هايل نصر
الحوار المتمدن-العدد: 2528 - 2009 / 1 / 16 - 09:34
المحور:
القضية الفلسطينية
الملايين في مشارق الأرض ومغاربها, في شوارع القارات الخمس. عرب مسلمون ومسيحيون, وحتى بعض اليهود, وممن لا يدينون بدين. أنصار الإنسانية والإنسان أينما كان, بغض النظر عن دينه وعرقه ولونه, الإنسان كما خلقه الله. عمال , طلاب, مثقفون, مفكرون, وحتى أميون. يطالبون بوقف المجازر. يدينون البربرية والوحشية في قتل الأطفال والنساء والشيوخ بكل الأسلحة, بما فيها المحرم دوليا, وتدمير كل معالم الحياة باستخفاف همجي بالأرواح وبالقيم الإنسانية.
ــ مظاهرات الشعوب في الغرب, والأمريكيتين, لم يخرج فيها أي متظاهر مرغما, ولم يُجند أحد لها, ولم تفرض عليها شعارات وهتافات وتلويح بصور زعماء. مظاهرات عفوية دعت إليها منظمات المجتمع المدني, والمنظمات الحقوقية, والمهتمة بحقوق الإنسان. والنقابات المهنية, والعمالية, وبعض الأحزاب السياسية, والمثقفون والمفكرون. واستجابت لها الملايين ولأيام متواصلة. فالقضية بالدرجة الأولى عند الجميع قضية إنسانية. مجازر ترتكب ضد الإنسانية المنتسب لعضويتها كل البشر على هذه البسيطة. مجازر يقوم بها مجرمون محترفون مغتصبون حقوق المالك الحقيقي لأرضه الذي يُذبح فوقها. ملايين الحناجر تهتف بإدانة المجرمين. و تدين التواطؤ ومحاباة إسرائيل من قبل حكومات هؤلاء المتظاهرين. إدانات صريحة, ومواجهات بالأدلة الدامغة. ففي سماء باريس وكل المدن الفرنسية الكبرى ــ على سبيل المثال لا الحصر, حيث نسمع ونرى بأم العين ــ تدوي أصوات مئات ألآلاف من المتظاهرين لتردد: ليفني قاتلة ساركوزي شريك. إسرائيل مجرمة وأوروبا متواطئة. بوش الإرهابي الأكبر. لا للانتهازية والكيل بمكايلين. شعارات سمعتها الشعوب العربية في كل مكان عبر وسائل الإعلام.
مظاهرات لا تريد أن تبقى صراخا في الهواء وإنما تسعى, في ايطاليا مثلا, لان تتجسد بمطالب ومواقف فعلية مادية: دعوات لمقاطعة البضائع الإسرائيلية. وفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل الشريكة لأوربا, تفعيلا للاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان. والملاحقة القضائية لكل أصحاب القرار ومرتكبي المجازر من الإسرائيليين.
مظاهرات الشعوب الحرة في الغرب أعادت طرح القضية الفلسطينية بشكل لم تطرح به من قبل, ومنذ نكبة فلسطين عام 1948 . وأعادت تحميل سياسات دولها جريمة العصر غير المنتهية. وحين تُذكّر بأن هذه الشعوب حين وقفت مع اليهود, في أيام محنتهم, وقفت معهم لأنهم كانوا ضحايا ومضطهدين من النازية, ولكنها لم ترد بذلك خلق نازيين جدد. ولا بان تصبح هي نفسها مضطهدة من قبلهم بتحميلها وزر النازية, وابتزازها ماديا وسياسيا ومعنويا إلى ابد الآبدين, وإرهابها بتسليط تهمة العداء للسامية على كل شريف ينتقد سياسة إسرائيل, حتى ولو كان يهوديا.
مظاهرات تطالب بفك الحصار عن الشعب بغزة, ليس بمجرد هتافات تتطاير في الهواء وتتلاشى فيه, وإنما بمواقف تتمثل بتحد للحصار القاتل, وتطوع مؤيدين للذهاب لغزة, و إرسال سفن, ومشاركة أطباء, و إقامة معارض صور, ومحاضرات وندوات لتعبئة دائمة لمساندة المحاصرين وإدانة كل المتواطئين.
مظاهرات لا تنصر فصيلا فلسطينيا على آخر. ولا تساند فئة دون غيرها من الفئات ( التي لا يعلم حتى الفلسطينيون أنفسهم عددها, وأهدافها, ومطالبها, ووجوه الاتفاق والخلاف بينها) وإنما هي نصرة لشعب, بكل مكوناته, يذبح بيد جزار وحشي.
مظاهرات تساند أطفال ونساء وشيوخ فلسطين, دون أن يعرف الكثير من المتظاهرين الشباب ما يكفي عن القضية الفلسطينية , بما فيها التاريخي والإنساني, ولحسن الحظ لا تصلهم المعرفة من أي من تلك الفصائل والمنظمات, ولا تصلهم مرافعات الدول العربية عنها, المتعددة بتعدد أعضاء الجامعة العربية, والمتناقضة بتناقضاتها.
مظاهرات لتعبئة الرأي العام في العالم الغربي لإعادة الحق لنصابه والمواقف إلى عدالتها. وللرأي العام في الغرب وزنه وأثره حاضرا ومستقبلا. رأي عام حاول الإسرائيليون بكل ما يملكون من وسائل لكسبه وتوجيهه والتأثير فيه على مدى عمر القضية الفلسطينية. وحاولنا نحن العرب بكل ما لدينا من غوغائية أن نبتعد عنه, و نبعده عنا, غير مهتمين به, لأننا لم نكن في أي يوم رأيا عاما في بلداننا, ولا نعرف ما هو الرأي العام. فالرأي رأي الحكام وأولي الأمر فينا, ممن لا يهمهم رأينا ولا أمرنا, وقبلنا نحن أن لا نكون رأيا أو أمرا.
ــ المسيرات العربية حاشدة غاضبة مستنكرة, القليل من المشاركين فيها اقل حماسا من أصحاب القضية. مسيرات عرفتها كل العواصم والمدن الكبرى في العالم العربي. مسيرات يشارك فيها الرجال والنساء من كافة الأعمار.
مسيرات يعبر فيها المشاركون وبصدق, كلما استطاعوا, عن مشاعرهم المكبوتة, وعن غضبهم المتقد الذي لا يراد له أن يكون غضبا مقرونا بالفعل, وعن استنكارهم لوحشية العدو دون كلمة عن المتواطئين معه إيجابا أو سلبا. وعن مساندتهم, التي لا تجد لها سبيلا, للوصول لإخوتهم في المحنة.
مسيرات, لتبقى تحت السيطرة, تُخطط لها طرق المسير, ومحطات التوقف, وساحات الوصول, وترافقها قوى الأمن على جانبيها, ومن حولها, ومن المنافذ الخلفية و الفرعية. و بين صفوفها تندس كل أنواع المخابرات. تُكتب لها الشعارات والهتافات. ويحمل الناشطون فيها ــ الأكثر نشاطا, والأكثر حملا للهموم الوطنية والقومية, حماة الأوطان, والأكثر انفعالا بما تتعرض له غزة ــ صورا للزعماء يلوحون بها, وكأنهم يحتفلون بأعياد النصر المحقق على أيدي هؤلاء الزعماء القادة.
مسيرات يريد الزعماء القادة تعهدها والتزامها و تجييرها لصالحهم, وعلى حساب الدم الفلسطيني. ظواهر نشأت إلى جانب النكبة منذ نشأتها, ورافقتها وكأنها إفرازات لها.عاشت على حسابها أنظمتهم غير الشرعية , ومنها أرادت استمداد سيادة ومشروعية. وباسمها تسلطت على شعوبنا وقمعت كل أنواع الحريات, قمعت الإنسان العربي وحقوقه وحرياته, ولم تترك صوتا يعلو على صوت المعركة. المعركة التي يتفرج عليها اليوم الزعماء, المشهود لهم, قادة شعوبهم وجيوشها, كما تفرجوا على مثيلاتها منذ عقود وعقود, مكتفين بلعن مرتكبيها, والدعاء عليهم بكل أنواع الدعاء, لينتقم منهم رب العالمين اشد انتقام, وهو أعظم المنتقمين.
مسيرات مضمونة, لا يمكنها الخروج على "النظام العام" ولا تعكر صفوه. كلما ما يراد منها تنفيس طاقات غضب المشاركين فيها في الساحات العامة المسيجة, وفي حرم الجامعات والمساجد. مسيرات يُحرق العلم الإسرائيلي في نهايتها قبل انفضاض المشاركين, فترتاح الضمائر, وتستكين المشاعر.
مسيرات اخطأ بعض مسيريها العدو, وأرادوها فرصة لتصفية الحسابات البينية . وبلغت بالبعض البهلوانية, في هذا الظرف العصيب الدامي, تحميل الجامعة العربية المغلوبة على أمرها لغُلب دولها المكونة لها, كل المسؤولية المباشرة و التقصيرية, فحمل المتظاهرون مجسدا يرمز لنعشها وطافوا به ساعات في شوارعهم. وبعد أن أبت عليهم ثوريتهم ووطنيتهم دفنه في أرضهم الطاهرة خوفا من التدنيس, رموه في البحر دون رحمة, نهشا للأسماك, وسط الهتافات الغاضبة للجماهير. مهازل في وقت تُسفح فيه دماء الأطفال الأبرياء والشيوخ, والنساء. ابتكارات عربية في فنون المقاومة والتصدي والصمود لا تدخل عقل عاقل. و لو قيض الله, للحظات, بعث الحكام العرب السابقين في نكبة الثمانية والأربعين, المسومون بالتخاذل والخيانة العظمى, فأي قول سيقولون في حكام العرب الحاليين في قرننا الواحد والعشرين؟.
مسيرات لا تفكر بالتنسيق مع مظاهرات الغرب لضمان استمراريتها, و جدواها, وتحويلها لأفعال ومواقف ومطالب, آنية ومستقبلية, وملاحقات قضائية للمجرمين, وإعادة الطرح السليم للقصية من أصولها في المحافل والمحاكم القارية والدولية طلبا للعدالة.
فالغرب الشعبي فعال وصاحب قرار وزاخر بالأفكار. ونحن أصحاب القضية, وتفاعلاتها تدخل في دقائق حياتنا اليومية والمستقبلية.
وأخيرا
الم يحن الوقت بعد لتحويل غضبنا, في تظاهراتنا, من التسيير والتأطير إلى حرية التعبير؟.
ألم يحن الوقت بعد لنرفض الحجر علينا, ونرفع الوصاية عنا؟.
الم يحن الوقت, بعد تجاربنا وتاريخنا المرير, لنسعى لتقرير المصير؟.
#هايل_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟