أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - صبحي حديدي - العروس ترتدي الحداد














المزيد.....

العروس ترتدي الحداد


صبحي حديدي

الحوار المتمدن-العدد: 775 - 2004 / 3 / 16 - 09:45
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


ليست هذه الزاوية المقام المناسب لاستقصاء الخلفيات السياسية لما جرى في مدينة القامشلي، السورية الشمالية، من أحداث دامية نهار الجمعة الماضي. أكتفي هنا باقتباس جملة واحدة من نداء عاجل أصدرته الأحزاب السياسية السورية المعارضة، إسوة بأحزاب كردية، ومنظمات وجمعيات وهيئات حقوق الإنسان والمجتمع المدني: "بديهي أنّ مثل هذه الأحداث ما كان لها أن تتطوّر بهذا الشكل المأساوي إلا بفعل تفاقم حالة من الاحتقان السياسي والاجتماعي في البلاد، ناجمة عن غياب الحياة الديمقراطية واحترام الحريات العامة، بما في ذلك إهمال حقوق الكرد السوريين، وغياب المساواة بين المواطنين أمام القانون".
تشدّني، في المقابل، رغبة عارمة في امتداح المدينة التي شهدت المأساة، وهي اليوم محاصرة أو تكاد حسب معظم التقارير المحايدة، وتخيّم عليها أجواء مقيتة أمنية ناجمة عن انتشار الجيش في شوارعها، وأخرى بغيضة اجتماعية تصنعها طواحين الإشاعات الرهيبة، من طراز تلك الإشاعة المفزعة التي سادت قبل يومين، حول تسميم مياه الشرب في المدينة! ولا تفوتني الإشارة إلى أنّ القامشلي مسقط رأسي، فيها ولدت وكبرت وشهدت حفنة من أبهى وأجمل سنوات حياتي، وما كنت سأغادرها في أيّ يوم إلا ضمن سياق واحد وحيد: مكرَهاً ومبعَداً وطريداً! أهي، إذاً، شهادة مطعون في صدقيتها؟ لا أتردد في الإجابة بالنفي، ليس لأنّ شهادة الوليد عن مسقط رأسه متطهرة من الانحيازات، إذْ أنّ العكس هو الصحيح وهو الطبيعي المنطقي، بل لأنّ الشهادة في خصوصية هذه المدينة السورية محطّ إجماع واسع لدى كلّ مَن أقام فيها، وكذلك لدى سواد أعظم من السوريين الذين لا يعرفون عنها إلا ما سمعوه من زائريها وأهلها.
والقامشلي مدينة صغيرة تقع في أقصي الشمال الشرقي من سورية، وادعة جميلة، نابضة بالحياة، صاخبة على عكس ما توحي به جغرافيتها واقتصادها وتاريخها وهندستها الاجتماعية ـ الاقتصادية. يخترقها نهر صغير بهيّ غريب الاسم، "جغجغ"، يسيل إليها قادماً من تركيا في الشتاء والربيع، ثمّ يجفّ صيفاً بالمعنى الحرفي للجفاف، ما خلا حفنة سواقٍ هنا أو أحواض عميقة هناك. تأسّست في عشرينيات هذا القرن لكي تكون محطة زراعية تخدم مواسم زراعة وحصاد القمح والشعير وبعض القطن، وسرعان ما أصبحت "عروس الجزيرة"، المنطقة التي سُمّيت هكذا بسبب وقوع سهولها المنبسطة الخصبة بين نهرَي الفرات ودجلة.
والموقع الجغرافي لهذه المنطقة يفسّر تنوّعها الإنساني والثقافي واللغوي والإثني: من الشمال تحدّها جبال طوروس، ومن الشرق كردستان والعراق، ومن الجنوب بادية الشام وتدمر، ومن الغرب امتداد سورية حتى مدينة حلب والساحل السوري. وبالمعنيين السوسيولوجي والإقتصادي كانت علاقة البشر مع المواسم الزراعية قد جعلت منطقة الجزيرة ، وبالتالي مدينة القامشلي بوجه خاصّ، تنفرد عن بقية المناطق السورية في أنّ معظم سكانها خليط ثنائي التركيب: إمّا من الوافدين الذين قَدِموا من مناطق الداخل السوري بحثاً عن العمل الموسمي ثم استقرّوا، أو من المهاجرين الذين توافدوا من تركيا والعراق وأرمينيا هرباً من الإضطهاد العرقي أو السياسي.
ذلك جعل القامشلي موطناً لأقوام من الأكراد واليزيديين والأرمن والسريان والآشوريين والبدو الرحّل والعشائر المستوطنة الإقطاعية، الأمر الذي استدعي تعدّدية أخرى علي صعيد اللغات والأديان والمذاهب والتراثات والأساطير. وشخصياً كنت أتكلم الكردية مع أصدقائي في المدرسة والشارع، رغم أنني لست كردياً. واليوم، ورغم آثار السنين وانعدام الممارسة وضعف الاحتكاك، فإنني ما أزال قادراً على فهم هذه اللغة، واستخدامها بما يكفي لصياغة جملة مفيدة مفهومة. كذلك كنت أرطن ببعض السريانية، وبعض الآشورية، وأفهم الكثير ممّا يُقال أمامي باللغة الأرمنية. وفي سنوات الصبا كنّا، نحن المسلمين، نستضيف أصدقاءنا المسيحيين (على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم) في مسجد المدينة الكبير حيث يجري الاحتفال بعيد المولد النبوي. ومن جانبهم كانوا يستضيفوننا في احتفالات عيد الميلاد، فندخل كنائسهم لا كالغرباء أبداً، ويحدث أيضاً أن نشارك في بعض شعائرهم!
مختلف حكومات حزب البعث، ومنذ استلامه السلطة سنة 1963، تكفّلت بالإجهاز علي الكثير من أخلاقيات التعدّد الراقية هذه، أو رسّخت نقائضها علي نحو منهجي مقصود. وتمّ ذلك ضمن سياستَين: ممارسة العديد من أشكال التمييز ضدّ الأكراد؛ واللعب علي حساسيات طائفية ومذهبية بين المسلم والمسيحي أو حتى بين المسلم والمسلم، وإيقاظ ما كان منها خاملاً نائماً، وإحياء ما اندثر وانطوي. أفهم، بالتالي، غليان الشارع الكردي إزاء أحداث دامية كهذه التي وقعت في القامشلي، وأتفهمّ الكثير من ذهاب ردود الأفعال إلي حدود قصوى. ولكني لا أفهم، ولا أقرّ البتة، أن يحرق كردي العلم السوري في القامشلي! هذا ليس علم البعث، طبعاً، وثمة كرد كبار ساهموا في صناعته قبل وأثناء وبعد معارك الاستقلال، وإحراقه إساءة مباشرة إلى نضالاتهم.
ذلك، في كلّ حال، لن يبدّل حقيقة أنّ "عروس الجزيرة" ترتدي اليوم ثوب الحداد... وعسى أن لا يكون القادم عليها أعظم وأدهى!



#صبحي_حديدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قد تصطبغ بلون الدماء حين يخرج جياعها إلي الشارع: روسيا التي ...
- تهذيب العولمة
- المواطن الأول
- ليس بعدُ جثة هامدة ولكن احتضاره ثابت وفي اشتداد حزب البعث بع ...
- تكريم إيهاب حسن
- الفنـّان والسـفـود
- دانييل بايبس الأحدث: يوم فالنتاين معركة حول -روح الإسلام-!
- اتفاقية سلام سورية – إسرائيلية: ما أبعد البارحة عن اليوم!
- معيار الفسيفساء
- تركيا: حوّلت الجار السوري إلى شرطي حراسة ساكت عن الحقّ
- قصور كرتون العولمة: حين ينقلب البشر إلى كلاب من قشّ
- بوش في -حال الإتحاد-: تلويحة القيصر.. ابتسامة الإمبراطورية
- راباسّا: أعظم الخونة!
- معارك إيران السياسية: لا مناص من انتصار الإصلاحيين
- حكاية مكتبة
- جمهورية ثانية- في جورجيا: ذهب المافيوزو وجاء البيدق!
- صانع الشرائع
- سورية في العام الجديد: لا بشائر خير والقادم أدهى
- مديح الجندي رايان!
- الفيلسوف والحرب


المزيد.....




- خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
- النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ ...
- أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي ...
- -هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م ...
- عالم سياسة نرويجي: الدعاية الغربية المعادية لروسيا قد تقود ا ...
- إعلام: الجنود الأوكرانيون مستعدون لتقديم تنازلات إقليمية لوق ...
- مصر.. حبس الداعية محمد أبو بكر وغرامة للإعلامية ميار الببلاو ...
- وسائل إعلام: هوكشتاين هدد إسرائيل بانهاء جهود الوساطة
- شهيدان بجنين والاحتلال يقتحم عدة بلدات بالضفة
- فيديو اشتعال النيران في طائرة ركاب روسية بمطار تركي


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - صبحي حديدي - العروس ترتدي الحداد