملة " يفقد دلالته التقليدية ، وأصبح يشير إلى شكل للوجود المجتمعي يضم جميع العاملين بأجر دون أن يعني ذلك بالضرورة وضعية طبقية تؤدي مباشرة إلى الصراع مع البرجوازية من أجل تجاوز الرأسمالية(4) . يترتب على ذلك أن مفهوم التناقض بين رأس المال والعمل المأجور أو بين البرجوازية والطبقة العاملة بدأ يأخذ وضعا جديدا . فالعلاقة التناقضية بينهما أصبحت في الوقت ذاته علاقة تكاملية وظيفية .وبدلاً من التناقض بين كتلتين طبقيتين محددتين تماما حسب التصور الكلاسيكي المدرسي هما الطبقة البرجوازية والطبقة العاملة ، أخذ يتحول إلى تناقض بين مبدأ العمل، ومبدأ رأس المال ، وهذا يتطلب اصطفافات طبقية جديدة . وبناء على ذلك فان فرضية تجاوز الرأسمالية في مراكزها المتقدمة سوف يتحقق ،على الأغلب الأعم، بطريقة ارتقائية سوف يلعب فيها التقدم العلمي والتكنولوجي دوراً كبيراً. وإن الكتلة التاريخية التي سوف تحقق هذا الانتقال تشمل أوسع الفئات الاجتماعية الحاملة لقوة العمل المأجورة بقيادة المثقفين وذوي الياقات البيضاء . أما الفضاء الأيديولوجي الذي سوف تتحرك في إطاره هذه الكتلة التاريخية سوف يغلب عليه الطابع الإنساني النقدي . لا شك بأن الاستنتاج السابق المتعلق بطريقة انتقال البلدان الرأسمالية المتقدمة إلى الاشتراكية هو استنتاج عام، يفترض مسارا تاريخيا طويلا، تحكمه جملة من الاشتراطات التي يمكن أن تفضي في نهاية المطاف إلى الاشتراكية . لكن المسار الملموس لعملية الانتقال في هذا البلد أو ذاك يمكن أن يتعرج كثيرا، وقد يرتد لأسباب كامنة في منطق التطور نفسه . فقد تتعزز نزعة المحافظة في الحقل السياسي، فيرتد الفكر أو يضيق أفقه، فيتخلى عن طابعه النقدي، ليرغم الحركة الاجتماعية على سلوك يعاكس الاتجاه العام نحو التقدم، بسب التناقضات بين البلدان المتقدمة، أو بينها وبين البلدان المتخلفة، أو بسبب ضغط التكنولوجيا على التكوين النفسي الجماعي، أو الفردي ،للفاعلين الاجتماعيين، أو بسبب الظروف البيئية، أو ندرة الموارد ..الخ . باختصار لا يجوز النظر إلى احتمال تجاوز الرأسمالية و الانتقال إلى الاشتراكية كاحتمال حتمي إلا في نهاية المطاف وضمن اشتراطات معينة هي نفسها خاضعة للاحتمال. أضف إلى ذلك فان الاشتراكية ذاتها تحتاج إلى التحديد النظري من جديد . بشكل أولي يمكن القول أن الاشتراكية المنشودة سوف تجمع بين التقدم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية في علاقة ضرورية بحيث يشترط كل طرف فيها الطرف الأخر . إن خيار الارتقاء في تطور الرأسمالية إلى الاشتراكية لن يكون سهلا وسلسا بلا أزمات أو صراعات حادة. غير إن هذه الصراعات و التناقضات المسببة لها سوف تجد حلا لها بطريقة ديمقراطية . ثمة خيار تاريخي جديد يرتسم يمكن أن تتبادل فيه المواقع طبقة الأجراء وطبقة البرجوازية ، أنصار مبدأ العمل وأنصار مبدأ رأس المال ، مواقع السيطرة السياسية من خلال الأحزاب السياسية المعبرة عنهم آو المتحالفة معهم. 4-مفهوم " الكتلة التاريخية " في ظروف التخلف . تؤسس الفكرتان الرابعة والخامسة في المبحث السابق للاستنتاج بأن مهمة الخروج من دائرة التخلف والمساهمة الإيجابية في الحضارة الإنسانية هي مهمة كبيرة جدا،سوف تؤثر على العمليات الجارية في البلدان المتقدمة فتساهم في إبراز الطابع الإنساني لهذه العمليات أكثر فأكثر.ومن الطبيعي والمهمة بهذا الحجم والأهمية أن يتم التساؤل عن حاملها الاجتماعي. إن الاختلاف الجوهري في تكوين البنى الاجتماعية في البلدان المتخلفة بالمقارنة مع مثيلتها في البلدان المتقدمة، يؤدي بالضرورة إلى اختلاف في طبيعة الصراع الطبقي ،ومهامه المستقبلية، أو تلك المطروحة على جدول الأعمال . بتكثيف شديد يمكن القول أن النضال في سبيل الاستقلال الوطني الاقتصادي، والسياسي، والثقافي، بالمعنى التاريخي ، يمثل مهمة راهنة تستقطب أوسع الفئات الاجتماعية من برجوازية تقليدية وطنية وبرجوازية صغيرة مدينيه وعمال وفلاحين وجنود ومثقفين ..الخ. وان إنجاز هذه المهمة سوف يستغرق زمنا طويلا، لذلك فان التحالفات الطبقية ، والسياسية الواسعة في مواجهة الحلف الطبقي البرجوازي البيروقراطي والطفيلي والكمبرادوري هي قضية استراتيجية من الدرجة الأولى تطلب خلق المناخ الملائم لإنجازها . وهذا لا يكون إلا بالحوار، والتعاون بروح النقد البناء . بكلام آخر، إن تعميم الحرية ، والديموقراطية ، والشفافية ،وسيادة القانون هي هذا المناخ الملائم ،وهي طريق الخروج من المأزق التاريخي الذي تجد نفسها فيه البلدان المتخلفة . إنه لمن الوهم أن نتصور إمكانية النضال الناجح في سبيل الاستقلال الوطني التاريخي بدون الحرية الديموقراطية بالمعنى الشامل . في إطار التحالفات الطبقية والسياسية الواسعة التي تشكل الكتلة التاريخية في ظروف التخلف ، يطرح تساؤل مشروع عن موقع الطبقة العاملة . الجواب عن هذا التساؤل لا يمكن أن يكون عاما ، بل ملموسا. إن تحليل الواقع الاجتماعي وظروف الصراع الطبقي وأهدافه هو الذي يحدد دور هذه الطبقة ،أو تلك في مجمل الحراك الاجتماعي العام . بشكل أولي يمكن القول:إن لأنصار مبدأ العمل دورا هاما في التقدم الاجتماعي وتلطيف تعرجاته. في ظروف التخلف وخصوصا في مثل ظروفنا المحلية ،ثمة عقبات موضوعية تحد من فعالية الطبقة العاملة في مجمل العملية السياسية ،وهي تتعلق أساسا بظروف تصيرها نذكر منها : أ-الأصول الفلاحية التي لا تزال حاضرة وبقوة وفعالية في وعي قسم كبير من العمال ب- الحراك الداخلي للعمال بين مهنة وأخرى وباتجاه البرجوازية الصغيرة. ج- الحضور المكثف للأيدولوجيا الدينية في وعي العمال، وسيطرة العادات والتقاليد الاجتماعية المتخلفة والمغلقة ،والاستعدادات التي تعود إلى ما قبل الرأسمالية . تمثل السمات الثلاثة السابقة الذكر أعراضا لأسلوب تغلل الرأسمالية في المجتمعات المتخلفة .في الوقت الراهن يتبلور اتجاه جديد في قسمة العمل العالمي سوف يترك أثارا إيجابية على تكوين الطبقة العاملة وأنصار مبدأ العمل في البلدان المتخلفة . في ظروف العولمة ثمة اتجاه يتبلور تنبني بمقتضاه العلاقات الاقتصادية الدولية على أساس التخصص داخل الفروع الاقتصادية الكبيرة بدلاً من التخصص بين الفروع الذي كان سائدا في مرحلة الرأسمالية التنافسية .من خصائص هذا الاتجاه تشجيعه نمو العلاقات الرأسمالية في البلدان المتخلفة ،ونقل العديد من الصناعات إليها مع الاحتفاظ بالفروع القائدة ،والمتحكمة في المراكز الرأسمالية المتقدمة . في إطار هذا الاتجاه العام سوف تنمو الطبقة العاملة ويزداد دورها أهمية في النضال من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي وتعزيز الاستقلال الوطني والقومي بالمعنى التاريخي. وأخيرا نحن لا نعاني من الرأسمالية بقدر ما نعاني من ضعف تطور الرأسمالية . المراجع 1-محتارات ماركس إنجليز المجلد (1) ص 116 مرجع سبق ذكره . 2- " من عام1962 إلى عام 1982 انخفضت نسبة العمال في مؤسسات شركة ( سيمنتس) في ألمانيا من 67% إلى 47%.وفي الولايات المتحدة الأمريكية خلال ثلاثين عاما( 1950-1980) انخفضت نسبة " ذوي الياقات الزرق " بين القوى العاملة من 40% إلى 32%، وقد ازدادت هذه العمليات باطراد في الثمانينات " / مجلة الوقت، العدد8(1989) ص 136 . انظر أيضا مجلة النهج العدد 26 (1989) ص 229 /. 3- ثمة استنتاجات تقترب مما توصلنا إليه ، تقول بها مدرسة أمريكا اللاتينية الاقتصادية / انظر كتاب ( الإمبريالية وإعادة إنتاج الاقتصاد التابع ) ترجمة ميشيل كيلو ، منشورات وزارة الثقافة في سورية 1986 / والدكتور سمير أمين / انظر كتاب ( التراكم على الصعيد الدولي ) . 4-" إن المرحلة الحالية من الثورة العلمية والتقنية هي بالتأكيد وحدها التي تضع علامة استفهام على وجود الطبقة العاملة بالذات بشكلها الذي تكونت فيه نتيجة الثورة الصناعية " / انظر مجلة الوقت العدد 8 (1989 ) ص 135 . انظر أيضا كتاب أندريه غورنتس " وداعا أيتها البروليتاريا " / .
#منذر_خدام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الديمقراطية بالمعنى الإسلامي
-
قراءة في الحدث- الزلزال العراقي
-
الديمقراطية التي نريد
-
الصراع الطبقي وأشكاله
-
أزمة الديمقراطية في الوطن العربي
-
البناء الاجتماعي ومفاهيمه الأساسية
-
المادية التاريخية وسؤالها الأول
-
الديمقراطية: معوقات كثيرة …وخيار لا بد منه
-
المادية الجدلية وسؤالها الأول
-
الديمقراطية بين الصيغة والتجسيد
-
المنهج الماركسي واشتراطاته
-
شي بحط العقل بالكف....
-
منطق الفكر
-
نقد الفكر مقدمة لنقد السياسة
-
الديمقراطية وبيئتها المفهومية في الوعي السياسي العربي
-
الديمقراطية والنخبة
-
الديمقراطية والعلمانية والليبرالية
-
الديمقراطية والمجتمع المدني
-
عندما -تحاول- أمريكا التفكير بعقل -غير- إسرائيلي يظل مثقفونا
...
-
الديمقراطية وحقوق الإنسان
المزيد.....
-
جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR
...
-
تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
-
جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
-
أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ
...
-
-نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
-
-غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
-
لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل
...
-
ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به
...
-
غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو
...
-
مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|