ملف
ننشر فيما يلي ملفا حول أحداث ماي (أيار) 1968 الفرنسية بمناسبة الذكرى الخامسة لانتفاضة العمال الشهيرة. وهذه الذكرى ليست إحياء لأمجاد نضالية ماضية، بل على العكس من ذلك، ذكرى لنضال يعيش وينمو يوما بعد يوم. فمثلما شكل الطلاب الفرنسيون مفجرا لنضال الطبقة العاملة ، شكلت انتفاضة ماي بدورها، مفجرا بالنسبة لنضال الطبقة العاملة الأوروبية، وحتى لنضال جزء هام من الجماهير الكادحة في مختلف أنحاء العالم. فمن نضال عمال "فيات" في إيطاليا، إلى التحركات العمالية في الأرجنتين، وإلى الانتفاضة الطلابية في المكسيك، العلاقة مع ماي الفرنسي واضحة تماما. والثورة في المستعمرات، التي كانت أحد العوامل الأساسية التي ساهمت في اندلاع انتفاضة ماي، استفادت بدورها من نضال بروليتاريا الدول الإمبريالية ضد بورجوازياتها. ولقد كان لماي تأثير حتى في بعض الدول العمالية المنحطة بيروقراطيا حيث عرف نضال الشبيبة والعمال، المعادي للبيروقراطية مدا جديدا إثر أحداث ماي.
إن انتفاضة العمال الفرنسيين أطلقت دينامية أثرت بشكل إيجابي على نمو المد الثوري في القطاعات الثلاثة للثورة العالمية، بعد أن فجرت الأوضاع في الدول الإمبريالية التي لم تشهد أي نضال فعلي للطبقة العاملة منذ زمن طويل. ولكن النضالات التي تنشب يوميا في جميع أنحاء العالم (ومنها فرنسا)، تنير بضوء ساطع نواقص ماي. فالمبادرات الثورية التي قامت بها الطبقة العاملة، لم تصل دون إجهاض تحركها، وهذا لا يعود لضعف كامن في الطبقة العاملة نفسها، بل لنوعية القيادة المهيمنة على الطبقة العاملة. وهذا ما تعبر عنه بالدرجة الأولى، التحاليل الواردة في الملف. وإنما، هناك ظاهرة جديدة تأكدت أيضا أثناء ماي وبعده، ألا وهي التطور الملموس للمنظمات الثورية التي لم تستطع قبل الستينات، كسر طوق العزلة الذي فرضته عليها الظروف الموضوعية والحركة الستالينية في آن واحد. إن تطور هذه المنظمات. المرافق لنمو الحركة الجماهيرية يؤكد أن المعركة المقبلة سوف لن تجهض بنفس السهولة التي أجهضت فيها انتفاضة ماي البطولية.
ماذا جرى في ماي 1968؟
"دون منظمة قائدة، ستتبخر طاقة الجماهير مثل بخار غير محبوس في مضخة ذات مكبس، بيد أن الحركة لا تأتي من المضخة ولا من المكبس وإنما من البخار…" (تروتسكي)
لقد أثبتت البروليتاريا الفرنسية في مناسبات عديدة ومنذ القرن التاسع عشر، قدرتها الثورية ودرجة وعيها الطبقي. وفي القرن العشرين، قامت الطبقة العاملة الفرنسية بنضالات عديدة، تميز البعض منها بوعي ونضوج سياسي لا ينكر. ولقد تميزت فترتا 36 و45 في فرنسا، بوضع قبثوري (نتيجة فوز "الجبهة الشعبية" –وهي تحالف جبهوي ضم أساسا الحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الراديكالي البورجوازي بقيادة هذا الأخير- في انتخابات عام 1936 ونتيجة الانتصار العسكري الذي أحرزته الديموقراطيات الإمبريالية، وأيضا الدولة العمالية السوفياتية على النازية عام 1945). وفي كلتا الحالتين، حاول العمال القيام بنضالات شديدة ضد النظام البورجوازي القائم، ولكن القيادات الستالينية وضعت كل جهودها في إيقاف هذا المد الثوري.
وبعد حوالي عشرين عاما من الخمول، ونتيجة لعوامل مختلفة، عادت البروليتاريا الفرنسية من جديد إلى القيام ببعض النضالات الجزئية والمحصورة (غالبا ضد إرادة القيادات النقابية)، إلى أن انفجر الوضع في أوائل ماي 1968.
العوامل الأساسية للإضراب العام في ماي:
1- كانت الظروف العالمية سنة 68 ملائمة أكثر من ظروف عامي 36 و45: فسنة 36 شهدت مدا فاشيا في أوروبا الغربية (انتصار الفاشية في إسبانيا بعد أن كانت قد انتصرت في ألمانيا وإيطاليا) ومحاكمات موسكو الشهيرة التي أبرزت مظهرا جديدا لوجه الستالينية القذر. أما سنة 1945، فكرست هزيمة الفاشية من ناحية ، ولكنها من ناحية أخرى ، كرست تقوية الديموقراطيات الإمبريالية المنتصرة عسكريا، وأيضا الأحزاب الشيوعية الستالينية بسبب الإنتصار العسكري للإتحاد السوفياتي على النازية. ولكن في بداية الستينات، انتهت فترة النمو الطويل للإقتصاد الإمبريالي إلى حالات ركود خفيفة ولكن ذات تأثير أكيد على العلاقات الاجتماعية القائمة. وفي بداية الستينات أيضا فقدت الحركة الستالينية كثيرا من هيبتها، بسبب تقرير خر وتشوف (الذي تهجم بعنف على حكم ستالين عام 1956)، والخلاف الصيني-السوفياتي، وموقف الحزب الشيوعي الفرنسي من الثورتين الجزائرية والفيتنامية الخ...
2- إن تأثير الثورة في المستعمرات كان عاملا هاما في إيقاظ البروليتاريا الأوروبية من شللها. فانتصار الثورة الجزائرية على الإستعمار الفرنسي، والهزيمة التي منيت بها الإمبريالية الأمريكية في معركة "التيت" في فيتنام الجنوبية عام 1968، وجدا صدى عميقا لدى الطبقة العاملة الفرنسية، والشبيبة العالمية بشكل عام، مما أدى إلى حركات دعم جماهيرية في عدد من الدول الإمبريالية لنضال هذه الشعوب.
3- إن ظروف الإقتصاد الإمبريالي المتردية، وتشتت الحركة الستالينية العالمية، ونمو كفاح شعوب المستعمرات، كافة هذه العوامل أدت إلى نشوء وتطور تيارات ثورية خارج إطار الحزب الشيوعي (والبعض منها منشق عنه). وقد استطاعت هذه التيارات، بالرغم من ضعـفها التنظيمي خاصة في الأوساط العمالية، أن تقود نضالات عديدة دعما لكفاح الشعب العربي الجزائري حتى عام 1962، ولنضال الشعب الفيتنامي، إنطلاقا من عام 1965 (بينما اكتفى الحزب الشيوعي الفرنسي بالمطالبة ... بالسلام !) وكانت هذه المجموعات الثورية قوية أيضا في أوساط الشبيبة الطلابية، ولعبت دورا أساسيا في تحرك هؤلاء الطلاب وفي التحامهم مع الطبقة العاملة منذ بداية أحداث ماي.
4- يبقى أن نضال الشبيبة الطلابية الفرنسية ضد النظام القائم، لعب دور المفجر بالنسبة للطبقة العاملة. وكانت الشبيبة الطلابية الأوروبية وفي الولايات المتحدة قد قامت من قبل ذلك بنضالات أدت مع تجذرها إلى التذمر من الأحزاب الشيوعية الجامدة، فشكلت أوساط الشبيبة المحيط الطبيعي لنمو ما سمي باليسار الجديد.
الأحداث بالتسلسل:
منذ سنة 1967، بدأت الطبقة العملة الفرنسية تخوض نضالات جزئية ومحصورة جغرافيا، ولكن البعض منها عنيف جدا. وجدير بالذكر أن هذه النضالات انطلقت من القطاعات العمالية "الجديدة" (أوساط الشبيبة العمالية)، التي لم تعتد بعد على ممارسات القيادات الستالينية والإصلاحية، وفي أوائل سنة 1968، بدأت الإضرابات العمالية تنتشر في القطاعات "القديمة"، وأساسا بعض المصانع الضخمة ذات التقاليد النضالية العريقة (تاريخيا) كمصنع "رونو" مثلا.
أما على الصعيد الطلابي، فأتى انفجار ماي بعد مد ملحوظ للحركة الطلابية الفرنسية. فالطلاب الفرنسيون الذين قاموا بنضالات عديدة وشديدة ضد النظام منذ بداية الستينات، لمساندة نضال الشعب الجزائري، وعادوا من جديد إلى التحرك سنة 1965 دعما لكفاح شعوب الهند الصينية، صدوا بقوة في وجه مخطط البرجوازية الرجعي الهادف إلى تصفية "طبيعية" طبقية داخل الجامعات، بسبب عدم توفر العدد الكافي من المنافذ (برنامج اصلاح فوشيه).
ومنذ أول يوم من الدخلة الدراسية لسنة 67-68، بدأ الطلاب يتحركون بشكل متشتت، فحاولت البرجوازية فرض هذا "الإصلاح" بالعنف مما أدى مجابهة مستمرة بين الدولة البرجوازية والطلاب. وقد وصلت هذه المجابهة إلى ذروتها عند احتلال الطلاب لمباني معهد نانتير في 22 مارس (آذار)، احتجاجا على اعتقال الشرطة لعضو من "الشبيبة الشيوعية الثورية" أثناء تظاهرة ضد الإمبريالية الأمريكية. وكان من نتائج هذا الاحتلال إبدال الصفوف الدراسية بمناقشات سياسية حول النضالات المعادية للإمبريالية في المستعمرات، والعلاقة بين النضالات الطلابية والنضالات العمالية، والنضالات المعادية للبيروقراطية في دول أوروبا الشرقية، الخ... ومن ناحية أخرى، إنشاء حركة 22 مارس (آذار) التي ضمت أبرز قوى ثورية على الساحة الطلابية، والتي لعبت دورا هاما في أحداث ماي.
يعتبر تقليديا أن أحداث ماي قد اندلعت في 03 ماي، يوم دخلت الشرطة كلية السوربون، لمنع انعقاد مهرجان طلابي دعا له "الإتحاد الوطني للطلاب الفرنسيين"، وموجه ضد الهجمات الفاشية و...قمع السلطة. فخرق قوى القمع لحرم الجامعة أدى إلى معركة دامية مع الطلاب (دامت حوالي ست ساعات). وفي 06 ماي جرت تظاهرة ضخمة (بعد اضراب طلابي وثانوي عام - شارك فيه المعلمون- في باريس والضواحي) أدت أيضا إلى اشتباكات مع السلطة، من الساعة الثامنة من بعد الظهر وحتى الساعة الواحدة من منتصف الليل. وبين 06 ماي و10 ماي جرت بعض التظاهرات وشمل الإضراب أكثرية الجامعات والمدارس الفرنسية. وقد شهد العاشر من ماي متاريس أقامها طلاب وثانويون أثناء معركة مع الشرطة لم تتوقف إلا عند الصباح.
تحت ضغط القاعدة العمالية التي شعرت بتعاطف قوي مع "الرفاق الطلاب"، قررت أهم النقابات العمالية إضرابا عاما لمدة أربع وعشرين ساعة ينفذ يوم الاثنين الواقع في 13 ماي. وفي اليوم المذكور انطلقت تظاهرة ضخمة كرست التحام نضال الطلاب بنضال الطبقة العاملة. وبينما كانت النقابات قد قررت اضرابا عاما ليوم واحد، انطلقت مبادرات عمالية عظيمة وفي جميع أنحاء فرنسا. ففي 17 ماي شمل الإضراب العمالي جميع مصانع "رونو"، وعمال الطيران (مع احتلال المباني) الخ... وبالرغم من التراجع الظاهر للبورجوازية التي أخذت تنتهج أسلوب الملاطفة و"التفاهم"، وبالرغم من التطور الهائل لحركة الإضراب في مختلف أنحاء فرنسا، رفض جورج سيغي، الأمين العام "للإتحاد العام للعمل" (وهي نقابة عمالية موالية للحزب الشيوعي) شعار "الإضراب العام المفتوح"، واكتفى بطرح بعض المطالب. وجدير بالذكر بأن قيادتي الحزب الشيوعي والاتحاد العام للعمل، كانتا دائما تحاولان منع بناء أية علاقة بين العمال والطلاب. فكانت صحيفة الحزب الشيوعي اليومية تتهجم بشكل عنيف على "أبناء البرجوازية" و"الفوضوي الألماني كوهن بنديت"، الخ...
وفي 22 ماي، بينما شمل الإضراب ملايين الشغيلة، بدأت التحركات الفلاحية تنتشر في الأرياف، وفي 24 ماي، عمت التظاهرات الفلاحية كافة المناطق الفرنسية. أما على صعيد النقابات فقد صرحت نقابات الشرطة أن "المهمات الموجهة ضد النضالات المطلبية للشغيلة، سوف تطرح مشاكل ضميرية خطيرة"، بينما صرحت النقابات العمالية أنها مستعدة للتفاوض مع البورجوازية. وكانت تنطلق يوميا عشرات التظاهرات (عمالية، طلابية، فلاحية...) في جميع أنحاء فرنسا، وتوصل الإضراب في 25 ماي إلى أن شمل عشرة ملايين شغيل. وفي اليوم نفسه، ابتدأت المفاوضات بين النقابات العمالية والدولة الفرنسية، وانتهت في 27 ماي باتفاق حول تحقيق بعض المطالب الجزئية لصالح العمال. ولكن، بعد هذا الإتفاق ببضع ساعات، اضطرت القيادات النقابية إلى التراجع أمام السخط الشديد الذي أظهره العمال عندما علموا بهذا الإتفاق. (واشتهرت هذه الإتفاقية تحت اسم اتفاقية غرونيل –اسم الشارع التي تمت فيها المفاوضات).
وفي 29 ماي، اضطر ديغول الى تأجيل اجتماع مجلس الوزراء، ومغادرة باريس، وفي صباح اليوم التالي، أعلن عن حل مجلس النواب وعن إجراء انتخابات جديدة في وقت قريب. وكان الحزب الشيوعي والقيادات النقابية، أول من رحب بهذه الانتخابات وأبدى اهتمامه بـ"تحضيرها" "وكسب المعركة ضد البرجوازية"، وبالتالي ساهمت في إنجاح خطة البرجوازية الفرنسية الهادفة إلى تحوير المعركة من الشارع إلى صندوق الاقتراع.
لقد كرس آخر أسبوع من شهر ماي فراغا في السلطة، بحيث أن البرجوازية، بسبب ذعرها من التوسع الهائل لرقعة الانتفاضة، لم تستطع طرح أية مبادرة لمجابهة الأوضاع بل لجأت إلى وسيلة كلاسيكية في هكذا ظرف: الهروب. ولكن، أمام خيانة القيادات الإصلاحية للحركة العمالية التي رفضت عمليا تجذير الحركة باتجاه إنشاء هيئات عمالية منتخبة ديموقراطيا (لجان إضراب، لجان رقابة، لجان أحياء الخ...) بل فضلت إنجاز اتفاقيات مع البرجوازية رفضها جميع العمال، حاولت البرجوازية الاستفادة من ورقة قديمة جدا: الورقة البرلمانية. ولما استطاعت هذه الورقة البالية نيل هدفها لولا تأييد القيادات الخائنة لها، كوسيلة للخروج من المأزق الذي وصلت إليه بسبب رفضها أخذ مبادرات لاتجاه استلام السلطة.
وبالفعل، منذ بداية يونيو، عادت البرجوازية تقوي موقعها، وبدأت نعض المصانع تنفذ قرار الاتحاد العام للعمل (فك الإضراب لعدم عرقلة الانتخابات). ولكن قسما هاما من الطبقة العاملة رفض تنفيذ هذا القرار وجرت نضالات عمالية عنيفة جدا، حتى أواسط شهر يونيو.
ولكن الحركة كانت في نهايتها وما لبث العمال أن غادروا إلى العمل من جديد. وبعد أن كان النظام قد حل جميع المنظمات التي شاركت في أحداث ماي (ما عدا الحزب الشيوعي !) في 13 يونيو، انتهت أحداث ماي كما ابتدأت، بدخول قوى القمع إلى كلية السربون في 16 يونيو لطرد الطلاب الذين كانوا قد احتلوها منذ 13 ماي.
عندما يشارك عشرة ملايين شغيل باضراب عام، وعندما يهتز الشارع بنضالات يومية تضم عشرات ومئات الألوف من جميع الفئات الشعبية، وعندما تتزعزع قوى القمع (الجيش والشرطة) في وجه الحركة الجماهيرية وتهرب البرجوازية، عندئذ لا يوجد مبرر لحزب (أو أحزاب) الطبقة العاملة في فشل هذه الأخيرة، الا نوعية قيادته لها. وبالفعل، كان ضعف المنظمات الثورية التي حاولت دفع الطبقة العاملة باتجاه ثوري، وهيمنة الحركة الستالينية على الطبقة العاملة، العامل الحاسم في إجهاض أول تحرك ثوري شامل تقوم به طبقة عاملة في دولة امبريالية منذ حوالي عشرين عاما.
الحزب الشيوعي الفرنسي وماي 1968
لا يتميز الحزب الشيوعي الفرنسي عن كافة الأحزاب الشيوعية التقليدية من حيث ولائه للبيروقراطية السوفياتية. فهذه الأحزاب قد استقلت منذ زمن طويل من مهمة النضال من أجل انتصار الثورة الاشتراكية العالمية، وتحولت إلى سفارات يتلخص دورها الرئيسي بالدفاع الأعمى عن الفئة الطفيلية الحاكمة في الإتحاد السوفياتي، والتي خانت (ولا تزال) البرنامج الماركسي الثوري، لاجئة إلى تنظيرات لم تعرفها الماركسية من قبل، أهمها بناء الاشتراكية في بلد واحد، ونظرية "التعايش السلمي" التي ذهبت الأممية الثالثة ضحية لها عام 1943، ومؤكدة على صحة نظرية "الثورة على مراحل" المنشفية.
على أساس هذه الركيزة المشتركة (خدمة مصالح بيروقراطية الكريملين)، أخذت الأحزاب الشيوعية الستالينية في العالم تتبنى "تحاليل" ومواقف تختلف حسب اختلاف المناطق المتواجدة فيها. ففي بعض المناطق المتخلفة (كالهند وبعض الدول العربية)، اكتشفت الحركة الستالينية "نظرية" التطور اللارأسمالي، لتبرير دعم القيادات الستالينية المحلية للطبقات الحاكمة في هذه البلدان. أما في البلدان الإمبريالية، فكانت استراتيجية الانتصار البرلماني والوصول السلمي إلى الاشتراكية، النتيجة المنطقية للعلاقة الطيبة التي أقامتها البيروقراطية السوفياتية مع بورجوازيات الدول الإمبريالية.
* * * *
وقد استطاعت هذه الأحزاب في أوروبا الغربية المحافظة على هيمنتها على جزء (هام في بعض البلدان) من الطبقة العاملة، انطلاقا من ظروف الاقتصاد الإمبريالي المتنامية، وأيضا لضعف تأثير الحركة الثورية آنذاك (المتلخصة بفروع الأممية الرابعة الأوروبية). فكلما حاولت الطبقة العاملة، من خلال نضالها، خرق أسلوب النضال البرلماني والبرنامج الإصلاحي الذي تحمله هذه الأحزاب (مطالب حد أدنى)، كانت هذه الأخيرة تتدخل بقوة لإجهاض هذه المحاولات (مثل ممارسة الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1936 وخلال فترة 44-46) وهذا ما حاولت الحركة الستالينية الفرنسية أن تفعله في ماي 68، من خلال جهودها المستمرة لعزل الطلاب (الرافضين بأكثرية لسياسة الحزب الشيوعي الخائنة) عن الطبقة العاملة، والتركيز على التفاوض مع البورجوازية. ولكن، أمام المد الفعلي والعفوي لتحرك الطبقة العاملة، ما لبثت القيادات الإصلاحية أن"ركبت الموجة"، منتظرة الظرف الملائم لإجهاض نضال البروليتاريا الفرنسية، كما فعلت في المناسبات الماضية، وتحوير النضال من العمل الجماهيري المباشر إلى صناديق الاقتراع.
بماذا تجلت خيانة قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي؟
° لقد عارض هذا الحزب النضال الطلابي الثوري، وحاول بشتى الوسائل، منع أية صلة سياسية وتنظيمية بينهم وبين العمال. فكانت صحيفة الحزب الشيوعي تتهجم يوميا على "أبناء البورجوازية" و"الفوضويين الألمان"، متهمة إياهم بخدمة مصالح البورجوازية من خلال "مشاغباتهم الطفولية".
° بدلا من توحيد نضال العمال على أساس برنامج مشترك، يعبر عن مصالح جميع شرائح الشغيلة (صناعة خاصة، قطاع عام، موظفون...)، فضلت قيادتا الحزب الشيوعي الفرنسي والاتحاد العام، التفريق والتمييز بين هذه الشرائح. وتجلى ذلك أيضا من خلال رفض قيادة الإتحاد العام للعمل، في مناسبات عديدة، المشاركة بتظاهرات موحدة تضم الطلاب، أو حتى قطاعات مختلفة من الطبقة العاملة، بل كانت تفضل دائما التحركات الجزئية والمتفرقة.
° لقد رفضت هذه القيادات رفع شعار الإضراب العام المفتوح، متحججة بأن هذا الإضراب يجري فعلا. ولكن في الواقع، فإنها كانت ترفض الاعتراف بحالة الإضراب العام المفتوح، لأنها لا تريد رفع الشعار الملائم لهذه الحالة: شعار حكومي للنضال من أجل السلطة. يقول تروتسكي: " مهما كانت قوة الإضراب العام، فإنه لا يحل مشكلة السلطة: انه يكتفي فقط بطرحها. فالاستيلاء على السلطة يتطلب تنظيم عصيان مسلح، بالاستناد إلى الإضراب العام". إن الحزب الستاليني واع تماما لصحة هذا الكلام، وتهربا من المهام المطروحة على عاتق حزب عمالي من هكذا ظرف، يرفض رفع شعار الإضراب العام المفتوح.
° قامت هذه القيادات بمفاوضات، دون أي تقدير لإرادة الشغيلة، وقبلت باتفاقيات مخزية رفضها جميع العمال.
° لم تأخذ هذه القيادات أية مبادرة لتعبئة العمال المضربين، فكانت تكتفي بإبقائهم في المصانع أو بإرجاعهم الى بيوتهم. لا بل عندما كان العمال يأخذون المبادرة باحتلال المباني واحتجاز رب العمل (وقد تم ذلك في عدد من المصانع)، كانت قيادة الاتحاد العام للعمل تستعمل كافة الوسائل لإفشال هذه التحركات.
° لم تتوقف هذه القيادات يوما واحدا عن التهجم على المنظمات الثورية، لاجئة للإرهاب الجسدي في بعض الأحيان. ولكنها لم تنظم العمال للدفاع الذاتي في وجه المجموعات الرجعية وقوى القمع "الشرعية". لا بل لم ترفع شعار حل قوى القمع التي كان النظام يوجهها ضد الطلاب والعمال.
° لم يحاول الحزب الشيوعي قلب ديغول، بل كان أول من وافق على قرار إتمام انتخابات نيابية، كوسيلة للخروج من الأزمة. فبين 24 ماي و30 منه، أدى هروب البرجوازية وإضراب الموظفين في قطاع الدولة، إلى فراغ تام في السلطة، ولكن الحزب الشيوعي رفض الاستفادة من هذا الظرف، مفضلا الاهتمام "بالمعارك" البرلمانية. وقد رفض قيادة تحرك كان باستطاعته أن ينفذ إلى ثورة اشتراكية، من أجل نضال برلماني في سبيل "الديموقراطية المتقدمة" ذات الطابع البرجوازي.
وتجدر الإشارة إلى أن الصحيفة اليومية للحزب الشيوعي، ما عدا بهجماتها المستمرة الموجهة ضد الحركة الطلابية والثورية، لم تحاول تعبئة العمال وتوجيه نضالهم من خلال طرح شعارات ومبادرات سياسية (الذي هودور الصحيفة الثورية الرئيسي ، كونها منظما جماهيريا ) بل اكتفت بالاسلوب الوصفي، ولم تتميزبذلك عن أية صحيفة برجوازية.
إن خيانة قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي كانت العامل الحاسم في إسعاف الرأسمالية الفرنسية من الخراب التي كانت على وشك أن تقع فيه. فالبرجوازية كانت عاجزة عن استعادة المدن والمناطق المتمردة من خلال استعانتها بقوى القمع (خاصة بسبب عطف قطاعات واسعة من الجيش تجاه الحركة الجماهيرية)، فلجأت الى حيلة، وهذه الحيلة لما نجحت لو لا قبول الحزب الشيوعي بشروط اللعبة البرجوازية.
التروتسكيون الفرنسيون وماي 1968
بعد التدهور البيروقراطي في الاتحاد السوفياتي، وانحطاط فروع الأممية الثالثة الذي رافقه، برزت معارضة يسارية في الاتحاد السوفياتي وعلى الصعيد العالمي، حاولت دفع الدولة العمالية والأممية الثالثة نحو المواقع الثورية التي فقدتها. ولكن أصبح واضحا منذ بداية الثلاثينات أن الإصلاح لم يعد ممكنا. فأمام الإفلاس النهائي للأممية الثالثة كأممية ثورية، قررت المعارضة اليسارية إنشاء أممية رابعة ترفع من جديد راية الثورة الاشتراكية العالمية. وأنشئت الأممية الرابعة بالفعل سنة 1938، أي سنة واحدة قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، ما أعاق تطور فروعها المحلية. وبعد الحرب العالمية الثانية، كانت ظروف العمل الثوري قاسية جدا بسبب هدوء الأوضاع الاجتماعية وهيمنة الأحزاب الشيوعية الموالية لموسكو على الطبقة العاملة التي كانت تنظر للشيوعية آنذاك فقط من خلال الحركة الستالينية العالمية.
وفي فرنسا، بقي الفرع المحلي للأممية الرابعة معزولا عن الطبقة العاملة لمدة طويلة، ولكنه بقي محافظا على التراث والتقاليد الماركسية الثورية، مما سمح له بالمشاركة بنضالات جماهيرية عندما أخذت الظروف الموضوعية تتحول لصالح مد ثوري جديد. فكان "الحزب الشيوعي الأممي" (الفرع الفرنسي للأممية الرابعة) أول من شارك في حملات دعم الثوار الجزائريين منذ أواسط الخمسينات (بينما الحزب الشيوعي الفرنسي آنذاك يهاجم "جبهة التحرر الوطني" !).
ومنذ بداية الستينات، برزت معارضة يسارية في القطاع الطلابي للحزب الشيوعي التقليدي، خاصة تحت تأثير المد الثوري في المستعمرات، والخلاف الصيني- السوفياتي ، وتطور الحركة الطلابية الفرنسية .وتوسعت رقعة المعارضة (التي كان يقودها أعضاء ومؤازرون للحزب الشيوعي الأممي)، حتى انشقت عن الحزب الشيوعي عام 1965. وتنظمت تحت اسم "الشبيبة الشيوعية الثورية" ، وكان لها علاقة وثيقة مع الفرع الفرنسي للأممية الرابعة، مما سمح لأعضائها بالتعرف على التقاليد والأفكار الماركسية الثورية التي نجح الحزب الشيوعي في طمسها لمدة طويلة. وسرعان ما نمت هذه المنظمة، خاصة في أوساط الشبيبة، ومنها العمالية.
إن "الشبيبة الشيوعية الثورية" تتميز عن أطراف "اليسار الجديد"، بحيث أنها تنتمي إلى فصيل عمالي ثوري ذي تقاليد نضالية قديمة، بينما الفصائل الثورية الأخرى التي نمت مع المد الجديد، ومنها التي اعتنقت الماوية، ما لبثت، بسبب هجونتها، أن وقعت في الضياع النظري والفوضى التنظيمية.
وكانت "الشبيبة الشيوعية الثورية" من أهم الفصائل التي ساهمت بشكل مباشر في انفجار انتفاضة ماي، ومشاركتها في الأحداث كان عاملا هاما في تصعيد المعركة ضد البرجوازية الفرنسية. فمقابل الخطة الإصلاحية التي رسمها الحزب الشيوعي الفرنسي خلال الأحداث، طرح الحزب الشيوعي الأممي و"الشبيبة الشيوعية الثورية" برنامجا انتقاليا يشكل خطة سياسية للاستيلاء على السلطة. ولكن صوت الثوريين كان لا يزال ضعيفا في الأوساط العمالية والجماهيرية بشكل عام. فبعد أن استطاع دفع نضال الطبقة العاملة، بالرغم من القيادات الإصلاحية القائمة، لم يستطع قيادة هذا النضال وتوجيهه حتى الانتصار الاشتراكي على الرأسمالية. وقد وعت الحركة التروتسكية الفرنسية لأهمية التنظيم الثوري، ليس فقط في ظروف تحضير الثورة، بل أيضا في العملية الثورية نفسها.
فالمؤثمر التأسيسي للعصبة الشيوعية عام 1969 (أنشئت العصبة الشيوعية على اثر حل الحزب الشيوعي الأممي والشبيبة الشيوعية الثورية، من قبل النظام الرأسمالي في يونيو 68)، بعد أن استخلص دروس ماي الأساسية، ركز بالدرجة الأولى على ضرورة بناء تنظيم ثوري متين، قادر على قيادة تحركات الطبقة العاملة باتجاه ثوري. أما الذين كانوا يطرحون ضرورة "الذهاب إلى العمال" بشكل عفوي، غير منظم، فهؤلاء لم يستخلصوا دروس ماي ولم يتوصلوا إلا إلى طريق مسدود.
إن الميزة الأساسية للوضع الفرنسي (لا بل الأوروبي) بعد ماي، تتجلى بفقدان الحزب الشيوعي الهيمنة شبه المطلقة التي كان يحوز عليها في أوساط الطبقة العاملة. فالحركة التروتسكية، بعد عشرات السنين من العزلة والتقوقع، استطاعت انطلاقا من محافظتها على تقاليد الماركسية الثورية طوال هذه الفترة الصعبة، تحقيق التحام صلب مع الطليعة الواعية من الطبقة العاملة. والفرع الفرنسي للأممية الرابعة يشكل اليوم قطبا جاذبا بالنسبة لأقلية أوسع فأوسع من الطبقة العاملة، ولا شك أن المعركة المقبلة ستجد القيادة الثورية التي افتقدت لها انتفاضة ماي.
ماي 1968 والإستراتيجية الثورية في الدول الإمبريالية
بينما كان نضال شعوب البلدان المستعمرة ضد الإمبريالية يعرف تطورا هائلا بعد الحرب العالمية الثانية، بقيت بروليتاريا الدول الإمبريالية، منذ سنة 1946، مشلولة. فكانت تمر سنة كاملة (لا بل سنوات) دون حدوث أي إضراب عمالي في بعض البلدان الرأسمالية المتطورة. وانطلاقا من مقارنة سطحية بين مد الحركة الثورية في المستعمرات وتقلصها في الدول "النامية"، بدأت بعض التحاليل والاستنتاجات تنتشر (وكثير منها متأثر بانتصار الثورة الصينية المرتكزة بشكل شبه محض على الفلاحين –محاصرة الأرياف للمدن-)، يجمع فيما بينها قاسم مشترك ألا وهو التقليل من أهمية دور البروليتاريا في الدول الإمبريالية، لا بل حتى في الدول المتخلفة.
يقول إنجلز: "إن النضال الحقيقي للبروليتاريا يشكل وسيلة النقل الوحيدة الممكنة للاشتراكية". إن التأخر التاريخي الواضح في انتشار الثورة الاشتراكية في الدول الصناعية كان عاملا أساسيا في نبذ هذه الأطروحة من قبل بعض المفكرين والمنظرين وأساسيا فرانز فانون (معذبو الأرض)، ومنظري الحزب الشيوعي الصيني.
يعتبر فانون أن المقدرة الثورية متواجدة بالدرجة الأولى عند الفلاحين الفقراء ومثقفي الدول المتخلفة، وينظر إلى البروليتاريا الصناعية كطبقة ذات امتياز بالنسبة للفلاحين المعدمين. فالثورة حسب رأيه، ستنتصر أولا في بلدان العالم الثالث. أما الدول الإمبريالية فسوف تتبع، بالضبط مثلما البروليتاريا في الدول المتخلفة سوف تتبع الفلاحين الفقراء والمثقفين.
ويحاول العالم الاقتصادي إيمانويل إيجاد ركيزة اقتصادية لهذه الظاهرة (تخلف حركة البروليتاريا في الدول الإمبريالية)، فخلص إلى... مشاركة البروليتاريا الغربية في استغلال الإمبريالية لشعوب العالم الثالث !
وهناك بعض المنظرين لا يشكون بالمقدرة لدى البروليتاريا الغربية بالنسبة للمقدرة الثورية لدى شعوب العالم الثالث فحسب، بل يشكون بهذه المقدرة بحد ذاتها. فهؤلاء النقاد (ماكوز مثلا) يعتبرون أن المجتمعات الاستهلاكية قد استوعبت عمليا البروليتاريا ودمجتها دمجا كاملا بعلاقات الإنتاج الرأسمالية، من خلال مقدرة الطبقة الحاكمة على التلاعب بحاجاتها وأيديولوجيتها.
لقد انطلقت هذه"التنظيرات" كافة من واقع ظرفي محدد دون أخد الظروف التاريخية التي ولدته بعين الاعتبار. فالخلاف مع الماركسية لا يكمن إذن في استنتاجات فحسب، بل أيضا وأساسا في النهج. لذا فإن نظرتهم لتخلف نضال البروليتاريا تتلخص في أن هذا الواقع يشكل حقيقية نهائية ثابتة.
أما إذا حاولنا القيام بتحليل للظروف التاريخية التي أدت إلى جزر في الحركة العمالية في الدول الرأسمالية المتقدمة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فنجد عاملين كانا أساس هذا الجزر.
العامل الأول يتجلى بنمو هائل للقوى المنتجة سمح للأنظمة البورجوازية لمدة حوالي عشرين عاما، بتجنب الأزمات وحالات الركود العميقة، التي لو وجدت خلال هذه الفترة لكانت قد خلقت جوا موضوعيا ملائما لإيقاظ البروليتاريا. ولكن، بالرغم من تواجد هذه الظروف الملائمة للطبقات الحاكمة في الدول الإمبريالية. كان من الممكن القيام بنضالات عمالية واسعة وعميقة لولا وجود عامل آخر، ألا وهو هيمنة القيادات الستالينية والاشتراكية-الديموقراطية (التي تتماثل على حد سواء بالإصلاحية والانتهازية) على النقابات العمالية والحركات العمالية بشكل عام. فهدف القيادات اكتفت ولا تزال، بطرح مطالب آنية وشعارات حد أدنى، يسهل على طبقة حاكمة تحقق أرباحا طائلة تلبية جزءا منها، وبالتالي تنفيس وإحباط أية محاولة نضال فعلي ضدها.
إن هذين العاملين ليسا إلا عاملين ظرفيين، لا يمسان أبدا جوهر النظرية الماركسية التي تعتبر البروليتاريا الطبقة الثورية موضوعيا، أي وبتعبير آخر، الطبقة المؤهلة موضوعيا للإطاحة بالنظام الرأسمالي وإنشاء المجتمع الجديد على أنقاضه. وبالفعل، فالنظام الرأسمالي عاجز عن حل تناقضاته الجوهرية، وأساسيا التناقض ما بين حاجات تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج الرأسمالية الجامدة. لذا، فإن أي نمو للاقتصاد الرأسمالي لابد من ان يؤدي في آخر المطاف الى ازمة اقتصادية . اما بالنسبة لهيمنة القوى الإصلاحية على الحركة العمالية، فلا بد للطبقة العاملة من أن تتخلص منها من خلال نضالها ونضوج وعيها.
وأتت انتفاضة ماي الفرنسية لتؤكد عمليا على صحة النظرية الماركسية في عصرنا، وأن المجتمع الرأسمالي الاحتكاري الحديث، بالرغم من الظواهر لا يختلف جوهريا عن النظام الرأسمالي الذي حلله ماركس في القرن التاسع عشر.
وجدير بالذكر أن الاقتصاد الرأسمالي العالمي قد عرف منذ بداية الستينات حالات ركود عديدة وضعت نقطة النهاية بالنسبة للنمو الهائل والمستمر الذي عرفه منذ حوالي عشرين عاما. وعلى صعيد آخر، أدى الخلاف الصيني-السوفياتي إلى انشقاق في الحركة الشيوعية العالمية، وإلى إزالة الهيمنة المطلقة للحركة الشيوعية التقليدية (الستالينية) على الطبقة العاملة. فتعدد "أقطاب الشيوعية" سمح لمنظمات ثورية أن تنشأ وتتطور، وخاصة في أوساط الشبيبة. ولكن هناك عوامل أخرى أدت إلى انتشار الحركة الجماهيرية ومهدت لأحداث ماي. فتذمر الشبيبة (الطلابية خاصة) من الإيديولوجية الحاكمة المتعفنة، والتي تصطدم يوميا بالواقع الحي، ادى إلى تحسس تناقضات المجتمع الرأسمالي، وإلى القيام بنضالات عنيفة جدا. سواء لدعم كفاح هذه الشعوب أم لطرح مشاكل خاصة بالمجتمع الفرنسي.
وأتت أحداث ماي 1968 لتتوج هذا النمو في النضالات الطلابية والعمالية، بحيث أن الساحة الفرنسية شهدت أعنف اضرابات عمالية في تاريخها (إضراب عام شمل عشرة ملايين شغيل). فالعمال، بالرغم من إرادة و"نصائح" القيادة النقابية والأحزاب الإصلاحية، استطاعوا أن ينهضوا، وبهذه الوقفة أسقطوا نهائيا "التنظيرات" المتشائمة بالنسبة لمقدرتها الثورية.
وإذ نعتبر أن انتفاضة ماي لا تشكل شذوذا عن القاعدة، بل على عكس ذلك خطوة هامة على طريق انتصار الثورة الاشتراكية في الدول الإمبريالية، علينا أن نكشف نواقص ماي على ضوء الإستراتيجية الثورية التي رسمها ماركس بالنسبة للدول الرأسمالية المتقدمة.
في محاضرة ألقاها سنة 1969 حول الإستراتيجية الثورية في الدول الإمبريالية، وضع ارنست ماندل شرطين أساسيين لوجود استراتيجية ثورية في البلدان الصناعية المتقدمة: وجود أزمة تاريخية بنيوية للنظام الرأسمالي العالمي، ووجود قوة ثورية لدى الطبقة العاملة.
يقول ماركس: "عندما تبلغ قوى المجتمع المنتجة المادية درجة معينة في تطورها، تدخل في تناقض مع علاقات الإنتاج القائمة، أو مع علاقات الملكية –وليست هذه سوى التعبير الحقوقي لتلك- التي كانت الى ذلك الحين متحركة ضمنها. فبعدما كانت هذه العلاقات أشكالا لتطور القوى المنتجة، تصبح قيودا لهذه القوى، وعندئذ ينفتح عهد ثورات اجتماعية."
إن أهمية هذا التحديد لعصر الثورة الاجتماعية تكمن في أنه لا يحصر إمكانية الثورة بحال انفجار أزمة اقتصادية كنتيجة لاحتدام التناقض بين تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج. والذين لم يفهموا هذه الأطروحة وقعوا في انحرافات تجلت أساسا بتحاليل سطحية للنظام الرأسمالي. فالتناقض الأساسي في عصرنا يؤدي إلى نزاع يتجلى بعدم إمكانية حل أية مشكلة اقتصادية أساسية تعاني منها الجماهير ضمن إطار النظام الرأسمالي الإمبريالي، ومن ناحية أخرى، بعدم إمكانية استيعاب تطور القوى المنتجة.
إن الظروف التاريخية الموضوعية لإتمام ثورة اجتماعية، ناضجة تماما مهما كان الازدهار أو النمو الظرفي الذي يعرفه النظام البرجوازي في فترات محددة، لأن هذا النمو بالضبط، لا يحل أبدا التناقضات الأساسية بل يزيدها تعميقا. وقد برهنت انتفاضة ماي بالفعل، على أن عصر الثورة الاشتراكية ليس محصورا بالأزمات التي يعيشها النظام الرأسمالي، إذ أنها لم تندلع في ظروف أزمة اقتصادية، بل على العكس من ذلك، في فترة نمو أتت بعد حالة ركود نسبية سنة 1967.
إن الطبقة العاملة ، بالرغم من الارتفاع النسبي لمستوى معيشتها في الدول الإمبريالية، تعاني من استغلال فاحش ازدادت نسبته بشكل هائل منذ الحرب العالمية الثانية، وهي الضحية الأساسية لتناقضات الرأسمالية المعاصرة. وهي لا تزال إذن الطبقة الثورية موضوعيا في عصرنا.
وهذا التحليل يلقي ضوءا ساطعا على مدى خيانة الأحزاب الستالينية لقضية الطبقة العاملة. فهي لم تحاول مرة واحدة تعبئة البروليتاريا في سبيل نضال فعلي ضد سلطة الرأسمال، بالرغم من توفر بعض العوامل الموضوعية المؤهلة لهكذا نضال خلال فترات تاريخية محددة (فترتي 1936 و1945 في فرنسا مثلا).
وأتى الإضراب العمالي العام في ماي 68 كنتيجة لعوامل عديدة ومختلفة: فمن الحرب الشعبية في المستعمرات (الجزائر، فيتنام)، إلى نضال الطلاب ضد النظام الفرنسي، مرورا بالظروف المعيشية المتردية، كافة هذه العوامل كان لها تأثير مباشر على تصرف العمال طوال هذه الفترة. ولكن العامل الأساسي يبقى تذمر العمال من النظام القائم الذي أدى بهم إلى رفع شعارات سياسية (طرد ديغول مثلا) وعدم اهتمام نسبي بالشعارات المحض اقتصادية (بعض المصانع أعلنت الإضراب قبل أن تطرح مطالبها، وذلك تعبيرا عن عدم ثقة العمال بالنظام القائم). ولكن بالرغم من المبادرات الثورية الإيجابية التي قامت بها الطبقة العاملة، بقيت رازحة تحت هيمنة القيادات النقابية والحزب الشيوعي، إلا في بعض الحالات تخطت فيها هذه القيادات، ولكن سرعان ما عادت من جديد تحت سيطرتها لعدم وجود قيادة ثورية قادرة على جذبها وتعبئتها. فالعمال الذين حققوا اضرابا عاما بشكل عفوي وطرحوا مطالب وشعارات سياسية متقدمة، لم يستطيعوا نيل أي مكسب على الصعيد السياسي، وهذا طبيعي إذ أن "الإضراب العام يطرح مسألة السلطة ولا يحلها".
إن الحزب البروليتاري الثوري هو الذي يستطيع، في ظرف إضراب عام، حسم ازدواجية السلطة باتجاه انتصار الثورة: فكان على هذا الحزب (لو وجد) أن يطرح شعارات انتقالية تسمح بربط وعي العمال المتخلف بالمهام الملحة المطروحة على الانتفاضة، وأن يدفع العمال باتجاه إنشاء هيئات خاصة بهم (لجان إضراب منتجة تضم عمالا منتسبين أو غير منتسبين إلى نقابة) وأساسا هيئات للرقابة العمالية على الإنتاج، تمهيدا لإنشاء مجالس عمالية تسيطر نهائيا، ليس على المصانع فحسب ، بل على كافة المراكز الاقتصادية والعسكرية والسياسية الرئيسية.
إن برنامج منظمات الأممية الرابعة في الدول الإمبريالية يتميز عن برنامج الأحزاب العمالية الأخرى (وفي طليعتها الستالينية) بأن برنامجها لا يقتصر على شعارات ومطالب حد أدنى بل يشكل برنامجا انتقاليا يستوحي من البرنامج الانتقالي الذي صاغه تروتسكي ومن مؤتمرات الأممية الثالثة في أيام لينين (المؤتمرات الأربع الأولى). هذا البرنامج الانتقالي ينطلق من مستوى وعي البروليتاريا ويطرح شعارات ومطالب تتفهمها أوسع جماهير الشغيلة التي، من خلال نضالها من أجل تنفيذ هذه المطالب تتوصل إلى النضال من أجل السلطة. ويتوج هذا البرنامج في الدول الإمبريالية، طرح شعار الرقابة العمالية، شرط أن يخلو هذا الطرح من الأوهام حول إمكانية تحقيقه ضمن النظام الرأسمالي (إلا في حالة مؤقتة تتجلى بازدواجية السلطة).
هذا الموضوع تنقصه بضعة اسطر ، وهي غير موجودة في النص الاصلي