|
ذكريات ادبية
شاكر خصباك
الحوار المتمدن-العدد: 2523 - 2009 / 1 / 11 - 09:46
المحور:
سيرة ذاتية
سيرة حياة الطبعة الأولى 1996 الحوار قال الباحث الشاب وهو يدير آلة التسجيل في مكتب الأديب الشيخ: والآن حدثني يا سيدي عن كل شخص أو حدث أو كاتب أو كتاب أثّر في حياتك الأدبية. فأيّ ومضة من هذه الومضات قد تعينني في بحثي عنك. قال الأديب الشيخ وهو باسم الوجه: سيكون حديثي إذن متصلاً بالمراحل المبكرة من حياتي. فأنت تعلم أن الحياة الأكاديمية شغلتني قبل أن أنهي العقد الثالث من عمري. قال الباحث: ليكن. فأين البداية إذن يا سيدي؟
مجلة "سمير التلميذ" وكامل كيلاني قال الأديب الشيخ وهو يطلق نظرات حالمة: البداية هي مجلة "سمير التلميذ" المصرية يا صديقي. فقد عرفتها وأنا في السنة الثالثة من الدراسة الابتدائية ففتنتني، آي يوم كنت في الثامنة من عمري. فأنت تعلم بالطبع أنني من مواليد 1930. وكانت أول حلقة من حلقات اتصالي بدنيا الأدب والقصة. ومن المؤسف أنني لا أتذكر المسؤول عن تحريرها لكنه أسدى بلا شك خدمة جلّى إلى أدب الأطفال. وكانت تشتمل في معظمها على حكايات معربة عن الأدب العالمي.
وقد شغفت بتلك المجلة شغفاً عظيما. فكنت أفضّل قراءتها على أداء واجباتي المدرسية. وأستطيع القول أنها كانت معلمي الأول في القصة. وأنا مدين بمعرفتي لهذه المجلة وبالتالي بتوجيهي نحو القصة إلى أخي المرحوم الدكتور جعفر أستاذ التاريخ السابق الذي كان يحرص على إحضارها لي في مطلع كل أسبوع. ولم يصرفه عن ذلك ولعي الشديد بها وتفضيلها على دروسي. لكنني كنت في الحقيقة تلميذاً متميزاً في جميع مراحل دراستي في الابتدائية والثانوية ولم يكن ولعي بالأدب يصرفني عن دروسي. سأل الباحث الأديب الشيخ: ولكن ألم يكن هناك من مجلات أو كتب أخرى يومذاك للأطفال يا سيدي؟ أجاب الأديب الشيخ: لم تكن البلاد العربية قد عرفت يومذاك المطبوعات أو الكتب الخاصة بالأطفال، وخصوصاً المؤلفة من قبل كتّاب عرب. والحقيقة أن أدب الأطفال لا يزال مهملاً حتى اليوم من قبل كتّابنا ولم يكرّس أيّ كاتب جهده في هذا الميدان. ولعل أول الكتّاب العرب الذين عنوا عناية خاصة بالكتابة للأطفال هو المرحوم كامل كيلاني الذي كتب قصصاً جميلة للأطفال وأصدر مجموعة طيّبة منها. ولست مبالغاً إن قلت إنه الأب الشرعي لأدب الأطفال في لغتنا العربية. وكانت قصصه جملية ومشّوقة وتتضمن العبر الراقية التي تؤثر في خلق الطفل وأفكاره وهو أمر ذو أهمية بالغة. وكان بعضها مقتبساً من القصص المشهورة في الأدب الغربي. وكان كامل كيلاني مّطلعاً ولاشك على أدب الأطفال في اللغات الغربية. وكما قلت فإن هذا النوع من الأدب قد لقي في وقت مبكر في الغرب اهتماماً كبيراً وبرز فيه أدباء مشهورون. ولعل من أجمل ما كتب في هذا الميدان هي قصص الكاتب الدانماركي كريستيان هانس أندرسون التي نشرها في القرن التاسع عشر. ولقد اشتملت على حكايات وأساطير مشوقة تناسب ذوق الأطفال وتتضمن العبر الخلقية الراقية. وبرز في فرنسا في القرن السابع عشر كاتب مشهور في أدب الأطفال هو لافونتين ونالت قصصه صيتاً بعيداً. وظل أدب الأطفال حتى اليوم يلقى عناية كبيرة في الغرب. ولكن يؤسفني أن أقول أن هذا النوع من الأدب أخذ يشذ عن مساره الأصلي ويفقد أهدافه التربوية. وقد غلب على الكثير منه الطابع التجاري وخصوصاً في أمريكا. وقد أثّر عليه تأثيراً سيّئاً "التلفزيون" وعلى نحو الخصوص الاختراع الذي ابتدعه والت ديزني (أفلام الكارتون). وقد بدأت أفلام الكارتون بأقاصيص جميلة تنطوي على الأهداف النبيلة ثم انتهت في أواخر القرن العشرين إلى أقاصيص رديئة يهدف أغلبها إلى تمجيد القوة والدعوة إلى العنف. ولقد أخذ هذا النوع من أدي الأطفال الغث يتسرب إلينا عن طريق ترجمته إلى اللغة العربية وفاضت أسواقنا به. وبقي كتّابنا القصصيون الناجحون بمنأى عن هذا الميدان مع أن لدينا منبعا ثراً يمكن الاقتباس منه مثل "كليلة ودمنة" و "ألف ليلة وليلة" والسير البطولية والإسلامية المعروفة ولم يلتفت أدباؤنا إلى هذا النوع من الأدب ويأخذونه مأخذ الجد إلاّ في حالات قليلة. وصمت الأديب الشيخ فقال الباحث: أنا أتفق معك يا سيدي كل الاتفاق في رأَيك هذا. ويؤسفني فعلاً أن يحجم أدباؤنا عن اقتحام هذا الميدان الهام. وإذا كانوا معذورين في أوائل هذا القرن أو منتصفه بسبب ضيق نطاق التعليم وقلة عدد القراء من الأطفال العرب فليسوا معذورين اليوم. وهم بإحجامهم عن الكتابة للأطفال يتيحون المجال لانتشار أدب الأطفال الغث المترجم عن اللغات الأجنبية والذي يوجّه الأطفال توجيهاً سيئاً. وعلى كل حال فقد بدأ بعض كتّابنا مؤخرا يقبلون على كتابة أدب الأطفال.
حكايتي مع الشعر وسكت الباحث الشاب لحظة ثم أضاف مبتسماً: ولكن إسمح لي يا سيدي أن أسألك إن كانت اهتماماتك بالقصة منذ طفولتك المبكرة هي المسؤولة عن صرفك عن فروع الأدب الأخرى... أعني الشعر على نحو الخصوص؟! ضحك الأديب الشيخ ضحكة خفيفة وقال: أنت محق في ذلك فأنا بالفعل لست شغوفاً بالشعر. قاطع الباحث الشاب الأديب الشيخ مستنكراً: أتعني أنك لست من قرّاء الشعر يا سيدي؟ فسارع الأديب الشيخ يقول: معاذ الله.. وهل يستغني أديب عن قراءة الشعر؟ بل هل يستغني مثقف عن قراءته؟! إنه ملح الحياة. ويسرني أن أخبرك أن معظم شعرائنا الكبار من الشيوخ والشباب كانوا من أصدقائي من أمثال السياب والبياتي وبلند الحيدري وسعدي يوسف. وصمت الأديب الشيخ وسرحت عيناه ثم قال: أتدري يا صديقي؟ أعتقد أن واحدة من غرائز الإنسان هي تذوق الفنون على اختلافها، فلا وجود لإنسان مهما كان بدائياً لا يتذوق الفن في شكل من أشكاله أكان غناء، والغناء ليس سوى شعر، أم رسماً ونحن نعلم أن جدران كهوف الإنسان البدائي حافلة بالرسوم، أو حكايات ونحن نحب الحكايات منذ طفولتنا. فكيف تتوقع مني ألا أقرأ الشعر؟ لكنني لست شغوفاً به شغفي بالقصة، ولا أملك إمكانات نقده شأني مع القصة، على الرغم من قراءاتي الواسعة فيه. تساءل الباحث مبتسماً: هل لي أن أسأل عن السبب يا سيدي؟ أجاب الأديب الشيخ بلهجة مزيجة من الجّد والدعابة: ربما لأنني أشكو من عقدة نفسية تجاه الشعر. أو هكذا يفسر الأمر علماء النفس. فحينما كنت تلميذاً صغيراً حاولت اقتحام ميدان الشعر.. قاطع الباحث الأديب الشيخ في دهشة: فأنت كتبت الشعر أيضاً يا سيدي؟ لكن ذلك أمر غير معروف عنك. قال الأديب الشيخ مبتسماً: لأن صلتي بالشعر كانت قصيرة ولم تتجاوز مرحلة الرابع الابتدائي. ولا أتذكر كيف خطر لي يومذاك أن أكون شاعراً مرموقاً. وصمت الأديب الشيخ متأملاً ثم قال: أصدقك القول يا صديقي أنني لا أكاد أتذكر من تلك المرحلة إلا حكاية واحدة على العكس مما يتصل بالقصة. تساءل الباحث مبتسماً: وما هي تلك الحكاية يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ وهو يضحك ضحكة قصيرة: هذه الحكاية هي أساس القطيعة بيني وبين الشعر يا صديقي. وقبل أن أرويها لك لابد أن تعلم أنني معّم مخول في ميدان الشعر. فقد كان أحد أجداد أبي في نهاية القرن التاسع عشر شاعراً مرموقاً هو صالح الكواز. وكان لديّ أكثر من عّم يقول الشعر. وبرز في عائلة أمي منذ مطلع هذا القرن شاعر مشهور هو خالي الدكتور (الشيخ يومذاك) محمد مهدي البصير الذي لقّب بشاعر ثورة العشرين. فليس من المستغرب إذن أن أحلم وأنا طفل صغير في الرابع الابتدائي أن أكون شاعراً مشهوراً. وكانت أولى محاولاتي الشعرية التي ما أزال أتذكرها كتابة قصيدة عن الغروب. وكان يخيل إليّ أنه ما أن تستثار القريحة حتى تجود بشعر عبقري. فصعدت إلى سطح البيت أتأمل غروب الشمس لأشحذ قريحتي، وكان غروباً رائعاً حقا. وكانت أشعة الشمس الحمراء تصبغ أديم السماء الأزرق حتى لتبدو صفحتها ميدان معركة حربية دامية. وسللت قلمي وشرعت بتسطير قصيدتي العصماء مستوحيا المنظر، لكن قلمي أبى أن يخط على الورق إلا عبارات شوهاء وكلمات مبعثرة ليست من الشعر في شيء. وسكت الأديب الشيخ لحظة واكتسى وجهه الباسم بطابع الجد وقال للباحث: ينبغي أن أعترف لك بأن الطبيعة لم تكن تثيرني كثيراً يا صديقي. لذلك لم يحتل وصف الطبيعة وما اتصل بها من أدبي حيزاً مرموقاً. لكنني كنت على نقيض ذلك أُستثار استثارة بالغة منذ كنت طفلاً بما يتعرض له الإنسان من ظلم أو أذى أو حاجة. ولا أدري لماذا فأنا لم أنشأ في عائلة تعاني من الفقر أو الاضطهاد أو المشاكل الأسرية. فأبي تاجر ألبسة متوسط ذو تفكير متحرر. وكانت الروابط الأسرية بين الوالدين والأخوة والأخوات قوية. وبالمناسبة كان لديّ ثلاث إخوة أنا أصغرهم وأربع أخوات أصغر مني. ولقد لازمني هذا الشعور حتى اليوم. فهموم الإنسان المسحوق هي همومي الأساسية والظلم الاجتماعي والطغيان السياسي وما أشدهما في بلداننا -هما الهدفان الأوليان اللذان أحاربهما بلا هوادة في أدبي. ولذلك فإن معظم رواياتي وقصصي ومسرحياتي تتحدث عن الطغاة من حكّامنا على اختلاف عهودهم وتدعو للعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان ونصرة المرأة. وأنا في الحقيقة أعد أدبي شاهد على عصري. ولعل ذلك ساقني منذ البداية إلى تبنّي المنهج الواقعي. وكثيراً ما عابني بعض النقّاد بكوني انقل الواقع نقلاً مباشراً وهو نقد مبالغ فيه. وقال نقاد آخرون بأن أدبي مسيّس مع أنني لم أنتم في يوم من الأيام إلى حزب سياسي معيّن، وإن كنت محسوباً على تيار اليسار. ذلك أن معرفتي دلتني على أنه لابد أن تنشأ ضمن الحزب ديكتاتورية متسلطة، وأنا طول عمري ضد الدكتاتورية. كما أنني لم أفكر باتخاذ السياسة مطية لكسب شخصي ولم أطمح بمركز سياسي يوماً. قال الباحث: أنا لا أتفق أيضاً مع أمثال أولئك النقاد يا سيدي، فلم يكن أدبك نقلاً مباشراً عن الواقع، وإذا كان هناك من يقول ذلك فلاشك أنه يسيء فهمه.
وسكت الباحث لحظة ثم أضاف وهو يبتسم: ولكن ماذا عن الحكاية التي وعدتني بها يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ وهو يضحك ضحكة قصيرة: معك حق. لابد أن أعود إلى الحكاية. ولقد ذكرت لك في البداية بأنني معمّ مخول في الشعر. وكانت عائلة أبي حافلة بالشعراء. وكان من بينهم شاعر مطبوع هو عمي المرحوم حسن خصباك. فكان من الطبيعي أن أفكر بعرض شعري عليه. وكنت أطمع أن أسمع منه الإعجاب والإطراء وأنا ألقي على سمعه شعري البديع. لكنه كان يستقبله بفتور. وذات يوم حملت إليه قصيدة بدت لي أنها من غرر الشعر وأيقنت أنها ستكسب إعجابه البالغ. وسكت الأديب الشيخ لحظة ثم قال وهو يبتسم: وسأنشدك هذه القصيدة التي كان عنوانها "السائلة" وهي كل ما تبقى في ذاكرتي من شعري. جلست وقد أضنى المسير فؤادها تستعطي من ناس وهم مستهتروا قالت وقد هضم الكلام لسانها يا أيها الناس ارحموني واكثروا لكنهم مــّروا بـها وكأنهم مّـروا بحيوان فلم يتأثروا
صفق الباحث الشاب وهتف بإعجاب: أحسنت يا سيدي. أحسنت. فنظر إليه الأديب الشيخ نظرة حزينة وقال: كم كنت أتمنى أن يتلقاها عمّي بمثل هذا الحماس فلربما تغير مساري الأدبي. ثم أضاف وهو ينظر إلى الباحث نظرة معاتبة: ولكنك تعلم أنها قصيدة رديئة. فقال الباحث محتجاً: وهل يتوجب عليّ أن أقيسها بشعر المتنبي يا سيدي؟ أليست هي من شعر طفل في التاسعة من عمره؟ فهز الأديب الشيخ رأسه وقال بجد: معك حق وليت عمي فكر مثلك. لكنه التفت إليّ بعد أن فرغت من إلقائها وقال لي معنفا: لماذا لا تترك هذا الهراء يا بنيّ؟ أفلا ترى أن قصيدتك مليئة بالزحاف والأخطاء النحوية؟ يابنّي. أنت ما تزال تلميذا في المدرسة الابتدائية وأمامك شوط طويل حتى يمكنك كتابة الشعر فهو ليس لعباً ولهواً. ومن الخير لك أن تنصرف إلى دروسك. وكان ذلك آخر عهدي بكتابة الشعر وربما بتذوّقه أيضاً. وأطرق الأديب الشيخ وقد بانت مخايل الحزن على وجهه, فقال الباحث برفق: لم يكن آباؤنا وأجدادنا يحسنون قواعد التربية الحديثة يا سيدي فلا تلم عمك. هز الأديب الشيخ رأسه وقال: معك حق. ولكن ربما كان لهذه الحكاية دلالة عميقة يا صديقي. فلا ينبغي الاستهانة بما ينجزه الأطفال من أعمال فنية أو علمية فقد يلحق بهم ذلك ضرراً بالغاً. في حين أن تشجيعهم والأخذ بأيديهم قد يخلق منهم شخصيات أدبية أو فنية أو علمية خطيرة. فقال الباحث وهو يهز رأسه مؤمنا: هذا أمر لا ريب فيه يا سيدي وقد أصبح إحدى الحقائق التي يدين بها علم النفس الحديث. قال الأديب الشيخ باسما: ها أنت ذا عرفت يا صديقي لماذا انصرفت عن الشعر. قال الباحث بأسف: وهو أمر مؤسف حقا فلربما كنت أثريت الشعر العربي بنتاج رائع. وسكت الباحث لحظة ثم تساءل: وماذا عن المرحلة التالية لمرحلة "سمير التلميذ" يا سيدي؟
مجلة "الرواية" قال الأديب الشيخ مفكراً: أستطيع القول إن معرفتي بمجلة " الرواية" المصرية كانت هي المرحلة الانتقالية التالية في حياتي الأدبية. وقد تم ذلك وأنا في بداية السنة الخامسة الابتدائية. والحقيقة أنني أعدّ معرفة هذه المجلة مرحلة مهمة في حياتي. ويمكنني القول إن هذه المعرفة قد قادتني إلى القراءة الأدبية الجادة. وكانت مجلة "الرواية" شقيقة لمجلة "الرسالة" وكان يصدرهما الأستاذ احمد حسن الزّيات. ثم توقفت "الرواية" في أوائل الأربعينات بينما توقفت " الرسالة" في أواخر الخمسينات. ولقد أسدت هذه المجلة خدمة جلىّ لأدب القصة والرواية في العالم العربي. فلقد قدمت إلى الكتاب والقراء العرب الذين لم يكونوا يحسنون لغة أجنبية عيون الأدب الغربي، فضلاً عن أنها فتحت صدرها لإنتاج الروائيين العرب الكبار من أمثال توفيق الحكيم وإبراهيم عبد القادر المازني ومحمد فريد أبو حديد ونجيب محفوظ وغيرهم. ولقد تعرفت على مجلة "الرواية" في مكتبة أخي الدكتور جعفر. وكان يومذاك معلماً في المدارس الابتدائية، وكان مولعاً بالقراءة والثقافة. فأقبلت على قراءتها إقبال الظامئ على الماء القراح. ولم يكن يمر أسبوع دون أن ألتهم عدداً كاملاً منها. وقد تغّير نوع قراءتي بعد التعرف عليها تغّيراً تامّا ولم أعد أعني بأدب الأطفال. وانسحب ذلك على نمط حياتي وتفكيري وقام نوع من القطيعة الفكرية بيني وبين مرحلة الطفولة. فلقد كانت مجلة "الرواية" تحفل بخيرة نماذج الأدب العالمي بما تتضمنه من نظرة جادة إلى الحياة. وكان لذلك جانب إيجابي وآخر سلبي على حياتي. فقد وسّعت قراءتي في الأدب العالمي من أفق تفكيري وأمدّتني بنظرة ناضجة للحياة. لكنها في الوقت نفسه حرمتني من متع الطفولة البريئة. ومنذ وقت مبكر حدث انشطار بيني وبين أقراني فلم أعد أجد متعة في مشاركتهم بلهوهم البريء. أصبح همي كله منحصراً في القراءة.. والقراءة وحدها. فلم تتح لي مثلا فرص المشاركة في الألعاب الرياضية لا في المدرسة الابتدائية ولا في مراحل التعليم الأخرى، وكنت أعدّها هدراً للوقت. وحينما أستعرض طفولتي اليوم أشعر بحسرة على ضياع سني الطفولة منّي. والحقيقة أن لهوي كان يقتصر على أيام العيدين فقط، فقد كنت أخرج إلى منطقة "باب النجف" حيث تقام مراسيم العيد وينتشر باعة الحلويات والمراجيح ودولاب الهواء. وكانت متعتي تقتصر على شراء الحلويات وركوب الحمير. وقد أذهب مع أصحابي على الحمير إلى خرائب بابل حيث نلهو هناك. وهناك متعة أخرى كنت أمارسها في طفولتي وأعتبرها متعة ثقافية. فقد كنت أراقب مواكب العزاء لأحياء الحلّة التي تنطلق كل ليلة من مواقع معينة في العشرة الأولى من شهر عاشوراء ميمّمة إلى "بيت القزويني". وكانت تهزج بقصائد شعبية حول مأساة الحسين. فكنت أسجّل جميع القصائد في دفتر خاص. ولقد اختزل نمط حياة الطفولة الجادة هذا من عدد أصحابي لأنني فقدت الرغبة في مشاركتهم ألعابهم، وقد عزفوا هم أيضاً عن مشاركتي في ألعابي. سكت الأديب الشيخ متأملاً وقد كست وجهه ابتسامة عريضة ثم التفت إلى الباحث وسأله: أسألك بالله يا صديقي.. كيف تتوقع من أقراني أن يشاركوني ألعابي وهي أبعد ما تكون عن ذوقهم وفهمهم؟ ففي الخامس الابتدائي قرأت كتاباً عن حياة نابليون فشغفت به ولم يعد لي من حديث مع أقراني إلاّ عن نابليون. ولم يكونوا قد سمعوا بنابليون أصلا. واقترحت عليهم يوماً أن يشاركوني في لعبة اخترعتها عن نابليون. وتدور اللعبة حول نفيه إلى جزيرة ألبا ثم فراره منها. وعيّنت نفسي نابليون واخترت من بينهم الأنصار والخصوم. ثم اختططت في ركن من أركان ساحة المدرسة دائرة ووقفت في وسطها وأعلنت لهم أنها تمثل جزيرة (ألبا)، وأن على أنصاري أن ينقذوني من الأسر في هذه الجزيرة. واستجابوا لبعض الوقت لاقتراحي وشاركوا في اللعبة ثم ما لبثوا أن انصرفوا عنها سئمين. فأين المتعة فيها بالنسبة لهم؟ وضحك الأديب الشيخ ضحكاً عالياً وشاركه الباحث الضحك، ثم استدرك بقول: ولكن لابد لي أن أؤكد لك يا صديقي أنني لم أكن أشعر بالتعالي على أقراني.. وإنني لأحمد في نفسي هذه الصفة التي تكونت لديّ مينذ طفولتي المبكرة. وقد حمتني هذه الصفة عند الكبر من الغرور والكبرياء، وكان يمكن أن يتسربا إلى نفسي. وإني لأمقت هاتين الصفتين أشد المقت. قال الباحث وهو يرمق الأديب الشيخ في إجلال: هذا أمر معروف عنك يا سيدي. واستغرق الأديب الشيخ في الصمت دقائق ثم قال وهو يهز رأسه: على كل حال لا أستطيع القول أنني نادم على ضياع مرحلة الطفولة بلهوها البريء فقد استمتعت بقراءاتي استمتاعاً عظيماً. وعاد الأديب الشيخ إلى صمته المتأمل وسرحت عيناه. فاحترم الباحث صمته وظل معلق العينين بوجهه الوقور. ثم تساءل أخيراً: وماذا بعد مرحلة مجلة "الرواية" يا سيدي؟
مكتبة الحلة العامة التفت إليه الأديب الشيخ وقال ببطء: إن مجلة "الرواية" قادتني إلى عالم الأدب الرحب يا صديقي، أو على الأصح إلى عالم الثقافة الواسع. ومن ثم قادتني إلى التعرف على المكتبة العامة في مدينتي. وصارت القراءة شغلي الشاغل. وخرجت من نطاق القصة والرواية إلى ميادين التاريخ والاجتماع والثقافة العامة. وفي هذه المرحلة الجديدة من حياتي التي يمكن أن أسميها مرحلة المكتبة العامة لعبت مكتبة الحلة العامة دوراً هاماً في حياتي0 فقد هيّأت لي ينبوعا ًلا ينضب من الكتب، وكنت ما أزال تلميذاً في الابتدائية. ولقد شغفت بالمكتبة العامة شغفاً بالغا وأحببتها حباً عظيماً.. حباً يفوق حب العاشق لمعشوقته. تصور أنني كنت أترقب بصبر نافذ انتهاء اليوم الدراسي، وكان ينتهي عصراً، لأطير إلى المكتبة العامة.. تصور ذلك! طفل صغير قد ربط بمقعد المدرسة لساعات طويلة يربط نفسه من جديد بكرسي المكتبة! كان أقراني الصغار يتلهفون على انتهاء دوام المدرسة ليهرعوا إلى ألعابهم في الطريق بينما كنت أنا أهرع إلى المكتبة! فأيّ عشق يمكن أن يتفوق على هذا العشق؟ وكم كلفني هذا العشق من عناء! سأل الباحث متعجباً: ولكن لماذا هذا العناء يا سيدي؟ أجاب الأديب الشيخ: لأنني كنت ملزماً بابتكار الحيل التي تيسر لي دخول المكتبة العامة. فقد كان بيني وبينها سدود وقيود. وكثيراً ما غافلت حارس المكتبة وتسللت إلى الداخل كاللص. تساءل الباحث في استغراب: ولماذا تغافل حارس المكتبة يا سيدي؟ فقال الأديب الشيخ: لأنه كان يرتئي أن طفلاً مثلي لا يحق له الدخول إلى المكتبة العامة فهي مخصصة للكبار. وكثيراً ما ردّني على أعقابي خائبا والمرارة تملأ قلبي. وقد يرق قلبه لي أحياناً فيتفضل عليّ بنعمة الدخول. ولم تنته معاناتي هذه إلاّ حينما شهد مدير المكتبة يوماً الجدل بيني وبينه فأمره ألاّ يعترض طريقي. وفي ذلك اليوم عدت إلى منزلي وأنا أكاد أطير فرحاً وكأنني كسبت جائزة رفيعة. قال الباحث: كانت المكتبات العامة مقتصرة على الكبار فعلاً ولم يكن يحسب حساباً للصغار لكن الأمر اختلف الآن بالطبع. فقال الأديب الشيخ: مازالت العناية بالمكتبات العامة قاصرة بالنسبة للصغار والكبار مع أن دورها عظيم في الثقافة الجماهيرية. ويجب أن تعمم المكتبات العامة لا على المدن فقط بل على البلدات الصغيرة أيضاّ. وصمت الأديب الشيخ متأملاً ثم قال وهو يهز رأسه: إنني أدين بالشيء الكثير للمكتبة العامة في مدينتي.. إنها هي معلّمي الحقيقي. لقد تربيت في أحضانها. ولقد ظلت أواصر المحبة بيني وبينها منعقدة طيلة بقائي في مدينتي، بل اشتدت مع الأيام. لم يكن يمر يوم من دون أن أزورها. وحينما كبرت وانتقلت إلى المدرسة المتوسطة ثم الثانوية ظللت أتبّع نفس النهج. فبينما كان زملائي وأصدقائي وسائر الناس يمضون ساعات العصر وأوائل المساء في التمشي في الشارع المحاذي للنهر وفي الشارع الجميل المؤدي إلى محطة القطار كنت أنا حبيس جدران المكتبة. وبالمناسبة كانت الحلّة يومذاك مدينة جذابة. وكانت متعددة النزهات بنهرها المتميز الجميل وبساتينها الممتدة في كل جهاتها على مدّ البصر. وكنت ألتهم كتب المكتبة وكأنني في سباق مع الزمن. وقد عرفت بين جدرانها كبار الكتّاب عرباً وأجانب. عرفت طه حسين وقرأت كتبه المتنوعة وخصوصاً القصصية منها وعلى رأسها كتابه العظيم "الأيام" وفتنت بالجزء الأول منه.. وعرفت العقاد والمازني وجبران ومخائيل نعيمة وتوفيق الحكيم وغيرهم. كما عرفت لامرتين وفكتور هوغو وغوته.. تصور أنني قرأت كتابه العظيم "فاوست" وأنا في الابتدائية. ولا أزعم أنني كنت أدرك عظمة ما أقرأ من كتب لكنني انتفعت منها. وكان وجودي الدائم في المكتبة يستلفت نظر بعض زوارها ويستدر إعجابهم. وتطوع أكثر من واحد منهم لإرشادي إلى الكتب النافعة لي. وكان من جملتهم (الدكتور) علي جواد الطاهر و(الدكتور) صالح الشماع.
وصمت الأديب الشيخ وهز رأسه وقال: نعم يا صديقي.. كانت المكتبة العامة معّلمي الأول حقاً! تساءل الباحث: ولكن أين موضع القصة في مرحلة المكتبة العامة يا سيدي؟ أجاب الأديب الشيخ: موضع القصة محفوظ فاطمئن يا صديقي. صحيح أن قراءاتي تنوعت بعد معرفتي بالمكتبة العامة لكن القصة ظلت تتربع على عرش قلبي.. بل إنها اكتسبت أهمية أعظم. وقد قادتني قراءاتي المكثفة في القصة إلى مرحلة جديدة في حياتي الأدبية. فجربت كتابة القصة وأنا ما أزال في نهاية السنة الخامسة الابتدائية أو ربما في بداية السنة السادسة الابتدائية. وأتذكر جيداً أنني كنت أمتلك مجموعة قصصية وأنا في السادس الابتدائي. ومن المؤسف أنني لم أحتفظ بتلك المجموعة ولا أستطيع أن أتذكر أية قصة من قصصها. ولذلك فلا يمكنني التحدث عن أساليبها أو مضامينها. قال الباحث: كان ينبغي أن تحتفظ بها يا سيدي. قال الأديب الشيخ: معك حق وكم من أشياء كان ينبغي عليّ الاحتفاظ بها فأضعتها! ويخيل إليّ أنني لم أعن بالاحتفاظ بها لأنني وجدتها غير جديرة بالنشر. وبما أنني بدأت أنشر في المجلات مبكراً، وبما أنني رأيتها غير صالحة للنشر فقد أهملتها. ولقد عرضتها في حينها على أحد رواد المكتبة الذي كان يتطوع إلى إرشادي إلى الكتب النافعة فلقيت منه ترحيباً حاراً وكتب نقداً مسهباً لها. وشجعني نقده على عرض "المجموعة" على معلم العربية، وكان من المشجعين لي، فكتب عنها نقداً مشجعاً جداً أيضاً. وأتذكر أن نقد هذين الشخصين كان لهما أطيب الأثر في نفسي. وأستطيع أن أزعم أن التشجيع الذي لقيته تلك "المجموعة" من قبل هذين الشخصين قد وضعني على عتبة الكتابة القصصية. وأنا الآن على قناعة كاملة بأن تشجيع المواهب المبكرة لدى الأطفال أمر في غاية الأهمية0 وقد يخلق منهم هذا التشجيع فنانين عظاماً، كتّاباً كانوا أم رسامين أم موسيقيين. وهذا واجب يقع على عاتق معلمي المدارس الابتدائية على نحو الخصوص، لاسيما وان لمعلم الابتدائية مكانة خاصة في نفس الطفل وانه أول من يتعهده بالرعاية المعرفية.
بدايتي في النشر تساءل الباحث الشاب: ومتى بدأت تفكر في النشر يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ محاولاً استعادة أحداث حياته البعيدة: أعتقد أنني بدأت أفكر بالنشر حينما انتقلت إلى السنة الأولى من الدراسة المتوسطة. وقد خطرت على بالي فكرة النشر يوم وقعت بين يدي مجلة ثقافية عراقية كانت تخصص باباً لنشر إنتاج القراء. وأرسلت إليها بإحدى قصصي وظللت أترقب صدور العدد اللاحق منها وأنا في أشد اللهفة. وصدر العدد المأمول أخيراً ورحت أقلبّ صفحاته بأصابع مرتجفة فلم أجد لقصتي أثراً. ففاضت نفسي خيبة ومرارة. ثم استرعى نظري اسمي مطبوعاً ضمن نتاج القراء فقفز قلبي بين ضلوعي طرباً. وقرأت تحت اسمي سطرين صغيرين يقولان: "قصتك تبشر بمستقبل أدبي جيد لكنك لا تزال في حاجة إلى المران وإلى الاهتمام بسلامة لغتك". وأعدت قراءة اسمي وما كتب تحته من ملاحظة والعواطف تموج في قلبي. وحّل الفخر والاعتزاز في نفسي محل الخيبة والمرارة.. إذن فقصتي تبشر بمستقبل أدبي جيد وكل ما هنالك أنني بحاجة إلى المران والعناية باللغة. وبهذه المناسبة أذكر لك أن مسألة المعاينة باللغة ظلت إحدى نقاط ضعفي، ويبدو أنني لم أكن مقتنعاً بها، وستكون فيما بعد مثار تأكيد صديقي وراعي نشاطي الأدبي في بداية حياتي الأدبية الدكتور علي جواد الطاهر. إذن كانت ملاحظة المجلة مثار تشجيع لي لا مصدر إحباط لهمتي. وما دامت مجلة محترمة قد ارتأت أن كل ما أحتاجه هو المران فسأبعث بإنتاجي الجديد إلى المجلات الكبرى.. ولم لا؟! وهكذا قفزت مباشرة نحو التعامل مع المجلات الكبرى، ليس في العراق فحسب بل في العالم العربي أيضاَ. وأخذت أمطر مجلات كبرى بإنتاجي من أمثال "الرسالة" و "الثقافة" المصريتين و"الأديب" اللبنانية. وطبعاً لم ينشر من هذا النتاج شيء. ولم أكلّ أو أملّ من انتظار أعداد تلك المجلات بنفس اللهفة كل أسبوع أو شهر حسب مواعيد صدورها، وكان حصادي الدائم هو الخيبة. ومن الغريب أن تلك الخيبة لم تثبّط همّتي في الكتابة أو في إرسال المزيد من إنتاجي إلى تلك المجلات. وكان يمكن أن تكون عاملاً حاسماً في انصرافي عن الكتابة والأدب نهائياً. ويجب أن أسّجل هنا أن أول من فتح لي أبواب مجلته هو الشاعر اللبناني ألبير أديب صاحب مجلة "الأديب" البيروتية. وحينما زرت بيروت في صيف عام 1951 عند عودتي من القاهرة دعاني إلى وليمة في بيته وكان في غاية اللطف والدماثة معي. قال الباحث وهو يبتسم: يبدو انك كنت متأكداً يا سيدي من نجاحك في النهاية وأنك كنت تملك ثقة راسخة في نفسك.
قال الأديب الشيخ وهو يهز رأسه متأملاً: ربما كان هذا هو السبب فعلاً.. لا أدري. المهم أن الرغبة في الكتابة ظلت تؤرقني. لكنني اقتنعت فيما يبدو بان من المناسب لي أن أراسل مجلات أقل شهرة من "الرسالة" أو "الثقافة" أو "الأديب". وكنت قد بلغت السنة الثانية من الدراسة المتوسطة. وسرعان ما أتت خطتي الجديدة بثمارها. فما أن أرسلت بأحد مقالاتي إلى مجلة عراقية مغمورة حتى ظهر في عددها اللاحق في مكان بارز. ولا تسلني عن فرحتي برؤية اسمي مطبوعاً بحروف بارزة في صدر المقال، فهي أعظم من أن توصف. وأتذكر أنني أخذت لأسابيع غير قليلة أنظر برثاء إلى أساتذتي لأنهم لم يحظوا بمثل هذا الشرف! وقد تغيّرت نظرة زملائي التلاميذ وأساتذتي إليّ فصارت أكثر احتراماً، وأخذ أحد إخواني في البيت يلقبني بـ "الأستاذ". قال الباحث وهو يرنو بإعجاب إلى الأديب الشيخ: إذن يمكن القول أنك بدأت تنشر مقالاتك وأنت في سنتك الثانية من الدراسة المتوسطة. قال الأديب الشيخ: نعم يمكنك أن تقول ذلك. فقد كان نشر ذلك المقال بداية لسيل من المقالات أخذت تظهر على صدر الصحف والمجلات العراقية المختلفة على نحو مستمر ومتصل. وكان هذا النشاط الأدبيّ محدوداً خلال سنتي الثانية من الدراسة المتوسطة، لكنه صار كالسيل حينما انتقلت إلى السنة الثالثة. فكنت أنشر حياناً أكثر من مقال في الأسبوع. ولم يقتصر نشاطي الأدبي على كتابة القصص والمقالات الأدبية والنقد الأدبي بل امتد إلى الميادين الاجتماعية والسياسية أيضاً. وكانت الحلّة في أواسط الأربعينات، شأنها شأن المدن الأخرى، تشهد مدّاً يساريا ووطنيا قوّيا0 فكنت مساهماً نشطاً في هذا المدّ ككاتب وكتلميذ بارز. وكنت أشترك دائماً في المظاهرات الشعبية التي كانت تندلع بين حين وآخر ضد السياسة الداخلية والخارجية للحكومة أيام العهد الملكي. وفي وسعك أن تقرأ نماذج من تلك المقالات في كتابي المعنون "كتابات مبكرة".وأريد أن أشيد هنا بفضل مجلة "الهاتف" النجفية عليّ لصَاحبها القصاص جعفر الخليلي، والذي أسرتني شخصيته بظرفها حينما عرفته فيما بعد، فقد احتضنتني في بداية حياتي الأدبية. قال الباحث بإعجاب: هذا شيء عظيم حقاً. وصمت الأديب الشيخ متأملاً ثم قال وهو يرمي الباحث بنظرات حزينة: يؤسفني أن أقول لك يا صديقي أن العراق كان يشهد في تلك المرحلة الزمنية من الربع الثاني من القرن العشرين نشاطا ثقافياً ملحوظاً لا يعرفه اليوم. فكانت المجلات الثقافية، فضلاً عن الصحف، تصدر ليس في العاصمة فحسب بل في المدن الإقليمية أيضاً كالموصل والبصرة والنجف والحلة والناصرية. وإنه لأمر محزن حقاً أن يستعرض المرء في ذهنه اليوم المجلات الثقافية التي تصدر في البلاد فيرى هذا النشاط قد انحسر انحساراً بالغاً في المدن الإقليمية.. أفلا ترى ذلك أمراً غريباً يا صديقي؟ قال الباحث: إنه لأمر غريب ومحزن حقاً. قال الأديب الشيخ وقد طافت على وجهه بسمة مرة: كان من المتوقع بالطبع أن يرتفع عدد المجلات والصحف في بلادنا خلال نصف القرن هذا لكن العكس هو الذي حدث. لاحظ أن نسبة الأمية قد انخفضت انخفاضاً ملموساً وأن الجامعات قد ارتفع عددها من واحدة، أو من مجرد كليات متفرقة، إلى ما يربو على عشر جامعات. أفليس من المفترض أن يواكب ذلك نشاط ثقافي متصاعد؟! قال الباحث: طبعاً هذا هو المفترض. قال الأديب الشيخ بلهجته المرة: إن غياب الصحف والمجلات هذا لمؤشر معاكس.. أي دليلا على قلة عدد القراء. فما هو السبب يا ترى؟! قال الباحث: ربما كان المسؤول عن ذلك التلفزيون يا سيدي. وهناك من يقول إنه العشق الجنوني لكرة القدم. وفريق ثالث يقول إن مرجعه إلى مصاعب ومشاغل الحياة المادية بحيث لا تترك مجالاً للقراءة. قال الأديب الشيخ وهو يهز رأسه أسفاً: مهما تكن الأسباب الحقيقية فهي ظاهرة موجعة للقلب. قال الباحث وهو يبتسم: ولكن دعنا في موضوعنا يا سيدي فهذه قضية شائكة. وأنا أريد أن أعرف ماذا أعقب هذه المرحلة الهامة من حياتك الأدبية بعد أن صار اسمك معروفاً لدى قراء المجلات في العراق. قال الأديب الشيخ: وماذا تريد أن تعرف بالضبط؟ قال الباحث: أريد أن أعرف الأشخاص أو الكتّاب الذين تأثرت بهم في هذه المرحلة من حياتك الأدبية. قال الأديب الشيخ: لقد تأثرت بكتّاب كثيرين يا صديقي منهم من احتككت بهم على صفحات كتبهم ومنهم من خالطتهم على مسرح الحياة. قال الباحث وهو يرنو إلى الأديب الشيخ بنظرة باسمة: تذكر يا سيدي أننا نتحدث عن المرحلة المبكرة من حياتك. قال الأديب الشيخ: ما دام الأمر كذلك فليكن حديثنا أولاً عن علي جواد الطاهر. علي جواد الطاهر اعتدل الشيخ في مقعده المريح وتاهت نظراته وقال متمهلاً: لقد عرفت الدكتور علي جواد الطاهر في مرحلة مبكرة من حياتي الأدبية، ربما وأنا في السنة الثالثة المتوسطة. وكان قد تخرج من دار المعلمين العالية من قسم اللغة العربية في عام 1945، ولم تكن كلية الآداب قد أنشأت بعد. وعيّن مدرساً للغة العربية في متوسطة الحلة للبنات.. لاحظ أن دار المعلمين العالية قد خرّجت العديد من أدبائنا ونقّادنا وشعرائنا الكبار. فلقد خرجّت قادة الشعر الحديث في العالم العربي ورّواده وهم بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي ولميعة عباس عمارة وسعدي يوسف وغيرهم. وهذا الأمر إن دل على شيء فإنما يدل على ارتفاع مستوى الأداء العلمي فيها يوم ذاك. قال الباحث وهو يهز رأسه: هذا أمر لا ريب فيه. واستطرد الأديب الشيخ يقول: إذن فقد عيّن الشاب الأحمر الشعر.. الأحمر الوجه.. الغريب السحنة نوعما مدرساً للغة العربية في مدارس الحلة. وكان كما أثبتت الأيام شعلة وقّادة من النشاط. ولعل أبرز ميزة في علي جواد الطاهر أنه كان يحب عمله في تدريس الأدب حباً جما. وكان يعده في الوقت نفسه هوايته في الحياة. وأزعم أن حماسه للأدب قراءة وكتابة وتدريساً لم يفتر حتى بعد أن تجاوز السبعين أمدّ الله في عمره. وكأنه قد تخرج أمس من دار المعلمين العالية.. وكأنه قد بدأ أمس نشاطه التعليمي. فلا عجب أن يشار إليه اليوم باعتباره شيخ النقاد في العراق، فهو شيخ بحق وحقيق.. شيخ في عمره وفي صناعته. وبالمناسبة لا بد لي أن أقول أن محبة علي جواد الطاهر للشعر ظلت تتفوق على محبته للقصة ولفنون الأدب الأخرى. ولا عجب فالشعر ميدان دراسته للدكتوراه وهو ولعه. ولذلك ظل تقييمه للشعر والشعراء أفضل في رأيي من تقييمه للقصة والقصاصين. وهذا أمر لا يعيبه فهو يبقى ناقداً ممتازاً في القصة والشعر لما يتصف به قلمه من حرارة وصدق ومعرفة وذوق رهيف. قال الباحث وهو يهز رأسه مؤمنا: هذا صحيح فاسم علي جواد الطاهر من الأسماء الجليلة في ميدان النقد لدنيا. ولكن أسمح لي أن أسألك يا سيدي بأي شكل من الأشكال كان تأثيره فيك؟ قال الأديب الشيخ باعتزاز: برعايته لي وأنا في تلك السن المبكرة.. باحتضانه لأدبي وتشجيعه الدائم لي وأنا في أول خطواتي على درب الأدب.. بمحاولاته الدؤوبة للفت انتباهي إلى ما يعتور قلمي من عيوب. أفليس ذلك كافياً في رأيك؟ قال الباحث: بالطبع يا سيدي. واصل الأديب الشيخ الكلام بلهجته الحارة: كان علي جوادالطاهر يرى ذلك واجباً من واجباته.. لم يكن يرى نفسه متفضلاً في رعايته لي والاهتمام بأدبي. فلقد بدا له أنني أمثلّ موهبة أدبية مبكرة، فأصبح لزاماً عليه أن يرعاها. كان شغوفاً بالأدب شغفاً حقيقياً ولذلك كان مستعداً لأن يأخذ بيد كل من يعتقد أنه يمكن أن يصبح أديباً ناجحاً. وقد حاول ذلك مع تلاميذته وتلميذاته. وكان قد انتدب لتدريس اللغة العربية في متوسطة الحلة للبنات كما ذكرت. فأحدث ثورة ثقافية في المدرسة، إذ عمل على تشجيع الطالبات على إصدار مجلة كان عنوانها "استفيقي". فكانت حدثاً ثقافياً مرموقاً في مدينة الحلة وربما في البلاد بأجمعها.. لاحظ أن التعليم النسوي كان يومذاك في بدايته ولم يكن يفكر أحد آنئذ في أن يخرّج من طالبات المتوسطة الصغيرات كاتبات! صمت الأديب الشيخ وقد أشرق وجهه ثم عاد يقول بلهجته الحارة: ولقد استمرت صلتي بعلي جواد الطاهر منذ ذلك الزمن المبكر واشتدت متانة على مر السنين وما زالت حميمة حتى اليوم. وأتذكر باعتزاز كيف كان يمطرني برسائله المستفيضة حينما سافر للدراسة العليا في باريس في أوائل الخمسينيات. فلقد كان يحدثني في تلك الرسائل عن كل أوجه الثقافة والفنّ التي كان يكرّس لها وقت فراغه وكأنه كان يريدني أن أكون في صحبته.. حدثني عن المتاحف على اختلاف أنواعها.. وعن المسارح التي كان مولعاً بارتيادها.. وعن النقاشات الفكرية والفنية التي كانت تدور على صفحات الصحف الكبرى.. وعن أحدث الكتب القصصية التي كانت تصدر يومذاك وما يدور حولها من نقد وخصوصاً الكتب الفائزة بالجوائز الأدبية. كانت رسائله إليّ سجلاً فنيّاً رائعاً لحياته الفكرية في باريس والتي حاول أن يشركني فيها. ومن المؤسف أنني فقدت تلك الرسائل فيما فقدت من آثار ثمينة حينما احترق منزلي أو أحرق من قبل الباغين على النحو أدق. ولو لم تحترق تلك الرسائل لكوّنت كتاباً أدبياً رائعاً، ربما أشبه بكتاب "زهرة العمر" لتوفيق الحكيم. ولقد أشتمل هذا الكتاب على الرسائل التي كان يتبادلها الحكيم أثناء وجوده في باريس مع صديقه أحمد الصاوي محمد. وأصارحك يا صديقي بأنني لم أحزن لاحتراق المنزل بقدر ما حزنت لفقدان أمثال تلك الرسائل، وكان لديّ الكثير منها والتي كتبها إليّ أدباء عرب مرموقين. وأطرق الأديب الشيخ مغموماً فقال الباحث مترفقا: آسف يا سيدي إذ أثرت أشجانك وذكّرتك بهذه الخسارة الفادحة، ولكن لا فائدة من الحزن. وأرجوك أن تسمح لي بمواصلة حوارنا. رفع الأديب الشيخ رأسه وقد استعاد هدوءه وقال: معك حق.. لنعد إلى حوارنا. قال الباحث: فهلاّ حدثتني يا سيدي عمّن أثرّ فيك أيضاً من الأشخاص في حياتك المبكرة؟ مهدي المخزومي قال الأديب الشيخ وهو طلق الوجه: لابد لي في هذه الحالة إذن أن أحدثك عن العلامّة اللغوي الكبير المرحوم مهدي المخزومي. فصداقتي معه تعادل في متانتها ودوامها وفائدتها صداقتي مع علي جواد الطاهر. وكان له الفضل في تقويم لغتي في وقت مبكر. ولقد عرفت مهدي المخزومي في وقت مبكر من حياتي كما عرفت علي جواد الطاهر، وبالتحديد في الشهور الأخيرة من عام 1948 حينما حللت في القاهرة طالبا موفدا للدراسة في جامعة القاهرة "جامعة فؤاد الأول" يومذاك. وكان في طريقة تعرفي به شيء من الغرابة. فلم أتعرف به في رحاب كلية الآداب مثلا وكلانا كان طالبا فيها، ولا في مقر السفارة العراقية التي كنا نزورها كل شهر لتلقي رواتبنا، بل عرفته في المطعم الذي كنت أتناول غدائي فيه وهو "مطعم المنظر الجميل". وكنت كلما زرت المطعم استلفت نظري شاب وديع يتخذ دائما مائدة معينة بجوار دكة صاحب المطعم. وكان يجتذبني بخصلتين: الأولى شبهه الشديد بجبران خليل جبران "وأعني صورة جبران التي كانت تنشر على غلاف كتبه"، والثانية صوته الخفيض الذي لم يكن يرتفع أبدا، رغم النقاشات المحتدمة الدائمة بين أفراد المائدة. وكان يشاركه في المائدة صاحب المطعم وشخص مبسوط الجسم داكن البشرة، عرفت فيما بعد أنه الدكتور محمد خلف الله صاحب كتاب "القصص الفني في القرآن". وبما أنه كان عراقي اللهجة خلاف زميليه، فقد وجدت نفسي ذات يوم أتقدم من مائدتهم وأستأذن في مشاركتهم الجلسة. وقدمت نفسي إليهم وإذا بالمخزومي يرحب بي ترحيبا حارا مؤكدا لي أنه قرأ لي كثيرا وأنه معجب بقصصي. وهكذا صرت الرفيق الرابع في المائدة. وكنت يومذاك طالبا في السنة الأولى من قسم الجغرافية وكان هو يحضر الماجستير في النحو العربي. ولقد توثقت صلاتنا بدرجة عظيمة وربطت بيننا صداقة حميمة. فلقد شدني إليه بدماثة خلقه ولطفه وحرارة عواطفه، فضلا عن اتفاقنا في آرائنا السياسية. وجعلنا نلتقي بصورة دائمة خارج المطعم. وكثيرا ما كنا نمضي أمسياتنا في مقهى تقع في "ميدان الأزهار" القريبة من سكننا. وكان يشاركنا جلساتنا المرحوم عبد الرضا صادق شقيق الشاعر اللبناني حبيب صادق الذي كان يحضّر للماجستير في اللغة العربية أيضا. وعن طريق المخزومي تعرفت يومذاك بالجواهري الذي وفد في أواخر الأربعينات على القاهرة بعد أن ضاق ذرعا بالجو السياسي في العراق، وكان ذا صلة وثيقة بالمخزومي. كما تعرفت أيضاً على المرحوم الشيخ محمد رضا الشبيبي الذي كان يحضر إلى القاهرة للمشاركة في اجتماعات المجمع اللغوي. وكنت أرافقه دائما في زياراته للشيخ الشبيبي الذي كان يعبر دائما أثناء حوارنا عن سخطه على الأوضاع السياسية في العراق. وكان يكن للمخزومي احتراما خاصا. ولقد استمرت صلتنا القوية طوال فترة بقائي في القاهرة فيما بين عام 1948-1951 وكنت أثناء ذلك أعرض عليه ما أكتب من قصص فيقوّمها لغويّا. ولكن هذه الصلة انقطعت بعد حصولي على الليسانس وعودتي إلى بغداد عام 1951 فلم يتسن لي اللقاء به. وكان المخزومي قد بقي في القاهرة للحصول على الدكتوراه ولم يعد إلى العراق إلا عام 1954. وكنت قد غادرت بغداد إلى لندن في صيف عام 1954 حينما لاحت في الجو نذر الهجمة الشرسة على العاملين في مجلة "الثقافة الجديدة"، و كنت محررها الأدبي، وبذلك نجوت من القبض عليّ0 ولقد ألقي القبض على صلاح خالص وصفاء الحافظ وإبراهيم كبة وفيصل السامر وعبدالوهاب البياتي وغيرهم وسيقوا إلى الخدمة العسكرية في معسكر خان بني سعد. ولما عدت إلى العراق في أعقاب ثورة تموز 1958 بعد نيلي الدكتوراه تزاملت مرة أخرى مع المخزومي في كلية الآداب0 وعادت صداقتنا إلى سابق عهدها ولم نفترق بعد ذلك أبدا. وانغمرنا معا في النشاط السياسي الذي أعقب ثورة تموز واشتركنا معا في لجان الدفاع عن الجمهورية مما كان يحيق بها من مخاطر يومذاك. وكنا محسوبين على التيار اليساري وإن لم نكن ننتمي إلى حزب معين. ولما اختير المخزومي عميدا لكلية الآداب في مقتبل عام 1959 اخترت بعد أشهر قليلة مساعدا له. وأثناء شغلي لهذا المنصب منحني صلاحيات مطلقة في إدارة الكلية.فاختص هو بشؤون الأساتذة وترك لي أمر إدارة الكلية والطلاب. وكانت تلك الفترة من أصعب الفترات التي مرت بها البلاد. وكانت تلك الصعوبات تنعكس على كليات الجامعة عموما وهي من أخطر مؤسسات البلاد (بعد الجيش) وأشدها احتداما في نشاطها السياسي. وكان مما عقّد الأمر في كلية الآداب استهدافها من قبل ما سمي بالتيار القومي، وكان أعنف من يمثله في الصحف يومذاك الدكتور المرحوم شاكر مصطفى سليم. فقد شن حملة شعواء على إدارة الكلية، وخصوصا على الدكتور المخزومي، مدعيا أننا نميز في المعاملة بين الطلاب، وأننا نضطهد الطلاب القوميين، مع أن الطلاب المنصفين كانوا يشهدون لنا بأننا في غاية العدالة في التعامل معهم. وكنا نحاول حمايتهم على اختلاف اتجاهاتهم مما يحدث بينهم من صراعات ومن تدخلات أجهزة الأمن. وقد تعرضت أنا بالذات بسبب ذلك إلى مضايقات أجهزة الأمن والشرطة0 وقد أقيمت ضدي من قبلهم ثلاث دعاوي. والمهم أن افتراءات شاكر مصطفى سليم على المخزومي حوّلته غولا في أذهان الناس. وأذكر بهذه المناسبة أنه حينما التحق المخزومي بجامعة الملك سعود في الرياض في عام 1964 كان الطلاب السعوديون الذين اطلعوا على كتابات شاكر مصطفى سليم يأتون للتفرج على هذا الغول. ولكن حين صار معروفا للطلبة دهشوا لتناقض الصورتين. فقد أسرهم المخزومي برقته ووداعته ودماثته وهي صفات متأصلة فيه وليست متكلفة. وقد أحبه طلبته وزملاؤه الأساتذة السعوديون محبة جمة0 وقد أدهشهم بغزارة علمه ودماثة خلقه. وكما أشرت في البداية فقد وطّدت صلتنا أحداث الحياة اليومية بصورة عميقة. فإضافة إلى عملي مساعدا له في إدارة كلية الآداب فقد تزاملنا في اللجنة المركزية لاتحاد الأدباء العراقيين في أوائل الستينات. كما تزاملنا في السكنى أيضا. فقد حصلنا من جمعية مساكن أساتذة الجامعة على قطعتي أرض لا يفصل بينهما سوى مسيرة دقيقة واحدة (في منطقة الداوودي). وقد وفر لنا ذلك اللقاء بصورة دائمة مما وثق صلاتنا الأسرية. ولقد كان هذا التجاور عاملا في إنقاذ حياته من أزمة قلبية تعرض لها ذات يوم. ففي ذات ليلة من ليالي عام 1975 (في أيام "أبو طبر" المخيفة) انهالت الطرقات على باب منزلنا في حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ولما فتحت الباب رأيت أمامي زوجة المخزومي وهي في غاية الاضطراب. وبادرتني بالقول إن المخزومي في حالة سيئة جدا. وهرعت إليه فوجدته بالكاد يستطيع الكلام. وكان لابد من إحضار الطبيب له. ولكن الأمر بدا مستحيلا في تلك الساعة وفي ذلك الظرف المرعب0 فلم يكن هناك من هو مستعد لمغادرة بيته بعد منتصف الليل. وتذكرت طبيبا يسكن المنصور كانت تربطني به صداقة قديمة فأسرعت إليه0 واستجاب لرجائي وصحبني إلى بيت المخزومي. ولما فحصه قال لي إنه يعاني من أزمة قلبية حادة وإن لم يسعف في الحال فسيفقد حياته. ومنعني من نقله بسيارتي إلى المستشفى0 واستدعينا الإسعاف ولحسن حظنا لم يتأخر في الحضور، ورافقته إلى مدينة الطب. وما كاد يتمدد على طاولة الفحص ويسأله الطبيب عما يشكو حتى أغمض عينيه وتوقف قلبه عن الخفقان. وساد غرفة الفحص اضطراب شديد وبذلت محاولات محمومة لإعادة قلبه إلى العمل. واستغرقت تلك المحاولات دقيقة واحدة كنت أنتظر أثناءها خارج غرفة الفحص، ولعلها كانت أطول دقيقة في حياتي. وكنت قد يئست من عودة الحياة إليه. ولكن ما كان أعظم سروري حين فتحت الباب وأطل الطبيب منها قائلا: "إن قلبه قد عاد إلى العمل". وقد مكث إثر تلك الليلة في مدينة الطب ما يقرب من ثلاثة أشهر كنت أزوره أثناءها كل يوم تقريبا. وحينما عاد إلى العمل ولم يعد بوسعه السياقة كان يرافقني في سيارتي كلما قصد الكلية. وشاءت أحداث الحياة أيضا أن نتشارك في مأساة مروعة كان لتجاور دارينا أيضا عامل في ذلك- وهو أن يتم اعتقالنا في وقت واحد في أحداث 1963. فقد اعتقلنا في اليوم الأول في مساء يوم الجمعة في حوالي العاشرة مساء، وحملونا في نفس السيارة (البيكب) وبرفقتنا صديقي الرسام الكبير المرحوم خالد الجادر (الذي كان منزله ملاصقا لمنزلي). والتحق بنا في نفس السيارة الصديق شاطي عودة وعدد آخر تجاوز العشرين. ونقلنا أولا إلى مركز شرطة المنصور حيث مكثنا ما يقرب من ساعة. ثم نقلونا إلى مركز شرطة الكرخ ومكثنا فيه حوالي الساعة أيضا0 ثم حملونا إلى مديرية الأمن العامة التي مكثنا فيها ما يقرب من ساعتين نقلونا بعدها إلى المعتقل رقم 1 (المعتقل العسكري). وفي طريقنا إلى مديرية الأمن العامة كدنا نفقد حياتنا. فما أن اجتازت سيارتنا جسر الشهداء حتى أوقفتها ثلة من الضباط، وتساءلوا من نكون؟ فأجابهم المسئول عن السيارة إنهم شيوعيون، (وكان يصحبنا في السيارة عدد من الحرس القومي). فطلبوا من رئيس حرسنا أن ينزلنا من السيارة لينفذوا فينا حكم الإعدام طبقا للبيان رقم 13. لكنه أجابهم بحزم إن لديه أمر بتسليمنا إلى مديرية الأمن العامة وأننا أمانة بين يديه. واشتد الجدل بينه وبين الضابط وشهر كل منهم سلاحه في وجه الآخر0 وكنا نتفرج على الجدل الدائر بينهم وكأن الأمر لا يعنينا! وأخيرا تراجع الضباط وسمحوا لسيارتنا بمواصلة طريقنا. وهكذا أنقذنا من الموت بأعجوبة بفضل إصرار المسئول عن سيارتنا. وقد أمضيت مع المخزومي قرابة شهر في نفس الغرفة في معتقل رقم 1. وقد ضمت الغرفة ما يقرب من عشرين شخصا وهي لا تتسّع إلاّ لمعيشة ثلاثة أشخاص. وكان من جملة رفاقنا خالد الجادر وشاطي عودة والدكتور عبد الجبار عبد الله رئيس الجامعة وإبراهيم كبة. وكانت ظروف المعتقل في غاية السوء (وقد صورتها في مسرحيتي "الشيء"). وكان المخزومي من بين القلائل الذين تحلوا بصبر عظيم في احتمال ظروف الحياة القاسية في السجن.ثم فارقته بعد أن نقلت إلى سجن الحلة، وكان من جملة رفاقي المرحوم الدكتور عبدالحميد البستاني طبيب الأطفال المشهور0 وشاءت ظروف الحياة أيضا أن نظل أنا والمخزومي متلازمين. فحينما عزلت من كلية الآداب في أعقاب أحداث رمضان 1963 (وعزل معي خمسة آخرون من كلية الآداب كان من بينهم المخزومي وعلي جواد الطاهر وخزعل البيرماني وعبد الجليل الطاهر) تناهى نبأ عزلي إلى الدكتور عبد العزيز الخويطر الذي كان يومذاك مديرا لجامعة الملك سعود. وكان زميلا لي وصديقا أثناء دراستي في لندن. فأرسل إليّ برقية يستدعيني للالتحاق بجامعة الملك سعود. ولما التحقت بالجامعة- بعد صعوبات جمة- طلب مني أن أقدم له أسماء بعض الأساتذة المعزولين ممن أثق بمكانتهم العلمية. فقدمت إليه من بين الأسماء المخزومي وعلي جواد الطاهر وعبد الجليل الطاهر وعدد آخر من الأساتذة. وهكذا تزاملنا من جديد أنا والمخزومي في جامعة الملك سعود. وأذكر بهذه المناسبة أن السلطات العراقية يومذاك ظلت تلاحقنا- أنا والمخزومي بالذات- طوال بقائنا في السعودية لقرابة خمس سنوات وتحث السلطات السعودية على طردنا. لكن السلطات السعودية رفضت الاستجابة لتحريضاتهم. وكان أكبر المدافعين عنا الدكتور عبد العزيز الخويطر والمرحوم المحامي عبد الرزاق الحمود عضو الجبهة القومية لعام ،1954 والذي كان يقيم في الرياض يومذاك، وكان مقربا للسلطات. وخلال بقائنا في الرياض ازدادت علاقتنا الأسرية متانة، حتى أننا كنا نمضي إجازتنا الصيفية معا في لبنان في مصيف ظهور الشوير. واستمرت علاقتنا بنفس المتانة حينما عدنا إلى العراق في عام 1968 عندما ألغت جامعة بغداد قرارها بعزلنا وذلك قبل مجيء حكومة البعث للمرة الثانية في عام 1968. وأخيرا قامت جامعة بغداد في مقتبل عام 1981 بإحالتنا على التقاعد مرة أخرى (في قائمة واحدة مع أثنين آخرين هما علي جواد طاهر ومعروف خزندار). ولم نفترق عن بعضنا إلا في عام 1986 حينما سافرت إلى الجمهورية اليمنية للعمل في جامعة صنعاء. ولم أره ثانية لأنني لم أعد إلى الوطن منذ غادرته للأسباب المعروفة . وبعد كل شيء فهل يكون ثمة صلة بين صديقين أقوى من هذه الصلة؟! قال الباحث الشاب في حماسة: إنها لصداقة رائعة حقا. قال الأديب الشيخ بحرارة: ولكن الأمر المهم في هذه الصداقة أنني انتفعت من علم المخزومي كثيرا في تقويم لغتي، كما أنني انتفعت من ملاحظاته القيمّة التي كان يبديها حول قصصي التي كنت أعرضها عليه، وهو ذوّاق ممتاز للأدب. قال الباحث الشاب: هذا أمر لاشك فيه. وأطرق الأديب الشيخ وقد بدا الحزن على وجهه0 ثم قال في مرارة وقد التوت شفتاه: ولعل من سخرية الزمن أن عالماً ضليعاً في اللغة مثله يشهد له القاصي والداني لم يختر عضواً في المجمع العلمي العراقي، كما لم يختر أيضاً علي جواد الطاهر، فيا له من عقوق. قال الباحث الشاب: ما أشد ما يحزنني حديثك هذا عن العلاّمة المخزومي يا سيدي.. وكم يحزّ في نفسي أن تتعرض أنت والمخزومي وأمثالكما من علماء البلد وأدبائه إلى مثل ذلك الأذى والجحود على أيدي حكّام مارقين.. إنه لأمر مؤسف حقا. وخيّم صمت حزين وأطرق الأديب الشيخ والباحث الشاب وقد تعكّر وجهاهما. وأخيراً رفع الباحث الشاب رأسه وقال بلهجة مترفقة: هل تسمح لي يا سيدي أن أسألك عن الآخرين الذين أثرّوا في حياتك الأدبية المبكرة؟
محمود تيمور قال الأديب الشيخ بنبرة وشت بحرارة عواطفه: سأحدثك عن شخص من أحب الأشخاص إلى قلبي وممن ترك بصمة واضحة في أدبي في تلك المرحلة المبكرة وهو القصصي الكبير المرحوم محمود تيمور. وبهذه المناسبة أقول لك أنني أعدّ محمود تيمور أستاذي الأول في القصة القصيرة. أما أستاذي اللاحق فكان أنطون تشيخوف. صحيح أنني كنت متأثراً نوعما في بداية كتابتي للقصة بالكاتب الفرنسي جي دي موبسان الذي عرفته على صفحات مجلة "الرواية". ولاشك أن محمود تيمور نفسه تأثر في بداية عهده بكتابة القصة بموبسان أيضاً ، وربما حتى لغاية أواخر عهده. وما أكثر القصصيين الأوربيين الذين تأثروا بموبسان في بداية عهدهم بكتابة القصة القصيرة. فموبسان في الواقع هو خالق النمط الفني الجديد للقصة القصيرة في أوائل القرن التاسع عشر. وكان عملاق القصة القصيرة في مطلع عهد الواقعية.. عهد فكتور هوغو وأنوريه دي بلزاك وغوستاف فلوبير إميل زولا . وكان إحدى القمم الشامخة في الأدب الفرنسي. حتى شيخوف نفسه أستاذ القصة الفنية الحديثة قد تأثّر به في بداية كتابته للقصة القصيرة. وقد قرأت له مرة كلاماً يشيد بموبسان ودوره الرائد في خلق القصة القصيرة. لكن لقصص موبسان عيوبها المعروفة والتي تؤكد على الجوانب الكلاسيكية كالعقده والحل والمفاجأة وتنأى عن الغوص في أعماق النفس البشرية وتنطوي على الشيء الكثير من خصائص الحكاية. وربما وقع محمود تيمور في بداية حياته الأدبية تحت سلطان موبسان في هذه الخصائص. لكنه عرف فيما بعد تشيخوف فتأثر بفنّه. ولقد انسحب تأثّر تيمور بموبسان وتأثّري بتيمور على مجموعتي القصصية الأولى "صراع" التي صدرت عام 1948 وقد أهديتها إليه0 ففي تلك المرحلة من حياتي عرفت تيمور، وبالذات في سنتي الثالثة المتوسطة، ففتنت به. لاحظ أن تيمور كان يومذاك الشخصية الطاغية في القصة العربية، ولم يكن يضاهيه أي كاتب آخر. وأنا أعتقد أن القصة العربية تدين لتيمور بدين عظيم. ولعله كان الكاتب الوحيد الذي ظل مخلصاً لها إلى آخر حياته. وهو يذكّرني في اخلاصه هذا بموقف تشيخوف من القصة القصيرة والتي كانت دائماً وأبداً السّلم الذي يرتقيه الكتّاب ليصلوا إلى الرواية. وإذا ما بلغوها نبذوا القصة القصيرة وتنكروا لها ولم يعودوا إليها إلا نادرا. وهذه القاعدة كانت-ولعلها لا تزال- نافذة في آداب العالم المختلفة. وبوسعي أن اعددّ لك العشرات من الكتاب الغربيين الكبار الذين بدؤا حياتهم الأدبية كتّاب قصة قصيرة ثم تحولوا فيما بعد إلى الرواية. ولا أدري ما هو السبب.. ربما يعود إلى شعورهم بأن الرواية تستوعب إمكاناتهم وطاقاتهم الضخمة. ولعل الوحيد الذي لم يفعل ذلك هو أنطون تشيخوف سيد القصة القصيرة في زمانه. ومع أنه عاش ضمن مرحلة العمالقة في الأدب الروسي الكلاسيكي من أمثال دوستويفسكي وتولستوي وتورغنيف وغوغول والذين كانت روايات البعض منهم تتجاوز الآلف صفحة لكنه ظل مصراً على التشبت بالقصة القصيرة. ولم يكتب طوال حياته سوى رواية واحدة عنوانها "ذلك الشخص التافه ديموف"، وكانت رواية ضعيفة. فاتعض بتلك التجربة الفاشلة ولم يكررها. ويندر أن يرد ذكر تلك الرواية. وقد صمد تشيخوف في وجه إغراء كتابة الرواية وهو يشهد المجد الذي يحققه في عهده كتّاب الرواية العظام، وخصوصا تولستوى ودوستويفسكي، حتى استطاع قبل وفاته أن يحرز للقصة القصيرة مكانة عالية لدى القارئ الروسي تضاهي مكانة الرواية. وترتبط سيرة تيمور في ذهني بسيرة تشيخوف في جوانب كثيرة، بل إنني لأزعم أنه شبيه له في خلقه أيضاً. فهو لم يكتب في حياته سوى روايتين هما "كليوباترة في خان الخليلي" و "سلوى في مهب الريح" ولا يمكن اعتبار "نداء المجهول " رواية فهي ليست سوى قصة طويلة. ولم يصب في هاتين الروايتين ما أصابه من نجاح في قصصه القصيرة. كذلك سار محمود تيمور على منوال تشيخوف فألفّ للمسرح لكنه لم يحلّق فيه كما حلّق تشيخوف، وإن كانت مسرحياته التاريخية على مستوى طيب. أما تشيخوف فيعد من عمالقة المسرح الحديث الخارج على الأصول التقليدية لمسرح القرن التاسع عشر، على الرغم من أنه لم يكتب سوى أربع أو خمس مسرحيات طويلة وبعض المسرحيات القصار. وصمت الأديب الشيخ لحظة ليلتقط أنفاسه ثم واصل الحديث قائلاً: ولأعد إلى الكلام عن بداية معرفتي بتيمور. فقد ذكرت لك أنني عرفته وأنا في السنة الثالثة المتوسطة. وكنت قد أضحيت كاتباً تنشر لي مجلات العراقية والعربية باستمرار. فقد قرأت له يوماً إحدى مجموعاته القصصية ولا أتذكر أيها بالضبط ففتنتني. وبادرت بكتابة مقال ضاف عنها في إحدى المجلات الأدبية. وأرسلت إليه نسخة من المجلة المذكورة مشفوعة برسالة أعّبر فيها عن إعجابي الشديد بالمجموعة القصصية. ولدهشتي وفرحي الشديدين تلقيت بعد مضي أقل من أسبوعين رزمة ضخمة تضم عدداً من كتب تيمور مرفقة برسالة قصيرة تعبر عن شكره وتثمينه للمقال المذكور. وكانت تلك الرسالة فاتحة لمراسلات متصلة بيننا لم تنقطع حتى تمّ لقاؤنا في القاهرة عام 1948 حينما سافرت للدراسة في جامعتها. حكاية.. وشغفت في هذه المرحلة من حياتي بتيمور ولم يكن لساني يكّل من الحديث عنه. وكان لأحد إخواني الكبار صديق من أهل السوق محباً للثقافة فقرر أن يطلق اسم تيمور على ابنه المقبل، وكانت زوجه حاملاً يومذاك ورزقه الله بولد فسماه تيمور. وانعكس شغفي بتيمور في المقالات التي كنت أكتبها عن مؤلفاته. وكانت تلك المؤلفات تصلني بالبريد حال صدورها. وكنت أبادر بكتابة مقالات مسهبة عنها. وفي وسعك أن تراجع بعض تلك الكتابات في كتابي المعنون "كتابات مبكرة". ولم يقتصر اهتمامي بتيمور على الكتابة عن مؤلفاته بل عينّت نفسي محامياً عنه ضد كل من يتجرأ على الإساءة إلى أدبه. وفي كتابي "كتابات مبكرة" نماذج من تلك المقالات. وسكت الأديب الشيخ فقال الباحث متسائلاً: ولكن لماذا فتنك أدب تيمور إلى هذا الحد يا سيدي مع أنك كنت تطّلع على ثمار الأدب العالمي وفيها ما فيها من قمم وشوامخ؟! قال الأديب الشيخ وهو يرنو إلى الباحث بنظرات متأملة: إسمع يا صديقي. أنت تعيش الآن في عهد آخر غير العهد الذي عشته. وصحيح أنني كنت أقرأ ثمار الأدب العالمي مترجمة إلى اللغة العربية، لكن تلك الكتابات المترجمة كانت محدودة يومذاك. ثم أنني كنت أنظر إليها على أنها أدباً أجنبياً. أما أدبنا العربي فكان له في عرفي شأن آخر. وكنت أرى تيمور قمة من قممه بل وأعلى قمة قصصية فيه. أنا لا أنكر أنه كان هناك قصاصون آخرون يدانونه براعة كيحيى حقي مثلاً لكنه كان الأبرز والأكثر تواجداً في السوق. ثم أن عدد كتّاب القصة كان محدودا يومذاك، ليس في سائر أنحاء الوطن العربي فحسب، بل في مصر أيضاً. وكان تيمور علماً في أدب القصة، فمن الطبيعي أن يستحوذ على كل اهتمامي، لاسيما وأن ميلي كان متركزاً في القصة القصيرة. وأنا في الحقيقة لا أستغرب سؤالك هذا واستهانتك بأهمية تيمور في ميدان القصة القصيرة.. قاطع الباحث الأديب الشيخ قائلاً: أستغفر الله يا سيدي فأنا لم أقصد إلى هذا المعنى، ومكانة تيمور في أدب القصة العربي لا يختلف فيها اثنان. قال الكاتب الشيخ وقد بدت على وجهه علائم الارتياح: على كل حال أنا لا أستغرب سؤالك هذا يا صديقي فلم يعد اسم تيمور يتردد اليوم على أقلام الكتّاب وفي صدر الصحف والمجلات كما يتردد اسم طه حسين والعقاد والحكيم والمازني، مع أن هؤلاء ليسوا أعظم أهمية منه فيما لعبوه من دور في الأدب العربي الحديث. وإن ذلك ليدهشني ويؤلمني حقاً. فلماذا يعمّى على قيمة تيمور الأدبية ويبخس دوره الرائد في القصة العربية؟! ولماذا لا يذكر مع العمالقة الذين ذكرتهم وهو لا يقل عنهم أهمية ؟ إن محمود تيمور هو رائد القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث. وإن مجموعاته القصصية من أمثال "الشيخ عفا الله" و "أبو علي عامل آرتيست" و "قلب غانية" و "قال الراوي" و "مكتوب على الجبين" و "كل عام وانتم بخير" و "شباب وغانيات" و"دنيا جديدة" إلى آخره، لمن أنفس ما كتب من قصص قصيرة في أدبنا العربي الحديث بما تنطوي عليه من رسم دقيق للشخوص والغوص في أعماق النفس البشرية والحوار الطلي. وهي سجل لحياة الشعب المصري وخصوصاً أبناء الريف البسطاء الذين أولع تيمور ولعاً خاصاً بتصوير حياتهم. ويمكنك أن تقول بان هناك نوعا من التماثل بينه وبين نجيب محفوظ. فروايات نجيب محفوظ هي سجل للمجتمع المصري المدني في حين أن قصص محمود تيمور هي سجل للمجتمع المصري الريفي. وكان تعاطف تيمور مع الفلاح المسحوق أمراً مثيراً للاستغراب. فهو كما تعلم ابن باشا ومن أسرة أرستقراطية عريقة. ولكن نفسه الرهيفة ومشاعره الإنسانية العالية لم تكن لتحجب عنه ما يكابده الفلاح المصري من بؤس. وأوكد لك مرة أخرى يا صديقي أن أسلوبه في كتابة القصة الواقعية كان أسلوباً متفرداً، ولم يكن أدبه مجرد نقل وصفي من الواقع. وكان من بين الأوائل الذين كتبوا حوار الشخصيات بلغتهم العامية تأكيدا على الجانب الفني في القصة. ومن المؤسف أنه غيّر رأيه في أواخر حياته وأعاد كتابة قصصه الأولى بلغة معجمية وإن كانت لغة مشرقة وصافية. وقد أخلّت هذه اللغة في بعض المواضع بالجوانب الفنّية من القصص. فقد أفقد ذلك قصصه حيويتها وتدفقها خصوصاً وإن معظمها يدور حول حياة أناس بسطاء من أبناء الشعب. ويخيل إليّ أن هذا الانقلاب في أفكاره عن مقومات القصة، وأقصد ما يتعلق بلغتها وحوارها، يعود إلى اختياره عضواً في مجمع اللغة العربية، فحاول أن يثبت انه ليس أقل معرفة باللغة من جهايذة اللغويين الأكاديميين.. لاحظ أن تيمور لم يدرس دراسة عالية شأنه ِشأن العقاد. وأذكّرك بأن نجيب محفوظ بجلالة قدره لم يختر عضواً في مجمع اللغة العربية. فمن المعروف أن لغته ليست عالية. وعضوية "المجمع اللغوي" قاصرة على المتميزين باللغة. فحال المجمع ليس كحال "الأكاديمية الفرنسية" التي تضم إليها كل كاتب يعلو شأنه. والحقيقة أن تيمور واصل طريق التنطع اللغوي وأصدر كتباً أو كتّيبات حاول فيها أن يقرّب اللغة العامية من الفصحى، كما حاول أن يلقي بعض الأضواء على مشاكل لغوية. ولحسن الحظ أن هذا الخطأ الذي وقع فيه تيمور لم يقع فيه الحكيم ولا نجيب محفوظ. قال الباحث الشاب بلهجة مترفقة: ولكن أفلا ترى يا سيدي أن حماسك الشديد لتيمور يومذاك ربما كان متأثراً بصلتك الشخصية به إضافة إلى إعجابك بأدبه؟ فكّر الأديب الشيخ لحظة ثم قال: أعتقد أن هذه نقطة مهمة فعلاً. فالصلة التي انعقدت بيننا كان لها أثراً في إعجابي بأدبه. فلم يفتّني أدب تيمور فحسب، بل فتنتني أخلاقه كما انعكست في رسائله، ورسمت صورة جميلة في مخّيلتي. تصورته شخصاً دمث الخلق، رقيقاً، مهذباً، يمتلئ قلبه بالحب. وهكذا وجدته بالفعل حينما التقيت به. وكان على رأس رغائبي حينما شددت الرحال للدراسة في مصر هي اللقاء بتيمور. وكان ذلك سبباً قوياً من أسباب تفضيلي الدراسة في جامعة القاهرة على غيرها من الجامعات في البلدان الأوربية وأمريكا. وكنت قد اخترت عضوا في البعثة العلمية لعام 1947 للحصول على الليسانس في الجغرافية. وكان أمامي خيارات عديدة في بلدان الدراسة. وبطبيعة الحال كان من دوافع اختياري للقاهرة الالتقاء بالأدباء الآخرين الذين كنت أراسلهم، كنجيب محفوظ، مثلاً والعيش في القاهرة مركز النشاط الأدبي في العالم العربي. ولا تسلني عن سعادتي يوم التقيت لأول مرة بمحمود تيمور.. كان يوماً مشهوداً من أيام حياتي حقاً! وقد قابلني تيمور بنفس المحبة والحرارة والترحاب. وخلال إقامتي في القاهرة التي دامت أربع سنوات كنت ألتقي بتيمور مرة كل أسبوعين عدا شهور الصيف. وكنا نتواعد في "مقهى الجمال" الواقعة في شارع عبد الخالق ثروت على ما أتذكر. وكان لقاؤنا يتم عادة بين الساعة العاشرة والثانية عشرة صباحاً. وسحرني تيمور بتواضعه ودماثته وجمال خلقه، وقد جمع إلى ذلك جمال الخلقة أيضاً. كان شخصاً رقيق الجسم والوجه تنبئ حركاته الوئيدة عن الاتّزان واللطف. وكان صوته دافئاً عميقاً. ويندر أن يرتفع عن المألوف حتى في أشد الأحاديث حرارة. وكان يحضر لقاءاتنا عادة بعض الضيوف، واحد أو اثنان أو ثلاثة على أبعد الحدود. وذات مرة قال لي تيمور معلقاً على قلة أصدقائه: لا تظن أنني ميال إلى العزلة يا شاكر. فأنا بطبعي اجتماعي جداً. وكنت في صدر شبابي جّم الأصدقاء والمعارف. وكان يحضر مجلسي مالا يقل عن العشرة أو الخمسة عشر شخصاً. وكان الكثيرون منهم مجرد معارف ينشدون معونتي في مشاكل تتعلق بالإدارات الحكومية. ولم أكن اقتصد في ذلك جهد استطاعتي. لكن الأيام كشفت لي عن زيف العديد من أولئك المعارف والأصدقاء، بل كثيراً ما آذوني وأساؤا إليّ بشكل أو بآخر. فتقلص عدد معارفي وأصدقائي على مّر الأيام حتى اقتصر على القليلين كما ترى. وقد اقتنعت بأن الناس يجرؤن وراء مصالحهم وقليل منهم من يمحض الود الخالص. سكت الأديب الشيخ لحظة ثم قال وهو ينظر في وجه الباحث: لاحظ أن محمود تيمور كان ابن العلامة أحمد تيمور باشا صاحب الحظوة والجاه وكان شقيق إسماعيل تيمور باشا الذي كان مديراً للديوان الملكي يومذاك. فلا عجب أن يكون في استطاعته التوسط للمحتاجين في الإدارات الحكومية. قال الباحث مبتسماً: ولا عجب في أن يتجمع هذا العدد الكثير في المقهى حوله. وصمت الأديب الشيخ لحظات ثم عاد يقول: ولقد بقيت وثيق الصلة بتيمور طوال مدة وجودي في القاهرة. ولم تكن هذه الصلة مقتصرة على اللقاءات الأسبوعية المنظمة فحسب بل كان يحرص على دعوتي كلما أقام حفلة تعارف في مناسبة من المناسبات وخصوصاً حينما يلتقي بمستشرقين معجبين بأدبه. ولعل آخر دعوة حضرتها من هذا النوع هي تلك المأدبة التي أقامها للمستشرق ديفيز في إحدى مطاعم القاهرة ودعا فيها لفيفا من الأدباء كان من ضمنهم نجيب محفوظ وعبد الحميد جودة السحار وعلي أحمد باكثير وعادل كامل ويوسف جوهر وغيرهم. وصمت الأديب الشيخ متأملاً ثم هز رأسه وقال كمن يخاطب نفسه: كان تيمور يمحضني الحب حقاً. كان يبادلني نفس عاطفتي. وكثيراً ما لمست في تعامله معي وحدبه عليّ عطفاً أبوياً وليس مجرد التعاطف الأدبي. وكان قد قارب الستين يومذاك وكنت قد أشرفت على الثامنة عشرة. ومن يدري؟ لعله كان ينظر إليّ بمثابة ابنه. وكان تيمور قد فقد قبل سنوات ابنه الوحيد وهو في سن الثامنة عشرة في عملية جراحية للمصران الآعور. وكان فقده كارثة عليه. ويقال انه أصيب في حينها بصدمة عاطفيه قوية. فباع مكتبته وهجر الكتابة وانعزل لشهور طويلة عن المجتمع. وسكت الأديب الشيخ لحظة ثم قال وهو ينظر في وجه الباحث: لاحظ أنني أقول هذا الكلام احتمالا وأنني استوحيته مما كنت ألمسه من حرارة عواطفه تجاهي. وفي آخر لقاء لنا ظهرت على وجهه علائم الأسى للفراق الوشيك وأخرج من حقيبته ساعة صغيرة دقاقة وقال وهو يناولني إياها: أرجو أن تتذكرني يا شاكر كلما سمعت دقات هذه الساعة. فقلت متأثراً: أنا لست في حاجة إلى ساعة لكي تذكرني بك يا أستاذي. قال الباحث الشاب: الآن أستطيع أن أفهم لماذا بلغ حبك لتيمور ذلك المدى! وصمت الأديب الشيخ وتاهت عيناه وكأنه يستعيد ذكرياته عن تيمور، فاحترم الباحث صمته. وبعد دقائق تساءل الباحث برفق: وماذا بعد ذلك يا سيدي؟ ماذا في حياتك من أحداث وشخوص في مرحلة دراستك الثانوية وقبل سفرك إلى القاهرة غير صلتك الحميمة بتيمور؟ قال الأديب الشيخ وبسمة خفيفة تعلو وجهه: كانت هذه المرحلة حافلة بالنشاط الأدبي المحموم يا صديقي. كان لا يكاد يمر شهر دون أن يظهر لي مقال أو قصة في صفحات إحدى المجلات أو الجرائد العراقية. ثم امتد نشاطي إلى خارج العراق فأخذت أنشر في مجلة "الرسالة" المصرية وفي عدد من المجلات اللبنانية مثل "الأديب" و "الطريق" و"شهرزاد" وغيرها. واحسب أنني أصبحت كاتباً معروفا على صعيد القطر العراقي لكثرة ظهور اسمي في الصحف والمجلات. وتطورت صلاتي بالكتّاب العراقيين والعرب وتبادلت الرسائل مع عدد منهم. ولم تعد مراسلاتي قاصرة على تيمور وإن ظل يحتل المقام الأول من اهتمامي. أخذت أتراسل مع نجيب محفوظ وعبد الحميد جودة السحار وسهيل ادريس ورئيف خوري وغيرهم. وتوسعت صلاتي بالكتّاب العراقيين البارزين. وكنت قد أصبحت من كتّاب مجلة "الهاتف" النجفية الأسبوعية. وكانت من المجلات الأدبية البارزة التي أسدت يومذاك للأدب العراقي خدمة كبيرة. وكانت تعنى عناية خاصة بالقصة، وذلك أن محررها وصاحبها كان من كتّاب القصة المخضرمين وهو الأستاذ جعفر الخليلي رحمه الله، وقد انعقدت بيننا صلة طيبة كما ذكرت. وكان من كتّابها الدائميين المرحوم الأستاذ عبد المجيد لطفي. وكانت مقالاته وقصصه تستلفتني بأسلوبها الشعري الجذاب وبمضامينها الاجتماعية السامية. فكان أن تبادلنا رسائل الإعجاب والثناء. وفيما بعد ربطت بيننا صلة قوية.
مجموعة " صراع" وقبل أن أنتهي من الدراسة الثانوية كان قد توفر لي عدد من القصص يصلح لأن يكوّن مجموعة طيبة. ورأيت أن أعرضها على عبد المجيد لطفي ليبدي فيها رأيه ويخبرني عن مدى صلاحيتها للنشر، فإذا به يعيدها إليّ بعد أسابيع مشفوعة بمقدمة ضافية فيها الكثير من الإطراء. فزاد ذلك من قناعتي بضرورة نشرها. وأخذت أتحيّن الفرص لنشرها لاسيما وأن علي جواد طاهر أيّد نشرها أيضاً. تساءل الباحث: ومتى نشرت هذه المجموعة القصصية يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ: لم يتأخر نشرها كثيراً. فبعد مضي بضعة شهور على تخرجي من الثانوية قبلت عضواً في البعثة العلمية وسافرت للدراسة في جامعة القاهرة كما ذكرت. وفي خلال شهر من وصولي إلى القاهرة دفعت المجموعة للنشر فظهرت في نهاية عام 1948 مشفوعة بمقدمة لعبد المجيد لطفي. وكانت كتابي الأول. وفي حينها كنت متردداً في العنوان الذي اختاره لها. وقد شاركني هذا التردد علي جواد الطاهر وكان يومذاك يدرس في جامعة القاهرة استعداداً لإكمال دراسته في باريس. واقترح عليّ عدة عناوين كان من ضمنها "الباكورة" و "أول الغيث" و "أقاصيص". ولا أتذكر لماذا خطر لي أن اختار لها عنوان "أحزان خالدة". ثم استقر رأينا -علي جواد وأنا- أن نطلق عليها عنوان القصة الأولى وهي "صراع". وكان يقيم يومذاك في القاهرة صحفي عراقي يراسل مجلة "الهاتف" النجفية وهو المرحوم مشكور الأسدي. فلما استقر رأينا على العنوان المذكور كتب في مجلة "الهاتف" في عددها المرقم 512 والمؤرخ 10/12/1948 يقول: (الشاب لا يعرف الاستكانة إلى الأحزان بل من واجبه أن يرمي نفسه على هذه الأحزان التي تنوشه فيصارعها أو هكذا ينبغي أن يكون. فأما أن تصرعه أو أن يصرعها. والنتيجة ليست مهمة بقدر أهمية تلك الروح التي تنبعث في الشاب فيهجم ويصارع. وقد ذكرنا في الرسالة سابقة أن الأستاذ شاكر خصباك أعّد مجموعة قصصية لنشرها في كتاب تحت عنوان "أحزان خالدة". لكنه بين يوم وليلة رجعت إليه حميّة الشباب فأبى من ثمة إلا أن يصارع هذه الأحزان. ومن ثمّ ترك العنوان السابق ووضع لكتابه اسماً لاحقاً هو "صراع". وقد صدر هذا الكتاب مؤخراً في مائتي صفحة). تساءل الباحث وهو يبتسم: وكيف كان شعورك يا سيدي وأنت ترى أول كتاب لك يظهر إلى الوجود وخصوصاً وأنك كنت لا تزال في سن مبكرة؟ اعتدل الأديب الشيخ في جلسته وقد انطلق وجهه وقال ببهجة: لا أكتمك يا صديقي أنني شعرت بسرور بالغ وأنا أتصفح الكتاب وعلى غلافه صورة جذابة لامرأة جميلة يطل من خلفها الشيطان بلحية مدببة وقرنين منتصبين. وسكت الأديب الشيخ وتاهت عيناه ثم أطلق ضحكة خفيفة. فتساءل الباحث باسماً: ألا تخبرني يا سيدي ما الذي يضحكك؟ حكاية.. فالتفت إليه الأديب الشيخ وقال والابتسامة تملأ وجهه: ما أضحكني الحادثة التالية التي تذكرتها الآن. فلقد حملت الكتاب عند صدوره إلى الدكتور محمد عوض محمد الذي كان من أكبر روّاد الجغرافية في العالم العربي يومذاك كما كان من كبار الأدباء في مصر. وكان أحد أساتذتي في قسم الجغرافية بكلية الآداب. وكنت في سنتي الأولى. فلما دخلت عليه مكتبه وناولته الكتاب في تهيّب ألقى على الغلاف نظرة سريعة ثم رمى الكتاب على المنضدة وقال: "إنزع هذا الغلاف قبل أن تأتيني به". فاسترجعت الكتاب وأنا أتصبب عرقا. لكنني أعدته إليه ثانية بعد أن جلّدته تجليداً جميلاً. وقد أخبرني فيما بعد أنه قرأ بعض قصصه وأعجب بها. وطلب مني أن أستمر في كتابة القصص وأن أُعنى بلغتي. قال الباحث الشاب بلهجة مترددة: ولكنها خشونة منه تجاه طالب مستجد وأديب ناشئ. فقال الكاتب الشيخ وهو يضحك ضحكة صغيرة: هكذا كان المرحوم محمد عوض محمد.. أستاذا جليلاً وأديبا كبيراً لكنه كان معروفاً بخشونته وصراحته.. وعلى كل حال فقد سررت لإعجابه ببعض قصص الكتاب. ولقد زاد من سروري واعتزازي بالكتاب فيما بعد أن الكتاب استقبل باستحسان بالغ لم أكن أتوقعه. وأعترف لك الآن أن الكتاب لم يكن أهلاً لكل ذلك الاستحسان. وحينما راجعت قصصه فيما بعد وجدت أنها تفتقر إلى الكثير من التعديلات، وهذا ما فعلته في الطبعات اللاحقة. ولعله استقبل ذلك الاستقبال لأنه كان خطوة متقدمة في القصة العراقية يومذاك. وسكت الأديب الشيخ برهة ثم نهض فجأة يفتش في رفوف مكتبته. وعاد إلى مجلسه بعد حين وهو يحمل (ملفاً) ضخماً. قال وهو يقلب (الملف) ويبادل الباحث نظرات سريعة: إذا رغبت قرأت عليك بعض الفقرات مما كتب من مقالات عنه لتحكم بنفسك على حرارة الاستقبال. قال الباحث في حماس: أكون ممتناً لك ي سيدي وهو أمر يهمني في بحثي. قال الكاتب الشيخ وهو ينظر في أوراق أمامه: لقد كتبت عنه "بنت الشاطئ" في جريدة الأهرام المصرية بعددها (22825) بتاريخ 7 مارس 1949 قائلة: (تبعث إلينا العراق من حين إلى حين بدواوين حافلة من الشعر تشهد بنهضة شعرية زاهرة. واليوم نقرأ نموذجاً من الفن النثري العراقي في مجموعة من القصص كتبها الأستاذ شاكر خصباك وعرض فيها صوراً من حياة قومه في أسلوب قصصي مبتدع له من جزالة العبارة وأصالة المعاني ودقة التحليل وبراعة الأداء ما يفسح للأديب العراقي الناشئ مكاناً ظاهراً بين أدباء الشرق. وقصص "صراع" عراقية المنشأ والاتجاه والأبطال ولكنها إنسانية الفكرة والهدف وهي تصور الصراع المحتدم في كيان الإنسان). وكتب عنه الأستاذ ذو النون الشهاب مقالة في مجلة "الجزيرة" الموصلية، بعددها المرقم 33 والمؤرخ في 1/1/1949 الخاص بالقصة ومما قال فيها: (يسرنا وقارئ هذه القصص محاط بجو فني من قصص وآراء قيمة عن فنها أن نقدم هذه المجموعة القيمة التي سطرها يراع الأديب الموهوب السيد شاكر خصباك. فقد جاءت متعة للقارئ وطرفة للأديب وتحفة تغري بالمطالعة والتأمل بما حوت من أفكار نابضة بالقوة والحياة زاخرة بشتى العواطف الجياشة. ولقد آن لنا حقا أن نفخر بأن في العراق قاصين متمكنين من فنهم بارعين في تسطير أفكارهم قادرين على التغلغل في حنايا النفس الإنسانية الرهيفة ليطلعوا أفراد المجتمع على ما اعتور حياتهم في مسراتها وأتراحها. فمؤلف هذه المجموعة نال كل الجدارة لان يقف وكبار كتاب القصة في العراق وبقيّة الأقطار العربية. وعسانا نظفر له بمجموعات أخرى تحقق فيه ظننا). ونشرت جريدة المقطم المصرية، بعددها المرقم 18585 بتاريخ 1 يناير 1949 مقالة بقلم محررها الأدبي قال فيها: (لا يتاح للمصريين كثيراً الاطلاع على ما تنتجه المطبعة العراقية من كتب ومقالات بسبب عقبات كثيرة تعترض الإصدار والاستيراد فتقف في سبيل تحقيق التعاون الفكري المرجو تحقيقاً تاماً. ولذلك يرحب المصريون بصدور كتاب "صراع" في القاهرة وهو للأديب العراقي الأستاذ شاكر خصباك. وقوامه بضعة عشرة قصة من خيرة ما صيغ من أقاصيص أخيرا. ويستبين للقارئ من مطالعته لهذا الكتاب أن مؤلفه يروم في حذق وكفاءة أن يحلل العلاقات بين المرأة والرجل وأن يصف النوازع التي تنتاب كلاّ منهما في مراحل الحياة، وأن يبسط العوامل التي تنشأ من "العقد النفسية" وأن يبيّن مناحي للحياة في العراق ليست معروفة للمصريين كثيراً). وعلقت مجلة "الدنيا الجديدة" المصرية بعددها المرقم 10 بتاريخ 14 ديسمبر 1948 على صدور الكتاب قائلة: (وضع الأستاذ شاكر خصباك مجموعة من الأقاصيص العراقية سماها "صراع" وهي صور من الحرمان الذي يعانيه الشاب في الشرق وقصص منتزعة من صميم الحياة كتبت بأسلوب حي يتدفق حماساً وقوة). وعلّقت مجلة "الصباح" المصرية بعددها رقم 1163 المؤرخ 29/12/1948 على صدور الكتاب بقولها: ( "صراع" عنوان مجموعة قصصية للأديب شاكر خصباك أزاح فيها النقاب عن حقائق حاول كثير من كتّاب القصة التهرب منها، ووضع بين يدي القارئ لقصصه طائفة من الناس تحدث عن مآسيهم وأمالهم وذكائهم وبلادتهم وحلّل نفسياتهم بدقة وبراعة. وجعل الفضيلة والرذيلة والفقر والثراء في صراع دائم بين أبطال هذه القصص). وعلقت مجلة "الهاتف" في عددها المؤرخ في 7/1/1949 على صدور الكتاب قائلة: (هذا الكتاب هو باكورة عمل أدبي ينتظر للقائم به خير كثير يرجى أن يكون كبيراً إذا واصل أعماله الأدبية. و "صراع" هذا مجموعة قصص للشاب الأديب السيد شاكر خصباك انتهز فرصة وجوده في مصر كعضو في البعثة العلمية العراقية وطبعه طبعاً متقناً يدل على ذوق سليم وسليقة ممتازة. وإننا من الذين يرون أن مثل هذا الإقدام من شبابنا أمر تقتضيه سنّة الطموح ويستدعيه الأدب. وإن أول الغيث قطر والوردة في أول حياتها برعم. وكاتب هذه القصص شاب يفيض بالحيوية ويعد من شباب العراق المجدين الذين ننتظر نجاحهم في حياتهم بامتياز وتوفيق باهرين). وظهرت تعليقات أخرى عن الكتاب في صحف ومجلات عربية عديدة مثل مجلة "الكتلة المصرية" ومجلة "منبر الشرق" المصرية ومجلة "العالم العربي" المصرية، وجريدة "صوت الأهالي" العراقية وجريدة "النداء" العراقية. وكتب عنه الأستاذ عدنان الذهبي مقالاً في مجلة "الأديب" اللبنانية في الجزء السابع من السنة الثامنة بتاريخ حزيران 1949 ومما قال فيه: ("صراع" مجموعة من القصص العراقية أخرجها الأستاذ شاكر خصباك. والظاهرة الفنية التي تلفت نظر الناقد عندما يجرب معرفة موضاعات هذه القصص أو معرفة أشخاصها هي الواقعية التي تطبع هذه القصص بطابعها الخاص، أي قربها من الحياة المحيطة بمؤلفها.. الحياة اليومية بجوانبها وأشخاصها.. الحياة العادية التي ينقلها المؤلف عن مجتمعه... المجتمع العراقي. وأنا إذ أقرر هذه الظاهرة الفنية لهذا الكتاب، أي واقعية قصصه، أقول إن الذي يعطي هذه القصص قيمتها إنما هو توفر الجانب السيكولوجي لها، في حرص مؤلفها على استقصاء وتحليل نفسيات أبطاله. وإن هذه الناحية الفنية قد أثّرت في أسلوب هذه القصص.. هذا الأسلوب الذي نراه أسلوباً ليناً هو أسلوب عرض وتحليل أكثر منه أسلوب مفاجآت وعنف). وكتب الأستاذ كمال منصور مقالاً عنه في مجلة "الأديب المصري" في عدد نوفمبر لعام 1949 ومما جاء فيه: ("صراع" مجموعة من القصص العراقية للأديب الأستاذ شاكر خصباك.. كل ما في المجموعة صراع قوي عنيف.. صراع بين الجسد الملتهب الشرير وبين الضمير الطاهر المتيقظ.. صراع بين التقاليد البالية والتجديد المتوثب.. صراع بين النعيم والحرمان.. إنها شحنة ذات هدف وغاية تدفعك معها إلى الأمام. وهي مجموعة منتزعة من صميم الحياة العراقية.. من عشيرة المؤلف وأصحابه وجيرانه وقومه. وهذه المجموعة وإن كانت تنطوي على حقائق مرة فقد وجدت من يعالجها في صراحة تامة. والقصص بأجمعها تزخر بدفقات قوية من الصراع النفسي الذي يحلق بك إلى القمة دون أن يهبط في لحظة من اللحظات. وإذا عرفنا أن العراق لا يزال بعيداً عن طور القصة استطعنا أن ندرك القيمة الأدبية للأستاذ شاكر خصباك بالنسبة للأدب المعاصر في العراق. أما أسلوب المؤلف فهو حّي متدفق لا يتعثر ولا يسف بل ينساب كجدول رقراق. هذه هي مجموعة "صراع" بما فيها من محاسن وومضات فنية ونزعات إنسانية وهي تبشر بنهضة طيبة للأدب المعاصر في العراق وتجعلنا نؤمن بأنه بدأ يأخذ بنصيبه من القصة بحظ كبير. وكتب الروائي غائب طعمة فرمان مقالاً ضافياً عنه في مجلة "الرسالة" المصرية في العدد 870 المؤرخ 6 مارس 1950 ومما قال فيه: (والكتاب الذي أعرضه على القارئ الكريم الآن هو "صراع" لقصّاص عراقي شاب لا أكون مغالباً إن قلت أنه خطا خطوة رائعة في مضمار القصة العراقية. وهو على رغم بعض المآخذ يبرز بين القصة العربية الناجحة عالي الرأس. والمؤلف شاب له أحلامه ونزعاته وميوله ونفس متوقدة حساسة تستلهم الحياة فيبرز لنا نواحي خير ما يقال فيها أنها تقع في محيطنا ولكننا نتغاضى عنها لأننا نحفل دائماً بالحوادث والمفاجآت.. بأقاصيص البطولة والشجاعة. أما الحوادث الصغيرة الساذجة الغنية بالأحاسيس والانفعالات النفسية فإننا نضرب كشحاً عنها ولا نعيرها أي التفات. لكن الأستاذ شاكر خصباك يدرك تمام الإدراك هذه الحقيقة في فن القصص فنراه لا يحفل بالحوادث والمفاجآت بل يخلق من الحوادث الصغيرة عملاً فنياً بإطار من التحليل النفسي، ويخلق الجو المشّوق الذي يدفعك إلى الاعتراف بأن للكاتب موهبة فنية ووعياً عاماً في جميع الأمور. وأغلب أقاصيص الأستاذ شاكر حافل بهذا النوع من التحليل النفسي.. وتلك فضيلة أسجلها للمؤلف من غير إجحاف. ففي الكتاب أقاصيص أول ما يطالعك فيها تحليل نفسي موفق وجو قصصيّ كامل وموهبة فنية رائعة وحياة عامرة بالمشاعر وحركة في نبض الحس وفيض الشعور.. وخلاصة المطاف أن هذا الكتاب نصر جديد للقصة العراقية ومحاولة موفقة لإنشاء قصص عراقية ناجحة في رأي الفن ورأي الحقيقة). ولقد كتب غائب طعمة فرمان مقالاً آخر عن "صراع" في مجلة "العالم العربي" المصرية دافع فيه عن الكتاب ضد هجوم شنّه عليه فؤاد الونداوي، وهو الكاتب الوحيد الذي هاجم الكتاب، ومما قال فيه: (لا ريب في أن الأدب العراقي الحديث يحتاج إلى كثير من الرعاية وإلى كثير من نكران الذات وإلى كثير من الإخلاص لكي يستكمل شخصيته ويكوّن كيانه ويصبح ذا طابع قومي صادق. والمعلوم أن النقد الأدبي- في معناه المتداول- يقّف حكماً عادلاً ومرشداً موجهاً للأدب يقّوم معوجَه ويحكم عليه حكماً لا يميل مع الهوى ويوجّه الكاتب إلى بعض مواضع الضعف فيه وينبّهه إلى مواقع الجودة والبراعة.. وفيما تلك الأحوال لا يعتبر الكلام المتحامل المهدم المفترى نقداً أدبياً بل هو معودل للهدم يورث الحقد ويزرع بذور الشقاق والنفاق ولا يكسب الأدب منها شيئاً. وأعيذ الأدب العراقي الحديث بالحق من شر هذه الآفة. إذا سلمنا بذلك كانت كلمة السيد فؤاد الونداوي في عدد مجلة "النفير" الصادرة في 15/1/1949 عن كتاب "صراع" لشاكر خصباك ما هي إلا تحامل لا مبّرر له وهدم لا يورث إلاّ الحقد. وكل منصف قرأ تلك الكلمة رأى أثرا مما يبعث في الصدور المخنوقة المهشمة من الغيظ. ولا يقف أمام أعيينا إلا معنى واحدا لهذه الكلمة وهو أن الكاتب يحمل للمؤلف ضغناً وحقداً وموجدة.. والأدب يأبى أن ينحط إلى درك التقاذف والسباب والتحامل والحقد. وقد ساء ني كثيراً أن أقرأ هذه الكلمة لا سيما وأننا في بدء نهضتنا الأدبية. وإن طبيعة الدور الذي يمّر به أدبنا يستلزم منّا الصدق في القول والإخلاص في الحكم والالتجاء إلى مقاييس شريفة عادلة حين نحكم على الأشياء. ولكن بعضنا من أمثال الونداوي يضرب صفحاً عن تلك البدهيات ويلتجئ إلى ما في قلبه من حقد وبغض ويجعلها مقياساً للحكم والنقد. فكيف نعلل وجود مثل هذا التحامل؟ فأما أن يكون المتحامل جاهلاً أو أن يكون حاقداً وكلا الأمرين بليّة وآفة. فليس للجاهل الحق في الكتابة وليس للحاقد الحق في إلقاء الأحكام. وعندي وعند كل الناس أن الحاقد جاهل وليس أدل على ذلك من إبراز حقده في مواضع مقدسة. والحقد ينشأ من أن يكون الحاقد أدنى مرتبة من المحقود عليه أو ذو مواهب لا يستطيع أن ينالها الحاقد. وكل تلك الأشياء تقف أمام قارىء تلك الكلمة. ولست بصدد إلقاء حكمي على الكتاب فلي كلمة فيه ستنشرها مجلة "الرسالة" وهناك أضع محاسن الكتاب ومعايبه. ولكنني أمام كلمة آلمتني فأجرت على قلمي هذه الكلمات وكل شيء لا يبررها أبداً. بل إنها أوقفتني أمام شيْ ممقوت وهو الكراهة. فالسيد الونداوي ألقى اسدالاً وعلى قلبه ووجدانه وخط هذه الكلمة الشوهاء وابرز هذا الحقد المقيت. فاذا بذلك الانتاج المبارك الذي يستحق كل تشجيع وتقويم ورعاية "مفاجأة سيئة"... لماذا؟! لا لسبب، فالأديب المتحامل لم يعلل لنا ذلك ولم يقنعنا بل حاول تحطيم الكتاب وتمزيقه إذا صح أن مثل تلك الكلمة تحطم كاتباً وتمزق كتابا.. إن مثل أحكامك الجائرة هذه يا سيدي الكاتب لا يمكن أن تنشر لأن القاريء يقرأ الكلمة ولا ينتهي إلى شيء، بل كل ما هنالك بعض الألفاظ التي أعتقد أن الأديب المتحامل لم يفهمها بل جاءت على لسانه لا لشيء إلاّ لأنها متداولة شائعة على ألسنة الأقلام. ولأنها لا تكلف جهداً ولا تشترى بطاقة بل هي خلاصة "الموضة" العصرية في اصطناع النقد.. فالحقيقة أن معظم القصص التي اشتمل عليها الكتاب تنّم عن موهبة عظيمة وتبرز جهداُ مشكوراً، ولكن المتحامل لم يقل هذا بل راح يتحامل من غير سبب.. وقد لاحظت التكلف الوارد في آخر الكلمة ظاهراً جلياً. ولست أدري ما الصلة بين الحكم على الكتاب وبين نقد مؤلّفه لبعض كتب قرأها. إن كل ذلك يبرهن على أن كلمة الونداوي عبارة عن تحامل لا مبرر له). وكتب الدكتور علي جواد الطاهر مقالاً مسهباً عن الكتاب نشره في مجلة "الغري" النجفية بعددها 11 و 12 من سنتها العاشرة ومما قال فيه: (أما أنا فأودّ أن أسجل ملاحظات عامة. وأول ما يجدر ذكره أن تسمية الكتاب بـ"صراع" مشتقة من القصة الأولى، ولكن ذلك لا يعني أن القصص الأخرى بعيدة عن الصراع.. لا.. فكل ما في الكتاب صراع. صراع الجنس وصراع الاقتصاد وصراع التقاليد. وكل هذا الصراعات في مفهوم العصر أمر واحد.. بل كلها تؤدي إلى نتيجة واحدة هي التقدم إلى الأمام. وأنا متأكد بأن شاكر هدف إلى هذا، لأنه من القصاصين الذين يحملون فكرة ويهدفون نحو غاية ويسيرون بوعي. ومن ينكر أثر القصص التوجيهي؟ القصص الذي وفر رواء الأسلوب وصحة الفكرة؟! أجل.. الأسلوب والفكرة. يجب أن يوفر الأسلوب الفني والفكرة الصالحة. أما إذا فقد أحد هذين الشرطين فهو إما قصة فنية هدامة وإما فكرة معقولة لا تغري المجموع ولا تستهويه ولا تسحره. وقد دار في رأس عدد من حملة الأفكار أن يغيروا الناس بأفكارهم بتقديمها باسم القصة ولكنهم لم يحظوا بغير الفشل لبعدهم عن الطريق.. أجل الأسلوب والفكرة. يجب أن توفر القصة التوجيهية الناجحة الفكرة والأسلوب.. يجب أن يسيرا فيها يداً بيد. يجب أن يتمازجا.. يجب أن يكونا شيئاً واحدا. لقد حاول شاكر التوفر على هذه الوحدة. وقد نجح نجاحاً ملحوظاً ولكن بعد أن آمن بضرورة هذه الوحدة. وهذا أحد العوامل الرئيسية التي تميّز قصصه في "صراع". أجل فأسلوبه حسن وأنا متأكد إنه سيكون في اقرب وقت أحسن وأحسن. بل لم لا نقول إنه أسلوب قصصي ناجح؟ فأنت تلمح الروح القصصي جليا في كل مكان. إنك أمام قصاص في كل ما تقرأ. أنك أمام قصص لها طابعها الغني لا حكايات على السلاطين وكيفما اتفق. بل إنك تؤمن تماماً إنك أمام قصاص منذ الجملة الأولى لأية قصة. ولا غرو فإن شاكر قد وفّر ما كان يسميه أجدادنا النقاد ببراعة الاستهلال القصصي. وحسبك التأكد من هذا أن تقرا أي مطلع لأية قصة من "صراع". على أن القضية ليست قضية مطلع فحسب..لا. فهناك أيضاً براعة العرض وبراعة الختام. ومن هنا وهناك جاء عنصر الإغراء. فأنت ما تكاد تقرأ الجملة الأولى حتى تواصل وتواصل إلى الجملة الأخيرة من حيث تدري ولا تدري. واللطيف في أمر هذا الغراء أن عوامله خفيّة فهو إغراء سام ليس من ذلك النوع الرخيص الذي يزجه بعض القصاصين زجاً بالإكثار من المفاجأة البلهوانية، استجداء لإثارة انتباه القراء وسعياً وراء اللعب بعواطفهم أملاً بأن يقال فلان قصاص مغر.. لا. إن عوامل الأغراء في قصص شاكر خفيّة وهذا شرط في القصة الناجحة. هي نتاج عوامل عدة سارت بداً بيد وتمازجت وتوحدت. منها ما كان مأتاه الفكرة الصحيحة الصادقة الصالحة ومنها ما كان مأتاه التأكيد الخاص في الضرب على وتر الغريزة الجنسية وفعل الدينار واصطراع الأجيال مع ثوب فني بالاستعارات المناسبة ومزين بالأخيلة الملائمة ومحلىّ بالألوان الأخاذة). وأخيراً استمع يا صديقي إلى جزء من المقدمة التي كتبها الأستاذ عبد المجيد لطفي للكتاب والتي قال فيها: (ومن هؤلاء القصصيين الناجحين الذين نتوسم فيهم بشائر النبوغ وننتظر منهم تقدماً واضطراداً في هذا المضمار صديقنا الأستاذ شاكر خصباك صاحب هذه المجموعة القصصية الرائعة. وهو شاب حدث قرأت له قصصاً ناجحة في بعض المجلات فأعجبت بها فائق الإعجاب. وقد كتبت إليه مبدياً هذا الإعجاب فما خيب ظني به إذ وجدت نفسي بعد حين أمام هذه المجموعة من القصص العراقية الجديدة. وإذ أقبلت على دراستها في عناية وجدت أنها كتبت بأسلوب حي رائع وروح متحررة مخلصة ونفس تحرت الحقائق وعاشت في محيط واقعي محض. ولذلك جاءت تلك القصص واقعية منضوية تحت لواء خير مدارس القصة الحديثة. وإني إذ أقول واقعية فلأنها تجردت من الرومانتيكية الباكية وما فيها من بثّ النجوى والمغازلات الرخوة ولأنها تخلصت أيضاً من حبائل الكلاسيكية التي لا تريد أن تعترف بتقدم أو تطور وتضع العقل في جحر يصعب الخروج منه. فالقصص التي ستقرأها إذن منتزعة من صميم حياتنا ومن بين أهلينا وأصحابنا وجيراننا. من بين التعساء والأشقياء والجهلاء والمعذبين، ومن بين الأغنياء المتبطلين الذي لا يرون الحياة غير معدة يجب أن تملأ بما لذ وطاب، وشهوة يجب أن تشبع ويأبون رؤية النور والحياة الصادقة وما فيها من جميل التضحية والإخلاص. ولا أريد بالطبع تلخيص هذه القصص لأن التلخيص يخرجها من الروح التي كتبت فيها. ولكني بوسعي أن أقول لك إنك ستخرج من قراءتها بأفق أوسع ونفس مليئة بالسخط على البعض من أبطالها وطافحة بالرضى عن البعض الأخر. والواقع أن هذه القصص تضعنا وجهاً لوجه مع حقائق مرة كثيراً ما حاولنا التهرب منها وخشينا إزاحة النقاب عن وجوهها الكالحة المغبرة. ولكن الأستاذ خصباك وجد الجرأة ليقول كل شيء بصراحة أظن أنها لا تطاق لدى البعض أكثر الأحيان. وسترى أيها القارئ أن الفضيلة والرذيلة والفقر والثراء في صراع دائم بين أبطال هذه القصص وأنت ملزم بحكم الذوق أن تكون طرفاً مع هؤلاء الأبطال فتؤيد وتنتقد وتغضب وترضى. وفي جميع هذه الحالات يكون المؤلف قد بلغ مبتغاه ووضع أساساً مكيناً لنجاحه في هذا الفن. .. ومن الواضح أن الأستاذ خصباك قد وضع أمامنا طائفة من الناس وتحدث عن مآسيهم وأمالهم وذكائهم وبلادتهم. بيد أنه لم يتحدث عنهم كأفراد إلا لأنهم يمثلون عدداً كبيراً من نظائرهم. وقد وفق والحق يقال أيما توفيق في إبراز النواحي الاجتماعية في حياة أبطال قصصه. ولقد كانت صوره لبقة بارعة تفيض بالحسّ والجمال. حتى المآسي المرة الموجعة كانت ذات روعة خاصة. وقد استطاع قاصنا بأسلوبه الحي الذي يتدفق حماساً وقوة أن يصف التفاصيل في حياة شخصياته بدقة وبراعة وأن يحلل نفسياتهم تحليل المقتدر المخلص الصادق حتى لتكاد تراهم وتعرفهم في الحياة العامة وتحسب أنه تحدث عن أناس سبق أن عرفتهم وبلوتهم. وهذا توفيق كبير حقاً بل إنه البراعة القصصية ذاتها). ووضع الأديب الشيخ أخيراً (الملف) جانباً ورفع رأسه ونظر في وجه الباحث وقال معتذراً: أنا آسف إذ أطلت عليك في قراءة هذه المقتطفات لكني أردت أن أوضح لك حرارة الاستقبال الذي استقبلت به مجموعتي القصصية الأولى مما كان له أطيب الأثر في نفسي. وأكرر لك ثانية بأنني وجدت فيما بعد أن ما لقيته "المجموعة" من إطراء واستحسان كان فوق ما تستحقه. فقال الباحث: هذا تواضع منك يا سيدي فيجب ألاّ يغرب عن بالنا أن هذه المجموعة القصصية صدرت قبل حوالي نصف قرن. وكانت القصة العراقية يومذاك في طور نموها المبكر. فلا غرابة في أن تستقبل مجموعة قصصية ناضجة بهذا الحماس. فقال الأديب الشيخ مؤمنا: معك حق في ذلك. عبد المجيد لطفي وركن الأديب الشيخ إلى الصمت وعيناه سارحتان وبسمة خفيفة تطوف على ثغره. فتساءل الباحث بعد حين: وماذا عن ذكرياتك عن عبد المجيد لطفي الذي كنت تريد التحدث عنه يا سيدي قبل أن يشغلك الحديث عن "صراع"؟ فابتسم الأديب الشيخ وقال: إن الحديث عن عبد المجيد لطفي ليشوقني حقاً. وقد ذكرت لك أنني عرفته في وقت مبكر عن طريق المراسلة. ولم أره في فترة الدراسة الثانوية على الرغم من أنني أمضيت شهراً في بغداد في انتظار سفري إلى مصر للالتحاق بالبعثة العلمية. لكن الصلة توطدت بيننا بعد عودتي من مصر، أي في أوائل الخمسينيات أثناء عملي في بغداد مدرساً في مدارسها المتوسطة. وقويت هذه الصلة بعد حصولي على الدكتوراه وعودتي إلى بغداد في أواخر الخمسينات. وكذلك أثناء غيابي عن العراق بعد الستّينات وآخر وإقامتي في بلدان أخرى وذلك عن طريق المراسلة. وقد تجمع لديّ عدد من أجمل رسائله وما زلت أملك البعض منها. وقد كان يلح عليّ في رسائله أن أعود إلى الأدب وأن أترك البحث العلمي للباحثين وهم كثيرون.
ونهض الأديب الشيخ فجأة يبحث في رفوف مكتبته واستخرج (ملفاً) وأخذ يقلبه ثم انتزع منه رسالة وقال: إستمع يا صديقي إلى هذه الرسالة التي كتبها إليّ بمناسبة قراءته لمسرحية "الشيء".
حي المأمون– بغداد في 18/7/1972
عزيزي الأستاذ الدكتور شاكر خصباك المحترم. تحية الود الدائم والاحترام العميق. وبعد فقد انتهيت من قراءة مسرحيتك "الشيء" فإذا بي أمام شيء لا أعتقد انه كتب عن تلك المرحلة السوداء المليئة بالعار ما يماثله. إنه كتاب إدانة في الحقيقة ببسالة منقطعة النظير. وإذا تركنا الجوانب الأدبية والحوار الإبداعي الفاجع فان الكتاب سيقف على امتداد غد طويل كوثيقة تمّد التاريخ بجوانب حقيقية مما شاهد وناقش وعرف أستاذ نزيه عاصر تلك المرحلة المأساة. إن شخصيات المسرحية من العمق حتى دون وصف كامل أو شخصي لهم بحيث لا يبارحون الذهن وربما أخذوا مكانهم في ذهن القارئ إلى مدى بعيد جدا. إن هذه المسرحية عمل وثائقي كبير لا يلهم به إلا رجل حساس نبيل إلى جانب كونه أدبياً وفناناً. فلقد ظننت قبل أن أقرأ مسرحية "الشيء" أننا لم نخرج ولو بكسب جزئي للأدب من خلال تلك المعارك الوطنية الطويلة ومن هذه الردة المأساة. أنني أقول جاداً وغير مجامل أن مسرحية "الشيء" إدانة صارخة ليس لليوم ولا لغد قريب وإنما إدانة تلقى البرابرة وحماة الأحقاد أجيالا. فلقد ضمت المسرحية أكثر الوجوه الوطنية نبلاً وبراءة وأثقف من في البلد من عقول ومواهب وبسالة. ولا أعتقد إلى هذه اللحظة أن كاتباً كتب شيئاً من وحي وآلام تلك المرحلة السوداء ما يوازي دقة وحرارة وجمال مسرحية "الشيء".. الشيء الذي كان يأكل كل شيء.. بما في ذلك الأعراض والمواهب وجهد التعب. وإنني لأشعر الآن- تجاه هذا الكتاب - بالخجل لأنني لم أكتب شيئاً بهذا العمق والحرارة.. ربما بسبب أنني لم أمر مروراً عميقاً أو شخصياً بتلك المأساة الوطنية والأخلاقية كما مررت أنت ولم يكن لي شرف الاعتقال في تلك الهجمة البربرية كما حدث لك. والآن استودعك الله إلى لقاء آخر وشكراً لك. المخلص عبد المجيد لطفي
قال الباحث بإعجاب: إن عبد المجيد لطفي ناقد حاذق حقاً. قال الأديب الشيخ وهو يهز رأسه: لقد كان عبد المجيد لطفي من كبار أدبائنا الطليعيين، وكانت أقاصيصه ومقالاته أقرب إلى الشعر المنثور في رقتها وجمالها وما تثيره في النفس من عواطف. وهذا أمر ليس بالغريب عليه فهو يحمل بين جوانبه قلباً يموج بالعواطف الرقيقة ونفساً رهيفة سامية. ومن المؤسف أن قصصه لم تلق من الجيل الجديد من النقاد ما تستحقه من تقدير باعتبارها لا تتفق مع شروط القصة الفنية الحديثة. وهذه دعوى لم أكن أراها يوماً تغضّ من قيمة أدب عبد المجيد لطفي. صحيح أنني قد أختلف معه أو مع أمثاله في نظرتهم إلى شروط القصة الفنية، لكن ذلك لا يمنعني من اعتبار كتاباتهم أدباً له قيمته الخاصة. وأنا أشاطر عبد المجيد لطفي في نظرته إلى القصة. والتي عبر عنها في مقدمته لكتابي "صراع" إذ قال: (ومع أنني أؤُمن بأن للقصة أو لكتابتها بعض الشرائط والقواعد ولكنها ليست الكل في الكل في القصة الناجحة. إذ هناك روح الكاتب وأسلوبه ودقته في التعبير. فنحن نقرأ أحياناً قصصاً تتوفر فيها كل عناصر القصة الفنية الحديثة ومع ذلك لا نجد فيها ما يريحنا كثيراً. في حين نقرأ قصصاً أخرى انعدمت فيها الشرائط الفنية لكننا نجد فيها حلاوة ولذة وفائدة. والواقع أنني من المعتقدين أن شرائط كتابة القصة شيء أصولي تواضع عليه النقّاد ولا يمكن أن تستمر هذه الشرائط إلى الأبد بل لابد من تطورها وتغّيرها أيضاً. ولا يستطيع ذلك بالطبع غير العباقرة الأفذاذ والحياة غنية بهم دوماً). ومن الغريب يا صديقي أن بعض من يهاجم أدب عبد المجيد لطفي وأمثاله هم محدودو الاطلاع ولم يعرفوا إلا أنماطا معينة من القصة العالمية المترجمة بينما القصة في الواقع ذات أشكال ثرية التنوع وذلك لأنهم لا يحسنون لغة أجنبية. ولذلك فتصوراتهم عن القصة الفنية قاصرة أصلا. وكل عمل لا تتمثل فيه الشروط التي يعرفونها عمل فاشل وليس من الفن بشيء.
روّادنا القصصيّون قال الباحث الشاب في رفق: أنت تعلم أن هذه القضية موضع جدل بين النقاد يا سيدي. فلابد من افتراض شروط معينة للقصة القصيرة وكثيراً ما تغيب هذه الشروط في قصص عبد المجيد لطفي وأمثاله من روّادنا القصصيين. فقال الأديب الشيخ: حتى لو افترضنا ذلك فإن لأدب عبد المجيد لطفي وأمثاله نكهة خاصة وليس كل قصة تشتمل على الشروط الفنية قصة ناجحة، والعكس صحيح. ثم أن ميدان الأدب رحيب وأساليبه متنوعة، ومن حق الكاتب أن يكتب بالأسلوب الذي يروق له. وينبغي علينا أن نحكم إن كان ما كتب أدباً أم أنه ليس من الأدب في شيء، لا أن نطرحه جانباً باعتباره خالياً من الشروط الفنية. ولست أجد مثل هذه النظرة لدى النقاد الغربيين. فهم ينظرون باحترام كبير إلى كثير من الأعمال القصصية التي لا تنطبق عليها شروط القصة الفنية الحالية. ولولا ذلك ما تنوعت أشكال القصة والرواية على مر العصور. قال الباحث برفق وهو يبتسم: أنا أشاركك الرأي يا سيدي بأن إنتاج قصاصينا الأوائل ينبغي أن يحظى باهتمام أكبر فهو يمثل بلا شك مرحلة مهمة من مراحل تطور أدبنا القصصي. قال الأديب الشيخ: هذا هو الكلام المعقول.. علينا أن نقيّم تلك الآثار حسب المرحلة الزمنية التي ظهرت فيها. ومن المجحف بحق أولئك الرواد أن نفرض عليهم شروطاً لم يكونوا يعرفونها. فما توفر في عهدهم من أدب قصصي في اللغة العربية والمترجم عن اللغة الأجنبية كان نزراً يسيرا. وليس لدينا تراث قصصي شأن الكتّاب الغربيين. فأدبنا العربي الكلاسيكي هو أدب شعر لا أدب قصة. كل ذلك جعل كتّابنا القصصيين الأوائل بمنأى عن الأدب القصصي الناجح لاسيما وان القليلين منهم كانوا يحسنون لغة أجنبية. وأجدني متفقاً في هذا الرأي مع الروائي المرحوم غائب طعمة فرمان الذي سجله في مقالته التي نشرها عن كتابي "صراع" في مجلة "الرسالة" والتي أشرت إليها من قبل. واسمح لي أن أتلو عليك ما قاله بالضبط. وانكب الأديب الشيخ على "الملف" بين يديه يتصفحه ثم أخذ يقرأ: (القصة العراقية لم تشهد النور إلاّ منذ أمد جدّ قصير. فالمحاولات الأدبية الأولى لإنشاء قصص عراقية كانت تصاب بالإخفاق أو تنحرف عن الميدان القصصي الفني، وتكون أشبه بالحكايات التي لا تمس الواقع ولا يصلها بالفنّ القصصي سبب من الاسَباب، وذلك لأن المحاولات لم تقم على أساس متين من الدراسة والتفهم العميق للفن القصصي.. فالمضطلعون بها لم يكونوا مطلعين على الأدب الغربي وغير مثقفين ثقافة عامة شاملة. فالقصة تحتاج إلى كثير من الخبرات والإدراك والمعرفة وسبر الحياة وخوض غمارها. ثم تأتي الموهبة القصصية لتبرز الفن مزيجاً من كل هذه الأمور. وكان الأدباء العراقيون-قبل أكثر من عشرين سنة- يرون القصة المصرية تشق طريقها في ميدان الإنتاج الأدبي. وكان هذا اللون الجميل الجديد يدفعهم دفعاً إلى محاكاته وتقليده والسير على منواله من غير أن يفقهوا فن القصص ومن غير دراسة فنية لأصوله. هذا سبب من أسباب تأخر القصة العراقية. ويمكننا أن نضيف إليه سبباً آخر وهو ما يتّصل بالأحداث والتقلّبات التي هزت العراق في الفترة الأخيرة وانصراف الناس إلى السياسة. وقد كان الشعر مبرزاً في ميدان إيقاد الهمم وإذكاء نيران الوطنية في القلوب. أما القصة فلم يكن ثمة مجال لظهورها لعدم وجود قصصين يملكون ناصية الفن القصصي بحيث يؤثرون في نفوس الجماهير ويوجهونها نحو الوجهة الوطنية الصحيحة. أضف إلى ذلك عدم استعداد الجمهور لقراءة القصص واستساغتها لأن القصة في مثل هذه الأحوال لا تثير ما يثيره الشعر. ولكن بعض المحاولات القصصية كانت تظهر بصورة حكايات وأحاديث. ونحن حين نستثني رائد القصة العراقية محمود أحمد السيد رفيق الأستاذ تيمور في الجهاد لا نرى إلاّ محاولات فاشلة القصد منها العبرة والاتعاظ والإسراف في الخيال. ثم جاءت بعد ذلك كتابات جعفر الخليلي وعبد المجيد لطفي وحكاياتهما على نحو أصح. فهذان الأديبان لبعدهما عن تفهم القصة الحديثة ولجهلهما بالأدب العالمي الحديث فشلا في أول عهدهما. ولكن بعض الأمل قد تسلل إلى القلوب عند قراءة نتاجها في العهد الحاضر. وهما بعد كل هذا مشكوران لأنهما يمثلان مرحلة من مراحل القصة العراقية. ثم تأتي المرحلة الثالثة في قصص شالوم دويش وذو النون أيوب. فقد استطاع هذان القصاصان أن يرقيا بالفن القصصي العراقي درجات ويدفعاه إلى الأمام. فلقد أصابا حظاً لا بأس به من الاطلاع على القصص العالمي وتفهّما العناصر الجوهرية في الفن القصصي. وكانا يستلهمان الحياة ولا يشطَان في دنيا الرومانسية. وجاءت المرحلة الثالثة وهي مرحلة الشباب. فقد بزغ بعض الشباب في سماء القصة ومنهم يرجى الخير وعليهم تعقد الآمال ومنهم كاتبنا الأستاذ شاكر خصباك). ورفع الأديب الشيخ رأسه عن "الملفّ" وقال وهو ينظر إلى الباحث متسائلاً: ما رأيك في هذا القول يا صديقي؟ قال الباحث وهو يهز رأسه مؤمنا: أنا أتفق مع الأستاذ غائب طعمة كل الاتفاق يا سيدي وهو تلخيص جميل لواقع وتاريخ القصة العراقية. قال الأديب الشيخ: وهناك جانب آخر أود أن أضيفه إلى هذا القول وهو أن كتّابنا في عهد العشرينات والثلاثينات بل وحتى لغاية أواسط الأربعينات كانوا واقعين تحت هاجس الإصلاح الاجتماعي، بما فيهم الشعراء، وكان همّهم تسخير أدبهم لهذا الغرض. ولذلك اصطبغ أدب غالبيتهم بالصبغة التقريرية وابتعد معظمهم عن الغموض والرمز والتهويمات الفنية. وقد وجدوا في المدرسة الواقعية ضالتهم المنشودة فأدى ذلك بالبعض منهم إلى أن يكون أدبه مسطحاً. ولم يكن الهاجس الاجتماعي القوي في النصف الأول من هذا القرن مقصوراً على الكتّاب العراقيين بل كان هاجساً مشتركاً بين الأدباء العرب، لكنه كان متفاوتا في قوته باختلاف الدول العربية وظروفها السياسية والاجتماعية. فحتى جبران نفسه وقع تحت سلطان هذا الهاجس حينما بدأ الكتّابة الأدبية في المهجر، وروايته "الأجنحة المتكسرة" خير دليل على ذلك. وانعكس هذا الهاجس في أدب مصطفى لطفي المنفلوطي في أوائل القرن العشرين كما يتمثل في كتابيه "النظرات" و "العبرات". ومن الغريب أن قصص جبران والمنفلوطي، وهي قصص بعيدة عن شرائط القصة الفنية، لا تزال تحظى بالإعجاب من جمهور واسع من القراء وهي تباع على أرصفة الشوارع وفي الأكشاك الصغيرة. فما الذي يجعلها يا ترى تحتفظ هذا الزمن الطويل بشعبيتها على الرغم من بعدها عن مفاهيم القصة الحديثة؟ قال الباحث وهو يبتسم: أنت تعلم يا سيدي أن شعبية الكتب لم تكن في يوم من الأيام مقياساً لنجاحه الفني. فقال الأديب الشيخ مؤمناً: معك حق في ذلك. لكنني أردت أن أخلص إلى القول بأن الشرائط الفنية التي يصطلح عليها النقاد في أدب القصة هي ليست الكل في الكل في أهمية العمل الأدبي، وينبغي علينا ألاّ نستهين بالأدب القصصي الذي يخلو منها. ويجب أن ألفت نظرك يا صديقي أننا نمتلك كّماً هائلاً من هذا النوع من الأدب القصصي الذي كتب بين أوائل الثلاثينات وأوائل الأربعينات من القرن العشرين. ولعل أبرز قصاصي تلك الفترة هو المرحوم محمود أحمد السيد الذي يعد في نظر الكثيرين من مؤرخي الأدب العراقي رائد القصة العراقية. ولقد ظهرت قصصه في نفس الفترة التي ظهرت فيها قصص رائد القصة المصرية محمود تيمور. وكان إلى جانبه أيضاً يعقوب بلبول وشالوم درويش وعبد الوهاب الأمين وعبد الحق فاضل وجعفر الخليلي وعبد المجيد لطفي. وكان خاتمة هذا الجيل من الكتاب المرحوم ذو النون أيوب الذي ظهر في فترة الأربعينات وكان من أكثرهم نضجاً، ربما لأنه كان يحسن القراءة باللغة الإنجليزية. وحينما عرفته أدهشني بسعة اطلاعه على الأدب الغربي. وقد أصاب من النجاح ما لم يصبه أي كاتب قصصي قبله، واستطاع أن يجذب إلى قصصه جمهرة واسعة من القراء. وقد كتب ذو النون أيوب حوالي عشرة مجاميع قصصية وعدة روايات قصيرة. ولعل من أسباب نجاحه فوران الوعي السياسي لدى العراقيين في تلك الفترة واهتمامهم الشديد بالأدب الذي يُعنى بالإنسان المسحوق وبهمومه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد عكس أدب ذو النون أيوب هذه الهموم على نحو قوي. وسكت الأديب الشيخ فقال الباحث: لو سمحت لي أن أسأل يا سيدي.. لماذا انسحب هذا العدد الكبير من كتّاب القصة العراقيين الروّاد من ميدان الكتابة القصصية ولم يواصلوا مسيرتهم التي ربما كانت ستطور أدبهم وتخلق نموذجاً خاصّا متميزاً للقصة العراقية ونحن نعلم أنهم كانوا من الرواد في العالم العربي في هذا النوع من الكتابة الأدبية؟ أطلق الأديب الشيخ زفرة حرّى وقال بأسىً: هنا الطامة الكبرى يا صديقي. فالآفة التي التهمت أدباؤنا الأوائل ووقفت سداً منيعاً تجاه تطورهم ومواصلة كتابتهم هو انعدام دور النشر وعدم تشجيع القراء.. كيف تتوقع يا صديقي من كاتب أن يواصل كتابته إذا لم يجد دار نشر تتولى طبع كتابه؟! وحتى لو تعهد هو بنفسه بالإنفاق على كتابه. وقلّما كان يجد المبلغ لذلك.. افليس من المفروض أن يسّوق كتابه؟ كان على كتّابنا الأوائل، وأحسب أن الوضع ما زال كذلك حتى اليوم، أن يهيئوا في بيوتهم موضعاً لخزن كتبهم المرتجعة فلابد أن ينطبق عليهم المثل القائل "بضاعتكم ردت إليكم". والكاتب الذي يبيع بضع مئات من النسخ هو كاتب ناجح. فالمعتاد أن يبيع بضع عشرات من كتابه فقط. وهذه ظاهرة عجزت عن فهمها حتى اليوم. فركود الكتاب العراقي لا علاقة له بجودة الكتاب أو رداءته أو بقوّة الكاتب أو ضعفه، بل ينطبق عليه المثل القائل "مَغنّية الحي لا تطرب". وقد يخطر لك أن تقول بأن القارئ العراقي مفتون بالشعر فانعكس ذلك على ركود سوق القصة. لكن هذا التعليل غير وارد. فروايات المؤلفين العرب كانت تجد سوقاً رائجاً في العراق. ولقد اشتهر السوق العراقي لدى الناشرين العرب بثرائه منذ مطلع الثلاثينات. وهناك قول مأثور بينهم يقول: (إن مصر تكتب ولبنان تطبع والعراق يقرأ). وأتذكر أن سعيد جودة السحار صاحب مكتبة مصر قال لي يوماً بان السوق العراقي كانت في المقدمة يليها السوق الفلسطيني ثم السوق السوري. فما بال السوق العراقي يرفض كتب مؤلفيه وبالتالي يسحقهم؟! هذا سؤال لم أعثر له على جواب، فهل بوسعك يا صديقي أن تمّدني أنت بالجواب؟! هز الباحث رأسه وقال ضاحكاً: إذا كنت أنت لم تستطع أن تجد الجواب يا سيدي، فكيف تتوقع مني أن أجد الجواب؟! قال الأديب الشيخ بنبرة حزينة وقد غام وجهه: هذه قضية خطيرة يا صديقي لأنها هي التي حبست أدبنا القصصي في قمقم. فكتابنا يبدؤون متحمسين ثم ما تلبث حماستهم أن تفتر حينما يصدهم الواقع المؤلم. ومن النادر أن ترى أي واحد من قصاصينا القدامى قد أصدر أكثر من مجموعة قصصية واحدة أو مجموعتين ثم يتوارى عن الأنظار. ولو وجدوا التشجيع المناسب لازدهر أدبهم وتواصلت كتاباتهم وعظم نضجهم.. لاحظ أنني لا أطمع لكتّابنا بنجاح خارج السوق العراقية فهو مطمع يتجاوز طموحات الكاتب العراقي! ولكن لابد لي أن أقول لك أنه وجد من الكتاب الأوائل من حاول أن ينطح الصخر وأن يسبح عكس التيار، وكان على رأس هؤلاء محمود أحمد السيد. فلم يبع من روايته الأولى سوى ثلاثين نسخة. وهكذا شأن كتبه اللاحقة. لكنه ظل مثابراً على الكتابة الروائية. ويمكن القول أنه الكاتب القصصي العراقي الوحيد الذي ثابر على الكتابة على الرغم من فشله في السوق. وقد أصدر عدداً لا بأس به من الكتب. وهو يمثل نموذجاً متميزاً بين الأدباء العراقيين الرواد. وقد حظيت قصصه باهتمام خاص وعدّ رائد القصة العراقية الأول. وقد أتحفنا الدكتور علي جواد الطاهر بدراسة قيمة عنه. وأكرر القول أنه كان من الممكن أن يحظى العراق بكتّاب قصصين كبار لولا كساد كتبهم، وقد تميزت قصص البعض منهم ببراعة كبيرة. فمجموعة شالوم درويش مثلا، ولست أتذكر عنوانها الآن، كانت تمثل مرحلة متقدمة في القصة العراقية، لكنها كانت بيضة الديك. وقصة "مجنونان" لعبد الحق فاضل كانت قصة ناجحة. ومجموعة "الذباب" لعبد الوهاب الأمين كانت مجموعة ناضجة أيضاً لكنها كانت كسابقتها بيضة ديك! وقد تيسر لي معرفة عبد الوهاب الأمين فأدهشني باطلاعه الواسع على الأدب الإنجليزي. وقد أخبرني أنه كف عن الكتابة القصصية احتجاجاً على فشله في السوق. وكان يفكر في الكتابة باللغة الانجليزية ليحقق رواجاً أوسع.
عبد المجيد لطفي أيضاً وأعود إلى الحديث عن عبد المجيد لطفي وهو يمثل في ذهني نمطاً شبيهاً بنمط محمود أحمد السيد في مثابرته على الكتابة على الرغم من خيبة الأمل التي واجهته على صعيد السوق وعلى صعيد النقاد. فقد واصل الكتابة إلى آخر يوم من حياته. وكان آخر لقاء لي معه قبل أن يموت بسنوات قلائل. وقد توفى عام 1993، وكان قد تجاوز الخامسة والثمانين، لكنه كان لا يزال يحتفظ بوعيه الكامل وإن انقطع عن الكتابة. وكان شيء من الارتعاش قد أصاب يديه فصار من الصعب عليه الإمساك بالقلم. وقد ظل إلى آخر يوم من حياته محتفظاً بروحه المعنوية العالية وبميله إلى الفكاهة. وكان مجلسه ظريفاً مؤنساً. وكان حافلاً بالملح والأقاصيص الفكهة. وكثيراً ما عجبت كيف يمكن لمثل هذا الشخص أن يحتفظ بهذه الروح الفكهة العذبة. فحياته العائلية لم تكن تبدو موفقة. وكان ثمة فجوة عميقة بين زوجته العاطلة من الثقافة وبين تطلعاته الثقافية العالية. وكان طوال عمره يعيش عيشة الكفاف. وكان منذ بداية الستينات من عمره يشكو أمراضاً عديدة. وكان فوق ذلك كله يشكو جحوداً من الدولة والمعارف والهيئات الثقافية والسياسية. وفي أواخر عمره كان يطمح للعلاج خارج العراق. لكن أية جهة لم تبد استعدادها للأخذ بيده بما فيها الهيئات السياسية التي كان محسوباً عليها. ولم تكن السلطة مستعدة لرعايته لأنه رفض إغراءاتها المتكررة. وهنا أود أن أسجل له بمداد الفخر إباءه وتمسكه بآرائه ومثله. فلقد عرض عليه العمل في صحافة السلطة في السبعينات لقاء راتب مغر، ولم يكن يملك سوى راتبه التقاعدي الضئيل، فرفض العرض لئلا يتحول إلى بوق للسلطة. وظل رافع الرأس متمسكاً بالكلمة الشريفة المخلصة الصادقة إلى آخر حياته. وانسحب موقفه هذا على أدبه فبقي الكثير من كتبه مخطوطاً لأنه لم يجد وسيلة لنشرها. في حين أن أدباء ناشئين كانوا يلقون رعاية من المسئولين عن النشر في وزارة الإعلام لأنهم من المطبلين والمزمرين وكانت الدائرة الثقافية تسارع بنشر كتبهم. وقد اضطر في أواخر حياته إلى استدانة مبلغ من المال لينشر ديوانه الشعري الحكمي المعنون (خليج المرجان).. تصور يا صديقي أن يضطر مؤلف عريق بدأ النشر في الصحف والمجلات منذ مطلع الثلاثينات إلى الاستدانة في أواخر الثمانينات لينشر كتاباً له.. وأنت تريد من الأدب العراقي أن يزدهر وأن يكثر القصاصون وأن يواصلوا الكتابة! قال الباحث وقد بدا الأسف على وجهه: إنه لأمر مؤسف حقا، وكم أشعر بالأسى على ما كابده المرحوم عبد المجيد لطفي.. هذا الأديب الأشم. واطرق الأديب الشيخ وقد علت وجهه إمارات الحزن. وظل مطرقاً دقائق فاحترم الناقد صمته. وأخيرا رفع رأسه وقال وابتسامة حزينة ترفّ على ثغره: هكذا حال معظم أدبائنا الرؤّاد يا صديقي ولم يكن عبد المجيد لطفي سوى مثال حيّ لهم. قال الباحث وهو يرنو إلى الكاتب الشيخ بنظرات رقيقة: أرجوك يا سيدي ألاّ تستسلم لحزنك. فمازال هناك الشيء الكثير الذي أود أن أسمعه عن حياتك. قال الأديب الشيخ وهو يعتدل في مقعده ويستعيد هدوءه: معك حق... يجب ألاّ نستسلم لأحزاننا. فما الذي تريد أن تعرفه بعد؟ قال الباحث: من هم الأدباء العراقيون الذين عرفتهم في تلك الفترة غير من ذكرت؟ قال الأديب الشيخ وهو يحاول شحذ ذاكرته: كنت قد مكثت شهراً في بغداد في صيف 1947 قبل أن أسافر إلى القاهرة لدراسة الجغرافية. فأمضيت ذلك الشهر في لقاءات يومية مع عدد من كتّاب القصة الشباب. وكنا نلتقي في مقهى معلق فوق السطح في بناية تطل على حديقة غازي، وهي حديقة الأمة حالياً. وكانت لقاءاتنا ممتعة حقاً. وكنا نختم اللقاءات بزيارة احدى السينمات الصيفية. وقد عرفت يومذاك فؤاد طرزي وفؤاد الونداوي وفؤاد بطي ويحيى علي النجار ومحمد روزنامجي وأشخاصا آخرين لا تحضرني أسماؤهم الآن. وكان معظمهم من القصصيين الشباب، وكانت قصصهم تبشر بنبوغ واعد. فهل تسمع بأسمائهم اليوم؟ لقد انسحبوا جميعاً من الساحة الأدبية منذ سنين طويلة وسحقتهم الآفة المعهودة. وإلاّ فما الذي يدعو شباناً يتدفقون حماساً وحمية للأدب إلى التخلي عن هوايتهم المفضلة؟ قال الباحث وهو يهز رأسه: إنه لأمر مؤسف حقاً. ثم أضاف وهو يرنو إلى الأديب الشيخ مبتسماً: ولكن هل تسمح لي يا سيدي أن أخرج على هذا الموضوع وأسألك سؤالاً كثيراً ما تردد في ذهني بل وفي ذهن الكثيرين من قّرّائك؟ قال الأديب الشيخ: سل ما بدا لك يا صديقي. قال الباحث: كيف تأتّى لأديب ناجح مثلك وأنت في ذلك السن الحدث أن يفضّل دراسة الجغرافية على الأدب؟ أعني ألم يكن من الطبيعي أن تقصد مصر لدراسة الأدب- والقاهرة يومذاك كعبة الأدب- بدلاً من دراسة الجغرافية؟ قال الأديب الشيخ مبتسماً: معك حق.. والواقع أنني كثيراً ما سئلت مثل هذا السؤال، وسأجيبك باختصار. فاعلم يا صديقي أن سوء حظي أو حسنه-لا أدري- قد أتاح لي أن أتفوق في الجغرافية وأن أنال درجة عالية فيها في امتحان البكالوريا. فرشحت للبعثة العلمية لدراسة الجغرافيا خلافاً لرغبتي لكوني ظفرت بأعلى درجة في الجغرافية. وقد ساءني ذلك في البداية، ثم تبين لي أن هناك أرضية مشتركة بين دراستي الجامعية في الجغرافيا وبين الأدب الذي أحبَه وظهر لي أن بعض مواضيع الجغرافيا تمس حياة الإنسان مسا مباشرا.
حياتي في القاهرة قال الباحث الشاب وهو يضحك: إذا عُرف السبب بطل العجب!.. وها قد وصلت الآن إلى القاهرة.. قاهرة محمود تيمور ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين. فهل آن الأوان للتحدث عن حياتك فيها يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ بلهجة حالمة وقد أشرق وجهه: نعم، آن الأوان لذلك. وكم يسعدني مثل هذا الحديث.. نعم كم يسعدني. فلقد أمضيت في هذه المدينة أجمل أيام عمري. وسكت الأديب الشيخ وقد انطلق وجهه ثم التفت إلى الباحث وقال بلهجته الحالمة: ولا تنس يا صديقي أنني كنت يوم وصلت القاهرة في عنفوان عمري. كنت على أعتاب الثامنة عشرة، وكانت الحياة ملء أعطافي. وكان حدث عظيم أن أنتقل من مدينة صغيرة كمدينة الحلة إلى عاصمة عظيمة كالقاهرة. وكانت القاهرة يومذاك- في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات- عروس الشرق. وكان يلتقي فيها سحر الشرق بعظمة الغرب. كانت في بعض أحيائها غربّية تُماماً. وكانت في أحياء أخرى شرقية تماماً. وكانت تجمع بين جاذبية الشرق وعظمة الغرب. ولم تكن الحياة فيها قد ضاقت بعد كما هو حالها الآن. فلم يزد عدد سكانها يومذاك عن الأربعة ملايين ونصف المليون. ويمكنك أن تقارن هذا العدد بالخمسة عشر مليوناً الذين تضمهم حالياً لتدرك مصاعب الحياة فيها اليوم. وكانت عماراتها الجميلة وشوارعها المزدهرة، وخصوصاً في الحي الأوربي كشارع سليمان باشا ( شارع طلعت حرب) وشارع قصر النيل وشارع فؤاد ( شارع 14يوليو) وشارع محمد فريد، تعج بأجمل ما خلق الله من نساء.. وجمالهن خليط من جمال يوناني وفرنسي وايطالي ومصري.وكانت لي حياةعاطفية حافلة ضمن تلك الأجواء الجميلة0 حكاية.. وقطع الأديب الشيخ كلامه فجأة وأغرق في الضحك. وانتظر الباحث أن يفرغ الأديب الشيخ من ضحكه ثم سأله باسما: هل لي أن أعرف ما الذي يضحكك يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ وهولا يزال يقاوم ضحكه: ما أضحكني يا صديقي هي الحكاية التي سأرويها لك الآن عن توفيق الحكيم. فلقد كان توفيق الحكيم معتاداً على ارتياد مقهى عمارة الايموبيليا، وكانت أضخم عمارة في القاهرة يومذاك وهي تقع عند تقاطع شارع قصر النيل بشارع شريف. وكان يتخّير مجلسه على مائدة من موائد الرصيف. وكان توفيق الحكيم يتخذ هيئة خاصة لا تخطئها الأنظار. فلابد أن تكون عصاه في يده وأن تكون "البيريه" فوق رأسه. وكثيراً ما ظهرت له هذه الصورة على أغلفة بعض كتبه. وكنت جالساً إلى جواره ذات عصر نتحدث في الأدب. وكانت عيناه تتنقّلان كالمكوك بين وجوه الحسان اللواتي كن يعبرن رصيف شارع قصر النيل والشارع الذي يتقاطع معه، وكان يركز أنظاره على سيقانهن على نحو الخصوص. وكثيراً ما غمغم ببعض العبارات التي تفصح عن إعجابه. ومّر من أمامنا شابان ريفيان وما كادت أنظارهما تقع على توفيق الحكيم حتى أبطا في سيرهما وأخذا يتهامسان دون أن يحوّلا عينيهما عنه. وظلا يتلفتان جهته وهما يسيران ببطء حتى تواريا عن أنظارنا. فالتفت إليّ توفيق الحكيم وقال في غيظ: أرأيت يا أستاذ شاكر؟! هذا هو حظّ توفيق الحكيم.. لم تلق عليه أية واحدة من الحسان المارات ولو نظرة عابرة. ولم يكن بين معجبيه سوى الشابين الريفيين! واستأنف الأديب الشيخ ضحكه وشاركه الباحث الضحك. ثم التفت إلى الباحث أخيراُ وقال له بدعابة: وأقول لك الحق إنه لم يكن في وجه توفيق الحكيم ما يجذب الحسان، فقد كان في عينيه جحوظ خفيف وفي صوته شيء من الغرابة. سكت الأديب الشيخ وأطلق نظراته الحالمة في الفضاء. ثم عاد يتحدث وقد بدا وجهه طافحا بالذكريات: نعم يا صديقي.. لقد أحببت هذه المدينة حباُ جما. وكنت إذا فارقتها لأيام قلائل في رحلة جامعية شعرت كأنني أفارق حبيبا غالياً على قلبي. وإذا عدت إليها حاصرتني لهفة عظيمة وكأنني بعدت عنها زمناً طويلاً. كانت تضم بالنسبة لشاب مثلي كل مقّومات الحياة الأنيسة، فضلاً عن عدد أصدقائي ومعارفي فيها الذين لم يكن يحصيهم عد، ما بين زملائي من الطلاب المصريين والعرب، إلى أصدقائي الكثيرين من الطلبة العراقيين، إلى العدد الكبير من الأدباء والقصاصين المصريين. فكان وقتي مشغولاً كله ولم أكن أجد لحظة فراغ. كنت أشعر أن مجرد وجودي في القاهرة أمر يسعدني. وكنت أسكن في بنسين في شارع القاضي الفاضل بجوار شارع قصر النيل0فكنت أتجول كل مساء في شوارعها الأوربية الطراز من بأنواعها الملونة المبهجة أشعر بمتعة لا حدّ لها. وكنت أحاول الانتفاع بكل ما تقدمه من متع الحياة البريئة بمقاهيها المكتظة وسينماتها المزدحمة وشوارعها التي تموج بالحسناوات. وكان في القاهرة عدد كبير من المنتزهات الضخمة. كان فيها حديقة الحيوان وحديقة الأسماك وحديقة الأزبكية وحديقة الأندلس والحديقة اليابانية في حلوان.. حتى الجامعة كان لها حديقتها وهي حديقة الأورمان الساحرة. ولكن لعل أجمل شيء في القاهرة هي مقاهيها التي كانت تلعب بالنسبة لكل الطبقات –الراقية منها والشعبية- دوراً أساسياً في الحياة اليومية. ولم تكن النوادي قد شاعت كحالها في الوقت الحاضر والتي أضعفت دور المقاهي بالنسبة للطبقة الراقية والمتوسطة. وكانت هذه المقاهي متنوعة بدرجة عظيمة في أوضاعها وفي مستوياتها. فالمثقفون واتباع الطبقة العليا كانوا يرتادون مقاهي الفنادق الكبرى ومقاهي شهيرة أخرى ذات مستوى عال مثل مقهى جروبي ومقهى الجمّال ومقهى اوبرا ومقهى الاميركين وغيرها. وكان كل مجموعة من الأصدقاء، أو "الشلل" كما يطلقون عليها ترتاد مقهى معينا. وهكذا كانت تفعل "الشلل" الأدبية والتي كانت المقاهي بمثابة النوادي الأدبية لها. وكان المثقفون الشعبيون يحبون ارتياد مقاهي شعبية معينة في السيدة زينب وحي الحسين وخان الخليلي، وكان من أشهرها "قهوة الفيشاوي". أما الناس العاديون فكانت تكتظ بهم المقاهي الشعبية التي لم يكن يخلو منها أي حيّ. فكان ارتياد أمثال هذه المقاهي مصدر متعة وأنس. وفي القاهرة أيضاً المعالم التاريخية التي لا تجد لتنّوعها مثيلاً في أية عاصمة عربية أخرى. ففيها المعالم الفرعونية القديمة، وأعظمها بالطبع الأهرام وأبو الهول. وفيها المعالم القبطية بكنائسها الضاربة في القدم. وفيها المعالم الفاطمية المتمثلة بالأزهر وسيدنا الحسين والسيدة زينب. وفيها آثار محمد علي الكبير بقلعتها الشهيرة. وفيها.. وفيها.. ثم هناك المسارح والسينمات العظيمة. فقد كان هناك "مسرح الازبكية". وكثيراً ما دعاني محمود تيمور لمشاهدة مسرحياته التي كانت تعرض على خشبته. وهناك مسرح نجيب الريحاني الكوميدي الذي كان مزدحماً برؤاده علي الدوام. لكن السينمات الأجنبية على نحو الخصوص كانت تجتذبني أكثر من دور اللهو الأخرى. فقد كنت مولعاً بمشاهدة الأفلام الأجنبية، لا سيما وأن أفلام الخمسينات كانت تمثل قمة ما وصلت إليه صناعة السينما من ازدهار، والكثير منها كان مستمداً من الروايات العالمية الكلاسيكية، وكانت تعتمد على ممثلين مشهورين بارعين. ولم تكن تمت بصلة إلى الأفلام الغربية الحالية التي لم تعد تعرض سوى العنف والجريمة والجنس والغرائز المنحطة والغرائب البهلوانية. وكانت القاهرة يومذاك تعج بدور السينما الفخمة التي تعرض الأفلام الغربية حال ظهورها. وكل واحدة منها ترتبط بإحدى شركات هوليود الكبرى مثل سينما ريفولي وسينما بالاس وسينما راديو وسينما ديانا وعدداً آخر من السينمات التي لا أتذكرها الآن. وهكذا ترى يا صديقي أن القاهرة كانت تضم كل ما كان يتوق إليه شاب مثلي وتشبع كل هواياته. وصمت الأديب الشيخ وهو باسم الوجه فقال الباحث مفتوناً: لقد شوقتني إلى الحياة في القاهرة يا سيدي. فسارع الأديب الشيخ يقول: يجب أن أحذرك يا صديقي بأن قاهرة اليوم هي ليست قاهرة الأمس. فأنت تعلم أن سكانها قد قاربوا الخمسة عشر مليونا فاكتظت بهم اكتظاظاً عظيماً وتدهورت مبانيها وشوارعها وازدحمت مواصلاتها ازدحاماً هائلاً وانخفض مستوى الخدمات فيها بكل أنواعها. كما أن مصاعب الحياة وارتفاع تكاليف المعيشة ونسبة البطالة العالية قد سلب سكانها خفة الدم المعهودة فيهم وأضفت على وجوههم مسحة من الكآبة والعبوس. وكلامي هذا لا يعني أن الشعب المصري كان أحسن حالاً في أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات (أي قبل ثورة 14 يوليو) فقد كان في الحقيقة أسوأ حالاً وأشد فقراً وبؤساً. وكانت مظاهر الترف تتمثل في الأحياء الأوربية وأحياء الطبقة المترفة من القاهرة فحسب. وسكت الأديب الشيخ وكأن كل ذكريات الماضى تطل من عينيه فظل الباحث يخالسه النظر لدقائق. ثم سأله اخيرا بلهجة رفيقة: ولكن ماذا عن أحبتك من أدباء القاهرة يا سيدى؟ فالتفت إليه الشيخ وقد عادت إليه يقظته وقال ببطء:نعم.. كانوا أحبائي حقا.. وكان عددهم كبيرا جدا يا صديقي .. وربما أكبر مما تتصور. ولا أدري كيف يمكنني أن استوعب الحديث عنهم جميعا. وقد سبق لي أن حدثتك عن محمود تميور ولا موجب طبعا للحديث عنه ثانيه. وسكت الأديب الشيخ لحظة مفكرا ثم قال وكأنه عثر على الحل: اعتقد أن خير ما يمكن أن أفعله بهذا الخصوص هو أن أتناول الحديث عنهم على شكل مجموعات أو"شلل" كما يدعونها، وكانوا يتوزعون على هذا النحو فعلا. فقال الباحث: هذا حل عملي فعلاً يا سيدي. شلة نجيب محفوظ وصمت الأديب الشيخ برهة وكأنه يستجمع ذكرياته ثم رفع رأسه وقال وهو ينظر في وجه الباحث الشاب: سأبدأ إذن بـ "شلة" نجيب محفوظ، فقد كانت أقرب "الشلل" إلى نفسي. قال الباحث وهو يبتسم: هذا أمر لا ريب فيه. فأنا أعلم ما تكنّه من إعجاب وحب لنجيب محفوظ. قال الأديب الشيخ مستذكراً أحداث الماضي: كانت "شلة" كازينو اوبرا تتجمع صباحا كل جمعة. وكانت تتألف أساساً من نجيب محفوظ وعبد الحميد جودة السحار وشقيقه أحمد جودة السحار، ولم يكن أديباً، وعلي أحمد باكثير وعادل كامل ومحمد عفيفي ومحمد عبد الحليم عبد الله وغالب طعمة فرمان وأنا. ولم يتخلف نجيب محفوظ عن الحضور يوما. كذلك حال بقية أفرادها. لكن هذه "الشّلة" كانت تتسع أحياناً فيتجاوز أفرادها العشرة. فقد كان يلم بها بين حين وآخر أدباء من أمثال يوسف السباعي وأحمد عباس صالح ومحمود البدوي. كما كان يحضرها أحيانا بعض المخرجين والممثلين أمثال المخرج صلاح أبو سيف والممثل يحيى شاهين. قال الباحث مستغربا: ولكن ما علاقة المخرجين والممثلين بهذه الجماعة؟ أجاب الأديب الشيخ: كان لبعض المخرجين والممثلين اهتمامات أدبية. وكانوا يتناقشون فعلا مع أعضاء "الشّلة" في شئون الأدب وقد يتطرق النقاش إلى السينما أحياناً. ولا تنس أن نجيب محفوظ نفسه اشترك اكثر من مرة في كتابة "سيناريو" للسينما، وأن العديد من رواياته أخرجت للسينما. وكذلك الحال مع عبد الحميد جودة السحار وعلي باكثير ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي. قال الباحث: إن معظم الأسماء التي ذكرتها يا سيدي مألوفة لدي. لكنني لم أسمع بعادل كامل أو محمد عفيفي.
عادل كامل قال الأديب الشيخ: معك حق فلم ينل هذان الأديبان من الشهرة ما ناله الآخرون. فأما عادل كامل فقد هجر الأدب في وقت مبكر بعد أن نشر ثلاث روايات هي "مليم الأكبر" و "ويك عنتر" و "ملك من شعاع". ولم يتسن لي الإطلاع على أي من رواياته لكنني سمعت ثناء عطراً على رواية "مليم الأكبر". وكان يقال أن عادل كامل موهبة كبيرة. تساءل الباحث: فلماذا انقطع عن الكتابة إذن ما دام قد نال مثل هذا النجاح؟ هز الأديب الشيخ رأسه وقال: الحقيقة أنني لم أسأله عن السبب يوماً. لكن المرحوم عبد الحميد جودة السحار قال لي يوماً، والعهدة على الراوي، إن عادل كامل هجر الأدب لأنه تزوج من امرأة ثرية أولاً ولأنه نجح في المحاماة ثانياً، فلم يعد راغباً في إضاعة وقته في كتابة الأدب. وكان يقول "إن الأدب لا يؤكل عيش". قال الباحث محتجاً: لكن طريق الكسب كان معبداً أمامه ما دام قد حقق نجاحاً منذ بداياته الأولى.
حكايات.. قال الأديب الشيخ بأسى: هل تتصور حقاً أن الأدب في عالمنا العربي يحقق الكسب المادي؟! إن كنت تعتقد ذلك فأنت غلطان يا صديقي. فلا يكسب من هذه الحرفة في الحقيقة سوى الناشرين وهم تجار وليسوا رجال فكر، والتجار يكسبون دائماً. وقولي هذا ينطق حتى على كبار الكتّاب في العالم العربي. فلم يكن أيّاً منهم يتكسب من أدبه. وكانوا إما أن يعملوا موظفين في الإدارات الحكومية أو في الصحافة ليكسبوا رزقهم. فتوفيق الحكيم مثلاً كان موظفاً حكومياً في بداية عهده بالكتابة. ولما قرر الإنصراف إلى الكتابة الأدبية التحق بالصحافة في "دار أخبار اليوم". ثم عاد إلى الوظيفة الحكومية مرة أخرى في أول فرصة سانحة حينما عيّن مديراً لدار الكتب المصرية في عام 1950. ولو كانت موارده وفيرة من أدبه لما عاد إلى الوظيفة. وكان طه حسين عميد الأدب العربي وأكبر كتّاب عصره يرتبط أيضاً على الدوام بوظائف حكومية، ذات صفة أكاديمية طبعاً، إلاّ في الفترات التي كان يتعرض فيها للمضايقة فيضطر إلى ترك العمل الحكومي. وفي أواخر الأربعينات حينما حدثت القطيعة بينه وبين السلطة اضطر إلى قبول منصب رئيس تحرير "مجلة الكاتب المصري". وكانت من أنضج المجلات الثقافية التي صدرت في وطننا العربي. وقيل يومها إن هذه المجلة كانت تمَّول من قبل "شركة الإعلانات الشرقية" وهي أساساً شركة يهودية. وكان طه حسين في حاجة دائمة إلى المال فقد كان مضطراً لتمضية أشهر الصيف في فرنسا.. لا لرغبة شخصية منه بل بإلحاح من زوجته الفرنسية السيدة سوزان التي كان لا بد لها من قضاء الإجازة في ربوع بلادها، وكانت هي المرأة الناهية في مملكته. فكان يضطر في كثير من الأحيان إلى الاستدانة من دار المعارف، الناشر الرئيسي لكتبه، للإنفاق على إجازته. ولعلك قرأت الجزء الثالث من كتاب "الأيام" ولمست ما كان يعانيه من ضيق ذات اليد، مع أنه كان قد أضحى قمة أدبية شامخة وكان اسمه ملء السمع والبصر. قال الباحث الشاب: كم يحزنني أن أعرف أن طه حسين لم يكن يستطيع أن يعيش عيشة رفاه من موارد كتبه وهو الذي ألَّف عشرات الكتب. فقال الأديب الشيخ وهو يرنو إلى الباحث بنظرات حزينة: فدعني إذن أحدثك بأمر أشد إيلاما يتعلق بكاتب عظيم آخر من كتّابنا العرب لعب دوراً رئيسياً في تثقيف الأجيال في العالم العربي منذ أوائل العشرينات حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ذلكم هو سلامة موسى. فلقد كان سلامة موسى من أعمق الكتّاب العرب ثقافة وكتبه تعّد بالعشرات. وبالمناسبة كان نجيب محفوظ متأثراً به في صدر شبابه وكان يعد نفسه تلميذاً من تلامذته. ولقد عاش هذا الكاتب المتميز في أواخر عمره حياة شظفة. وأتذكر أنني كنت يوماً في مكتبة الخانجي الواقعة في شارع عبد العزيز أبحث عن آخر الكتب الأدبية فدخل شيخ وقور تنوء ذراعاه بأكداس من الكتب سلمها لصاحب المكتبة. وقد أثارني منظره ومس شغاف قلبي. فلما انصرف سألت عنه صاحب المكتبة فأجابني "إنه الأستاذ سلامة موسى وقد أحضر لي بعض كتبه البائرة فاشتريتها منه بنصف الثمن، فكتبه لم تعد رائجة في هذا الزمن". وبالمناسبة فان مكتبة الخابجي كانت قد بدأت تشتهر بمنشوراتها من الروايات الشعبية ذات الأغلفة الأنيقة جداً، وكان على رأسها روايات يوسف السباعي. وقد رويت ما شهدت لصديقي وديع فلسطين ، الذي كان محرراً في جريدة المقطم، فعقب على قصتي بهز رأسه ألما وقال: فاسمع إذن يا أستاذ شاكر حكاية أشد إيلاماً من حكايتك هذه عن سلامة موسى. فقبل عام سافر الأستاذ سلامة إلى الإسكندرية لتمضية أشهر الصيف ضيفاً على قريب له. فلما عاد لم يجد العمارة التي كان يقيم فيها. وكان يسكن في شقة في عمارة تقع في شارع الفجالة. وكان صاحبها يخطط لهدمها وإعادة بنائها لكن سكانها كانوا يرفضون الانتقال من شققهم. وقد علم الأستاذ سلامة بعد ذلك أن صاحب العمارة أغرى السكان بمبالغ كبيرة فتنازلوا عن شققهم. واتصل بابنته وطلب منها إخلاء الشقة من الأثاث وإلاّ طرحها في الشارع فرضخت للأمر الواقع. والمهم أن الأستاذ سلامة وجد نفسه بلا مأوى في أواخر حياته فاضطر أن يقيم ضيفاً على ابنته. قال الباحث الشاب وهو يهز رأسه أسفاً: إنه لأمر محزن حقاً أن يحدث هذا لكاتب كبير مثل سلامة موسى. قال الأديب الشيخ: لقد تحدثنا عن كاتبين كبيرين وعمّا كانا يكسبان من مؤلفاتهما. ولا شك أنك تعلم أن كاتباً كبيراً آخر هو عباس محمود العقاد كان يضطر إلى بيع مكتبته بين حين وآخر ليدفع إيجار شقته. ولو لا أنه كان يكتب لمجلة الهلال ولمجلات أخرى ما استطاع أن يفي بمتطلبات عيشه وهو الذي ألفّ عشرات الكتب. قال الباحث: نعم، أنا أعرف ذلك يا سيدي. قال الأديب الشيخ: ولماذا نذهب بعيداً؟ فنجيب محفوظ نفسه لم يكن يكسب شيئاً مهّماً من كتبه لغاية عهد قريب. وقد ظل متمسكاً بوظيفته، كسكرتير لمكتب وزير الأوقاف ثم كموظف في الهيئة العامة لإدارة الثقافة، حتى بلغ سن المعاش وذلك لكي يستطيع الاعتماد على تقاعده في شيخوخته. ثم التحق بجريدة الأهرام. وكان يلجأ إلى كتابة السيناريوهات للسينما ليكسب مبالغ إضافية. وأتذكر أن سهيل إدريس روى لي –والعهدة على الراوي- أن نجيب محفوظ قال له وهو يقبض ثمن روايته "أولاد حارتنا" التي نشرتها "دار الآداب" (إذ كان قد منع نشرها في مصر بزعم إنها تسيء إلى الأنبياء)" إنني لم أقبض عن كتبي مثل هذا المبلغ". قال الباحث: لم أكن أتصور أن حال كاتب كبير كنجيب محفوظ كذلك. قال الأديب الشيخ وعلى شفتيه بسمة ساخرة: إذا لم تكن تتصور ذلك فاستمع إذن إلى هذه القصة التي رواها نجيب محفوظ يوما في إحدى الصحف متحدثاً عن مرض السكري الذي أصيب به. فقد ذكر أن أحد الأشخاص من معارفه اتصل به يوماً وأخبره أنه بصدد تكوين جمعية لشراء شقق في عمارة جديدة وأن على أعضاء الجمعية أن يدفعوا مقدماً مبلغ ألف جنيه. وحينما اكتمل المبلغ حمله هذا الشخص واستقل "تاكسي" قاصداً صاحب العمارة. وفي الطريق تعرض "التاكسي" لحادث مروري أصاب الشخص بجروح خطيرة. وكانت الطامة الكبرى التي تعّرض لها نجيب محفوظ هو أن الرجل فقد المبلغ الذي كان يحمله في غمرة هذه الحادثة. فلما بلغه النبأ أصيب بصدمة عنيفة أورثته مرض السكري لفقدان الألف جنيه الذي كان كما قال يمثّل "شقى العمر". قال الباحث وقد بدت الحيرة والاستغراب على وجهه: حكاياتك هذه تبدو لي وكأنها ضرب من الخيال يا سيدي فما كنت أتصور أن حال كتّابنا الكبار هكذا.
قال الأديب الشيخ وعيناه تومضان بسخرية مرة: لا تعجب يا صديقي من هذه الحكايات فما كان الأدب في يوم من الأيام في عالمنا العربي مصدر رفاه. وقديما قيل:" أدركته حرفة الأدب". ثم لماذا نذهب بعيداً؟ ألم يكن شعراؤنا الكبار، بما فيهم شاعرنا العظيم المتنبي، شحاذين لدى الملوك والأمراء؟ فقال الباحث محتجاً: ليس إلى هذه الدرجة يا سيدي. فقد كان الملوك والأمراء هم الذين يتقربون إلى الشعراء العظام طمعاً في قصيدة مدح منهم. ثم أننا نعيش في عصر استطاع فيه بعض كتّاب الغرب أن يصبحوا أصحاب ملايين. فما بال كتّابنا لا يكونون مثلهم؟ قال الأديب الشيخ وهو يهز رأسه: معك حق، وقد ذكّرتني بقولك هذا بروائي أمريكي اسمه جون غريشام نبغ أخيراً وهو لا يزال في مطلع الأربعين. وكان يعمل محامياً. فنشر روايته الأولى التي تتحدث عن جريمة اتهم بها أحد الزنوج وقام هو بالدفاع عنه. واستمد أحداث روايته من تجربته الشخصية. ولم تلق الرواية نجاحاً. فنشر رواية ثانية بعنوان "الشركة" لاقت نجاحاً واسعاً فاشترتها منه إحدى شركات السينما بثلاثة ملايين ونصف مليون دولار. ثم أصدر رواية ثالثة بعنوان "مرافعة البطريرق" فاشترتها منه شركة سينمائية بأربعة ملايين دولار. واعلن مؤخراً أنه بصدد كتابة رواية جديدة فاشترتها منه مقدماً شركة سينمائية ودفعت له خمسة ملايين دولار. وعرضت عليه شركة سينمائية أخرى مبلغ ستة ملايين دولار لروايته الأولى الفاشلة.. والحبل على الجرار! هتف الباحث منبهراً: هذا ما ينطبق عليه مثلنا العامي يا سيدي "لو بالسراجين لو بالظلمة"!
عادل كامل أيضاً قال الأديب الشيخ وهو يبتسم بعد أن ظل صامتا لدقائق: فلنعد إلى موضوعنا الأصلي يا صديقي فهذه حكايات توجع القلب، ولنتحدث ثانية عن عادل كامل. ويبدو لي أنه كان يحلم بالحصول على ثروة من ممارسة للكتابة الروائية. فلما خاب ظنه انصرف عنها إلى المحاماة، ونجح في هذا الميدان. ولكنه ظل ملازما لأهل الأدب، كما ظل صديقا شخصيا لنجيب محفوظ. وقد قرأت يوما أنه مازال كذلك حتى اليوم، وان هناك مجموعة من الأصدقاء الشخصين لنجيب محفوظ يتجمعون ليلة في الأسبوع منذ زمن طويل ويطلقون على أنفسهم اسم "الحرافيش". ومن بين أعضاء هذه المجموعة عادل كامل والمخرج صلاح أبو سيف والممثل أحمد مظهر. وقد قرأت يوما، أو ربما سمعت من أحد الأشخاص، أن نجيب محفوظ استوحى روايته "الشحاذ" من أحداث في حياة عادل كامل. وسكت الأديب الشيخ فتساءل الباحث الشاب: فماذا عن الشخص الآخر يا سيدي، اقصد محمد عفيفي؟
محمد عفيفي قال الأديب الشيخ: الحقيقة أنني لا اعرف الشيء الكثير عن محمد عفيفي وكل ما اعرفه عنه أنه كان من كتّاب القصة القصيرة، لكنه لم يكن مكثرا كما أنه لم يصب نجاحا ملموسا. وكان في فترة من حياته يخرج مجلة بعنوان "القصة". وكان ميالا إلى الفكاهة في أقاصيصه. وعموماً فإنه لم يكن يتكلم كثيرا في جلساتنا، وكان ذا هدوء متميز ووجه أليف يبعث على الارتياح.
نجيب محفوظ قال الباحث الشاب متسائلا: وماذا عن نجيب محفوظ يا سيدي؟ ماذا كانت انطباعاتك الشخصية عنه؟ اعتدل الأديب الشيخ في جلسته وقال وقد أشرق وجهه: اعلم يا صديقي أنني كنت أعرف نجيب محفظ قبل قدومي إلى مصر عن طريق المراسلة، وإن معرفتنا تعود إلى عام 1947. وكنت قد كتبت يومذاك عن كتبه. بل إنني كتبت يوماً دراسة عن أدبه وتنبأت له بمستقبل عظيم في دنيا الرواية العربية0 فكانت تنبؤاتي عنه مبكرة جدا بالنسبة للنقاد والكتاب0 ولعلني من أوائل من بشر بمستقبله الأدبي العظيم. فلم يكن قد نال شهرة واسعة بعد. ولقد نعيت على النقاد عدم اهتمامهم بأدبه. ويمكنك مراجعة ما كتبته عنه في كتابي "كتابات مبكرة". قال الباحث وهو يبتسم بإعجاب: فإذن أنت كنت من بين الأوائل من الكتّاب العرب الذين تنبّوا لنجيب محفوظ في وقت مبكر بهذا المستقبل اللامع، ولم يخيّب ظنك فيه إذ لم يصبح أعظم كاتب روائي في عالمنا العربي بل اصبح روائياً عالمياً بعد أن نال جائزة نوبل للآداب. قال الأديب الشيخ: نعم يسرني أنني تنبأت له بمستقبل رائع في ميدان الرواية في وقت مبكر جداً وأنا فخور بذلك. ويجب أن أسجل للتاريخ أيضاً أن المرحوم سيد قطب، وكان ناقداً ممتازاً، هو الآخر كان من المشيدين بعبقرية نجيب محفوظ. ولقد بهرتني روايات نجيب محفوظ منذ البداية. فهو كاتب نابغ بلا شك. وكان وما يزال، أعظم روائي في أدبنا العربي الحديث. ومن مزاياه أنه مخلص للأدب حقاً وأنه يكتب لا من أجل الشهرة أو المال بل لولعه بالأدب، وهذه مزية ربما لا يناضره فيها سوى محمود تمور. ولم يكن يهمه الشهرة أو المال. كما أن الغرور لم يتطرق إلى نفسه يوما على الرغم مما نال من شهرة مبكرة في عالمنا العربي. وأتذكر أنني سألته يوماً في مطلع الخمسينات: لماذا لم تترجم رواياتك الرائعة إلى اللغات الأجنبية يا أستاذ نجيب؟ فأجاب: لا اعتقد أنها تستحق الترجمة في نظرهم يا شاكر. فأنا كما تعلم أُعنى في رواياتي بتفاصيل محلية عن المجتمع المصري وهذه قد لا تثير اهتمامهم. وهنا أود أن أؤكد على صفة لمستها في خلق نجيب محفوظ وهي التواضع الجم. وكان بهذه الصفة شبيهاً بمحمود تيمور. وكان مثالاً للتواضع وبعيداً عن الاستعلاء والغرور. ولم أشعر طوال الفترة التي أمضيتها في صحبته أنه كان ينظر إلى معارفه من الأدباء نظرة دونية.. حتى لشبان مثلي ومثل غائب طعمة فرمان، ولم نكن سوى طلاب في أوائل مرحلة الدراسة الجامعية. وكان يومذاك في أوائل العقد الخامس من عمره فهو من مواليد عام 1911. فعلى الرغم من أنه كان يتسلق سلم المجد سريعاً يومذاك لكن ذلك لم ينعكس مطلقاً على سلوكه أو في أحاديثه. وأتذكر أن أحد الحاضرين، ولا أتذكر اسمه، قال له يوماً بان توفيق الحكيم متضايق من الشهرة المتصاعدة التي تنثال عليه وأنه كتب في عموده الأسبوعي في جريدة "أخبار اليوم" خاطرة يعّرض فيها به بصورة غير مباشرة. وذكر بأنه قال في ذلك العمود بان الرواية لم تكن في يوم من الأيام الأساس الذي تبنى عليه عظمة الكاتب، بل تقوم على أساس ما يقّدمه من أفكار فلسفية. فسارع نجيب محفوظ يدافع عن توفيق الحكيم وعن مجده الأدبي الراسخ ويؤكد أنه لم يكن يخطر على باله يوماً أن يكون منافساً له، وان الحكيم سيظل لأمد طويل علماً راسخاً من أعلام الأدب العربي الحديث. وزاد على ذلك القول بأنه واثق أن توفيق الحكيم لم يكن يعنيه بتلك الخاطرة. ولم يكونا قد عرفا بعضهما بعضا بعد معرفة شخصية. لكن ذلك تم فيما بعد، فكانا يجتمعان إلى بعضهما في إحدى مقاهي الإسكندرية في فصل الصيف في شهر سبتمبر. وهناك مثال آخر يا صديقي يكشف لك عن تواضعه الجم وبعده عن الغرور. فذات يوم قال له أحد الحضور أنه قرأ للكاتب الفلاني قصة مقتبسة عن إحدى قصصه. فسأله عن مجملها فرواها له، فقال له نجيب محفوظ مستنكراً: كيف يمكنك يا أستاذ أن تتهم الكاتب بهذا الاتهام؟ فليس هناك تشابه بين قصته وقصتي إلاّ بالفكرة العامة. والأفكار كما تعلم شائعة يغترف منها من يشاء من الكتّاب ويعالجونها بأساليبهم الخاصة. وكما يقول المثل السائر لم يبق جديد تحت الشمس! قارن بينه وبين بعض الكتاب الجدد ممن يكتب رواية واحدة أو مجموعة من القصص فيظن أنه قد تجاوز كل من سبقه من كاتب في هذا الميدان. قال الباحث بإعجاب: حقا إنه لشخصية عظيمة. وصمت لحظة ثم قال بلهجة مترددة وهو يخالس الأديب الشيخ النظر: ولكن اسمح لي أن أسألك يا سيدي سؤالاً قد يكون محرجاً لك أو قد يثير غضبك. قال الأديب الشيخ وهو يبتسم: سل ولا تبالي. قال الباحث بلهجته المترددة: ما رأيك يا سيدي فيما قيل بأن نجيب محفوظ قد نال جائزة نوبل للآداب بسبب موقفه المهادن لإسرائيل؟ فغام وجه الأديب الشيخ وقال بلهجة وشت بغضبه: لا أدري لماذا نستكثر على أنفسنا نحن العرب أن ينال واحد منا جائزة نوبل شأن أي شعب من شعوب الأرض وقد نالها أدباء ينتمون إلى دول أفريقية متأخرة. وسكت الأديب الشيخ ثم ضحك ضحكة مرة وقال بأسىً: تصور أن نجيب محفوظ نفسه استكثر على نفسه حصوله على جائزة نوبل. فقد قال معلقاً على فوزه بالجائزة: من حسن حظّي أن هذا العهد قد خلا من الكتّاب العمالقة فتهيّأ لكاتب مثلي أن يفوز بجائزة نوبل. وهز الأديب الشيخ رأسه وقال متسائلا بسخرية: لكنني أريد بدوري أن أسأل أولئك المتشككين بقيمة أدب نجيب محفوظ: هل كانت ترجمة مؤلفات نجيب محفوظ إلى اللغات العالمية الحية الرئيسة وعلى رأسها الإنجليزية والفرنسية والألمانية بوساطة إسرائيلية أيضاً؟ لقد كنت أمضي إجازتي في صيف عام 1994، في مدينة شيكاغو الأمريكية فدخلت واحدة من أعظم مكتباتها التجارية وأسمها "مكتبة ووترستون" وتتألف من خمسة طوابق ضخمة. وبينما كنت أتطلع إلى القسم الخاص بأحدث الروايات العالمية رأيت رفّا خاصاً مكتوباً عليه اسم نجيب محفوظ وأحصيت عشر روايات من رواياته المترجمة.. وكم شعرت بالفخر لذلك! فما بالنا نحاول أن نغضّ من قيمة أول كاتب عربي رفع شأننا بين أمم العالم؟ قال الباحث الشاب معتذراً: أنا آسف يا سيدي إذ طرحت عليك هذا السؤال، وثق أنني لست من مؤيدي هذا الرأي. قال الأديب الشيخ: أنا لا ألومك على طرح سؤالك هذا يا صديقي. فقد حاول بعض الكتاّب إثارة مثل هذا اللغط، وكان البعض منهم حسن النية والآخر سيئ النية. كما أنني لا أشكّ أيضاً بأن الفوز بجائزة نوبل لم يكن في يوم من الأيام دليلاً حاسماً على أحقيّة الكاتب بهذا الشرف، كما هو الشأن في كل الجوائز تقريباً. فهنالك عوامل شخصية كثيرة تتدخل في مثل هذه القضية وعلى رأسها الصلات الشخصية والصفقات والاتفاقات، لكن ما قيل بشأن فوز نجيب محفوظ بالجائزة ظلم فادح له وإساءة بالغة إلى مواقفه الوطنية. قال الباحث الشاب برفق وهو يبتسم: لا أستغرب دفاعك الحار هذا عن نجيب محفوظ يا سيدي فقد كنت من أوائل المبشرين بنبوغه. قال الأديب الشيخ بحرارة: بل لقد ازددت إعجاباً به حينما عرفته معرفة شخصية. فقد وجدته شخصاً دمث الخلق، جم التواضع، تلازم الابتسامة وجهه الأسمر المصري الصميم ولا تفارق "النكتة" شفتيه. وكان رائق المزاج دائماً، ولا أتذكر أنه حضر الندوة يوماً وهو عكر المزاج. ولقد أخبرني صديقه عبد الحميد جودة السحار بأن يوم الجمعة هو اليوم الوحيد الذي يتفرغ فيه من همومه الكتابية. أما بقية أيام الأسبوع فتشغله هذه الهموم بصورة مطلقة. ولم يكن قد تزوج بعد. وأحب أن أذكر لك بأن نجيب محفوظ كان بالفعل دائم الانشغال بشخوص رواياته. وكان يتعايش معها على الدوام. وكان كلما خطرت له فكرة عن رواية جديدة تهيأ لها شهوراً عديدة. وراح يعد لها التصاميم والشخصيات والمواقع والأحداث وأخذ يتردد على أحياء ومقاهي معينة يرصد فيها حياة الناس. وهو يذكّرني بطريقته هذه بالكاتب الإنجليزي شارلس ديكنز الذي كان يدرس شخصياته على أرض الواقع بزيارة المصانع والشركات والحارات والحانات الشعبية والإدارات الحكومية قبل كتابة روايته. وكذلك بالكاتب الفرنسي إميل زولا أب المدرسة الطبيعية الذي كان يعتقد أن من مهام الروائي معايشة شخصيات رواياته في نفس أطر حياتهم الطبيعية. ولعل نجيب محفوظ متأثراً بهما. وكان من عادة نجيب محفوظ أن يمضي شهور الصيف في التهّيأ لكتابة رواياته الجديدة. وكان يتخذ لها مواقع معينة من مدينة القاهرة ويمضي وقتاً طويلاً في مقاهيها وحواريها يراقب أُناسها ويسجل ملاحظاته عنهم ويرسم تصاميم الرواية على طبيعة. وأنت تعلم بالطبع أن كل روايات نجيب محفوظ تدور أحداثها في مدينة القاهرة أو الإسكندرية. وكان يساعده على ذلك أنه لم يكن قادراً على الكتابة أو حتى القراءة المكثفة خلال أشهر الصيف، فقد كان يشكو من حساسية أو علة في عينيه، ولعلها من آثار رمد قديم، وكانت تشتد في أشهر الصيف. لذلك كان يضع على عينيه دائماً نظارة سوداء. وكان يشكو أيضاً أمراضا عديدة أخرى منها أوجاع الروماتيزم التي تشتد عليه في أشهر الشتاء. وسكت الأديب الشيخ فقال الباحث: لقد تحدثت عن جوانب عديدة من حياة نجيب محفوظ يا سيدي لكنك لم تتحدث عن آرائه السياسية. فقال الأديب الشيخ: لا أحب التحدث في السياسة في هذه الذكريات، وإن كان من المتعذر فصل السياسة عن الأدب، ولعلي أخصص لذلك موضعاً آخر. لكن من الممكن القول لك باختصار أنه كان في ميوله ديمقراطياً راديكاليا، وكان يناصر نظاماً شبيهاً بذلك الذي يدعو إليه حزب العمال في بريطانيا.أي انه كان ينشد ديمقراطية ليبرالية ذات اتجاه معتدل كما صرح بذلك في الندوة مرة. ولم يكن يذهب إلى أبعد من ذلك. وعلى كل حال فليس بدعاً القول أنه كان وفدياً في ميوله، مع ميل لليسار، وإن لم ينتم إلى حزب الوفد رسميان. وفي كثير من رواياته أشار إلى "الوفد" بشكل أو بآخر أو بالإشادة بسعد زغلول. ولقد ظل صامتاً لوقت غير قصير في عهد ثورة 22يوليو ربما منتظراً ما ستتبلور عنه هذه الثورة. ولم يكتب شيئا يمس الحياة المصرية في حياة جمال عبد الناصر سوى كتابه "المرايا" الذي عبّر فيه عن خيبته في الحروب التي خاضتها مصر ضد إسرائيل، ولعله كان يخشى إرهاب رجال المخابرات. فبقدر ما كان نجيب محفوظ شجاعاً في كتاباته كان شديد الاحتياط لنفسه في حياته اليومية. وقد قال عنه الكاتب المصري غالي شكري في أحد كتبه أنه أشجع كاتب وأجبن إنسان. وقد روى لي أحمد عباس صالح –والعهدة على الراوي- أن نجيب محفوظ كان قلقاً جداً حينما شارك في المذكرة التي نددت بنظام السادات وبمواقفه السياسية والتي رفعت إليه وشارك فيها عدد كبير من كتّاب مصر ومن ضمنهم توفيق الحكيم. وكان السادات قد اغتاظ من تلك المذكرة وهدد الموقعين عليها بالانتقام. وقال أحمد عباس صالح فيما قال بأن نجيب محفوظ كان يكلّمه كل صباح بالتلفون وهو بادي القلق ويسأله عن آخر الأخبار. وعلى كل حال فلم يعّرض نجيب محفوظ بنظام عبد الناصر حتى بعد مماته ولا بتعسّف رجال مخابراته إلاّ على نحو ضبابي في روايته "قلب الليل". ولم يسئ إلى ذكرى عبد الناصر كما فعل غيره من الكتّاب. ولا شك عندي أنه كان يقدّر إنجازات عبد الناصر الوطنية على الصعيد المحلي والعربي على الرغم مما شاب نظامه من أخطاء وانفراد بالسلطة واعتماد على أشخاص أساءوا استخدام صلاحياتهم. وفي مقابل هذا الموقف نجد كاتبا كبيراً كتوفيق الحكيم ينشر في عهد السادات كتابه السيئ الصيت المعنون "عودة الوعي" والذي هاجم فيه نظام عبد الناصر وشبّه تأثيره بتأثير المخدر الذي شّل العقول عن التفكير وضلّلها. تصور كاتباً كبيراً كتوفيق الحكيم، وكان قد جاوز السبعين يومذاك، يعلن بأنه كان مضّللاً ومخدراً في عهد عبد الناصر. وقد تجاهل المكاسب التي قدّمها نظام عبد الناصر إلى الشعب المصري وحتى إلى العالم العربي. وهذا الموقف من الحكيم إن دل ّعلى شيء فإنما يدل على أن كتاّبنا لا يدينون حكاّمنا إلا بعد وفاتهم. قال الباحث بلهجة مترددة: أنت تعلم يا سيدي أن نظام الرئيس عبد الناصر كان ولا يزال مثار جدل بين المؤيدين له والمنكرين له، ولم يكن توفيق الحكيم بدعاً بينهم. قال الأديب الشيخ: أنا معك في ذلك. ولكن كان من المخجل أن يقول كاتب كبير كتوفيق الحكيم عن نفسه أنه كان مخدراً أو مظللاً. هذا فضلاً عن أن الرئيس عبد الناصر كان يجّل توفيق الحكيم وأمثاله من الكتاّب الكبار. ولعل هذا المثل وما يمكن أن يثيره من مقارنة بين موقف نجيب محفوظ وموقف توفيق الحكيم في هذه القضية يدلّك على خلق نجيب محفوظ. قال الباحث الشاب: لاشك أنني ازددت إعجاباً بشخصية نجيب محفوظ بعد أن سمعت عنه ما سمعت الآن يا سيدي. ولكن هل يمكن أن أعرف أيضاً من هم الكتاّب الذين تأثّر بهم؟ قال الأديب الشيخ: الحقيقة أنني لا أستطيع الجواب عن هذا السؤال بدقة. فقد كان الحديث يدور في الندوة عن كثير من الكتاّب العرب والغربيين، وكان نجيب محفوظ يبدي إعجابه بعدد كبير منهم. ومن ضمن أولئك ديكنز وتولستوى ودوستويفسكي وتوماس مان ومارسيل بروست. وكان معجباً بطه حسين والمازني وتوفيق الحكيم والعقاد، وعلى نحو الخصوص بشعر العقاد. ولكنني لا أستطيع أن أقيّم مدى قراءاته في الآداب العالمية. ويبدو لي أنه لم يكن يجد وقتاً كثيراً لقراءة الآثار الأدبية العالمية بسبب انشغاله الدائم بكتابة رواياته التي كانت تتوالى في كل عام. هذا فضلاً عن أن ظروفه الصحية لم تكن تسمح له بالقراءة المكثفة في فصل الصيف، وعلى الخصوص فيما بين أشهر نيسان وتشرين الأول. وأعتقد أنه كان يكرّس أيضاً جزءاً من وقته لقراءة الكتب الفكرية، ولا سيما الفلسفية منها، فنجيب محفوظ أصلاً من خريجي قسم الفلسفة في كلية الآداب في أواسط الثلاثينات. وكان في بداية نشاطه الفكري معنيّا بالمشاكل الاقتصادية. وكان يحرر في مطلع الثلاثينات في المجلة التي كان يصدرها سلامة موسى، وهي مجلة يسارية. ثم اجتذبه التاريخ المصري القديم. فكان باكورة كتبه كتابا مترجما عن تاريخ مصر القديمة. أما رواياته الأولى وهي كفاح طيبة ورادوبيس وعبث الأقدار فهي روايات ذات طابع تاريخي وإن كان هدفها في الحقيقة الإسقاط على حاضر مصروخضوعها للهيمنة الإستعمارية. وهكذا ترى أن اهتماماته الأولى كانت بعيدة عن الأدب، أو فلنقل أنها كانت فكرية واسعة أكثر من مجرد اهتمامات أدبية. والحقيقة أن روايات نجيب محفوظ في رأيي عنيت بالجوانب الفكرية وعلى نحو الخصوص الفلسفية منها، أكثر من عنايتها بالجوانب الفنية المحضة. فلغته مثلاً، وما يتعلق بها من جوانب فنية، لم ترتفع أبداً إلى المستوى المطلوب من كاتب كبير. ويمكن القول عموماً أنها متوسطة. وأنا واثق أنه كان باستطاعته أن يرتفع بها لو شاء، لكنه كما يبدو لم يكن يجد ضرورة لذلك. وذلك لأنه شغل دائماً بالجوانب الفلسفية في أدبه. وهذه حقيقة لا تذكر كثيراً عند الحديث عن أدب نجيب محفوظ. فلقد عالج مواضيعه الفلسفية ببساطة شديدة ومزجها مع مجريات الحياة اليومية، فلم تبد مشاكل فلسفية عويصة تمس أعماق الإنسان وصلته بالكون من حوله. ولم يتحدث هو عن هذا الجانب في أدبه يوماً وترك تقييمه للقارئ، غير مدّع صفة الفيلسوف، وهو أمر منبثق عن تواضعه المعهود. في حين أن توفيق الحكيم كان يضفي على نفسه دائماً صفة "الفيلسوف" و "راهب الفكر". وفي اعتقادي أن قيمة أدب نجيب محفوظ تكمن فيما ينطوي عليه من فلسفة ودراسة مكثفة للمشاكل الاجتماعية والروحية للمجتمع المصري وعلى نحو الخصوص مجتمع المدينة. ومجتمع المدينة هو أكثر تعقيداً بالطبع من مجتمع الريف. والواقع أن أدب نجيب محفوظ قد جمع صفات لم تجتمع لأي كاتب عربي آخر. فهو مكتوب بقلم فيلسوف وعالم اجتماعي وفنان. ولكنه على الرغم من عمقه ومعالجته لمشاكل فلسفية عويصة يظل أدباً سهلاً على فهم وتذوق القارئ البسيط لأنه كتب بقلم الفنان وليس بقلم الفيلسوف والعالم الاجتماعي. ويبقى أدب نجيب محفوظ بعد كل شيء سجلاً حيّاً للمجتمع المصري الحديث بمشاكله الاقتصادية والاجتماعية والنفسية وبتطلعاته لحياة إنسانية كريمة. كما يظل أدب نجيب محفوظ من خيرة ما كتب من أدب روائي عن تطور هذا المجتمع ومشاكله منذ الربع الأول من هذا القرن حتى أواخره. ويستحق نجيب محفوظ بأن يلقب بـ "مهندس المجتمع المصري". هذا فضلاً عن براعته المذهلة في رسم شخوصه بحيث تظل عالقة بالذهن، بل تصبح شخصيات إنسانية تعيش في وجدان القارئ وتصير أمثلة يقاس عليها. ولعل خير دليل على قولي هذا شخصية "السيد" في ثلاثيته العظيمة والتي باتت مضرب المثل لدى الشعب المصري. وهذه الشخصيات بقدر ما هي شخصيات مصرية صميمة فإنها شخصيات إنسانية عامة بصفتها الشمولية. فلا عجب أن يقبل القراء الغربيون على أدب نجيب محفوظ ويتذوقوه بعد أن وجد طريقه إليهم، ذلك لأنه يتعامل مع الإنسان المطلق وينطوي على حب عميق له. فالمعروف عن نجيب محفوظ أنه أحب الإنسان المصري حبّا عميقا. وأود أن ألفت نظرك يا صديقي إلى نقطة مهمة، وهي أن بساطة أسلوب نجيب محفوظ جعلت بعض الكتّاب المتنطعين يستهينون بقيمة أدبه مدّعين بأنه لم يجدد في أساليبه، وأنه أنتج أدباً على نمط أدب ديكنز ودوستويفسكي الذي كتب في أواسط القرن التاسع عشر. ولذلك يخلو أدبه في رأيهم من الرموز والإيماءات وتيار اللاوعي وما إلى ذلك من تجديد. وهذه الأمور هي التي تحدد قيمة الأدب في زعمهم. وأمثال هؤلاء النقّاد يتناسون بأننا ما زلنا نقرأ بكثير من الشغف والإعجاب شعراً وقصصاً وحكايات كتبت قبل مئات السنين بأسلوب بسيط. ولم تكن جّدة أسلوبها أو غرابته هي المسؤولة عن إعجابنا بها. ومع ذلك فنجيب محفوظ كان يجدّد في أسلوبه دائما. والأمثلة على ذلك قائمة في رواياته المختلفة كـ "الشحاذ" و "ثرثرة فوق النيل" و "ميرامار" و "الحرافيش" و "أولاد حارتنا".. الخ، فضلاً عن أن أدبه كان دائماً حافلا بالرمز. وفي اعتقادي أن أمثال أولئك المنتقدين يفهمون الأدب فهما خاطئاً ويعتقدون بأنه لابد أن يثير دهشة القارئ بأساليبه المستطرفة والمستغلقة على الفهم أحياناً. وهذا فهم خاطئ للأدب وماهيّته. قال الباحث الشاب وهو يهز رأسه بإعجاب: شكراً لك يا سيدي على ما سلّطته من ضوء على أدب نجيب محفوظ وشخصيته وأراني قد أصبحت أكثر فهماً له. وساد الصمت دقائق كانت نظرات الأديب الشيخ خلالها تطوف في الفضاء حالمة. وأخيراً تساءل الباحث بلهجة رفيقة: هل أطمع بأن تحدثني عن بقية أفراد "الشلة" يا سيدي؟
عبد الحميد جودة السحار التفت إليه الأديب الشيخ وقال مفكراً: في الحقيقة ليس لدّي الشيء الكثير عنهم. ويمكنني أن أقول أن عبد الحميد جودة السحار هو الشخصية الرئيسية الثانية في "شلّة" كازينو اوبرا. وكان شخصاً مرحاً ذا وجه محبوب بملامحه الدقيقة وابتسامته الدائمة. وكانت تميّزه لهجة دافئة. وكان هو وعلي أحمد باكثير يمثلان الجانب الديني في "الشلة". ولم يفوّت موعداً من مواعيد صلاة الجمعة في الجامع المجاور لكازينو أوبرا طوال السنوات الأربع التي عرفته فيها. لكنه لم يكن يكثر التحدث في الدين. وكان المسؤول عن النشر في "مكتبة مصر" أو ما كان يسمى يومذاك بـ "لجنة النشر للجامعين". والمعروف أن صلة نجيب محفوظ بالسحار هي التي هيأت له نشر رواياته لأول مرة. وقد ظل نجيب محفوظ مخلصاً لهذه الدار حتى اليوم، على الرغم من أنها لم تكن تدفع له مبالغ مجزية عن رواياته لغاية عهد قريب. وقد روى لي المرحوم عبد الحميد جودة السحار أنه هو الذي أتصل بنجيب محفوظ حينما أسّسوا دار النشر وعرض عليه أن تتولى الدار نشر مؤلفاته. وكان نجيب محفوظ يحتفظ يومذاك في أدراج مكتبه بثلاث روايات اعتذر الناشرون عن نشرها. ولم تظهر أولى رواياته إلاّ في عام 1943 وهو عام تأسيس الدار. ثم أخذت رواياته تظهر تباعاً في الدار المذكورة. وذكر لي عبد الحميد جودة السحار أيضاً أن روايات نجيب محفوظ الأولى لم تكن تلق رواجا وأنها كانت بالكاد تسد نفقاتها. وسكت الأديب الشيخ متأملاً ثم عاد يتحدث وهو مشرق الوجه: كان عبد الحميد جودة السحار شخصاً لطيفاً حقاً.. دافئ اللفظ والخلق.. قريباً إلى القلب.. بعيداً عن التصنع والمبالغة في أقواله وأفعاله. وكان متديناً حقيقياً هو وأخواه سعيد جودة السحار والحاج أحمد جودة السحار. ولذلك فقد كان على صلة طيبة بالمرحوم سيد قطب. وأتذكر أنني حضرت معه يوماً جلسة مع سيد قطب في مقهى الأندلس المطل على النيل. وكان سيد قطب قد عاد من أمريكا بعد عام أمضاه في جامعاتها. وأتذكر أن سيد قطب روى لنا حكايات طريفة عن جهل الأمريكان بمصر وبالبلدان العربية عموما. وكانت تلك المرة الوحيدة التي التقيت فيها بسيد قطب وكان يمذاك ’ديبا معروفا و ناقدا ممتازا0.ولم يكن قد عرف بعد كداعية ديني مؤموق0 وكان عبد الحميد السحار روائياً ناجحاًن لكن رواياته الاجتماعية لم تصب من النجاح ما أصابته رواياته وكتبه الدينية. وقد انصرف في أواخر عهده إلى تسجيل التاريخ الإسلامي المبكر في قصص سهلة وعذبة للأطفال. ولعل أكثر رواياته نجاحاً هي رواية "في قافلة الزمان". وقد كتبت عنها نقداً مسهباً عند ظهورها في عام 1950. وكذلك رواية "السهول البيض" ورواية "النقاب". وقد أخرجت بعض قصصه ورواياته في السينما ولاقت نجاحاً طيباً مثل "أم العروسة" و "محمد رسول الله" و "مراتي مدير عام" وغيرها. ولكنه كان على العموم تقليديا في أدبه وقلّما كان مبدعاً.
علي أحمد باكثير وصمت الأديب الشيخ فتساءل الباحث: وماذا عن علي أحمد باكثير يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ بلهجته المتئدة: لقد كانت تربطني بعلي أحمد باكثير علاقة طيبة على الرغم من تباعدنا في الأفكار. وكان شخصاً متميزاً في "الشلة" بقامته القصيرة وملامحه الغليظة وعينيه الذكيتين البراقتين اللتين تخترقان نظارته السميكة. وكان من المساهمين النشطين فيما يدور من نقاش في الندوة. وكان صوته مرتفعاً أبدا.ً فقد كان يتحدث بحماس دائماً، وخصوصاً إذا تناول الحديث قضايا تتعلق بالدين. ولذلك سماه أحمد عباس صالح مداعباً "المواطن الأول في بلاد اسلامستان". وكانت اهتمامات باكثير بالمسرح أعظم من اهتماماته بالرواية. ولعله كان متأثراً في ذلك بدراسته للأدب الإنجليزي في الجامعة. واقتصرت رواياته على مواضيع ذات طابع تاريخي ديني. ومن أمثلتها "الثائر الأحمر" و "سلامة القس" و "وا إسلاماه". أما المسرح فقد اتجه إليه مبكراً ولعله كان أول من ترجم مسرح شكسبير شعراً إذا لم تخّني الذاكرة، فربما كان خليل مطران اسبق منه. ولقد ابتدع أسلوباً مبتكراً في ترجماته الشعرية وهو الأسلوب الذي تبّناه فيما بعد الشعر الحديث. ولذلك يعّده بعض النقّاد أول رائد للشعر الحديث الخارج على النمط المألوف في الوزن والقافية. وقد لقي مسرحه بعض النجاح قبل ثورة يوليو وخصوصاً مسرحية "مسمار جحا" ومسرحية "شهر زاد" و "مسرحية جلفدان هانم". ولكن يبدو أنه لم تتح له فرصة عادلة بعد الثورة، فتوارى عن الأنظار وخصوصاً في فترة الستينات. وقد التقيت به مرة أخرى في بغداد عام 1968 في مهرجان المربد ودارت بيننا حوارات طويلة. فأدركت أنه كان يعاني من المرارة والخيبة تجاه أولئك الذين سيطروا على عالم الثقافة والفكر في مصر بما توفر لديهم من دعم سلطوي. ولقد صرح لي بأنه يلقى مقاومة واضطهاد من بعض الذين يتحكمون في المجلات الأدبية ودور النشر والمسارح، وأنهم يحاولون إبعاده عن الأضواء باعتباره "أديباً رجعياً". ولا أدري مدى الدقة في ادّعا آته لكنني لمست خيبة ومرارة شديدتين في أقواله. وقد توفي بعد لقائي هذا معه بعام أو عامين وربما كان متأثراً بهذا الإحباط النفسي.
محمد عبد الحليم عبد الله وسكت الأديب الشيخ فتساءل الباحث الشاب: وماذا عن محمد عبد الحليم عبد الله يا سيدي؟ فقال الأديب الشيخ: الحقيقة أن محمد عبد الحليم عبد الله لم يكن يلفت نظري. فقد كان يلتزم الصمت دائماً ويقبع في كرسيّه بجرمه الصغير ونادراً ما كان يتحدث. ولعل مرد ذلك إلى كونه محدود الاطلاع على الأدب العالمي ولم يكن يحسن لغة أجنبية. وكان مختصاً على نحو ما باللغة العربية. وقد ظهر فجأة في "الشلة" ولا أتذكر كيف. وأعتقد أن الذي قدّمه إلى "الشلة" هو عبد الحميد جودة السحار بعد أن نشرت له "الدار" روايته الأولى "لقيطة"، وكانت قد فازت بجائزة مجمع اللغة العربية وأخرجت في فلم ناجح. ولم تكن رواياته تسهتويني. وكنت أراها تكرارا لروايات المنفلوطي المترجمة. وكانت تحذو حذوها في روحها الرومانسية. وكان العهد بهذا الاتجاه الروائي قد انتهى منذ أمد بعيد. وكان طه حسين قد شّن عليه في أوائل القرن حملة شعواء، وخصوصاً على أدب المنفلوطي. فكانت روايات محمد عبد الحليم عبد الله إحياء لذلك النمط الأدبي. وقد قرأت عدداً منها، مثل "شجرة اللبلاب" و "غصن الزيتون" و "لقيطة" فلم أجدها ناجحة على الصعيد الفني، لكنها نالت إعجاباً وإقبالاً واسعاً من القراء مما يدل على أن قرّاءنا ما زالوا أسرى العواطف الرومانسية. وعلى كل حال فلم تكن صلتي بعبد الحليم عبد الله قوية على الرغم من أنه ظل يلازم "الشلة" بدأب تام ولم يتخلف عن ندواتها يوماً.
يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس تساءل الباحث: وماذا عن الآخرين الذين كانوا يلمّون بندوات هذه "الشلة" يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ مفكراً: كان هناك يوسف السباعي ولكنه لم يكن يتردد على "الشلة" كثيراً. وكان يحضر دائماً بلباسه العسكري الأنيق. وكان يتمّيز بوجهه الجميل المشرق وعينيه الزرقاوين الضاحكتين وخلقه المهذب. ولم يكن يشارك في النقاش كثيراً. ولم أكن يومذاك من المعجبين بأدبه فلم أحاول أن أوثّق صلتي به. وكان نجمه قد بدأ يسطع في مطلع الخمسينات، وكانت رواياته قد بدأت تلقى رواجا لدى طبقة معينة من القراء وهي طبقة الشباب من الجنسين. فرواياته المبكرة عموماً كانت تضرب على أوتار حساسة بالنسبة لهم وخصوصاً من هم في دور المراهقة. ففيها الكثير من الرومانسية مثل رواية "نادية" و "إني راحلة" و "رد قلبي". لكنه اتجه فيما بعد إلى الكتابة الجادة كما في رواياته "السقا مات" و "أرض النفاق" و "نحن لا نزع الشوك". وكان ينافسه في هذا الميدان يومذاك إحسان عبد القدوس الذي لقيت قصصه ورواياته إقبالاً واسعاً من القراء الشباب. وكان قبل ذلك صحفياً ناجحاً ولا عجب فهو ابن الصحفية الذائعة الصيت روز اليوسف. وقد بدأ أحسان عبد القدوس الكتابة الروائية بقصص رومانتيكية، فأصدر ثلاث مجاميع قصصية هي "بائع الحب" و "صانع الحب" ولا أتذكر الثالثة التي تشابههما في العنوان. ثم توالت رواياته الطويلة التي لاقت نجاحاً كبيراً في السينما مثل "لا أنام" و "النظارة السوداء" و "أنا حرة" و "في بيتنا رجل". لكنه كان قد اتجه إلى مزج الجوانب العاطفية بالجوانب الاجتماعية والسياسية، وصارت رواياته أكثر جداً. وأزعم أن كتاباته وكتابات السباعي كانت تلقى يومذاك إقبالاً من الشباب أكثر مما تلقاه روايات نجيب محفوظ. ومهما قلنا عن روايات يوسف السباعي واحسان عبد القدوس وما نالته من نجاح فإنها تظل بلا شك أدباً مسطحاً يعوزه العمق في معالجة مشاكل المجتمع ويفتقر إلى الخصائص الفنية العالية، عدا أعمال معدودة. ولذلك لم تحظ باهتمام دراسي الأدب. ولا غرابة في أن تجتذب روايات السباعي وعبد القدوس صناعة السينما، وقد أصابت بالفعل نجاحاً طيباً. فلم يكن جمهور السينما العربية ينشد في يوم من الأيام القصص الجادة. قال الباحث مبتسماً: ولكن اسمح لي يا سيدي أن أقول بأن روايات نجيب محفوظ قد أخرجت للسينما أيضاً. فقال الأديب الشيخ: هذا صحيح ولكنها لم تصب من النجاح ما أصابته روايات احسان عبد القدوس ويوسف السباعي. وعلى كل حال فلا يصح اعتبار ذلك مقياساً للأدب العالي أو غير العالي. لكن الذي لا شك فيه أن كلا الكاتبين، السباعي وعبد القدوس، لم يعبآ كثيراً بمتطلبات الأدب الراقي بقدر ما عنيا باكتساب إعجاب أكبر عدد من القراء. وأنت تعلم بالطبع أن تحقيق الأرقام العالية في المبيعات في عالم القصة والرواية لم يكن يوماً مقياساًً للنجاح الفني والأدبي. وعلى كل حال فهذا موضوع قد يطول النقاش فيه،وقد ساقني إليه القول بأن أدب يوسف السباعي لم يكن يحظى باهتمامي يومذاك. ولذلك لم أسع إلى توطيد علاقتي به شأني مع الأدباء الآخرين. لكن الذي لاشك فيه أن السباعي كان يبدو لي دائماً شخصاً في غاية الدماثة والتهذيب. وكان من الواضح أنه يتمتع بخلق عال. وكان عموماً شخصية جذابة محببة للنفس. حكاية.. وصمت الأديب الشيخ وقد طافت على شفتيه بسمة خفيفة. ثم عاد يقول وهو منطلق الوجه: وقد أثبتت لي الأيام صدق انطباعي عن خلقه العالي عبر حادثة شهدتها في أواسط عام 1975. ففي ذلك العام عقد مؤتمر الاتحاد العام للأدباء العرب في الجزائر. وكان الصحفيون والصحفيات الجزائريات يطوفون بأعضاء المؤتمر ويعقدون معهم المقابلات. وكانت من بين الصحفيات السيدة زينب الملّى التي كانت أيضاً زوجة مدير عام الأعلام يومذاك. وكانت تمتّ إلى عائلة عريقة من عوائل قسنطينة. وكان زوجها من رجال الثورة ومن المقربين للرئيس هواري بومدين. وكانت على جانب كبير من الجمال وصريحة إلى أبعد الحدود. وكنت أعرفها معرفة شخصية إذ كانت من المعجبات بأدبي. فكانت شأنها شأن الصحفيين الآخرين تطوف على أعضاء المؤتمر وتعقد المقابلات معهم. وكان الكثيرون منهم يطمح إلى مثل هذه اللقاءات معها لجمالها وظرفها وخفة دمها. وكان يوسف السباعي يرصدها وهي تتنقل بين أعضاء المؤتمر وتسجل معهم اللقاءات من دون أن تعيره أي اهتمام. ولم يطق على ذلك صبراً فقال لها يوماً: يا ست زينب. أنت عقدت لقاءات مع العديد من أعضاء المؤتمر ونسيت أن تعقدي لقاء معي مع أنني الأمين العام للمؤتمر فضلاً عن أنني روائي معروف. فنظرت إليه السيدة زينب في استعلاء وأجابت في تهكم مبطن: لا.. لم أنس يا أستاذ يوسف... لكنني لا أعقد حواراً مع أدباء يتقلبون مع تقلب الزمان. فاحمّر وجه يوسف السباعي لكنه التزم الصمت. وأعتقد أنه لو جرى هذا الكلام مع أي شخص آخر لرد على السيدة زينب رداً عنيفاً. قال الباحث باستنكار: لكن هذه صراحة ينبو عنها الذوق. فقال الأديب الشيخ وهو يضحك: تلك هي زينب الملّي. لم يكن يمسكها شيء عن قول ما تعتقد أنه الحق.. وهي في الحقيقة لم تبعد عن الحق في قولها. فأنت تعلم ولاشك أن يوسف السباعي كان من المحظوظين في العهد الملكي. وقد حاول التقرب من الرئيس عبد الناصر وبلغ مركزاً مرموقاً. ثم ارتقى السلم الوظيفي إلى قمته في عهد السادات فصار وزيراً للثقافة. وسيطر على الحياة الثقافية في حين كانت مصر تشهد هجمة بربرية على أهل الثقافة بدءاً بنجيب محفوظ وأنتهاء بصغار الكتاّب. وصمت الأديب الشيخ وقد بان الأسى على وجهه ثم عاد يقول: لكن ذلك كله لم يكن يبرر مقتله برصاصات غادرة لا لشيء إلاّ لكونه قد أشترك في الوفد المصري الذي زار إسرائيل في خضم التطبيع. وكان ذلك خسارة للأدب العربي. فمهما قيل من مآخذ على أدبه فإنه أمدّ الروايةالعربية بدماء جديدة0 فقال الباحث: هذا لاشك فيه. و صمت الأديب الشيخ فتساءل الباحث الشاب وعلى شفتيه بسمة رقيقة: ومن غيره من رؤاد "الشلة" كازينو أوبرا يا سيدي؟
محمود البدوي قال الأديب الشيخ وقد انبسط وجهه: كان هناك أديب آخر لم يكن يحضر إلاّ قليلا هو القصاص محمود البدوي. وقد ربطتني به صلة قوية على الرغم من أننا لم نكن نرى بعضنا بعضا إلاّ لماما. وكان محمود البدوي وديع المظهر هادئ اللفظ خافت الصوت. وكان شعره الأبيض الذي يجلل رأسه يكسبه مظهراً وقوراً. وكان يومذاك في أواسط العقد السادس من عمره لكنه كان يبدو متعباً. والواقع أن محمود البدوي كان من أفضل قصّاصي الأربعينات والخمسينات ولكنه مع الأسف لم ينل ما يستحقه من شهرة وتقدير. ولعل مرد ذلك إلى بعده عن الدعاية لنفسه وزهده في الشهرة. وكان قد أخرج مجموعتين قصصيتين جميلتين هما "الذئاب الجائعة" و "الغرفة الحمراء". وكان أسلوبه متميزاً ومتفرداً، وهو مزيج بين الواقعية والرومانسية ومشبع بالروح الإنسانية. وأتذكر أنه قال لي مرة إنه على الرغم من أنه يمتلك سيارة إلاّ أنه يفضل ركوب "المترو" عند الانتقال من منزله في مصر الجديدة إلى قلب القاهرة لكي يراقب الناس ويستمع إلى أحاديثهم. وكان يعتقد أنه يمكن أن يتعلم الكثير عن مشاكل الناس بلإصغاء إلى حوارهم في مركبات النقل العام. وكان ذلك قبل أن تزدحم وسائل النقل العام كما هي في الوقت الحاضر بحيث لم يعد يجد المرء مجالاً للتنفس فيها لا للكلام. وقد قام برحلة إلى رومانيا قبل الحرب العالمية الثانية تركت انطباعاً جميلاً في نفسه وأوحت إليه بإحدى قصصه وهي قصة "الغرفة الحمراء". وكان يحثني على الاشتراك معه في رحلة إلى أوربا على طريقة الشباب. وكان قد شارف على الستين من عمره فتصور! قال الباحث الشاب وهو يضحك: كنت أنت شاباً يومذاك بالطبع يا سيدي وكان هو شاباً في روحه.
غائب طعمة فرمان وأخلد الأديب الشيخ إلى الصمت وطال صمته. فتساءل الباحث أخيراً بلهجة رفيقة: وماذا عن روائينا الكبير غائب طعمة فرمان يا سيدي؟ أنت ذكرت أكثر من مرة أنه كان أحد أفراد "الشلة". فلماذا أغفلت ذكره حتى الآن؟ قال الأديب الشيخ وقد اكتسى وجهه بالحنان: وكيف أغفل ذكره؟ لقد كان واحداً من أقرب أصدقائي يومذاك، وكان أحد المتحمسين لأدبي. وقد قرأت عليك ما كتبه عن كتابي "صراع". وصمت الأديب الشيخ وقد بان الأسى على وجهه ثم قال وهو يهز رأسه: مسكين أنت يا غائب! أحسبك لم تذق طعم الراحة في حياتك. تساءل الباحث باستغراب: ولماذا تقول ذلك يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ في أسى. هذا هو الواقع يا صديقي، فأنت تعلم بالطبع أنه لم يمض في بلده بعد تخرجه من الجامعة المصرية سوى سنوات قلائل كان يعمل أثناءها في جريدة صوت الأهالي0 ثم عاش بقية حياته مشرداً بين الصين والاتحاد السوفيتي. وكان قد غادر العراق في مطلع الستينات ولم يعد إليها ثانية إلاّ في زيارات قصيرة. ثم مات أخيراً في بلاد الغربة في موسكو في مطلع التسعينات. وسكت الأديب الشيخ لحظة ثم عاد يقول: لقد عرفت غائب طعمة فرمان في القاهرة ولم أكن قد سمعت به أو قرأت له من قبل. وكانت تجمعنا ندوة "كازينو أوبرا" ونادراً ما كنا نلتقي خارج تلك الندوة. وكان يدرس على نفقته الخاصة. فكان بالكاد يقوّم أوده ولكنه لم يشك يوماً. واضطر إلى العمل محرراً في مجلة "الثقافة". ولم يكن بجز على عمله بسوى القليل. وكان يبدو شاحب الوجه معتل الصحة دائماً. وكانت عيناه الناعستان تطلاّن من وراء نظارته السميكة وهما تعكسان شيئا من التعب والإرهاق. وكان يبدو ضعيف الحيوية دائماً ومتردداً وخافت الصوت. ولست أدري أكان ذلك بسبب اعتلال صحته أم بسبب طبعه. وذات يوم انقطع فجأة عن الحضور إلى الندوة وطال انقطاعه. ولم يكن من عادة أفراد الندوة أن يسألوا عمن يغيب. فحاولت معرفة سبب انقطاعه. وسأ لت عنه بعض زملائه في الكلية فأخبروني بأنه انتقل إلى مستشفى الأمراض الصدرية في حلوان. وزرته في المستشفى فوجدت أنه يعاني من مرض السل في مراحله المبكرة. وحزنت لذلك حزناً شديداً. وانقطع عن الدراسة في ذلك العام وأمضى عامه في المستشفى، أو على الأدق في المصح. وهكذا ترى أن حياته في القاهرة كانت عسيرة. ولم يترك انقطاعه عن الندوة أثراً ولم يسأل أفرادها عنه. فلم يكن في الحقيقة يشترك في النقاش إلا لماما. لذلك لم يسترع غيابه الانتباه لاسيما وأن أفراد "الشلة" كانوا يتسّعون ويتقلصون بصورة دائمة، ولم يكن الحضور ثابتاً. وبمناسبة الحديث عن المصاعب التي أحاطت بحياة غائب في القاهرة أقول بأن هذه المصائب لاحقته أيضاً أثناء أقامته الطويلة في موسكو. وقد عمل هناك مترجماً في دار التقدم التي قامت بنقل بعض الآثار الأدبية الروسية الشهيرة إلى اللغة العربية. وقد ساهم غائب بترجمة بعض تلك الآثار بأسلوبه الجميل الرائق ولغته الشفافة العذبة. وقد تزوّج غائب من طبيبة روسية لكنه كان زواجًا فاشلاً انتهى بهما إلى الطلاق بعد سنوات قليلة. وقد ظلاّ يعيشان في نفس"الشقة" بسبب مصاعب السكن. وعلى الرغم من انهما رزقا بإين لكنه لم يستطع رأب الصدع في حياتهما. ولاشك أن ذلك الفشل كان يحز في نفس غائب الرهيفة. ولابد أنه أضاف إلى متاعبه المادية متاعب عاطفية. ولعل هذا السبب، فضلاًً عن أسباب أخرى ، قد ساقه إلى الإدمان على الشراب. وأظنه توفي لعلّة تتعلق بالكبد، وربما تشمع الكبد، وهي من آثار الإدمان على الشراب. وهكذا ترى يا صديقي أن غائب لم يصب في حياته نجاحاً لا على الصعيد الأدبي ولا على الصعيد العائلي. قال الباحث محتجاً: ولكن كيف لم يصب نجاحاً على الصعيد الأدبي يا سيدي وهو من أكبر كتّابنا الروائيين العراقيين إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق؟ قال الأديب الشيخ وهو يبتسم بحزن: أنا مسرور إذ أراك تنحمس لغائب طعمة هذا الحماس. فهو بالفعل من أكبر كتّابنا الروائيين إن لم يكن أكبرهم إطلاقاً كما تقول. لكنني لا أقصد بعبارة النجاح الأدبي ما يتعلق بالجانب الفنّي بل أقصد النجاح التجاري. فروايات غائب طعمة فرمان لم تلق في أسواق العالم العربي ما تستحقه من نجاح. بل لعله يكاد يكون غير معروف خارج العراق إلاّ على نطاق محدود جداً. وقلماً يرد الحديث عنه حينما يدور الكلام عن القصصيين العرب. وربما يعود سبب ذلك إلى إنه لم يكن يحب الدعاية لنفسه وإنه كان زاهداً في الشهرة. ولَدى غائب طعمة فرمان ست روايات حافلة بالجوانب الفنية العالية، وهي من خيرة الأعمال الأدبية التي صّورت المجتمع العراقي الأصيل، ولا سيما المجتمع البغدادي، تصويراً دقيقاً حَيا. كما أن لديه ثلاث مجموعات قصصية. وهنا يمكن أن نشير إلى شيء من التشابه بين روايات نجيب محفوظ التي صّورت المجتمع القاهري وروايات غائب طعمة فرمان التي صّورت المجتمع البغدادي. ولعل خير من قيّمها صديقي الروائي الموهوب عبدالرحمن منيف الذي قال عن غائب في الكلمة التي ألقاها في حفل تأبينه ونشرها في كتابه "الكاتب والمنقى": (لا أعتقد أن كاتباً عراقياً كتب عن بغداد كما كتب غائب. كتب عنها من الداخل في جميع الفصول، في كل الأوقات. وربما إذا أردنا أن نعود للتعرف على بغداد أواخر الأربعينات والخمسينات لابد أن نعود إلى ما كتبه غائب. كيف كانت الأماكن، كيف كان البشر. ما هي التضاريس والهموم والمشاكل. كيف يأكل الناس وكيف يلبسون، والمقاهي التي كانت ذات يوم أين هي مواقعها، وماذا كان يثرثر الناس فيها، إن رائحة المكان في "النخلة والجيران" وملامح الناس في "خمسة أصوات" وهموم الفقراء والمتقاعدين في "آلام السيد معروف" لا يمكن إن نجد ما يماثلها في كتب التاريخ وفي صحف تلك الأيام وفي أدبيات الأحزاب السياسية. لقد سجّل غائب كل تلك التفاصيل الصغيرة وأعطاها حياة لا أعتقد أن أحداً غيره قادر على ذلك. ومن هنا الأهمية الخاصة لهذا النوع). قال الباحث: مهما يكن الأمر يا سيدي فإن غائب طعمة فرمان معروف جيداً على صعيد بلده العراق. قال الأديب الشيخ وعلى شفتيه بسمة ساخرة: وهل بوسعك أن تخبرني يا صديقي كم يبلغ عدد قرائه في العراق؟ وكم مرة طبعت رواياته؟ قال الباحث: هذا مالا أستطيع الجواب عنه يا سيدي. قال الأديب الشيخ: على كل حال سيظل غائب طعمة فرمان الرائد الحقيقي للرواية العراقية الحديثة. وستظل رواية "النخلة و الجيران" من أجمل ما كتب من روايات عراقية. وسكت الأديب الشيخ برهة فتساءل الباحث: وماذا بعد من أعضاء "شلة نجيب محفوظ"الآخرين يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ: لا أعتقد أن هناك آخرين قد أغفلت الحديث عنهم، فهؤلاء فقط هم الذين تركوا انطباعاً في نفسي.
شلة احمد بهاء الدين تساءل الباحث: فماذا إذن عن "الشلل" الأخرى يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ مفكراً: في الإمكان التحدث عن "شلة" أخرى لعلها أعظم "الشلل" خطراً هي "شلة الشباب".. ولم يكونوا شباباً بمعنى الكلمة فقد كان بعض أفرادها على عتبة الكهولة. وكانت علاقتي بهم وثيقة جدا، وكان البعض منهم يكبرني بسنوات قليلة. ويمكنني القول أن شيخ هذه "الشلّة" كان أحمد بهاء الدين إذ كان أبرزهم وأعلاهم صيتاً بل وأوسعهم ثقافة. ولذلك يمكن أن أسميها "شلة" أحمد بهاء الدين. ولم يكن أفراد "الشلة" يتجمعون في مقهى واحد بل كانوا يتواعدون على اللقاء في مقهى معين في يوم محدد من أيام الأسبوع. وكانت هذه "الشلّة" تضم اضافة إلى أحمد بهاء الدين يوسف الشاروني ونعمان عاشور وفتحي غانم واحمد عباس صالح وعبد الرحمن الشرقاوي.
فتحي غانم ولم تكن صلتي بهذه "الشلة" على درجة واحدة من القوّة. فقد كانت صلتي بفتحي غانم مثلاً ضعيفة لأنه هو نفسه لم يكن منفتحا. وكان شاباً ضخم الجسم ميالاً إلى السمنة متجهم الوجه دائماً، أو جاد الوجه على نحو أصح. ولا أتذكر أنني رأيته مبتسماً يوماً 0 ولم يكن قد برز في ميدان الأدب بعد يومذاك، إذ لم يكن قد كتب رواياته الرائعة "الجبل" و "الرجل الذي فقد ظلّه" و "زينب والعرش". فلم يلفت انتباهي كثيراً. ولم أجد ميلاً في نفسي إلى عقد صداقة معه. فقد كان صموتاً دائماً في حضوري.
أحمد بهاء الدين وكان أحمد بهاء الدين الشخصية اللامعة بين أفراد هذه "الشلة" كما قلت. وكان يومذاك يرأس مجلة "الفصول"، ولم يكن قد قفز بعد قفزته العظيمة، بعد ثورة يوليو، والتي أوصلته إلى رئاسة تحرير جريدة "الأهرام". وقد راعني منذ عرفته بغزارة ثقافته واتساع أفقه السياسي والفكري. وكان تفكيره السياسي يتميز بالنضج الواضح. ولم يكن يمر يوم من دون أن يطوف على مكتبات القاهرة الكبرى، وخصوصاً التي تتعامل باللغات الأجنبية كمكتبة الأنجلو المصرية، ليستطلع آخر ما وصلها من كتب إنجليزية. وكان صغير الجرم هادئ الطبع متزناً في حديثه إلى أبعد الحدود. وكان أبرز ما في وجهه عيناه الذكيتان اللتان تبرقان من وراء نظارته السميكة. وكان معنياً في أحاديثه الخاصة بمشكلة الديمقراطية. وعلى الرغم من أن غالبية أصدقائه كانوا من أهل اليسار، وربما كان البعض منهم أعضاء في الحزب الشيوعي المصري السري، إلا أنه ظل ملتزماً بفكرة الديمقراطية. لهذا كان دائم السؤال والاستقصاء مني عن أخبار الحزب الوطني الديمقراطي وعن زعمائه الكبار أمثال المرحوم كامل الجادرجي ومحمد حديد وحسين جميل. وكان بطبيعة الحال من المناهضين للحكم الملكي. وكان شديد الانتقاد للملك فاروق على صعيد أحاديثه الشخصية طبعاً. وقد نشر كتابه "فاروق ملكاً" في أولى سنوات الثورة، وهو من أفضل ما كتب عن طاغية ذلك العهد. ثم تخصص فيما بعد في الشؤون الفلسطينية، فكانت كتاباته من انضج الكتابات في هذا الحقل. ولم يفكر في اقتحام ميدان القصة أو الرواية أو الشعر، بل قصر اهتماماته على الحقل الصحفي.
نعمان عاشور أما نعمان عاشور فلم تكن صلتي به متينة لكنه كان يزورني في مسكني في "بنسيون فرانسيز" الذي كان يقع في شارع "القاضي الفاضل" المتفرع من شارع "قصر النيل" 0 وهو "بنسيون" كانت تديره سيدة فرنسية. وقد أمضيت أغلب سنوات إقامتي في القاهرة في ذلك "البنسيون" الذي يقع في قلب الحي الأوربي. قاطع الباحث الأديب الشيخ ضاحكا: إن إقامتك في هذه المنطقة منعكسة في بعض قصصك في مجموعة "عهد جديد" يا سيدي. قال الأديب الشيخ وهو يبتسم: معك حق. فقد كنت أحب هذه المنطقة من القاهرة حباً جماً. كان يختلط فيها جمال الغرب وفخامته بنكهة الشرق وطراوته. وكان سكني يقع في قلب المنطقة التي تتواجد فيها شوارع قصر النيل وسليمان باشا (شارع طلعت حرب) وشارع فؤاد (شارع 26 يوليو) وشارع عبد الخالق شريف وشارع عدلي وشارع محمد فريد وشارع إبراهيم باشا وشارع عماد الدين مركز الملاهي والمسارح. وعلى مقربة من سكني كان يقع ميدان الإسماعيلية (ميدان التحرير) الذي يطل على نهر النيل، ومنطقة الجزيرة التي كانت من أجمل مناطق القاهرة. كما كان المسكن قريباً من باب اللوق (ميدان الأزهار) والعتبة الخضراء وميدان الأوبرا، وغير بعيد عن باب الحديد حيث تتواجد المحطة الرئيسية للسكك الحديدية. وهذه هي في الواقع الأماكن المتميزة في القاهرة. وكانت هذه المنطقة تختلف اختلافاً جوهرياً عن الأحياء المصرية الصميمة مثل حي السيدة زينب وحي الحسين وحي العباسية وحي الأزهر وما شابهها من أحياء شعبية. فأنت ترى إذن أن منطقة سكني هذه كانت مركز الحركة والحياة الراقية. وكانت السينمات الفخمة تقع ضمنها، ومعظم المقاهي الأوروبية تقع في محيطها. وكانت معظم "الشلل" الأدبية في الواقع تجتمع في مقهى من مقاهيها. وكما ذكرت لك من قبل كانت هذه المنطقة تمثل ذروة فخامة القاهرة. ولذلك كان يلذ لبعض أولئك الأصدقاء الشباب أن يزورني في مسكني. ولنعد إلى الحديث عن نعمان عاشور. وقد قلت لك إن صلتي به لم تكن قوية. ولم يكن قد برز بعد ككاتب مسرحي معروف. والحقيقة أنه لم يكن معروفاً يومذاك حتى على صعيد "الأعمدة" الصحفية التي كان يكتبها في مجلات أسبوعية. وكان قد مضى على تخرجه من كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية سنوات قلائل. وكان متميزاً عن زملائه بميله الشديد إلى الدعابة، وكان قليل الجد في أحاديثه. لكن حواراته الجادة في الأدب كانت تكشف عن معرفة واسعة بالأدب الغربي. وفي أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، أي في وقت ازدهار المسرح المصري الجاد في عهد جمال عبد الناصر، قفز قفزته المتميزة بمسرحياته الرائعة العديدة التي أكسبته مكانة مرموقة في المسرح المصري والعربي الحديث، وخصوصاً بمسرحيتيه "الناس اللي فوق" و "الناس اللي تحت". ويخيل إليّ أنه كان متأثراً فيهما على نحو ما بمسرحية مكسيم غوركي الشهيرة المعنونة "االحضيض"THE LOWER DEPTH . لكن مشكلة نعمان عاشور في مسرحياته اللاحقة أن أبطاله باتوا نمطيين، ومن النوع الذين نألفهم عادة في السينما المصرية، وأنهم كانوا في أحيان كثيرة كثيري اللغو والكلام بلا داع. وقد أخرج بعضها في السينما وفي مسلسلات تلفزيونية 0 ولقد التقيت بنعمان عاشور مرة أخرى بعد ما يقرب من ربع قرن في مؤتمر الأدباء العرب الذي عقد في الجزائر عام 1975، وراعني أن أراه شيخاً قد هدمته السنون، ولم يكن في الحقيقة قد جاوز الستين أو اقترب منها. وكان معتل الصحة بدرجة ملحوظة. وقد توفي بالفعل بعد ذلك اللقاء بسنوات قليلة. ويبدو أن الأحداث التي مرت على مصر بعد وفاة عبد الناصر قد نالت منه. وكان قد هجر مصر إلى الكويت مرافقاً لزوجته التي كانت تعمل مدّرسة للأدب الإنجليزي في جامعة الكويت. وكان قد انقطع عن الكتابة تقريباً. لكنني لاحظت أنه لا يزال يحتفظ بولعه بالدعابة. فقد اتخذ من أحد أعضاء الوفد الأدبي المصري وهو الروائي إسماعيل ولي الدين محوراً لدعابته "نكاته" والتي كانت تزعج الأديب المذكور. لكنه لم يكن يبال بذلك، فقد كان يعد أدب إسماعيل ولي الدين وأمثاله من روائي العهد الجديد في مصر دليلاً على تدهور الأوضاع في مصر.
يوسف الشاروني أما يوسف الشاروني فكان من أقرب أفراد "الشلة" إلى نفسي، وكان من أوسع أفراد "الشلة" اطلاعاً على الأدب الغربي كما كان يتجلى في أحاديثه الأدبية. وكان قد تخرج منذ سنوات قلائل من قسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب، وكان يعمل مدرساً للغة الإنجليزية في إحدى المدارس الثانوية. وكان أسمه قد بدأ يلمع في ميدان القصة القصيرة وعلى نحو خاص على صفحات مجلة "الأديب" اللبنانية. وكان يكتب قصة متميزة فيها خروج على الأسلوب التقليدي. وكان أديباً مجدداً أدخل مفاهيم وأساليب جديدة على القصة العربية. وكان متأثراً بالتيار الجديد الذي يمثله أدب جيمس جويس وفرجينيا وولف وحتى فرانز كافكا الذي كان يلعب فيه "اللاوعي" و "المنلوج الداخلي" دوراً أساسياً. وكنت أعيب عليه الغموض والتعقيد اللذين كانا يعتوران بعض أقاصيصه يومذاك فكان يضحك ويرد علّي قائلاً: (هذا ليس ذنبي يا شاكر بل ذنب قلمي، فأنا لا أتعمد ذلك). ولكنه في أقاصيص أخرى كان يكشف عن تأثره بتشيخوف. وفي قصصه التشخيوفية حلاوة وطلاوة. وكان آنذاك على صلة قوية بأفراد "الشلة" جميعاً وخصوصاً بأحمد عباس صالح ونعمان عاشور. ولكن يبدو أن الصلة الحميمة قد تعرضت بعد ثورة يوليو لهزات قوية، خصوصاً بعد أن افلح البعض من أفرادها في تبّوأ مراكز قيادية. ويبدو أن خلافاته معهم قد حدثت في الستينات يوم سيطر البعض من الرفاق القدماء على الساحة الثقافية وحرم هو من المناصب الهامة. فاضطر إلى الانكماش والابتعاد عن الجو الأدبي. ولما تولـّى السادات الحكم ودانت للسباعي السيطرة على الساحة الثقافية بعد أن تولى مهام وزارة الثقافة عاد الشاروني إلى الساحة الأدبية وألقى نفسه في أحضان السباعي وصار من مريديه وهجر آراءه اليسارية السابقة. فلما قتل السباعي أفل نجم الشاروني وانسحب ثانية من ميدان الأدب، وربما دخل في أزمة من أزماته النفسية المعهودة. ويبدو لي أن أحد أسباب الأزمة التي عاناها في الستينات، إضافة إلى ما ذكرت، هو تحزب جماعته ليوسف إدريس الذي صعد صعوداً صاروخيا في ميدان القصة القصيرة. وقد اضعف ذلك من مكانته بعد أن كان يعد نفسه لتولي عرش القصة القصيرة بين كتاب الجيل الجديد. ومهما تكن الحقيقة فإن انسحاب يوسف الشاروني من ميدان الأدب كان خسارة عظيمة للقصة المصرية. وقد سرني ما قرأت له أخيراً من كتابات على صفحات مجلة "العربي" الكويتية، ولعلها إيذاناً ببدء عودته إلى الأدب، كما قرأت إعلاناً في المجلة نفسها عن صدور مجموعة أعماله الروائية الكاملة.
أحمد عباس صالح وسكت الأديب الشيخ فتساءل الباحث: وماذا عن أفراد "الشلة" الآخرين يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ مفكراً: لم يبق منهم ممن ربطتني بهم صلة قوية سوى أحمد عباس صالح. وكان أحمد عباس صالح يومذاك يقارب سني، أو ربما أكبر بسنوات قليلة. وقد عرفته أولاً عن طريق تردده على "شلة" كازينوا أوبرا، ثم توطدت بيننا الصلة. ولعله هو الذي قدمني إلى "شلة" أحمد بهاء الدين. وكان شديد الحيوية والنشاط بين أفراد "الشلة".. ولم يكن قد دخل الجامعة يومذاك. وكان أحمد عباس صالح يكتب القصة القصيرة آنذاك. وقد نشر في المجلات الأدبية عدداً ناجحاً منها. ولا أدري لماذا هجر فيما بعد كتابة القصة وانصرف إلى النقد الأدبي، ثم إلى التاريخ الإسلامي. وكان آخر ما كتبه كتابه المعروف "اليمين واليسار في الإسلام". وكان يحمل أفكارا ناضجة عن القصة القصيرة، ومن المعجبين بأدب أنطون تشيخوف. وكان من جملة آرائه أن القصة المصرية الحديثة تدين بالكثير لأنطون تشيخوف. وكان متحمساً حماساً غير اعتيادي للأدب المصري. ولم يكن مبعث تحمسه التعصب بل الجهل بكتابات الأدباء العرب الآخرين خارج مصر. وأتذكر أنني كنت أجادله يوماً في ذلك فتساءل في عجب: وأين هم الأدباء العرب يا شاكر؟ أذكر لي أسماءهم أن كنت تعرفهم.. ويجب ألاّ تعتبر نفسك بالطبع أديباً عراقياً فأنت في الحقيقة أديب مصري. فهل هناك أديب أو شاعر في العراق مثلاً سوى الجواهرجي (ويقصد الجواهري) ؟ ولم يكن جهل أحمد عباس صالح بالأدباء العرب خارج مصر أمر مستغرب. فقد كان هذا هو حال معظم المهتمين بالأدب من المصريين. ولا يعود ذلك إلى تعصب المصريين لأدبهم بل إلى أسباب تتعلق بصعوبة تصدير الكتب العربية إلى الأسواق المصرية. ولقد تغيرت مكانة أحمد عباس صالح في العهد الناصري واستطاع أن يتبّوأ مراكز حساسة ومؤثرة في عالم الثقافة. وربما حدث ذلك بسبب اتصالاته مع بعض ضباط الثورة من ذوي النفوذ والميالين إلى الفكر اليساري. وقد تقلد رئاسة تحرير مجلة "الكاتب" وصار له صوت مسموع في دنيا الأدب والنقد والسياسة. ويبدو لي أنه دخل في هذه الفترة في صراعات مع بعض رفاقه القدماء، أو ربما انقسم الرفاق القدماء إلى شيع وجماعات. وربما كان مبعث صراعاتهم التنافس على المراكز القيادية للثقافة. وكان أحمد عباس صالح قد بات محسوباً على التيار اليساري من أنصار عبد الناصر، وهو أمر طبيعي. وقد ظل ملازماً لمواقفه المبدئية إلى النهاية، في حين تنكر بعض زملائه لها. ولم يتخل عنها بعد وفاة عبد الناصر. وكان له موقف مشهود من نظام السادات. فقد كان في مقدمة من وقعّوا على المذكرة الشهيرة التي تندد بمواقف السادات السياسية، وفي أواسط السبعينات هجر مصر بدعوة من المسؤولين في العراق، وحضر إلى بغداد مدّرساً في أكاديمية الفنون الجميلة. حكاية.. وأصبح أحمد عباس صالح ذا حظوة لدى المسؤولين الكبار في السلطة في بغداد. وظللت على اتصال به طوال اقامته في بغداد، وكان يشكو من متاعب صحية تتعلق بقلبه. وقد انتفعت من صلتي به ذات يوم. ففي إحدى السنوات اختارتني جامعة بغداد ووزارة التعليم العالي لتمثيل العراق في مؤتمر سكّاني تعقده "اليونسكو" في القاهرة. فلما استكملت إجراءات السفر فوجئت بأنني ممنوع من السفر. وراجعت مديرية الأمن العامة للاستفسار عن السبب فلم أحظ بجواب واضح. وكان موعد انعقاد المؤتمر قد اقترب وتوالت البرقيّات من مقر اليونسكو تستفسر عن سبب تأخري. فذهبت إلى أحمد عباس صالح أشكو له الأمر. تصور ! شخص مثلي له أسم في العالم الأكاديمي وفي عالم الأدب، وقد درّس عشرات الألوف من الطلبة أثناء حياته الأكاديمية، والبعض منهم قد تبؤوا أرفع المراكز السلطوية، يلجا إلى شخص من خارج الوطن ليساعده في رفع هذا الحيف عنه. وقد تأثر أحمد عباس صالح لذلك ووعدني ببذل أقصى جهده. وقد أفلح بالفعل في إلغاء منع السفر عني. وقد تّبين لي فيما بعد أن سبب المنع يعود إلى تقرير قدّمه عني أحد رجال المخابرات الذي اشترك معي صيف ذلك العام في سفرة سياحية إلى الاتحاد السوفيتي. وكنت قد دخلت في مشادة معه لسوء سلوكه وتصرفاته الحمقاء التي ضايقت مجموعتنا. فتأملّ يا صديقي قيمة حملة العلم والأدب وأساتذة الجيل عندنا! وهذا مثال من أمثلة عديدة من خيبة الأمل التي واجهتها في العهد الجديد. فقد كنت أتصور أن عداء السلطة لأمثالي من الكتّاب والأساتذة الأحرار قد انتهى بحلول ثورة تموز عام 1958، وإذا بي أشهد في الأعوام اللاحقة عداءً أعظم، مع أنني لم أنغمس في الصراعات الحزبية التي قامت بعد الثورة، وكل ما هناك أنني محسوب على تيار اليسار. فلقد اعتقلت في أول يوم من أيام مجيء البعث في 14 رمضان عام 1963 ، كما ذكرت عند حديثي عن المخزومي، ومكثت في السجن حوالي الستة أشهر 0 وعزلت من الجامعة بعد مضي أسبوع عليّ في الاعتقال. وظللت عاطلاً عن العمل بضعة أشهر بعد خروجي من السجن حتى تهيأت لي فرصة العمل في جامعة الملك سعود في السعودية بدعوة من الدكتور عبدالعزيز الخويطر مدير الجامعة يوم ذاك فأمضيت حوالي خمس سنين بعيداً عن بلدي إلى أن أعدت إلى الجامعة في عام 1968.ثم أُخرجت مرة أخرى من الجامعة في أوائل عام 1981 وأنا لم أبلغ الخمسين بعد. وقد ظلت السلطة اترفض الموافقة على طلبات العمل التي وردتني من جامعات عربية فأمضيت خمسة أعوام عاطلاً عن العمل إلى أن وافقت في عام 1985على أن أعمل في جامعة صنعاء في اليمن فأقمت فيها منذ ذلك اليوم. وهكذا أمضيت خارج بلدي ما يقرب من عشرين عاما. قال الباحث الشاب وهو يبتسم ابتسامة شاحبة: ولكن لا تنس يا سيدي أن فترة اعتقالك في عام 1963 قد أمدتك بتجارب أثرت الأدب العراقي والعربي بأعمال متميزة، حيث ألهمتك روايتي "الحقد الأسود" (السؤال) و "حكايات من بلدتنا" وكذلك مسرحية "الشيء" والتي سجلت فيها تلك الأحداث المأساوية0 وهي تعدّ اليوم مرجعاً تاريخيا مهمّاً عن تلك المرحلة لا سيما وأنها كتبت بموضوعية عالية. فقال الأديب الشيخ وهو يهزّ رأسه بأسىً: هذا صحيح. وكانت تلك الكتابات الوحيدة في حينها التي سجلت ما لحق بالعناصر الوطنية من بطش. فقد زج الألوف منهم في السجون وفصل آلاف آخرين من وظائفهم وتعرض العديد منهم للقتل والتعذيب. ولعل رواية "الحقد الأسود" (السؤال) كانت أشدها تأثيرا. وأتذكر أن الشاعر الكبير أدونيس الذي أشرف على طبعها يومذاك (في أواسط الستينات) قال لي إنني كنت أبكي تأثراً وأنا أقرأ بعض مقاطع الرواية. وسكت الأديب الشيخ ووجهه يفيض بالاشمئزاز فظل الباحث صامتاً وقد بدا عليه الإحراج. وأخيراً قال الباحث بلهجة مترددة:إسمح لي يا سيدي أن أسألك أن تعود للتحدث عن أفراد "الشلة" الآخرين.
عبد الرحمن الشرقاوي قال الأديب الشيخ وهو يهز رأسه في مرارة: معك حق.. لنعد إلى حديثنا عن أفراد "الشلة". كان هناك شخصان آخران ينتميان إلى "الشلة" بنوع من الصلة لكن معرفتي بهما كانت عابرة. الأول هو عبد الرحمن الشرقاوي والثاني هو محمود أمين العالم. ولم يكن عبد الرحمن الشرقاوي يتردد على المقهى التي تجتمع بها "الشلة" إلاّ نادراً. لكنني كنت أسمع اسمه يتردد على لسان أفرادها. وكان الحديث يدور عنه كشاعر. وكان عبد الحمن الشرقاوي قد اشتهر يومذاك بقصيدته المعروفة التي وجّهها إلى ترومان وبقصائد أخرى ذات صفة يسارية. لكنه لم يكن قد حقق ذيوعاً أدبياً بعد. والحقيقة أن عبد الرحمن الشرقاوي قفز قفزته الواسعة بعد ثورة يوليو وحقق ذيوعاً وانتشاراً في روايته الرائعة "الأرض". ثم انصرف انصرافاً يكاد يكون تاماً إلى المسرح الشعري فحقق فيه نجاحاً كبيراً. وقد اشتهرت على نحو الخصوص مسرحيته "جميلة بوحيرد". ثم صار أدبه مثيراً للجدل بما كان يتناول من مواضيع حرجة. من ذلك مسرحيتيه الشعريتين الرائعتين "الحسين ثائراً" و "الحسين شهيداً" اللتين أثارتا اعتراض بعض رجال الأزهر لأن الشرقاوي جسّد فيهما شخصية الحسين وبعض آل البيت. ولا أدري لماذا أثار ذلك عاصفة من الاحتجاج. فنحن في العراق قد اعتدنا منذ زمن بعيد أن نجسّد شخصية الحسين وبعض شخصيات آل البيت الآخرين في الاحتفالات الشعبية التي كانت تقام خلال عشرة عاشوراء في كربلاء والنجف والحلة ومدن وسط العراق وجنوبه. قال الباحث: هذا صحيح. فاستطرد الأديب الشيخ يقول: ولم تكن هاتان المسرحيتان وحدهما موضع جدل بل كانت مسرحيته المعنونة "الفتى مهران" مثار جدل أيضاً. وقد ارتأى المسؤولون عن الرقابة يومذاك بأنها تعّرض بالرئيس عبد الناصر. وعلى أية حال فقد صار عبد الرحمن الشرقاوي شخصية مؤثرة في مسار الأدب المصري وتمت له مع زملائه الآخرين السيطرة على الحياة الثقافية المصرية منذ مطلع الستينات حتى عهد السادات. ولعل من أبعد الأمور عن الصدق اتهامه من قبل المتعصبين بالمروق عن الدين، وفي ذلك تجاف كبير عن الواقع. وقد شهدت أنا بنفسي تدينه الشديد الذي يبلغ حد التصوف. فحينما حضر مهرجان المربد لعام 1969 ترافقنا طوال فترة المهرجان. وكان من جملة المدن التي زارها أعضاء المهرجان مدينتي النجف وكربلاء. وقد صحبته لزيارة مرقدي الأمام علي بن أبي طالب والحسين بن علي (عليهما السلام) فدهشت للنشوة التي تملكته طيلة ساعات زيارتنا لهذين المرقدين. وقال لي يومذاك حينما أبديت دهشتي: "قد لا تستطيع يا شاكر أن تتصور مدى محبتي لهاتين الشخصيتين العظيمتين". وقد أثبت حبه بالفعل لهاتين الشخصيتين في الكتاب الذي ألّفه عن الإمام علي بن أبي طالب بعنوان "إمام المتقين" وفي مسرحيتيه الشعريتين عن الحسين اللتين أشرت إليهما. ويبدو أنه كان يعتزم في أواخر حياته الانصراف إلى الكتابة الدينية عن عظماء الإسلام. فقد كتب أيضاً عن الخليفة عمر بن الخطاب. لكن الموت عاجله في أواخر الثمانينات ولم يمهله حتى يحقق كامل رغبته. وهكذا ترى أنه بريء من السمعة التي حاول بعض المتعصبين أن يلصقوها به. قال الباحث: لقد تحول عبد الرحمن الشرقاوي بالفعل في أواخر حياته إلى كاتب إسلامي من الطراز الأول.. ولكن اسمح لي يا سيدي أن أسأل: ماذا عن محمود أمين العالم؟
محمود أمين العالم قال الأديب الشيخ: لقد عرفت محمود أمين العالم في وقت مبكر، منذ سنتي الأولى في الجامعة، إذ كان مديراً لمكتبة قسم الجغرافية. وكنا نجتمع في المكتبة بين الحين والحين ونتناقش في الكتب والأفكار الأدبية. وكان يهزني بحماسه للأفكار التقدمية. ثم إذا به يختفي فجأة قبل أن تنتهي السنة الدراسية. وعجبت لاختفائه وسألت عنه أناساً عديدين فلم يمّدني أحد بجواب واضح. وقد علمت فيما بعد انه اعتقل بتهمة الشيوعية. وقد ظل معتقلاً إلى ما بعد ثورة يوليو. ثم علمت فيما بعد أن محمود تيمور قد بذل مساعيه الحميدة لدى السلطات المسؤولة يومذاك لإطلاق سراحه فلم يوفق. وقد جاءت وساطة تيمور استجابة لرغبة أخيه الذي كان يعمل موظفاً في المجمع اللغوي، وكان على علاقة طيبة معه. فإذن لم تكن لمعرفتي بمحمود أمين العالم علاقة بـ "شلة" أحمد بهاء الدين، كما أن فترتها كانت قصيرة، لكنها كانت مثمرة. وقد التقيت به فيما بعد لقاءات خاطفة حينما حضر إلى بغداد في مناسبات عديدة. وكان نجمه الأدبي قد بدأ بالصعود في أواخر الخمسينات، فقد كان يمثل مع عدد من الأدباء المصريين يومذاك التيار اليساري في الأدب المصري. وكان نفوذهم في ميدان الأدب قد اصبح قوياً. وقد أتاحت لهم الحريات التي أطلقتها الثورة أن ينشطوا نشاطاً عظيماً وأن يطغوا على الجو الأدبي.. أو ربما يتحكموا فيه بدرجة كبيرة. ولكن الرئيس جمال عبد الناصر ما لبث أن انقلب على هؤلاء الأدباء في أواخر الخمسينات. فقد غيّر سياسته وناصب الشيوعيين العداء فزج بالكثيرين منهم في المعتقلات وحجب حريات الأخرين. فكان من بين من زُجّ في المعتقلات محمود أمين العالم. لكن عبد الناصر ما لبث أن تراجع في أوائل الستينات عن سياسته هذه وقرر أن يعقد هدنة مع هؤلاء الكتاب والمفكرين، بل وأن يجتذبهم إلى صفّه. فأطلق سراح المعتقلين منهم، ومنح البعض الآخر مراكز عالية. وكان محمود أمين العالم من بين أولئك المنتفعين من هذا التحّول، وعّين رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة الهلال. ولقد لعب محمود أمين العالم دوراً هاماً في توجيه مسار الفكر والأدب المصري منذ ذلك الحين بمقالاته الكثيرة، وكان معنياً بالنقد على نحو الخصوص بالرغم من أن اختصاصه الأصلي هو الفلسفة. ولم ينعكس هذا الاختصاص إلاّ في كتابه "فلسفة المصادفة". ولقد أصدر عدة كتب نقدية، وحاول كتابة الشعر فلم يصب نجاحاً. تساءل الباحث الشاب: وماذا عن الدكتور يوسف إدريس يا سيدي؟! فلم يرد ذكره في أي من "الشلل". أجاب الأديب الشيخ: لم يكن يوسف إدريس يومذاك قد عرف اسمه في الوسط الأدبي. ولا تنس أن مجموعته القصصية الرائعة الأولى "أرخص ليالي" قد صدرت عام 1956.
شلة أحمد حسن الزيات وسكت الأديب الشيخ برهة فتساءل الباحث أخيراً: وماذا عن "الشلل" الأخرى يا سيدي؟ أطرق الأديب الشيخ مفكراً ثم رفع رأسه وقال: أستطيع أن أحدثك تجاوزاً عما يمكن أن أسميه "شلة أحمد حسن الزيات التي كانت تجتمع في إدارة مجلة "الرسالة". والواقع أنها لم تكن "شلة" بل كانت ندوة يجتمع فيها أصدقاء ومحرري مجلة "الرسالة" عصر كل أثنين في دار المجلة. ولم يكن عدد أفرادها أو شخصياتها ثابتا. وكان من جملة من يحضر الندوة باستمرار المرحوم أنور المعداوي وعباس خضر، وكانا محررين في مجلة الرسالة. وكان يحضرها بين حين وآخر توفيق الحكيم وساطع الحصري.
ساطع الحصري تساءل الباحث مستغرباً: ساطع الحصري؟ وهل كان يقيم في القاهرة يومذاك يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ: نعم، كان ساطع الحصري يقيم في القاهرة في أواخر الأربعينات ومطلع الخمسينات وأظنه كان يعمل موظفاً في الجامعة العربية. وفي تلك الندوة عرفت ساطع الحصري لأول مرة. وكان عجوزاً أبيض الشعر أحمر الوجه قصير القامة لكنه كان جم النشاط شديد الحيوية. وكان عظيم الحماس حين يتحدث. لكنني للأسف لم أكن أفهم الكثير مما كان يقول. فقد كان يتحدث بلغة فصيحة معوجة. وكنت أعجب في نفسي كيف أن رجلاً كرّس حياته لخدمة القومية العربية لم يحاول طوال هذه السنين أن يقوّم لغة حديثه مع أنه كان يكتب بلغة عربية سليمة وعالية0 وكان يشاركني عجبي لذلك المرحوم أنور المعداوي 0
أحمد حسن الزيات تساءل الباحث مبتسماً: وماذا عن معرفتك بأحمد حسن الزيات يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ وهو منبسط الوجه: لم تكن معرفتي بالزيات وثيقة في الحقيقة واقتصرت على حضوري لتلك الندوات، لكنني كنت ألقى منه عطفاً وحدبا. فقد كنت أكتب في مجلة "الرسالة" بين حين وآخر، وكانت صلتي بالمجلة تعود إلى السنين التي كنت فيها تلميذاً في الثانوية. وربما كان مرجع هذا الحدب عليّ كوني عراقياً. فلعلي كنت أذكره بالسنين الجميلة التي أمضاها في العراق يدرّس في دار المعلمين العالية. وكان الزيات يبدو شيخاً جليلاً قد جلّل الشيب رأسه. وكان رقيق الملامح عذب الصوت دائم الابتسام. وكنت أقارن في ذهني أحيانا هذا الشيخ الرقيق بالصورة التي رسمها له طه حسين في الجزء الثاني من كتابه "الأيام". وكان واحداً من الثالوث الشقّي الذي كان يعاكس شيوخ الأزهر ويتندر على بعض الجهلاء منهم فأجد الفارق بين الصورتين عظيماً. وكان يبدو في شيخوخته شديد التواضع جم الأدب، ولم أسمع صوته يرتفع في أيّ نقاش في الندوة مهما عظمت أهميته، ثم أتذكر أحياناً صورة أخرى له كشف فيها عن ضيقه بالنقد. وذلك يوم كتبت بنت الشاطئ يوماً تعليقاً على كتاب له في البلاغة وأشارت إلى أخطاء معينة فيه. فثار ثورة عارمة ورد عليها في مجلته رداً انطوى على قسوة بالغة وسخرية قارصة. وعلى كل حال فقد كنت أكنّ له احتراماً كبيراً مقدّراً له دوره في إصدار مجلة "الرسالة" وكذلك مجلة "الرواية" التي كانت نافذتي الأولى على الأدب القصصي العالمي. وأنا أدين له كذلك بالكثير من الفضل، فقد فتحت مجلة "الرسالة" صدرها لكتاباتي وأنا ما أزال تلميذا في أوائل المرحلة الثانوية. وهنا أود أن أذكر لك بأن مجلة "الرسالة" كانت تعاني في أوائل الخمسينات من ضيق ذات اليد إذ كان عدد قرائها قد انخفض انخفاضاَ كبيراَ. ولم تعد تلق الذيوع الذي لقيته في الأربعينات. وكان من الواضح أن الزيات يكابد صعوبات مالية. وكانت "الشقة" التي يتخذها مقراً لإدارة المجلة متواضعة جداً. وكان أثاثها بسيطاً وبعيدا عن الرفاهية. وكم كان يحز في نفسي أن أشهد مثل هذا المصير الذي يلقاه رعاة الثقافة والذين يمضون حياتهم الطويلة في خدمة الثقافة والأدب وينتهون إلى عيشة أقرب إلى الكفاف. ومن المعلوم أن أفضال الزيات على الأدب العربي لا يقتصر على رعايته لمجلتي "الرسالة" و "الرواية" ولا على أبحاثه اللغوية القيَمة، بل تشمل أيضاً مساهماته الرئيسية في الأربعينات في ترجمة الآثار الفنية العالمية مثل "هلويز الجديدة" وترجماته الأخرى التي كان ينشرها على صفحات مجلة "الرواية". قال الباحث بلهجة أسيفة: لم أتصور أن الزيات كان يعيش في أواخر حياته على هذا النحو.. ولكن ماذا عن معرفتك بتوفيق الحكيم يا سيدي؟
توفيق الحكيم قال الأديب الشيخ: لقد سبق لي أن حدثتك عن معرفتي بتوفيق الحكيم وهي معرفة ليست وثيقة. وكنت ألتقيه أحياناً في ندوة الزيات، كما شاركته مراراً الجلسة في مقهى الايموبيليا. وكنت وما أزال معجباً به كأفضل مسرحي عربي، بل يمكن القول إنه خالق المسرحية العربية. وقد لقيت مسرحياته إعجابا ليس على الصعيد العربي فحسب بل على صعيد بعض الدول الأوربية أيضاً. ولكن مشكلة توفيق الحكيم أنه كان يطمح إلى أن يخلق من نفسه مسرحيّاً عالمياً. وكان يعتقد كما يبدو لي أنه لكي يصبح كذلك لابد أن يعالج المواضيع الفلسفية التي تمثل أرضية مشتركة بين الشعوب. فاستمدّ بعض مسرحياته من الأدب اليوناني الكلاسيكي ومن تراث الأدب العالمي. فكتب "بجما ليون" و "سليمان الحكيم" و "وأوديب ملكاً" و "راقصة المعبد" و "براكسا" و "شجرة الحكم" وغيرها من المسرحيات الفكرية. لكنني أصارحك يا صديقي بأنها لم تلق تجاوباً من القارئ الغربي أو من العاملين في المسرح الغربي. قال الباحث: أظن أن البعض منها قد مثّل بالفعل على المسارح الغربية يا سيدي. قال الأديب الشيخ: معك حق. ولكن كم عدد من شاهدها؟ وكم من النقاد من استرعت اهتمامه؟ لقد مثلت مسرحية بجما ليون في سالسبرغ في النمسا، ومثلت بعض مسرحياته على مسارح صغيرة في فرنسا لكنها لم تلق اهتماماً. وكنت أعتقد دائما أنه لو انصرف إلى المواضيع الشعبية الصميمة لأصاب نجاحاً أعظم. فقد كان يتمّيز بملاحظة دقيقة حاذقة تتغلغل في صميم النفسية المصرية، ريفية كانت أم مدنية، وكان مدربا ومؤهلاً لذلك. فقد أحب المسرح الشعبي ومارسه منذ كان في العشرين من عمره. وأفضل دليل على نجاحه في هذا النوع من المسرحيات القصيرة التي جمعها في مجلدين كبيرين هما "مسرح المجتمع" و "المسرح المتنوع". وخير مثال عليها مسرحيته القصيرة "المزمار". وفي اعتقادي أن ما جنى على الحكيم هو نجاحه في مسرحيتيه "شهرزاد" و "أهل الكهف" اللتين كتبهما في أواسط الثلاثينات في مطلع عهده بالكتابة. وهما بالفعل من أجمل ما كتب من مسرحيات في الأدب العربي، وحوارهما مذهل في دقته وجماله. ولا شك أن توفيق الحكيم هو سيد الحوار المسرحي الفصيح وحواره من نوع السهل الممتنع. ولقد وجهت هاتان المسرحيتان توفيق الحكيم نحو المسرح الذهني، إذ اعتبرتا مسرحيتان فلسفيتان. وبما أنه أصاب بهما نجاحاً عظيماً فقد دخل في روعه أنه يستطيع أن يدخل المسرح العالمي من هذا الطريق. لكن نجاح "شهرزاد" و "أهل الكهف" لا يعود في الحقيقة إلى ما فيهما من فلسفة بل إلى جاذبية موضوعيهما على الصعيد الشعبي، وإلى ما لقياه من دعم من الدكتور طه حسين، وقد هلل لهما وكبر، وكان يومذاك أديباً لامعاً. ولاشك أن توفيق الحكيم يدين بشهرته المبكرة إلى تلك الرعاية التي لقيها من طه حسين. وصمت الأديب الشيخ وقد تعكر وجهه ثم قال بأسف وهو يهز رأسه: ومن المؤسف أن توفيق الحكيم جازى إحسان طه حسين له بالإساءة. تساءل الباحث في عجب: وكيف ذلك يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ: لقد تحدث عنه بما لا يليق في أحد كتبه لا لشيء إلا لأنه قال عنه بأنه غير جدير بالانضمام إلى الفلاسفة. وكان ذلك تعليقاً على نشر الحكيم لكتابه "التعادلية" الذي حاول فيه أن يقيم نظرية فلسفية جديدة في تفسير الحياة. وقد كتب طه حسين عن الكتاب معرّضاً بهذه النظرية الفلسفية ومشيراً عرضاً إلى أن توفيق الحكيم كاتب مسرحي ناجح ولكنه ليس فيلسوفاً ولا يمكن أن يضم إلى الفلاسفة بناء على ما كتب من مسرحيات. وأثار ذلك حفيظة توفيق الحكيم فكتب عنه كلاماً ممجوجاً في أحد كتبه واتهمه بالغرور وقال إنه إنسان لا يمكن إرضاءه أو كسب صداقته وأنه معقّد بطبيعته. تساءل الباحث في استنكار: وهل رد عليه طه حسين يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ: لا أدري.. فلم أقرأ شيئاً من هذا القبيل. ولعل الحكيم كتب هذا الكلام بعد وفاة طه حسين. وصمت الأديب الشيخ لحظة ثم قال: وعلى كل حال يبدو لي أن ولع توفيق الحكيم بالفلسفة هو الذي صرفه أيضاً عن كتابة الرواية لأنه وجدها قاصرة عن استيعاب آرائه الفلسفية. وكان ذلك خسارة لعالم الرواية العربية بلا شك. فقد كتب الحكيم في مقتبل حياته الأدبية روايات ناجحة مثل "يوميات نائب في الريف" و "عودة الروح" وفيما بعد "الرباط المقدس". ولقد عبر فيها عن مشاكل المجتمع المصري وصوّر فيها الروح المصرية تصويراً رائعاً. ولكن مهما قلنا عن توفيق الحكيم وما يمكن أن يؤاخذ عليه فإنه يظل أعظم كاتب مسرحي في أدبنا العربي، ويكاد يكون الوحيد الذي كتب أدباً مسرحياً وليس مجرد "تمثيليات". وقد استطاع أن يجعل قراء العربية يتذوقون قراءة الأدب المسرحي، في حين أن من المفترض أن تكتب المسرحية أساساً للتمثيل. وإذا كان الغربيون قد اعتادوا قراءة الأدب المسرحي فلكونهم مزّودين بخلفية ترجع إلى آلاف السنين إذا أخذنا بنظر الاعتبار المسرح الإغريقي الكلاسيكي. وقد شهد المسرح الأوربي في عهد النهضة وفي القرون التالية أعاظم الكتاب من أمثال شكسبير في إنجلترا ومولير وكورني وراسين في فرنسا ودانتي في ايطاليا. وكان هؤلاء شعراء وأدباء عظاما قبل أن يكونوا كتّاباً مسرحيين. وأما في عالمنا العربي فلم يألف القارئ "المسرح" لا قراءة ولا تمثيلاً. لذلك كانت مهمة توفيق الحكيم مهمة عسيرة. وقد لازمها بدأب وإصرار مثيرين للإعجاب. فأصبح بذلك خالق الأدب المسرحي في اللغة العربية. وكنت أتمنى لو أنه بذل جهداً أكبر للمواضيع الشعبية لكنني في الوقت نفسه لا يمكن أن أغضّ من قدر مسرحه الذهني ودوره في خلق أدب مسرحي عربّي. والواقع أنه لم يستطع اي كاتب عربي آخر القيام بدوره أو الحلول محله. كما ينبغي الاعتراف أيضاً بأن أيّ كاتب عربي آخر ممن مارس الكتابة المسرحية منذ الستينات حتى اليوم لم ينل من النجاح ما ناله توفيق الحكيم في مسرحياته. وأخيراً لابد من الإشارة إلى الجانب الآخر من كتابات توفيق الحكيم يا صديقي وأقصد بها الكتابات الأدبية والفكرية العامة. ومن المؤسف أن هذه الكتابات لا تذكر كثيراً على الرغم من أهميتها، ولعل مرد ذلك إلى أن كتاباته المسرحية قد غطت عليها. ولديه عدد غير قليل من هذه الكتابات الجميلة مثل "من البرج العاجي" و " عصا الحكيم" و "حماري قال لي" و "تحت شمس الفكر" و "التعادلية" و "عدالة وفن" و"فن الأدب" و "سجن العمر" و "تحت المصباح الأخضر".. إلخ وكلها تعكس آراء ناضجة في الحياة والسياسة والفكر لمفكر واسع الثقافة عميق الخبرة، فضلاً عما تتميز به من فكاهة لمّاحة وخفة في الدم لا مثيل لها.
عباس خضر وسكت الأديب الشيخ فتساءل الباحث بعد حين: وماذا عن شخصيات ندوة "الرسالة" الآخرين يا سيدي؟ فرفع الأديب الشيخ رأسه وقال متباطئا: لم يكن هناك من الشخصيات المعروفة الأخرى في الحقيقة سوى عباس خضر وأنور المعداوي. فأما عباس خضر فلم يصب شهرة في عالم الأدب. وكان يحرّر بابا في مجلة "الرسالة" يشتمل على متنوعات من الأخبار الأدبية القديمة والحديثة. وقد نشر يوماً في بابه هذا خبرا عن العقاد أثار ثائرته وأدىّ إلى زعله على أحمد حسن الزيات. وكان فحوى هذا الخبر إعلاناً قد نشر قبل سنين طويلة في صحيفة "الأهرام" يدعو الراسبين في امتحان البكالوريا للدراسة الابتدائية لاجتماع في حديقة الازبكية للتداول في تقديم تظّلم إلى وزارة المعارف. وكان هذا الإعلان بتوقيع عباس محمود العقاد افندي. وهذا الإعلان يعني أن العقاد لم ينل حتى شهادة الدراسة الابتدائية. فاعتبر العقاد نشر هذا الإعلان نكاية به وإساءة إليه. قال الباحث: هذا طبيعي فكثير من قّراء العقاد يجهلون ذلك. وأنا نفسي كنت أتصور أنه يحمل الشهادة الثانوية وإن لم يكن قد دخل الجامعة.
أنور المعداوي سكت الأديب الشيخ فتساءل الباحث: وماذا عن أنور المعداوي يا سيدي؟ فلاحت إشراقة على وجه الأديب الشيخ وقال بصوت دافئ: أنور المعداوي كان صديقاً عزيزاً على قلبي حقاً وكانت تربطني به صداقة حميمة. وإنيّ أدين له بالكثير، فقد كان دائم التشجيع لي. وكان "صعيديا" صميميا في أخلاقه –فقد كان أبيّا كريماً، معتزاً بنفسه، محباً ومخلصاً لأصدقائه. وكان فوق ذلك كله لامع الذكاء. ولم يكن لي معرفة به قبل أن ألتقيه في ندوة "الرسالة" إلاّ عن طريق مقالاته التي كان ينشرها في مجلة "الرسالة". وكان يحرر باباً شبيها بالباب الذي يحرره عباس خضر، لكنه كان يُعنى بالنقد الأدبي على نحو الخصوص وبأخبار الأدب عموماً. وكانت مقالاته تتميز بحذق ومهارة وأصالة، لاسيما ما يتعلق بنقد الشعر. وكانت ثقافته الشعرية أعمق من ثقافته القصصية إذ لم يكن يطلع على الأدب الأوربي إلاّ مترجما. ولقد تجلت موهبته النقدية في الكتاب الذي أصدره عن الشاعر علي محمود طه وركزّ فيه على نظرية الأداء النفسي في الشعر. وكذلك تجلت موهبته النقدية في الكتاب الذي نشرته له دار المكتبة العصرية في بيروت والذي كان بعنوان "كلمات في الأدب" وقد ضمّ مجموعة من مقالاته النقدية في الشعر والرواية والأدب. وكان المرحوم أنور المعداوي يتميز، إضافة إلى مقدرته النقدية، بلغة عربية سليمة ذات عبارة مشرقة صافية. وكان أحد خريجي قسم اللغة العربية وقد درس على أيدي أساتذة فطاحل من أمثال الدكتور طه حسين وأمين الخولي. وكان يعدّ نفسه تلميذاً لطه حسين وأمين الخولي. وكان أمين الخولي قد أنشأ يومذاك رابطة أدبية من طلبته أطلق عليها اسم "الأمناء" فكان أعضاؤها يجتمعون في "شقته" التي استأجرها في مصر الجديدة وعاش فيها مع زوجته الجديدة الثانية بنت الشاطئ. وقد صحبني أنور المعداوي إليها يوماً فتعرفت على عدد من الأدباء كان من بينهم المرحوم الدكتور عبد الحميد يونس رائد الأدب والتراث الشعبي. وكان أعضاء هذه الرابطة يؤمنون بالمدرسة الواقعية في الأدب ويؤيدون الاتجاهات الشعبية في دراسته. وكانوا جميعاً معجبين بأستاذهم أمين الخولي الذي كان يرتدي الجبة والعمامة، وكانوا يجلونه إجلالاً كبيراً. حكاية.. وكان أنور المعداوي شديد الاعتداد بنفسه، ولكن بلا غرور ولا استعلاء. ولم يكن يسكت عن الإساءة إليه أو الاستخفاف به. وقد نشر ذات يوم قصة في مجلة "الرسالة" وإذا بأمين يوسف غراب، القصاص المعروف يومذاك ومؤلف مجموعة "هتاف الجماهير" و "حياة امرأة"، ينشر في إحدى الصحف الأدبية بأن أنور المعداوي قد سرق فكرة تلك القصة من إحدى قصصه. فكتب أنور المعداوي تعليقاً في بابه الأسبوعي في "الرسالة" فنّد فيه ذلك الزعم. ثم تساءل في ختام التعليق قائلاً: إذا كنت سأسرق قصتي من أحد الكتّاب فلماذا لا أحلّق مع النسور إلى القمم بدلاً من أنه أهبط مع الغربان إلى الوديان؟ فما أن قرأ أمين يوسف غراب هذا التعليق حتى هاج وماج وهدد بأن يلقّن المعداوي درساً عمليّا في الأدب. ولم يكن أمين يوسف غراب قد رأى أنور المعداوي من قبل. واستعلم عن مقرّ عمله ومن ثم قصد إلى "إدارة الثقافة" في وزارة المعارف حيث كان يعمل المعداوي. وكان يشاركه في الغرفة الأديب والمترجم محمد مفيد الشوباشي. ودخل أمين يوسف غراب الغرفة وسأل من منكما أنور المعداوي؟ ولم يكن أنور المعداوي قد رآه من قبل فظنه أحد المراجعين. ووقف مرحباً به وقال: أنا أنور المعداوي. وإذا بأمين يوسف غراب يرى شخصاً مديد القامة عريض المنكبين تلوح علائم القوة في جسمه. فتقدم منه باسماً وقال له: "أنا أمين يوسف غراب وقد حضرت للتعرف بك". فرحب به المعداوي. وبدلاً من أن يتضاربا تصالحا. وغرق الأديب الشيخ في الضحك وشاركه الباحث ضحكه. ثم أضاف يقول: كان أنور المعداوي شخصاً شهماً وطيب القلب ولم يكن من طبعه أن يعادي أحدا. وأطرق الأديب الشيخ فجأة وقد لاحت على وجهه سيماء الحزن ثم رفع رأسه وقال بنبرة حزينة: ولقد سمعت أن هذه الطبيعة الأبيّة قد أوردته في النهاية موارد التهلكة في عمر مبكر. ولا أزعم أنني مطلع على تفاصيل الظروف الصعبة التي تعرض لها في أواخر الخمسينات يوم سيطر على ميدان الفكر فئات ضايقته في نشرياته وربما حتى في وظيفته فأبت عليه حمّيته أن يستسلم لتحكمها وأحال نفسه على التقاعد واعتزل الناس في قريته في الصعيد. ثم ما لبث أن توفى عن عمر مبكر متأثراً بما آلت إليه حاله، فيالها من خسارة للدب. وأطرق الأديب الشيخ متأملاً وقد علت وجهه سيماء الحزن. فقال الباحث أخيراً بلهجة رقيقة: يبدو لي أنك كنت تكن له وداً عظيماً يا سيدي. فرفع الأديب الشيخ رأسه وقال بصوته الحزين: نعم. لقد كنت أحتفظ له بمكانة خاصة في قلبي. لقد كان عزيزاً عليّ حقا.. وأنا مدين له بالإمتنان والشكر.. فقد كان أول من قرأ مجموعتي "عهد جديد" قبل أن أدفعها إلى الطبع، وكتب لي رسالة حارة فياضة بالتهنئة والتشجيع، فضلاً عن الملاحظات والتعليقات التي انتفعت منها.. كان لا يضّن عليّ بوقته أبدا. وحنى الكاتب الشيخ رأسه ثانية واستسلم لتيار أفكاره وكأنه يستعيد ذكرياته مع أنور المعداوي. واحترم الباحث الشاب صمته وظل يختلس النظر إليه. ثم تساءل أخيراً بلهجته المترفقة: وماذا بعد يا سيدي؟ ألم تعرف أدباء آخرين غير من ذكرت؟ فرفع الأديب الشيخ رأسه وقال ببطء: لقد عرفت أدباء آخرين غير من ذكرت بلاشك، لكنها كانت معرفة عابرة. عرفت مثلاً الدكتور عبد القادر القط حينما عاد من النمسا بعد حصوله على الدكتوراه وشاركني الإقامة في "بنسيون فرانسيز" مدة تقرب من عام هو وزوجته النمساوية. وكان صديقاً مقرباً من أصدقاء المعداوي. وعرفت الدكتور علي الراعي ولم يكن قد أصبح دكتوراً بعد، وكان يشارك "شلة أحمد بهاء الدين" بعض جلساتها. وعرفت زكريا الحجاوي الذي كان معنيّ عناية شديدة بـ "الفلكلور" والأدب الشعبي. وعرفت أدباء ثانويين آخرين لا أتذكرهم الآن. تساءل الباحث: وماذا عن الأدباء الكبار الآخرين أمثال طه حسين والعقاد والمازني؟ ماذا عن طه حسين مثلاً؟ ألم تعرفه يا سيدي؟ طه حسين قال الأديب الشيخ وهو يهز رأسه: لا أستطيع القول أنني عرفته معرفة حقيقية وأنا آسف لذلك فهو بلا شك أعظم الأدباء العرب المعاصرين. قال الباحث الشاب بلهجة محرجة: أنا آسف إذ أقول لك يا سيدي أن كتابات طه حسين لم تكن تجتذبني دائماً سوى رائعته "الأيام" وأنني أجد أسلوبه وعراً وثقيلاً على النفس. قال الأديب الشيخ بنبرة غاضبة: اسمح لي أن أصارحك إذن يا صديقي بأن ذلك ليس قصوراً في طه حسين بل قصوراً فيك. فطه حسين يمتلك أجمل وأروع أسلوب يمتلكه كاتب عربي في عصرنا الحديث. قال الباحث بلهجته المحرجة: أنا آسف يا سيدي إذا كانت صراحتي قد أغضبتك. وينبغي عليّ أن أعترف بأنني لم أقرأ لطه حسين إلاّ الشيء القليل وربما كان ذلك سبب قصوري في تقييم أدبه. قال الأديب الشيخ وقد استعاد هدوءه: وأنا آسف أيضاً إن كنت قد غضبت لصراحتك وما كان ينبغي لي أن أغضب، فكل قارئ حّر فيما يعجبه من أدب الكاتب ومالا يعجبه. لكنك نكأت جراح قلبي بجوابك هذا يا صديقي. فرأيك هذا قد سمعته وقرأته لدى عدد غير قليل من الكتّاب الشباب. وأنا واثق أن مبعثه هو الجهل بحقيقة طه حسين، أو على الأصح عدم الصبر على قراءة طه حسين بدرجة كافية في كتبه المتنوعة. فالواقع أن كتبه متعددة الجوانب والأبعاد وهي ينبوع ثّر في الثقافة العربية، فضلاً عن أنه شخصية متميزة في تاريخ أدبنا العربي المعاصر بعقليته المتطورة وجرأته النادرة وثقافته الواسعة. وكم عانى في مطلع حياته من جرأة أفكاره وجّدتها وخصوصاً في ميدان دراسة أدبنا العربي القديم. وعظمة طه حسين يا صديقي لا تنحصر في آثاره الأدبية فحسب بل في سيرة حياته أيضاً، وفي جهوده المتواصلة من أجل البحث العلمي الجريء ومن أجل الثقافة في مصر والعالم العربي. وهو المهندس الحقيقي للتعليم المجاني في مصر في كل مراحله ومستوياته. فقد كان طه حسين يرى أن التعليم ينبغي أن يشُاع لأبناء الشعب كم يشُاع الماء والهواء. وقد حاول أثناء تقلده لمختلف المناصب التعليمية خلال حياته الطويلة، والتي كان آخرها وزارة المعارف، أن يعمل على تطبيق رأيه هذا في المدارس وفي الجامعات. وقد شرح آراءه هذه في كتابه المعروف "مستقبل الثقافة في مصر". قال الباحث بلهجته المحرجة: أعترف أنني لست ملماً بجوانب حياة طه حسين يا سيدي وهذا تقصير آخر مني. قال الأديب الشيخ بلهجته الحارة وهو يركز أنظاره على وجه الباحث الشاب: يجب أن تعلم يا صديقي أن طه حسين ليس شخصية أحادية. هناك طه حسين القصاص.. وهناك طه حسين الباحث.. هناك طه حسين الناقد..وهناك طه حسين المؤرخ.. وهناك طه حسين السياسي. ولا يمكنني أن أفيه حقه من التقييم في هذا الحوار المبتسر. أما إذا أرت معرفة فضله على الأدب العربي فاعلم أنه في مقدمة من نقل المسرح الغربي، وبالذات المسرح الفرنسي، إلى اللغة العربية منذ مطلع العشرينات. وكتبه "صوت باريس" و "لحظات" و "من الأدب التمثيلي" خير شاهد على ذلك. أما أسلوبه الأدبي فهو أسلوب متفرد لا يبارى، وهو من النوع الذي يمكن تسميته بالسهل الممتنع. وإن حلاوته لتبلغ مداها في كتابه العظيم "الأيام" وخصوصاً في الجزء الأول منه. ولا شك عندي أن هذا الكتاب سيظل لفترة طويلة من خير ما أخرجته المطابع العربية. وتعكس قصصه الأخرى فهما وإدراكا عميقين للحياة المصرية. وكثيراً ما أنسى وأنا أقرأ قصصه بأن مؤلفها كفيف البصر. فقد لا تجد وصفاً دقيقاً للطبيعة والبشر يضارع وصفه. ودعك من القول بأن قصصه لا تتوفر فيها أحياناً الشرائط الفنية المألوفة فهو جدل سبق أن تطرقنا إليه. وستظل روايات طه حسين كـ "شجرة البؤس" و "الحب الضائع" و "دعاء الكروان" وغيرها من أروع ما كتب في الأدب العربي. أما كتبه الإسلامية مثل "الشيخان" و "علي وبنوه" و "الفتنة الكبرى" و "على هامش السيرة" و "الوعد الحق" فمن أفضل ما أُخرج من أدبيات في التاريخ الإسلامي. وتكتسب أهميتها من أسلوبها الطلي الجميل ومن نظرتها الإنسانية الشمولية ومن نهجها المبتكر في إدخال اللمسة الإنسانية على الأحداث التاريخية الاعتيادية. وسكت الأديب الشيخ ووجهه يفيض بالعذوبة ثم قال وهو يهز رأسه:هذا هو طه حسين.. الأديب والمفكر والإنسان وصاحب المواقف السياسية المشرّفة. ويؤسفني أن الفرصة لم تتهّيأ لي أثناء تواجدي في مصر للتعرف عليه بصورة كافية.فقد كان يفضل العزلة في تلك المرحلة من حياته، في أواخر الأربعينيات ومطلع الخمسينات، وكان من المتعذر الالتقاء به. ولم التق به سوى مرة واحدة في منزله. وقد زرته بصحبة صديقي وتلميذه الأستاذ أنور المعداوي، ولا أتذكر الآن مناسبة الزيارة، لكنني أتذكر جيداً أنني تأثرت كثيراً بشخصيته المهيبة. وقد سألني عن حالي في الجامعة فشكوت إليه روح العداء التي كنا نواجهها نحن الطلبة العرب من عميد كلية الآداب يومذاك. فغضب لذلك غضباً شديداً وقال عن ذلك للعميد بالحرف الواحد: "إنه حمار". هذا هو طه حسين يا صديقي. وينبغي لك أن تعرفه بصورة أفضل. وأنا لا أستغرب جهلك به في مثل هذا العجيج الذي يخلقه الكتّاب الجدد من حولهم اليوم محاولين التغطية على مآثر سابقيهم. وكل منهم يتصور أنه قد أتى بما لم يأت به الأوائل، وكأنه لا يمكن إثبات قيمة أدبهم ما لم يُغضّ من قيمة أدب سابقيهم. وهي نعرة لا شبيه لها في ميدان الثقافة الغربية. فالكتاّب المعاصرون هناك يحترمون أدباءهم السابقين بل والضاربين في القدم ويقيّمونهم حسب مكانتهم. وقد قاسى طه حسين من مثل هذا الجحود في مطلع ثورة يوليو المصرية على أيدي بعض الأدباء الجدد فوجهّوا إليه مدافعهم لكن حملتهم أخفقت في النهاية. فسارع الباحث الشاب يقول معتذراً: لكنني لست ممن يهاجم طه حسين يا سيدي، وكل ما هنالك أن الظروف لم تتح لي معرفته على نحو صحيح وكاف. قال الأديب الشيخ وقد هدأت سورة غضبه: على كل حال سيظل طه حسين شامخ الرأس عالي المكانة في أدبنا العربي الحديث مهما تقّول عنه المتقوّلون ومهما حاول المغرضون الجهلاء أن ينالوا من أدبه ومكانته. قال الباحث: إنني مدين لهذه الفرصة حقاً لأن أعرف طه حسين على حقيقته وأعدك بأنني سأحاول معرفته على نحو أفضل في المستقبل. إبراهيم عبد القادر المازني وسكت الباحث الشاب هنيهة ثم تساءل: وماذا عن المازني؟ ألم يحدث لك أن عرفت المازني يا سيدي؟ فقال الأديب الشيخ: كلا، لم أعرف المازني معرفة شخصية، فقد توفي بعد عام من وصولي إلى القاهرة. ولم أكن أصلاً معجباً بأدبه. فلم تكن تهزني أقاصيصه التي كان ينشرها في مجلة "الرواية"، كما لم تهزني رواياته المعروفة "إبراهيم الكاتب" و"إبراهيم الثاني" و "ثلاثة رجال وامرأة" و "عود على بدء". وأعتقد أنني لست ملوماً على ذلك فلم يكن يعنى عناية كاملة بأدبه. وقد ذكر لي مرة المرحوم عبد الحميد جودة السحار أن دار لجنة النشر للجامعيين ارتأت أن تكون روايته "ثلاثة رجال وامرأة" أكبر حجماً فجلس في مكتب المطبعة لعدة ساعات وكتب لها فصلا إضافيا. وهذا يعني في رأي أنه لم يكن ينظر إلى أدبه نظرة جَدية. ولكن لابد لي أن أذكر لك يا صديقي أن للمازني دوره المهم في الأدب المصري الحديث. فقد كان في مطلع الثلاثينات واحداً من الثلاثة الذين ثاروا على الأسلوب التقليدي المصطنع في الكتابة والشعر وحملوا راية التجديد في الكتابة الشعرية على نحو الخصوص. وأما الاثنان الآخران فهما عباس محمود العقاد وعبد الرحمن شكري. وكان المازني أيضاً من أوائل من عني بترجمة الأدب الإنجليزي إلى اللغة العربية ترجمة ناجحة. لكن ذلك كله لا يقنعني بأنه قد أحدث أثراً ذا خطر في أدبنا العربي الحديث وإن كان يعدّ من عمالقة الأدب المصري في زمنه.
عباس محمود العقاد وصمت الأديب الشيخ ثانية فتساءل الباحث: وماذا عن العقاد يا سيدي؟ ألم تلتق به طوال فترة وجودك في مصر؟ فقال الأديب الشيخ: لا. لم ألتق بالعقاد أبدا. بل لم تراودني الرغبة يوماً في الالتقاء به على الرغم من أنه كان يعقد ندوة أسبوعية في منزله يلتقي فيها بمريديه. فتساءل الباحث في عجب: ولكن كيف لم تفكر يوماً بالتعرف به يا سيدي وقد كان من أكبر كتّاب عالمنا العربي يومذاك؟ قال الأديب الشيخ: السبب لأنني لم أعجب به يوماً يا صديقي ولم أنجذب إلى أدبه. قال الباحث وهو يبتسم: لعلك لم تقرأ له كثيراً يا سيدي. قال الأديب الشيخ: لا. أبدا. ليس هذا هو السبب. فلقد قرأت عدداً لا بأس به من مؤلفاته. قرأت "إسلامياته" وقرأت كتبه النقدية، وقرأت حتى روايته الوحيدة "سارة"، ولعلها من خيرة ما كتب. لكنني لم أستسغ أسلوبه ولم تبهرني معلوماته. وقرأت شيئاً من شعره فلم يستثرني. قال الباحث: لكن العقاد ليس معروفاً كشاعر. قال الأديب الشيخ: فاعلم إذن يا صديقي أنه كان في أوائل عهده بالكتابة معنياً جداً بالشعر. وقد نظم ما يقرب من ستة دواوين. ولقد قال له طه حسين يوماً: "أنت أمير الشعر يا عقاد". فأجابه باعتداده المعروف بنفسه: "أنا أمير الشعر والنثر يا طه حسين". والحقيقة أن أبرز مؤلفاته هي دراساته النقدية للشعر العربي القديم ولا سيما دراسته عن إبن الرومي. وكان كما ذكرت لك أحد أبرز الفرسان الثلاثة، أو الأربعة إذا عددنا طه حسين معهم، الذين حملوا لواء التجديد في الشعر العربي في بداية القرن. وكان هو وطه حسين يحملان على أمير الشعراء أحمد شوقي حملات شعواء. وقد حاول هو وزملاؤه إرساء قواعد مدرسة جديدة في الشعر، ولكن أيّا منهم لم ينجح كشاعر. وكان العقاد الوحيد بين رفاقه الذي نجح كشاعر. لكن شهرته في الحقيقة بنيت على نثره لا على شعره. وربما أدرك هذه الحقيقة فيما بعد فهجر الشعر وهو ما يزال في أواسط عمره. قال الباحث: على كل حال فللعقاد ورفاقه فضل كبير في كسر جمود الشعر القديم. قال الأديب الشيخ مفكراً: معك حق.. وربما فتحت مدرسة العقاد وشكري والمازني الأبواب أمام مدرسة تجديدية أخرى في الشعر هي مدرسة أبولو بزعامة الطبيب الشاعر إبراهيم ناجي، ولعل شعر محمود طه المهندس جاء فيما بعد امتداداً لها، ولكن ينبغي لنا ألاّ نبالغ في القول فنعتبر مدرسة العقاد وشكري هي الأساس في تجديد الشعر الحديث فقد سبقتها ورافقتها مدرسة المهجريين بزعامة ايليا أبو ماضي وجبران خليل جبران.
قال الباحث الشاب وهو يبتسم: ما دمت تعرف كل ذلك عن العقاد فكيف لم يثر ذلك في نفسك رغبة للقائه يا سيدي؟ فقال الأديب الشيخ: ومن قال لك إنني لست معجباً بالعقاد كشخصية إنسانية وكمفكر كبير؟ كل ما هناك أنني لست معجباً بأدبه، كما أنني لا أستسيغ اعتداده الزائد عن الحّد بنفسه والذي يبلغ حد الغرور. لكنني أفهم في الوقت نفسه سبب هذا الاعتداد وأعيده إلى أصوله فأعذره. فهو لم تتح له الفرصة حتى للحصول على الشهادة الابتدائية. غير انه كان ذا إرادة قوية فاستطاع بجّده ومثابرته أن يتبوّأ مركزاً مرموقاً في الفكر والأدب العربي الحديث. ولقد أتقن اللغة الإنجليزية اتقاناً تاماً فأخذ يطلّع على شوامخ الأدب الغربي في منابعها الأصلية. ويقال أنه كان ينكب أياما طوالاً على قراءة كتب في العلوم الطبيعية.. كل ذلك ليثبت لنفسه وللآخرين أن دارسي العلوم المختصين ليسوا أعلم منه. فإذا كان أمره مع العلم كذلك، فما بالك في قضايا الأدب، والأدب العربي القديم على نحو الخصوص؟ لا شك أنه اغترف منه بحيث لم يبق هناك من مزيد. ولذلك فان آراءه في الشعر والأدب العربي الكلاسيكي لا تقل مهارة ودقة عن آراء أولئك الذين نالوا أرقى الشهادات في حقل الأدب العربي. ويقال إن دراسته عن أبن الرومي من أفضل ما كتب من دراسات عن هذا الشاعر. ولقد حاول أيضاً أن يبزّ المختصين الأكاديميين في تاريخ الإسلام. فكتب العديد من الكتب عن القرآن والإسلام ورجاله، واشتهرت سلسلته القيّمة عن عظماء الإسلام. ولكنني أصدقك القول بأن كتب هذه السلسلة لم تهزني لا في معلوماتها ولا في أسلوبها، ولم أجد فيها شيئاً جديداً يضيف إلى معلوماتي أو ينمّ عن التفاتات بارعة.. قارن تلك الكتب بمؤلفات طه حسين الإسلامية التي تهزّ وجدان الإنسان المسلم والعربي والتي تثير في القلب أنبل العواطف ولا سيما كتابيه "علي وبنوه" و "الفتنة الكبرى". وكثيراً ما بدا لي أن أقارن بين كتابات طه حسين والعقاد في الحقول المشتركة بينهما، أعني الأدب العربي الكلاسيكي والتاريخ الإسلامي فأجد البون شاسعاً بينهما. فكتابات طه حسين تمثل الأسلوب الأكاديمي المعهود بدقة معلوماته ومحاكمته العلمية والرجوع إلى المراجع والإشارة إليها، إلى آخر ما يعرف من مواصفات المنهج الأكاديمي، وهذا أمر ليس غريباً على طه حسين0 فقد نال شهادة الدكتوراه منذ أواسط العقد الثاني من القرن العشرين من الجامعة المصرية الأهلية في بداية تأسيسها عن رسالته المعروفة "أبو العلاء المعرّي". ثم نال الدكتوراه مرة أخرى من فرنسا في مطلع العشرينات عن رسالته عن أبن خلدون. أما أسلوب العقاد فهو أسلوب الكاتب العربي التقليدي الذي يستند إلى اغتراف المعلومات من مصادر مختلفة وهضمها ثم صبّها بأسلوبه الخاص. وقد ينقل أحياناً فقرات طويلة بنصّها وفصّها من دون الإشارة إلى مرجعها. وقد ورث كتاّبنا هذا الأسلوب من مؤلفينا القدامى ومازلنا نعاني من عيوبه حتى ضمن الوسط الاكاديمي! قال الباحث وهو يبتسم: هل أفهم من أقوالك هذه أنك لا تحب العقاد يا سيدي؟ فسارع الأديب الشيخ يقول محتجاً: لا يا صديقي.. لا. كل ما في الأمر أنني لست من المعجبين بأدبه أو فكره. لكن ثمة جوانب عديدة في شخصيته تثير إعجابي. منها موقفه من الزعيم الوطني سعد زغلول. ولعلك تعلم أنه عمل سكرتيراً له في فترة من حياته وكتب عنه كتاباً ممتازاً! ومنها موقفه من الإنجليز والقصر وقد دفع ثمناً لذلك إذ سجن اكثر من مرة. ثم أخيراً موقفه من هتلر الذي اضطره إلى الفرار إلى السودان حينما اقتربت جيوش رومل من الإسكندرية. وهناك موقف نبيل اخر له يدل على سمو خلقه وهو دفاعه الحار عن طه حسين يوم كان عضواً في البرلمان. وكان طه حسين قد تعرض لحملة ضارية من قبل رجال الأزهر بسبب آرائه عن الشعر العربي القديم، على الرغم مما كان بينهما من خصومة يومذاك. وكان يدافع في الحقيقة عن حرية الفكر. قال الباحث الشاب وهو ينظر بإعجاب إلى الأديب الشيخ: لقد أنصفت العقاد حقاً يا سيدي. فهل من مزيد من هذه المعلومات عن كتاّبنا المشهورين الآخرين؟
زكي مبارك قال الأديب الشيخ مفكراً: الحقيقة أنه لم يعد في جعبتي شيء عن أدباء مصر المشهورين.. اللهم إلاّ لمحة خاطفة عن الدكتور، أو الدكاترة، زكي مبارك. ولا أدّعي أنني عرفته عن قرب، لكنني قرأت بعض كتبه القيّمة مثل "التصوف الإسلامي" و"النثر الفني". وكنت أتتبع مقالاته الأسبوعية التي كان ينشرها في جريدة "البلاغ" المسائية على صفحة كاملة. وكانت مقالاته هذه تضم مواضيع متباينة لا رابطة بينها. وكان الدكتور علي جواد طاهر الذي كان يدرس يومذاك في جامعة القاهرة استعدادا لإكمال دراسته في فرنسا يطلق عليها أسم "زكمبريات". وقد حضرت له يوماً محاضرة كان عنوانها "فلسفة الضحك" وإذا بها حديثاً مشتتاً لا تربطه رابطة ولا علاقة له بفلسفة الضحك. ولم ألتق به سوى مرة واحدة وقد أحزنتني. فقد علمت انه يمضي أمسياته في مقهى صغير في "ميدان التوفيقية" فذهبت لرؤيته. ووجدته جالساً أمام مائدة صغيرة لوحده يعاقر الخمر. وكان رث الملابس زري الهيئة فأثار مرآه الحزن في قلبي. وما أن قدّمت نفسي إليه حتى صاح مبتهجاً: "أنت من بلاد ليلى المريضة في العراق. أنا أحب العراق يا صاحبي وأحب ليلاه وكل لياليه". ثم إذا به فجأة يرفع عقيرته بالغناء. واستمر على هذا المنوال طيلة وجودي يكرع الأقداح ويلقي عليّ أسئلة غير واضحة ثم يرفع عقيرته بالغناء. وقد فارقته وأنا اشعر بالأسى العميق. ولا أدري ما الذي أوصل هذا البحاثة الكبير إلى هذا الحال. ولعلها خيبة الأمل في بلوغ مكانة أدبية تداني مكانة زملاءه من أمثال طه حسين وأحمد أمين والزيات والعقاد. وكان يحز في نفسه على نحو الخصوص أن يبلغ طه حسين تلك المكانة العالية وأن يلقب بعميد الأدب العربي خصوصا وأن مواقف طه حسين تجاهه لم تكن حميدة. لذلك ناصبه العداء، وكتب مقالات ضده مليئة بالدس والافتراء والحقد.
مجموعة "عهد جديد" وصمت الأديب الشيخ وقتاً فسأله الباحث أخيراً: هل هذه إذن نهاية المطاف في حياتك الأدبية في القاهرة يا سيدي؟ أليس ثمة من أحداث مهمة أخرى؟ فقال الأديب الشيخ: نعم هناك حدث آخر مهم آخر لم أذكره حتى الآن يا صديقي ألا وهو صدور مجموعتي القصصية الثانية "عهد جديد" في عامي الجامعي الأخير، أي في عام 1951. وقد نشرتها "لجنة النشر للجامعيين" التي تنشر كتب نجيب محفوظ وعبد الحميد السحار وعلي أحمد باكثير. فقال الباحث وهو يبتسم: إذن فحدثني عنها يا سيدي إن سمحت. قال الأديب الشيخ وقد أشرق وجهه: بكل سرور. فلقد أمدني صدور تلك المجموعة بسعادة واعتزاز عظيمين. ذلك أنها لقيت نفس الترحيب الذي لقيته المجموعة الأولى. ولا زلت أتذكر مواقف شخصية تجاهها لبعض أصدقائي الأدباء ملأتني فخراً. تساءل الباحث مبتسماً: وما تلك المواقف يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ وهو يطلق نظراته الحالمة في الفضاء: أتذكر مثلاً موقف علي أحمد باكثير منها. وكنت قد أهديته نسخة، ومّر الوقت فنسيت الأمر. وذات جمعة أقبل على مجلسنا في كازينو أوبرا وهو مشرق الوجه. وما أن تّبوأ مقعده حتى ألتفت إليّ وقال: أريد أن أقبلك يا شاكر. فدهشت ودهش الحاضرون. ونهض وطبع على جبيني قبلة حارّة. فتساءل نجيب محفوظ ضاحكاً: ما هذا يا باكثير؟ فأجاب باكثير: هذه قبلة إعجابي بقصة "عهد جديد". فقد أمضيت معها ليلة أمس وقتاً ممتعاً للغاية. وأتذكر أيضاً تعليق يوسف الشاروني على الكتاب إذ قال لي يوماً: كم أعجبتني قصصك يا شاكر. وكم أتمنى لو كنت تعودت الكتابة بهذا الأسلوب السهل العذب. أما أنور المعداوي فقد قال لي بعد أن قرأ مسودة الكتاب: لقد صرت قاصاً كبيراً بكتابتك لقصة "عهد جديد" يا شاكر. قال الباحث بحماس: هذه شهادات يعتز بها فعلاً يا سيدي. قال الأديب الشيخ: ولقد حظي الكتاب باهتمام كبير من لدن العديد من الأدباء لا سيما الكتاّب العراقيين واعتبر نقلة جديدة للقصة العراقية. وصمت الأديب الشيخ لحظة وهو مشرق الوجه ثم التفت إلى الباحث قائلاً: إذا رغبت قرأت لك بعض المقتطفات من المقالات التي كتبت عنه. قال الباحث بحماس: إن ذلك ليسرّني جداً يا سيدي وسأنتفع منها في بحثي. انكب الأديب الشيخ على "ملف" بجواره يقلب أوراقه ثم راح يقرأ: أسمع هذه الفقرات من مقال كتبه الدكتور صفاء خلوصي في مجلة "الهاتف" العراقية في العدد 995 بتاريخ 20 آب 1951: (كنت أريد أن أقول كلمتي وان كانت موجزة في كتابك الأخير "عهد جديد". أتريد كلمة مطوّلة فيها شتّى النعوت الفارغة والاسترسال الذي لا طائل تحته أم تريدها كلمة مختصرة؟ إذا كانت الأخيرة فإليكها. لقد كتبت في قصتك "عهد جديد" شيئاً خالداً بحق. فهذه أوّل قصة عراقية محليّة بحتة يجيد فيها قاصّ عراقي ويبرع في تصوير أدق دقائق حياتنا العائلية. وباعتقادي انك لو لم تكتب شيئاً آخر سوى هذه القصة، والتي من الخطأ أن يطلق عليها الإنسان "أقصوصة" لطولها ولطبيعة موضوعها، لحقّ لك أن تحمل لقب "قاصّ". وأجمل ما أعجبني في قصتك هذه وصفك الرائع لحياة رجل محدود التفكير وقابليَّتك في إبراز ما يسمّيه الغربيون "اللمسات الخفيفة" في القصة. ومن عجب أنني قرأت لأحد الكتاّب في نقد كتابك هذا بأن قصصك يعوزها شيء من العمق وتفهمّ لعلم النفس! يا عجبا! كيف تكون قصةٍ أعمق من "عهد جديد"، وكيف يقال عن مؤلفها ذلك وهو الذي صّور نفسية أسرة عراقية برمّتها بهذه المهارة والحذق وقوة التعبير؟! لا يا أخي.. لا. إنه أراد أن ينتقد فأخطأ وجه النقد. كان عليه أن يقول فقط إن العنوان لا يليق بهذه القصة العظيمة. ولقد ابديت براعتك حقاً حين لم تعتمد على موضوع الحب وحده في عقد قصصك بل وذهبت إلى أنك جردت بعض قصصك من عنصر الحب إطلاقاً دون أن تفقد القصة رواءها وروعتها وأخذها بجماع القلوب كما فعلت في قصة "عهد جديد" و "الدخيل" و "الرهان"...الخ. وأخيراً إن بقيت لي كلمة أقولها فهي تهنئة صميمة مشفوعة بمصافحة حارة على هذا المجهود الذي إن لم يكن خير ما ستنتجه فهو من خير ما أنتج في عالم القصة العراقية حتى الآن). ومما قاله عباس خضر في مقال كتبه في مجلة "الرسالة" في عددها المرقم 947 والمؤرخ في 27 أغسطس عام 1951: (أعرف نزعة شاكر مما قرأت له من قبل في مجلة "الرسالة" وفي مجموعة سابقة له وأعرفها منه صديقاً طالما التقيت به في القاهرة خلال السنوات التي قضاها طالباً في جامعة فؤاد الأول. فما أن أصدر مجموعته القصصية هذه صدر هذا الصيف وقبيل رحيلي إلى المصيف حتى كانت مما احتقبته عسى أن يذهب عن نفسي ما ألمّ بها فأشتاق إلى المتاعب الممتعة. أحب من الأدب أكثر ما أحب ذلك النوع الذي يتخذ كاتبه الإنسان موضوعاً له على أنه أخوه.. أخوه كيفما كان لا يترفع عنه لأن الأقدار أو الأسباب الاجتماعية أرادت له الحرمان والجهل وسوء الحال، لا يتخذه ألهية ولا طرفة يتلّهى بها ويطرف بل يراه أخاً له يرثي لحاله ويأسو لجراحه ويلتمس له كمطلق إنسان البرء والسعادة. وعندما قلت أعرف نزعة شاكر كنت أعني تسديده إلى ذلك الهدف الذي أحببت أن أرافقه - بقراءته- في الاتجاه إليه. فقصة "عهد جديد" مثلاً تمثل خصائص قصاصنا الشاب وأولاها نظرته الإنسانية. فقد نقد الأب وصّور حماقته نقداً وتصويراً بالغين في الروعة ولكنه ما تخلى عن العطف عليه كإنسان مسكين ضل سواء السبيل ثم اهتدى أو هدي إليه. وثانية الخصائص دقة الرسم مع تجنب الفضول. فقد عرّفنا بكل شخصية من الشخصيات حتى لكأنهم من معارفنا الأقدمين وحتى لأحسبني إذا ذهبت إلى "الحلة" سأبحث فيها عن منزل ذلك القصاب وأسأله عن أفراد أسرته لأطمئن إلى حالهم جميعاً.. قاطع الباحث الأديب الشيخ يهتف بإعجاب: الله.. الله! فواصل الأديب الشيخ قراءته: (وشاكر يفيض في الحديث عن أشياء كثيرة فلا تملّ. إنك تشعر بأنك في طريق القصة لم يعّرض بك إلى هنا أو هناك. وفي خلال هذا الحديث تتجسم لك أصالة الكاتب في تصوير البيئة وفي إجراء الكلام على ألسنة الأشخاص بما يناسب حالهم. فالجزّار مثلاً يشبّه زوجته بـ "السلخة" أو "المعزى"، وأبنه بالخروف وأبناء هذه الأيام بالجاموس الهائج. وثالثة الخصائص التي ألمحها في قصص شاكر خصباك هي النقد الاجتماعي. فليست واقعيته من قبيل "التصوير الفوتوغرافي" وإنما هو ينظر إلى ما وراء الظواهر لينفذ إلى الحقائق ويلقي الضوء على ما يعترضه من ظواهر الحياة الإنسانية. وفي كثير من قصصه أهداف بعيدة كقصة "الأغلال" التي تعالج قضية حب بين صعلوك وإحدى طالبات المدارس، وتصور الفارق الاجتماعي بينهما عائقاً ظالماً.. أليس للصعلوك قلباً كغيره من الناس؟ وأنت بعد ذلك تحس روح القصاص العذبة وظلّه الخفيف وطلاوته التي تأسرك وتشوقك إلى النهاية على رغم ابتعاده عن الأغراب وافتعال المفاجآت 0 وأحب أن أهنيء عالم الأدب العربي الحديث بهذا الشاب الذي يرجى أن يكون فيه من أعلام القصة المبرزين). واسمع هذه الفقرة من مقال مطول كتبه محمد إبراهيم دكروب في مجلة "الأديب" اللبنانية بعددها التاسع من السنة العاشرة شهر سبتمبر 1951: (وبعد أن انتهت من هذه المجموعة ألقيت نظرة على الشخصيات التي تضطرب وتتصارع فلمحت شاكر خصباك يعمل وينتج ويجرب ليسير مع يوسف الشاروني والدكتور العجيلي وعبد الملك نوري ومحمد عيتاني وغيرهم من شبابنا الذين يعّبرون عن أجواء هذا العصر وعن "أيام الرعب" التي نمّر بها في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ تطورنا العنيف.. وعندما غادرت الدكان وسرت بين الأجساد التي تزدحم بها السوق شعرت بأني أسير بين أبطال الشاروني والعجيلي ونوري وخصباك بعد أن تركوا إطار قصصهم في مجلتنا "الأديب" وخرجوا ليسيروا معهم في زحمة الحياة).
واسمع هذه الفقرة من مقال كتبه أحمد بهاء الدين في مجلة "الفصول المصرية" العدد 89 بتاريخ فبراير 1952: (لاشك أن كل المثقفين العراقيين يعرفون الكثير عن القصة المصرية القصيرة، على حين أننا نجد أن المثقفين المصريين لا يكادون يعرفون شيئاً عن القصة العراقية القصيرة، وذلك للنقص البادي في التبادل الثقافي بين مصر والبلاد العربية. على أن الأستاذ شاكر خصباك قد أتاح بهذه المجموعة القصصية للمثقفين المصريين أن يقرؤوا نموذجاً ممتازاً للقصة العراقية. فالأستاذ شاكر من كتّاب الطليعة في العراق. وقد أقام في مصر زمناً ليس بالقصير أخرج لنا فيها مجموعتين كانت مجموعة "عهد جديد" هي الثانية بينهما. وأول ملاحظة تلفت نظر القارئ الشبه الشديد بين الحياتين المصرية والعراقية. فالشخصيات التي تقدمها لنا هذه المجموعة والملامح والجو مما يمكن أن يجده القارئ المصري مألوفاً لديه في الريف والمدينة على حدّ السواء. فقصة "أعوام الرعب" مثلاً يرى القارئ المصري مثيلا لها في جو المظاهرات والكفاح السياسي الذي نعيش فيه هذه الأيام. وشخصية "عبد علي" في قصة "صديقي عبد علي" عرفنا أشباهها في الحرب الأخيرة. وفي قصة "عهد جديد" ترى ذلك الجو وتلك العلاقات التي نعرفها في كثير من البيوت الشعبية في مصر. ولم تمر حياة الكاتب في مصر بغير تسجيل، فتراه يثبت تلك الفترة في قصتين منهما تلك القصة الإنسانية الرائعة "الدخيل"). وختم الأستاذ عبد الرضا صادق مقاله الطويل عن الكتاب الذي نشره في مجلة "الألواح" اللبنانية بعددها 19-20 بتاريخ 15 تموز 1951 بقوله: (وبعد فمجموعة "عهد جديد" عمل قصصي ناجح وأرجو أن يستقبلها الشباب العراقي خاصة بما تستحقه من التقدير والإعجاب ذلك أنها تمثل مرحلة تطويرية هامة في القصة العراقية الحديثة). واسمع هذه الفقرات من مقال كتبه سليم عبد الجبار في مجلة "الرسالة" المصرية بعددها 928 بتاريخ 31 مارس 1952: (على الرغم من أن الأستاذ شاكر خصباك لا يزال في مطلع حياته الأدبية فالقارئ المتمرس يدرك أثناء قراءته لمجموعة "عهد جديد" أن الأستاذ شاكر خصباك أشرف على الطريق القويم في كتابة القصة الفنية. فالشخصيات التي تترادف في هذا الكتاب تتخذ مادتها من الحياة الواقعية المألوفة، ومن الطبقة الوسطى على الأخص، ولكننا نلمس أثناء قراءتنا أن تلك الشخصيات ليست بالشخصيات التي تتراءى لكل عابر سبيل يرمقها بعينيه فلا يتجاوز بنظراته هذه الأجسام المادية المحدودة الصور، بل نراها أثناء حركاتها وسكناتها وأثناء هدوئها واضطرابها تتجاوز هذه الحدود لتكشف لنا ما وراءها وما وراء هذه الأجسام من نفوس أنانية متغايرة متشابكة تتجه كل منها في سبيلها الذي أريد لها، أو على الأصح نحو سبيل اختارته لها طبيعة نفسيتها وما ابتغته تلك الطبيعة من انبثاقات خاصة. ونظرة موحدة إلى أسلوب الأستاذ شاكر تعطينا ما نريد. فقد سار بطريق عرض موحد إذ ألقى في كافة الأقاصيص مهمة "العرض" إلى أبطال الأقاصيص نفسها. وهذه الطريقة لها ميزتها الخاصة وموفقة في التحليل النفسي. إذ توهم القارئ أن "البطل" المتكلم قريباً منه وكأنه يسر إليه خاصة همومه. وجمل الأستاذ شاكر واضحة العبارة مألوفة المفردات فلا التواء في التعبير ولا تعقيد في المعنى.. ومحاولة الأستاذ شاكر في تفصيح العبارات العامية العراقية وإدخالها في أقاصيصه محاولة بارزة ناجحة الإيماء إذ خلعت على الأقاصيص جواً واقعياً نابضا وأنها لتنعش أدبنا المتكاسل وتزيده كمالا. وأخيراً فإن مجموعة "عهد جديد" تمثل مرحلة انتقال في القصة العراقية، فللمؤلف شكرنا). وكتب القصاص عبد الله نيازي مقالاً مسهياً عن الكتاب في جريدة "الوميض" البغدادية بعددها المرقم 12 والمؤرخ في 14/8م1951 ومما قال فيه: (أحسب انك الآن تود أن نبدأ حديثنا عن شاكر خصباك. ولا أكتمك أن الحديث عن قصصه عذب، والنفس حين تألف نفساً ثانية وتركن إليها لا تجد حرجاً في الإفاضة بالحديث عنها.
فالأستاذ شاكر خصباك فنان مطبوع يعرف كيف يستحوذ على النفوس ويسيطر على العقول. لقد شعرت وأنا اقرأ قصصه أنني عثرت على صديق يعتز به. وعبثاً حاولت فيما بعد أن أبعد عن فكري صورة من صوره العديدة الرائعة. إن المصور الحق هو ذلك الذي يبعد بخيالك ويوهمك أن الصورة التي تراها هي جزء من الطبيعة حتى إذا ما دقّقت النظر فيها أجفلتك الصنعة وحيّرتك الدقة فتهز رأسك قائلاً: "ما كنت أحسب أن الذي أراه صورة لونّتها يد". وخصباك حين يمسك بالفرشاة لينقل عن الطبيعة لا يترك صغيرة أو كبيرة دون أن يوليها عنايته فيكسب ألوانه بمهارة رائعة ويضع عليها الظلال بدقة فائقة ثم يخرج من هذا كله بصورة ناطقة عن الطبيعة توشك أن تقف أمامك لتقول: "أنا الطبيعة".. وبعد فلا يسعني إلاّ أن أهنئ شاكر خصباك تهنئة حارة وإن كنت في الواقع أطمع منه بشيء أكبر. ومن يدري؟ فلعله يفاجئنا في الغد القريب بإنتاج يعلو بمستوى القصة العراقية). وكتب فؤاد طرزي مقالاً في جريدة "الاتحاد الدستوري" العراقية في العدد 397 بتاريخ 31/7/1951 ومما قال فيه: (عاد صديقنا الأستاذ شاكر خصباك من القاهرة بعد أن أكمل دراسته في جامعة فؤاد الأول ومعه إنتاج جديد هو مجموعة من القصص أسماها "عهد جديد". وعلى الرغم من كثرة الشواغل وازدحام الحياة فقد اقتنصت من الفرص ما استطعت خلالها أن أقرأ "المجموعة" وأن أتابع القراءة بشغف ولذة. ولا أقول هذا مبالغاً أو مسرفاً في القول بل أقوله بحماسة وباعتزاز وفخر. فليس هناك ما يثلج النفس اكثر من أن أرى صديقاً رافقته في تطور حياته الأدبية فطالعت غثّه وسمينه وسرت مع أسلوبه في اتجاه نضوجه. وزاملت شغفه واتجاهه الأدبيين يبلغ في إنتاجه الأدبي هذا الشأو الذي يشير إلى أنه يقطع المراحل بجد نشاط ويتقدم بقوة ونمو. ومجموعة القصص التي بين أيدينا حبكت قصصها بأسلوب أدبي سلس عذب وقدمت في إطار موفق. وتمثل هذه القصص الاتجاه الواقعي تمثيلاً صادقاً صريحا. فالأستاذ خصباك لم يتعجل ولم يتكلف أو يزخرف بل أنه يقدم صوره وآراءه ومناظره من الحياة ومن مضطرب شؤونها. وذهب اكثر من ذلك فرسم البيئة التي عاش فيها والشخوص التي تغدو وتروح في هذه البيئة بدقة كاملة). وكتب الأستاذ عبد الحميد الدجيلي مقالاً نشره في جريدة "اليقظة" العراقية بعددها 1188 بتاريخ 3/8/1951 وألقاه من محطة الإذاعة العراقية ومما قال فيه: (وكتاب "عهد جديد" مجموعة قصص اجتماعية وسياسية كتبها أديب عراقي ذو دراسة عراقية مصرية لذلك جاءت قصصه خليطاً من تحليل أوضاع عراقية مصرية، عالجت كثيراً من نواحي الحياة في العراق وفي مصر وحللت كثيراً من الأوضاع السائدة التي يعاني ويلاتها ومشقاتها الشباب الواعي في البلدين. فقصص "أعوام الرعب" و "صديقي عبد علي" و "عهد جديد" ونحوها مما شرح فيها من أوضاع العراق من أطرف القصص وأبدعها وأعمقها تحليلاً وتدقيقاً. أما الأقاصيص المتعلقة بمصر فمن أجمل القصص وأسهلها أسلوباً. وتكاد الحوادث التي يتعرض لها الكاتب عن مصر هي التي تتكرر بين الشباب العراقي. والكتاب إضافة إلى ذلك جيد العرض متلازم الحوادث متماسك الحلقات. وكثيراً ما يحدثك الكاتب بحوادث شتى وعقد متنوعة ولكن القصة كلها محبوكة الأطراف ذات هدف إصلاحي وسياسي واحد لا تكاد تأتي على أولها حتى تندفع لقراءتها كلها لأن الكاتب يستطيع أن يصل إلى أعماق نفس القارئ ويستمد تأثيره من تجاربه ووجدانياته). وكتب الأستاذ عبد الهادي محبوبة مقالاً عن الكتاب في جريدة (الاتحاد الدستوري) العراقية في العدد 413 بتاريخ 19/8/1951 ومما قال فيه: (لعل مؤلف هذه المجموعة التي بين أيدينا خير من راعى شرائط القصة ولاحظ أصولها الأولية. فقد رافقته الجودة في دقة الوصف وتحليل الخوالج النفسية لأبطال قصصه والبراعة في ابتكار الحوادث مع صدقها وانطباقها على مواقع الحياة والإبداع في مراعاة الحركة والنشاط في كل صورة حتى ليخيل إليك وأنت تقرأ كأنك أمام شريط يعرض عليك الحوادث عرضاً مادياً حياً وينتقل بك إلى حيث يتحدث عنهم فيتمثل إليك واحداً منهم تسمعهم وتجلس إلى جنبهم في البيت والشارع وفي كل مكان. وقد أطلق المؤلف على مجموعة أقاصيصه هذه اسم "عهد جديد" وهو اسم القصة الأولى منها. وليست هذه المجموعة بأولى إنتاج الكاتب شاكر خصباك فقد نشر من قبل مجموعة أقاصيص عراقية باسم "صراع" وهو في دور التلمذة في مصر أيضاً ونالت رضىً وإقبالاً من هواة القصة ودعاة المذهب الواقعي. وإن من يقرأ القصة الأولى "عهد جديد" لا يهون عليه أن ينتهي منها. إن مجموعة "عهد جديد" تبشّر بعهد جديد للقصة في العراق. وإن هذه بدايته. والبداية دائماً محفوفة بالعقبات والمصاعب فإن تغّلب عليها له شرف التمهيد لغيره من الكتاب). ورفع الأديب الشيخ رأسه أخيراً عن "الملف" بين يديه وقال: هاأنت ذا لمست يا صديقي حرارة الاستقبال الذي لقيته مجموعة "عهد جديد" من النقاد. فهتف الباحث بحماس: وهو استقبال رائع حقاً. وسأنتفع من الملاحظات التي وردت في تلك المقالات في بحثي. وصمت الباحث لحظة ثم أضاف متسائلاً: ولكن هل يمكن اعتبار هذه "المجموعة" نهاية المطاف في حياتك الأدبية في القاهرة يا سيدي؟ أجاب الأديب الشيخ مبتسماً: أظن ذلك يا صديقي. فقد عدت بعدها إلى العراق وعينت مدرساً للجغرافية في مدارسها المتوسطة.. في متوسطة الغربّية أولا عام 1951 ثم في متوسطة المنصور فيما بين عام 1952 و1954. وكان من ضمن زملائي في هذه المدرسة الشاعر عبد الوهاب البيّاتي. قال الباحث وهو ينظر إلى الأديب الشيخ مبتسماً: وهو أمر مؤسف لأن انصرافك لتدريس الجغرافية كما يبدو حال بينك وبين ممارسة هوايتك الأصلية وهو الأدب. فلم تظهر مجموعتك القصصية الثالثة إلاّ في عام 1959، وهو العام الذي أعقب عودتك من الدراسة في إنجلترا وحصولك على الدكتوراه.. أليَس كذلك يا سيدي؟ أجاب الأديب الشيخ: لا.. ليس الأمر كذلك بالضبط يا صديقي. فقد ظللت أمارس هوايتي حتى أثناء انشغالي بتدريس الجغرافية في المدارس المتوسطة. والحقيقة أن قصص مجموعة "حياة قاسية" كتبت فيما بين عام 1952 و1954 لكن نشرها في كتاب تأخر حتى عام 1959.
سهيل ادريس وسكت الأديب الشيخ لحظة ثم عاد يقول: والحقيقة أنني لم أتخلّ عن نشاطي الأدبي في تلك الفترة أبداً. ففي أوائل عام 1952 كان سهيل إدريس قد عاد إلى بيروت من باريس يحمل شهادة الدكتوراه في الأدب. وكنت على صلة به عن طريق المراسلة منذ عام 1947. وكنت قد كتبت عن المجموعات القصصية التي أصدرها في مطلع عهده بالكتابة. وحينما سافر إلى فرنسا للدراسة العالية كتب إليّ، وكنت يومذاك طالباً في جامعة القاهرة، ينبئني بأنه عازم على نيل شهادة الدكتوراه عن القصة العربية وسألني المعونة فيما يخص القصة العراقية. وبذلت جهدي يومذاك لإمداده بما استطعت من كتب عراقية. ولما عاد من فرنسا كتب إليّ ينبئني بأنه عازم على تأسيس دار للنشر وإصدار مجلة أدبية وطلب مني التعاون معه وأن أكون ممثلاً للمجلة في العراق. ثم صدر العدد الأول من مجلة "الآداب" في مطلع عام 1952 وكان اسمي ضمن لجنة التحرير الشرفية، كما اشتمل العدد الأول على قصة لي بعنوان "الكسيح". ولكن يمكن القول أنه فيما بين عام 1954 و 1958 احتجبت عن عالم الأدب لأنني أمضيت السنوات الأربع في بريطانيا لنيل شهادة الدكتوراه في الجغرافية. وبالفعل نلت شهادة الدكتوراه في حزيران عام 1958 وعدت إلى العراق وعينت في جامعة بغداد لتدريس الجغرافية. الدكتوراه في الجغرافية وأمور أخرى قال الباحث وهو يبتسم: ولكن اسمح لي يا سيدي أن أسألك مرة أخرى سؤالاً شخصياً يشاركني فيه الكثيرون من قرائك. فلقد ذكرت لي حينما سألتك عن سبب اختيارك للجغرافية لدى حصولك على الشهادة الجامعية بأن وزارة المعارف يومذاك هي التي كانت مسؤولة عن هذا الاختيار. فهل تكرر معك نفس الأمر في دراستك للدكتوراه؟ صمت الأديب الشيخ طويلاً وهو يطلق نظراته في الفضاء وعلى شفتيه بسمة خفيفة ثم قال: لذلك حكاية طويلة يا صديقي لكنني سأحكيها لك الآن لأنها قد تكون نافعة لك في بحثك. قال الباحث متحمساً: بالتأكيد إنها ستكون مهمة بالنسبة لبحثي. وسكت الأديب الشيخ متأملاً ثم عاد يقول: لا أكتمك أنني كنت أفكر في إكمال دراستي ونيل شهادة الدكتوراه، لكنني لم أكن أفكر في الجغرافية بل كنت أفكر في الأدب. وخطر لي في وقت من الأوقات أن أنال الماجستير بدراسة عن نجيب محفوظ. لكن الفرصة لم تتح لي تحقيق أمنيتي إذ شغلتني الحياة العائلية. فقد تزوجت في أواسط عام 1952 من زميلة لي في متوسطة الغربية بعد تجربة عاطفية، فظللت أنتظر الفرصة المناسبة لمواصلة دراستي.
واتصل بي ذات يوم في أواسط عام 1953 شخص لم أكن قد سمعت باسمه من قبل هو المرحوم الدكتور صلاح خالص. وكان قد عاد من باريس قبل شهور قليلة وهو يحمل الدكتوراه في الأدب العربي. وذكر لي أنه وجماعة من المثقفين عازمين على إصدار مجلة ثقافية وأنه قد وقع الاختيار عليّ لأكون محررها الأدبي . فرحبت باقتراحه وبدأت العمل معه في التهيئة لإصدار المجلة. وقد صدرت المجلة فيما بعد باسم "الثقافة الجديدة" في أواخر عام 1953. وكنت أحسب أنها مجلة ثقافية مستقلة. ولكن ظهر لي فيما بعد أنها واجهة للحزب الشيوعي السري، وربما كانت السلطة تعلم بذلك لكنها لم تكن تملك دليلاً عليه. لذلك ما أن صدر العدد الأول منها حتى عمدت إلى إغلاقها. لكن القائمين على المجلة لم يلقوا أسلحتهم وراحوا يفتشون عن امتياز جديد، وحصلوا عليه فعلاً. وتولى هذه المرة محام جريء معروف اسمه عبد الرزاق الشيخلي مهمة المدير المسؤول للمجلة. وكان في الوقت نفسه عضواً في المجلس النيابي. وصدر العدد الجديد بعنوان "الثقافة الحديثة". وما كاد يظهر العدد حتى سارعت السلطة إلى سحب الامتياز ثانية. وفكر القائمون على المجلة بطريقة أخرى يواصلون بها نشاطهم. وكان مجلس السلم العالمي قد طلب يومذاك من محبي الكاتب الروسي أنطون تشيخوف أن يحتفلوا بمرور خمسين عاماً على وفاته. فاقترحت عليهم أن أتولى إخراج كتاب عن تشيخوف فوافقوا فقمت بترجمة عدد من مشاهير قصصه ومسرحياته القصار. وصدر الكتاب في مطلع عام 1954. وكان من أوائل الكتب التي صدرت في اللغة العربية يومذاك عن انطون تشيخوف ولم يسبقني إلاّ نجاتي صدقي في كتابه الصغير عن تشيخوف الذي أصدرته سلسلة "أقرأ". واستشاطت السلطة غضبا وأخذت تعد العدة للانتقام من المشرفين على مجلة "الثقافة الجديدة". وتسربت إلىّ أخبار الحملة المتوقعة، ففكرت بطريقة للإفلات منها وذلك بالسفر إلى إنجلترا بحجة الدراسة. واستطعت بالفعل أن أفلت من قبضة السلطات قبل أن تصدر أوامر التوقيف. وقد صدرت هذه الأوامر بعد سفري بقليل واعتقل معظم المحررين في المجلة وعلى رأسهم صلاح خالص وصفاء الحافظ وإبراهيم كبّة وفيصل السامر وعبد الوهاب البيّاتي. ثم سيقوا فيما بعد إلى معسكر للجيش في خان بني سعد قريباً من بغداد للتدريب على الخدمة العسكرية. وكان لابد لي عند وصولي إلى إنجلترا من أن أسجل للدكتوراه في حقل الجغرافية وهو اختصاصي. وهكذا ترى أنني اضطررت ثانية إلى مواصلة الدراسة العالية في الجغرافية شئت أم أبيت. ولقد بذلت جهوداً عظيمة في الدراسة وعشت حياة جادّة وانصرفت انصرافاّ كلّياً للعلم الجغرافي في فترة إعدادي لرسالة الدكتوراه فيما بين عام 1954 و 1958. لكن عملي العلمي لم يصرفني عن هوايتي في مشاهدة المسرح التي تمسكت بها طوال إقامتي في إنجلترا. ولقد أثمرت جهودي الدراسية فحظيت أطروحتي بتقدير عالٍ من قبل المسؤولين في الجامعة. فقد بعثَ إليّ رئيس قسم الجغرافية يومذاك في جامعة ردينك البروفسور المشهور عالميا أوستن ميلر A. Miller رسالة قال فيها: "إن أطروحتك يا دكتور شاكر هي فخر CREDIT لك ولجامعتنا". وفي حفلة توزيع الشهادات كنت من بين ثلاثة من الخريجين، وكانوا حوالي المائة، الذين رفع لهم رئيس الجامعة البروفسور السير وولفندون قبعته وهو يناولهم الشهادة. قال الباحث مبتسماً: هذا أمر متوقع. ولكن اسمح لي يا سيدي أن أسألك سؤالاً شخصياً آخر يتعلق بموضوع دراستك للدكتوراه. فالمعروف أنك اختصصت بموضوع "الأكراد" وكتبت في هذا الموضوع كتباً قيمة حتى أن الدارسين يظنوك كردياً. فهل في الإمكان معرفة البواعث وراء اختيارك لهذا الموضوع؟
أنا والأكراد قال الأديب الشيخ وقد لاحت على وجهه بسمة خفيفة: إن لاختياري لهذا الموضوع حكاية طريفة. وابتداءاً أقول لك أنني لم أكن أعرف الشيء الكثير عن الأكراد، شأني شأن أي مواطن عراقي أخر. وهذا ولا شك نقص كبير. فالأكراد يكونّون حوالي ربع سكان البلاد أو أقل قليلا. ويقع التقصير في ذلك على عاتق المسؤولين عن التعليم. فقد كان ينبغي أن تقدم للتلاميذ في المدارس العربية المعلومات الكافية عن الأكراد. ولعلك تعلم أن بعض العرب، من غير المتعلمين طبعاً، لا يعلمون بأن الأكراد يتكلمون لغة تختلف كلياً عن اللغة العربية، وربما تصوروا أن لغتهم هي لهجة أخرى من اللهجات التي تنتشر في العراق مثل اللهجة البغدادية واللهجة الموصلية واللهجة البصراوية واللهجة التكريتية... الخ. وكنت أعلم بالطبع أن الأكراد قد قاسوا من المظالم والكوارث منذ بدء الحكم الوطني في العراق، أي منذ أوائل العشرينات، وأنا بطبعي مع المظلومين حتى يرفع عنهم الظلم. وكانوا يقومون بثورات متكررة من أجل نيل حقوقهم وتحقيق ذاتيتهم. فكانت تجّيش لهم الجيوش وترسل الطائرات إلى قراهم لقصفها بالقنابل. ومنذ طفولتي وأنا أسمع بما يسمى (الحركات في الشمال) والتي يقصد بها الحركات العسكرية التي تقوم لقمع الثورات الكردية. ولكن أيّ واحد منا نحن المواطنين العرب لم يحاول استجلاء الحقائق عن الأكراد والتعرف عن كثب على مظالمهم ومشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهو تقصير لا شك فيه. وأنت تعلم بالطبع أن هذا التقصير لم يكن متعمداً كما لم يكن مرده إلى استصغار شأن الأكراد. فالعراقيون العرب لم ينظروا إلى الأكراد يوماً نظرة دونية، وذلك لأن الجنسين تمازجا على أرض العراق منذ أمد طويل ولا مجال هناك للتمييز بينهما. وهذا ما دعا العرب لأن يفكروا بأن المواطنين الأكراد لا يختلفون عنهم في أي شيء. أما المتاعب التي يكابدونها فهي جزء من المتاعب التي يكابدها المواطنون العرب بسبب الحكم الفاسد المتجبر وإن اختلفت طبيعتها. وهكذا كنت أعتقد أن المواطنين الأكراد يكابدون ظلماً مضاعفا. وعند صدور مجلة "الثقافة الجديدة" نشرت في العدد الأول منها قصة بعنوان "آمنة" صورت فيها البؤس الذي يحيق بالأكراد. ولدهشتي الشديدة تلقت المجلة عددا من الرسائل من القراء تحتج على القصة وتعتبر ما ورد فيها إساءة إلى الأكراد وتاريخهم المجيد. وقد لفتت نظري تلك الرسائل إلى حقيقة كانت غائبة عن ذهني وهي أننا نحن العرب لا نكاد نعرف شيئاً عن الأكراد وعن تاريخهم. وآليت على نفسي أن أتلافى هذا النقص في أول فرصة مناسبة. ولم تمض أشهر على هذه الحادثة حتى اضطررت إلى السفر إلى إنجلترا كما أوضحت، وانتهزت الفرصة لمواصلة الدراسة العالية في جامعاتها. فتذكرت قراري عن الأكراد ووجدت الفرصة مناسبة للإطلاع على كل ما كتب عن الأكراد في اللغة العربية وفي اللغات الأخرى. ثم أكملت معلوماتي بالقيام بدراسة ميدانية واسعة في كل مناطق كردستان العراق كما تتطلب الدراسة. قال الباحث مبتسماً: وهكذا أصبحت يا سيدي أول عربي يكتب عن الأكراد وقضيتهم بتلك الشمولية والمعرفة العلمية والحماس حتى قال عنك البعض أنك خدمت الأكراد في كتاباتك العلمية أكثر مما خدمت العرب. بل إن هناك من يقول إن جانباً كبيراً من الأذى الذي أصابك هو بسبب موقفك من الأكراد. قال الأديب الشيخ في شيء من الإباء: وهذا أمر يشرفني 0 ويجب أن أقول لك أولا يا صديقي أن الأكراد هم مواطنون عراقيون وشأنهم عندي شأن العرب 0 وأنا أعتبر نفسي مجندا لخدمة بلدي في حقل اختصاصي 0 وثانيا لابد لي أن أذكّرك بأنني من أبرز الجغرافيين العرب الذين خدموا التراث الجغرافي العربي ولا فخر . فكتبي العديدة مثل "في الجغرافية العربية" و "الجغرافية عند العرب" و ابن بطوطة ورحلته" و "كتابات مضيئة في التراث الجغرافي العربي" دليلاً على ذلك. وأما دراستي عن الأكراد وأرضهم فما هي سوى دراسات عن العراق. فكتابيّ الكبيرين "الأكراد –دراسة جغرافية أثنوغرافية" و "العراق الشمالي، دراسة لنواحيه الطبيعية والاقتصادية والبشرية" هما دراستان للعراق قبل كل شيء. وبالتالي فلا مجال هناك لمثل هذا القول المغرض. أما كتابي "الكرد والمسألة الكردية" والذي صدر عام 1959 فكان محاولة مني لحلّ المشكلة الكردية المعقدة والطويلة الأمد حلاً ديمقراطياً سلمياً بدلاً من التضحية بالألوف من أبناء العراق عرباً وكرداً وهدر البلايين من الدنانير على الحروب والتدمير. وكان كتابي هذا كما تعلم أول كتاب يدعو إلى منح الحكم الذاتي للأكراد باعتباره الإجراء العملي الوحيد لحل المشكلة الكردية. وقد منع من التداول بعد صدوره بأسبوع. ويسرني أن أكون أول مفكر عراقي تبنى هذا الحل، ولم يكن قد تبنّاه أحد قبلي. فالحزب الديمقراطي الكردستاني تبناه رسمّيا عام 1960، ثم تبناه بعده الحزب الشيوعي في عام1961. وإنني لأفخر بهذا الإنجاز كل الفخر وأعده إسهاما مشرفا مني لخدمة بلدي. فهذا الكتلب كان يهدف إلى خدمة الأكراد والعرب على حدّ سوا ء0 فكلاهما كان يعاني من الأخطاء المتكررة في علاج المشكلة الكردية0 وأحب أن أوضح هنا أيضا أنني كنت أعتقد ولا أزال أن حل المشكلة الكردية العراقية في الظروف الدولية القائمة هي في الحكم الذاتي وليس في الإنفصال وتكوين دولة مستقلة ، لأن مثل هذه الدولة لن تتوفر لها شروط الحياة السليمة0أما ما يستجد في المستقبل من ظروف دولية تتيح للأكراد بأجمعهم حق تقرير المصير شأنهم شأن أي شعب آخر فهذا أمر يكمن في ضمير الغيب 0 وحينئذ لن يكون العرب بالتأكيد هم
الذين يقفون ضد مطامح الأكراد المشروعة 0 وهكذا ترى أنه لا 0يمكن أن يتهم شخص عربي مثلي بالتحّيز للأكراد فلست ممن يفرط بمصلحة بلده العليا. لكن قعقعة السلاح هي التي تسود وليس صوت العلم والعقل.فلم أُسأل يوماً من قبل السلطة عن رأيي في المشكلة الكردية مع أنني مختص بها علميّا. وقد ثبتت صحة رأيي فيما بعد إذ اعترف للأكراد رسمياً بحق الحكم الذاتي في عام 1974. وكم كان من الأفضل لو اعترُف لهم بهذا الحق في حينه لتلافينا الكثير من المآسي وهدر الأموال والأرواح، ولما تعقدت المسألة هذا التعقيد الشديد 0 ومع ذلك فلم يطبق هذا الاعتراف تطبيقاً حقيقياً. وأنت تعلم أن دعوتي جاءت يومذاك في وقت مناسب جداً لتناسي مآسي وأخطاء العهود الماضية وهو انتقال البلاد من الحكم الملكي البائد بأخطائه الكثيرة إلى عهد جمهوري جديد في ثورة تموز لعام 1958. وقد استبشر المواطنون جميعا بهذا العهد الجديد وخيل إليهم أنهم سيبدؤون به عهداً زاهراً يحقق لهم آمالهم في حياة حرة كريمة. ولكن آمالهم خابت مع الآسف وإذا بالأخطاء تتكرر، وبالطغيان يتجدد، وبالمآسي تتوالى. وشاع الحقد والفرقة والانتهازية بين فئات المواطنين على اختلافهم بشكل لم تشهد له البلاد في تاريخها مثيلاً. وارتكبت أحداث بشعة ساهم فيها المواطنون من مختلف الاتجاهات ضد بعضهم بعضا. وضاعت على المواطنين فرصة ذهبية في تحقيق الوئام والمحبة والرخاء بينهم. وأنا أحمّل المسؤولية في ذلك العاملين في ميدان السياسة الذين يعوزهم النضج ويندر بينهم من يغلّب المصلحة العامة على مصلحته الخاصة. قال الباحث مترفقاً: لا يشكّ أي أحد من المخلصين يا سيدي في أنك خدمت بكتبك العلمية العرب والأكراد على حد السواء، هذا فضلاً عن خدمتك لعلم الجغرافية في مؤلفاتك ومترجماتك العديدة في هذا الميدان. وما عرضته من رأي مرفوض رفضاً قاطعاً من الجميع. وسكت الباحث لحظات ثم أضاف وهو يبتسم: على كل حال أنا آسف إذ خرجت بك عن موضوعنا الأصلي يا سيدي. واسمح لي أن نعود إليه فأسألك عن نشاطاتك الأدبية خلال عامي 1953-1954 أي قبل سفرك إلى إنجلترا للدراسة العالية وعن الأدباء العراقيين الذين كنت على صلة بهم يومذاك. قال الأديب الشيخ متأملاً وهو يستذكر الماضي: الحقيقة أنني لم أكن في هذه الفترة بالذات كثير الاتصال بالأدباء لسببين: الأول ناجم عن وضعي الاجتماعي الجديد حيث كنت قد تزوجت. والثاني ناجم عن انهماكي في القراءة بحيث لم أكن أجد وقتاً كافياً لمثل هذه الصلات0 لكنني مع ذلك كنت ألتقي بين حين وآخر ببعض أصدقائي من الأدباء القدماء. وفيما عدا فؤاد التكرلي وعبد الملك نوري لم أعقد صداقات مع القصاصين الجدد الذين ظهروا على الساحة الأدبية.
فؤاد التكرلي فأما فؤاد التكرلي فلم تتصل بيننا صداقة قوية واقتصرت على المعرفة السطحية والمجاملات العامة، وإن كنا نجتمع بين حين وآخر. وكان يثير إعجابي باطلاعه الواسع على الأدب الغربي. وكان شديد التأنق في أدبه، وقد انسحب ذلك على ملبسه وطراز حياته، فضلاً عن وجهه الأنيق بعينيه الخضرواين وشعره الأسود اللامع. وكان أقرب الأدباء إليه هو عبد الملك نوري الذي كان صديقاً شخصياً له. والحقيقة أنهما سارا معاً في رسم طريق جديد للقصة العراقية يخرج على الأسلوب التقليدي. وكان كل منهما ينطلق من قاعدة راسخة ومعرفة واسعة بالقصة الغربية. وكان فؤاد التكرلي شأنه شأن عبد الملك نوري متأثراً بالاتجاهات الحديثة في القصة الغربية بما فيها المنلوج الداخلي وتيار اللاوعي كما يعكسه أدب جيمس جويس وفرجينيا وولف وويليام فولكنر. لكنه كان متأثراً أيضاً بأدب دوستويفسكي وخصوصاً في بدء ممارسته للكتابة القصصية. لذلك عكست قصصه المبكرة هذا الشدّ بين الاتجاهين. وبما أنه كان متأنيّا بطبعه، لذلك لم يطلع على القارئ العراقي إلاّ بقصص ناضجة كما انعكست في باكورة مؤلفاته "الوجه الأخر". وبسبب هذا التأني لم ينشر التكرلي سوى كتب قليلة جدا لا تتجاوز ثلاثة أو أربعة كتب بينها رواية طويلة واحدة هي "الرجع البعيد" التي كتبها على ما يبدو خلال عشرين عاما. ولم يخرج عن خطته المتأنية هذه إلاّ مؤخرا، ففي السنوات الأخيرة أصدر عدة روايات مرموقة.
عبد الملك نوري أما عبد الملك نوري فقد عرفته معرفة أوثق نوعما. وكان قد أصدر مجموعة قصصية في أواسط الأربعينات بعنوان "رسل الإنسانية" لكنها لم تكشف عن موهبته اللاحقة ولا عن اتجاهاته الطليعية في القصة العراقية. وقد عني في تلك المجموعة بالنواحي الاجتماعية أكثر من عنايته بالجوانب الفنية. لكنه قفز قفزته النوعية حينما نشر على صفحات مجلة "الأديب" اللبنانية قصته المعروفة "فطومة" وكانت أول الغيث في اتجاهه الجديد. فقد ثار ثورة عارمة على الأسلوب التقليدي في القصة القصيرة. وربما وقع تحت سلطان فيرجينيا وولف وجيمس جويس وكافكا. والحقيقة أنه كان مسؤولاً بدرجة كبيرة عن تعميق الاتجاه الجديد في القصة العراقية، وارتفع بمستواها الفني ارتفاعاً ملحوظاً وخصوصاً حينما نشر قصصه المتوالية في مجلة "الأديب" من أمثال "ريح الجنوب" و "الفتاة والجردي والربيع" و "عبود" و "نشيد الأرض". وفيما بعد نشرت له مجلة "الثقافة الجديدة" مجموعته المعروفة "نشيد الأرض" في عام 1954. وكنت أجتمع به في مقهاه المفضلة "المقهى البرازيلي" بين الحين والحين. وكان يجلس كل عصر أمام واجهتها بجسمه الصغير ووجهه الوديع يراقب الرائحين والغادين ، وقد يجتمع حوله بعض المريدين. لكنه كان يزورني أيضاً في بيتي زيارات متباعدة 0 وقد أثمرت إحدى تلك الزيارات مقالة كتبها عني يومذاك ونشرها في مجلة "القلم الجديد" الأردنية وفي جريدة "الساعة العراقية" بعددها المرقم 24 والمؤرخ 2/4/1953. وسأتلوها عليك الآن لما تضمه من معلومات شخصية عني قد تنفعك في بحثك وما تكشفه من طلاوة في أسلوب عبد الملك الجذاب. قال الباحث بحماس: أكون شاكراً لك ذلك يا سيدي. وقلبّ الأديب الشيخ "الملف" بين يديه ثم توقف وأخذ يتلو متأنيا: (بساطة في العيش.. بساطة في الهندام.. بساطة في النفس... بساطة في كل شيء. ترتاح إلى حديثه الحنون المتواضع، وتحس بالقرب منه جواً من المودة والإخاء يتغلغل في نفسك شيئاً فشيئاً مرتفعاً فوق الجدران التي تقيمها الحياة الاجتماعية المعقدة.. تلك الجدران التي غالباً ما تمنع تماس الأرواح وتصاحب النفوس التي يجب أن تأتلف. يجلس أمامك بمباذله البيتية في غير تكلف في مكتبه الصغير، غرفة الضيوف –وراءه مجموعة من أسفار الأدباء العالميين وحوله بعض الأثاث البسيط بألوانه الحارة. وقد تجد بعض الكتب والأوراق ملقاة هنا وهناك. وتصغي إلى الراديو يرسل موسيقى هادئة من أحد الأركان بينما تحضر زوجته استكانات (أقداح) الشاي وتجلس في المكتب متمتعة بدفء الحديث. عندئذ يغمرك ذلك الجو العائلي البسيط وتحس أن البيت إطار حياته الطبيعي وموضع حنانه الدافئ الذي لا يحد. وقد تمر في ذهنك ذكريات مشوبة بأشواق غامضة –منظر عائلي في إحدى مسرحيات تشيخوف.. شخصية معلم طيب القلب من رواية قديمة، أو ذلك الإحساس الشعري الدافق في أقاصيص كاترين مانسفيد.. تحس أنك في عالم صغير هادئ بعيد عن ضوضاء العالم الخارجي. تطل عليك فيه باستمرار عيناه الذكيتان المتحركتان وراء النظارة وتلك البسمة المتفتحة أبداً على شفتيه. وقد تبتسم إذ تجده أحياناً يثور ويتهم نفسه بالعجز إزاء ما صنع الآخرون من جبابرة الأدب العالمي.. تبتسم وتدرك أنه واحد منا.. في الطريق.. يعاني مثلنا مشقاته الجمة. ولكنك تدرك أيضاً أن مثل هذا الشخص لا يمكن أن يقعده اليأس عن مواصلة المسير وهو يملك كل تلك الطاقة الحيوية التي دفعته من "صراع" إلى "عهد جديد". في هذه المجموعة القصصية الأخيرة شيء من قسوة الحياة ومرارتها بينما لا توجد مثلها في نعومة حياته البيتية وفي هذا الدفء الحنون الذي ينتشر من شخصه أينما حل. ولكنك تعلم حالاً أن شاكر خصباك ليس من الكتاّب المنطوين على ذواتهم.. إن أمامه الحياة بأجمعها يستمد منها أقاصيصه وإنه ذو بصيرة. وهو ينقل إليك الواقع نقلاً مباشراً ولكنه ينقله إليك ببساطة محببة. وكثيراً ما يكون هو المتكلم في أقاصيصه الذي يعرض حلقات القصة واحدة بعد أخرى.وهو يمتاز على الآخرين الذين ينقلون الواقع نقلاً مباشراً بأنه يتعمق في مواضيعه ويكتب أقاصيص حقيقة لا مقاصات. وأخيراً يمتاز بجهاده المخلص الدائب في سبيل تحسين فنّه وتطويره. وإزاء ذلك كله لا تملك إلاّ أن تعجب بشخصه كفنان وكإنسان). رفع الأديب الشيخ رأسه أخيراً عن "الملف" فهتف الباحث متحمساً: ياله من مقال رائع يا سيدي. فابتسم الأديب الشيخ ابتسامة حزينة وقال: لا عجب فقد كتبه فنان كبير. ومن المؤسف أن تخسر القصة العراقية هذا الفنان الكبير فينقطع عن الكتابة انقطاعاً تاماً قبل وفاته بأمد بعيد. وإذا أردنا أن ننصفه فلابد أن نقول أنه رائد القصة الفنية العراقية الحديثة. تساءل الباحث في شيء من العجب: ولكن لماذا توارى عب-د الملك نوري عن الحياة الأدبية في وقت مبكر يا سيدي؟ فهو لم يكتب شيئاً تقريباً منذ أواخر الخمسينات. قال الأديب الشيخ بنبرة حزينة: الحقيقة أن حكاية عبد الملك نوري حكاية حزينة يا صديقي، ويخيل إلي أن مأساته تكمن في فشل زواجه. وكان قد تزوج بطبيبة في مطلع شبابه، ربما عن حب، لكن الخلافات قامت بينهما منذ السنة الأولى. وكانت خلافات عقائدية انسحبت فيما بعد على حياتهما اليومية. فقد كّرس عبد الملك نفسه يومذاك لخدمة عقديته اليسارية. ولا أدري أكان عضواً في الحزب الشيوعي السّري يومذاك أم لا. ولم يكن يجد وقتاً حتى للاهتمام بزوجته. ولم يكن يفكر أيضاً بالركض وراء الجاه والمال. فلم يرض ذلك زوجته المترفة، ويبدو إنها كانت تمنّي نفسها بالجاه والمال. فقد كان والد عبد الملك وزيراً سابقاً، وكان يمكن أن يتبّوأ أبنه مناصب هامة في الدولة لو هادن السلطة. واشتدت الخلافات بينهما حتى انتهت بالطلاق. وسرعان ما تزوجت زوجته طبيباً أمريكياً وهاجرت إلى أمريكا. ويبدو أن عبد الملك ظل مقيماً على حبها وربما ندم على التفريط بها، وكان ذلك بداية لإدمانه على الشراب. بل إنه فقد الاهتمام حتى بالأدب في حياته اللاحقة. وكاد الإدمان على الشراب يكلفه حياته في أواسط السبعينات لو لم أن يتنادى الأدباء للعمل على إنقاذه. لكنه ظل محتجباً عن الحياة العامة منذ أواسط الستينات. وتوارى عن الحياة الأدبية بصورة كاملة. لكنني لا أستطيع أن أعزو انقطاعه عن الكتابة للسبب العاطفي المذكور فحسب، ولابد أن هناك أسباباً أخرى. ويخيل إليّ أن طموحه إلى تحقيق مجد أدبي عال وكتابة شيء متفرد وتعثّر هذا الطموح مسؤول عن عزلته أيضاً. فمنذ أواخر الخمسينات قرر على ما يبدو إلاّ يكتب شيئاً إلاّ ويكون نظيراً لما يكتبه الأدباء العالميون. ولذلك لم يعد راض عما يكتب. وهكذا جنى عليه طموحه في الإتيان بما لم يأت به الأوائل كما قال الشاعر. قال الباحث وهو يهز رأسه: إنه لأمر مؤسف حقاً.
أنا وتشيخوف وصمت الأديب الشيخ برهة ثم قال كمن يخاطب نفسه: لقد كاد مثل هذا الطموح يقضي عليّ أنا أيضاً. فتساءل الباحث في اهتمام: وكيف ذلك يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ وهو شارد النظرات: لقد وقعت أنا يوماً أيضاً تحت هذا الهاجس. ولقد ذكرت لك قبل حين أنني انصرفت فيما بين عام 1952 و 1954 إلى القراءة المكثفة في الأدب العالمي انصرافاً شديداً، ورحت أنهل من موارده. قرأت قمم الأدب الروائي الإنجليزي والأمريكي و الإيطالي والفرنسي باللغة الإنجليزية طبعا لكنني سحرت بالأدب الكلاسيكي الروسي وعلى نحو الخصوص بأدب تشيخوف ودوستويفسكي. ولقد قرأت كل مؤلفات تولستوي ودوستويفسكي وتشخيوف وتورغنيف وغوغول وبوشكين وغوركي وبعض نتاجات الكتاّب الروس الآخرين. وكانت بغداد يومذاك تحظى بثلاث مكتبات تبيع الكتب الإنجليزية. فكان لابد لي أن أزورها كل أسبوع لشراء أحدث ما وصل إليها من كتب روائية. وكانت الكتب يومذاك زهيدة الثمن وخصوصاً ا لطبعات الشعبية منها مثل PENJWIN و EVERYMAN وLIBRARY Moden، فكنت أستطيع الحصول على ما أشاء من الكتب. وهكذا وقعت في تلك المرحلة من حياتي تحت سلطان الأدباء العالميين وسحرتني مقدرتهم الفائقة. وصرت أعتقد أنه لا جدوى فيما يكتبه قاص مثلي ما دام لن يضيف شيئاً إلى الأدب العالمي. ومما زادني يأساً قصص أنطون تشيخوف. ففي تلك المرحلة بالذات فتنت بأدب تشيخوف. وينبغي لي أن أشير هنا إلى أن أدب تشيخوف المترجم إلى اللغة العربية لا يكشف عن قيمته الحقيقية. وينسحب هذا الحكم على معظم مترجمات الأدب العالمي إلى اللغة العربية. فليس لدينا مع الأسف مترجمون متمكنون إلاّ في القليل النادر. ولقد شلّني إعجابي الشديد بتشيخوف كليّاً عن الكتابة لأنني اعتقدت بأنني مهما فعلت فلن أبلغ مستواه. واحتل في قلبي المكانة التي احتلها تيمور من قبله. فلم يعد لي من حديث سواه. حتى أن أبني الصغير صباح سأل أمه يوماً: لماذا لا يزورنا عمو تشيخوف يا أمي؟ وأغرق الأديب الشيخ في الضحك وشاركه الباحث ضحكه. ثم عاد يقول: وهكذا ترى يا صديقي أن هذا الإعجاب بشيخوف وبالأدباء العالميين كاد يخطفني من عالم الأدب نهائياً. وقد شلّني عن الكتابة بالفعل لفترة غير قصيرة على اعتبار أنني لن أستطيع الارتفاع إلى مستواهم0 ولحسن الحظ أنني استعدت ثقتي بنفسي فيما بعد. قال الباحث الشاب مبتسماً: الحمد لله وإلاّ لخسرتك القصة العراقية.. ولكن اسمح لي أن أقول يا سيدي أنك لم تعد عودة حقيقة إلى القصة القصيرة، فلم تنشر بعد هذه المرحلة من حياتك سوى مجموعة "حياة قاسية" ثم انصرفت انصرافاً شبه كامل في أواسط الستينات إلى المسرح ثم إلى الرواية القصيرة. فهل ذلك من بقايا عقدة تشيخوف يا ترى؟
موقفي من المسرح قال الأديب الشيخ: ليس الأمر كما تقول يا صديقي. فقد اتجهت نحو المسرح في وقت مبكر فأصدرت مسرحية"بيت الزوجية" في عام 1962 و "الغرباء" في عام 1965 و "الشيء" في عام 1966. لكنني أستطيع القول أن ولعي الحقيقي بالمسرح قد تركّز لديّ خلال الأعوام الأربعة التي أمضيتها في لندن. فقد أولعت بالمسرح ولعاً عظيماً. ولم يكن يمر أسبوع من دون أن أشاهد مسرحية جديدة. وهكذا شاهدت عشرات المسرحيات ممثلة على مختلف مسارح لندن. ولقد تسنى لي التعرف على مسرح شكسبير والمسرح الكلاسيكي الإغريقي، ثم التيار الحديث في المسرح الإنجليزي الذي كان يقوده في أواسط الخمسينات جون أوسبورن بمسرحيته الشهيرة "أنظر وراءك بغضب"، وكذلك كبار المسرحيين الفرنسيين والأمريكان المحدثين. وتسنى لي كذلك مشاهدة مسرحيات تشيخوف ممثلة على مسارح لندن. ثم وجدت فيما بعد أنها تمثل على مسارح موسكو ولننغراد أفضل بكثير حينما تسنى لي مشاهدتها هناك. وقادني إدماني على مشاهدة المسرح إلى الاتجاه نحو قراءة المسرح العالمي حتى في فترة انشغالي بالدراسة العلمية. فانكببت على قراءة المؤلفات المسرحية بدءاً بالمسرح الإغريقي الكلاسيكي إلى مسرح عصر النهضة والقرن الثامن عشر والتاسع عشر في إنجلترا وفرنسا، إلى المسرح الأوربي الحديث الفرنسي والإنجليزي والنرويجي والأمريكي وحتى المسرح الحديث جداً ممثلاً بيونسكو وصمويل بيكيت وأدموف (مسرح الطليعة أو مسرح اللامعقول) وإن لم أحببه. وما زلت حتى اليوم أقرأ المسرح أكثر من أي نوع آخر من أنواع الأدب. تساءل الباحث وهو يبتسم: فاسمح لي أن أسألك إذن يا سيدي: هل يعني ذلك أنك انصرفت إلى كتابة المسرحية نهائياً وهجرت القصة القصيرة؟ قال الأديب الشيخ متأملاً: أقول لك الحق.. لا أدري بالضبط. فقد أصبح المسرح يستحوذ على كل اهتمامي. وأحب أن أقول لك إن من جملة بواعث انصرافي إلى الكتابة المسرحية هو رغبتي في إيصال أفكاري إلى القراء على نحو مباشر. والأدب المسرحي يتحمل هذا النوع من الخطاب المباشر الذي يمكن أن يجري على ألسنة أبطال المسرحية حسب اختيار المؤلف. أما الأنواع الأدبية الأخرى كالقصة القصيرة والرواية فنادراً ما تتحمل مثل هذا الخطاب المباشر. هذا على الرغم من أنني أدرك تماماً أن إقبال القارئ العربي على قراءة المسرح أدنى بكثير من إقباله على قراءة القصة أو الرواية. فالمسرحية الأدبية في عرف الناشرين بضاعة خاسرة. وهي على الصعيد العملي نادراً ما تحقق نجاحاً على المسرح خصوصاً إذا كانت مسرحية جادة. فهي وليد أشبه باللقيط في عالمنا العربي 0 ولا ينظر إلى المسرح في بلداننا إلاّ كوسيلة للتسلية الخفيفة. والأديب المسرحي الجاد جندي مجهول. فحتى لو مثلت مسرحياته على المسرح لابد لها أن تحّول في النهاية إلى مادة للضحك وإلاّ فلن يكتب لها النجاح. وحال المسرح المصري خير دليل على قولي هذا. فكلما نهض المسرح الجاد كبا ثانية وسقط بين براثن التهريج. وقبل ثورة يوليو 1952 لم يكن المسرح المصري الجاد ناجحاً وندر ما كان يستمر عرض مسرحية جادة على مسرح الأزبكية أكثر من أسبوع. وفشلت جهود جورج أبيض ويوسف وهبي من قبل في إدامة المسرح الجاد. أما توفيق الحكيم فلم يفكر أحد في إخراج مسرحياته. ولم ينجح في الخمسينات في مصر إلاّ مسرح نجيب الريحاني باعتباره مسرحاً كوميديا، وإن حاول نجيب الريحاني أن يبتعد عن التهريج. وفي عهد الرئيس عبد الناصر، ولا سيما في أواخر الخمسينات، وفي غضون الستينات ازدهر المسرح المصري وظهر كتّاب مسرحيون جادون وممتازون من أمثال نعمان عاشور والفريد فرج والدكتور رشاد رشدي وسعد الدين وهبة ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وغيرهم. ولكن ما كاد هذا العهد ينصرم حتى مات المسرح الجاد ثانية وسحقه مسرح القطاع الخاص بتهريجه المنقطع النضير. قال الباحث وهو يبتسم: فما الذي دعاك إذن إلى زجّ نفسك في هذا النفق المظلم يا سيدي؟ قال الأديب الشيخ متأملاً: أنا لا يهمني أن تمثل مسرحياتي أو أن تروج في السوق، بل يهمني أن أعبر عن آرائي الخاصة. والكتابة المسرحية كما قلت لك خير معين لي على تحقيق هذا الهدف. ولذلك فأنا لا أكتب "تمثيليات" بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة بل أكتب "أدباً مسرحياً". وهناك فرق بين الأدب "المسرحي" و "التمثيلي" وهو فرق معروف في الغرب. فالأدب المسرحي يركز بالدرجة الأولى على الجوانب الفنية في الأدب. بينما تركز "التمثيليات" على مدى صلاحيتها للحركة فوق خشبة المسرح. لذلك فإنني أكتب مسرحياتي باللغة الفصيحة لا بالعامية. ومن المعلوم أن المسرحية المعدة للتمثيل لا يمكن أن يكون حوارها باللغة الفصيحة إلاّ إذا كانت مسرحية تاريخية. ولذلك فأنا لا أجد مانعاً في أن تعدل مسرحياتي لومُثلث حسبما تقتضيه أصوليات المسرح. قال الباحث: توضيحاتك هذه عن أدبك المسرحي مهمة جداً بالنسبة لبحثي. وقد قلت لي كل شيء بصراحة تامة فشكراً جزيلاً لك يا سيدي. بقي لي سؤال أخير ربما انطوى على جانب شخصي أيضاً. ولكن عذري أنني أريد أن أعرف كل شيء له علاقة بأدبك لتكون دراستي مبنية على أسس راسخة من الفهم الكامل. قال الأديب الشيخ وهو يبتسم: سل ما بدا لك يا صديقي.
عملي الأكاديمي قال الباحث: هل في الإمكان أن توضح لي ولقرائك يا سيدي سبب انقطاعك عن الأدب هذه الفترة الطويلة وبالذات فيما بين أواخر الستيّنات إلى مطلع التسعينات، وهل عودتك المباركة إلى الأدب ستكون مستمرة؟ ثم هل وجدت في انصرافك إلى العمل الأكاديمي جدوى أكبر من اهتماماتك الأدبية السابقة؟ قال الأديب الشيخ وهو يضحك: هذان سؤالان في الواقع وليس سؤالاً واحداً وسأجيبك عن كل منهما باختصار. فأما جوابي عن السؤال الأول والمتعلق بسبب انقطاعي عن الأدب في الفترة المذكورة فيعود إلى مشاغلي الأكاديمية. فلقد اقتنعت أثناء هذه المرحلة الزمنية بضرورة الانصراف كليّاً إلى البحث الأكاديمي لكي أثبت جدارتي في هذا الميدان. فكان عليّ كأستاذ جامعي أن أمد العلم ضمن اختصاصي بما أستطيعه من ثمار. وقد تجاوزت كتبي العلمية العشرين كتاباً ما بين تأليف وترجمة 0 والحمد لله أن جهودي العلمية أثمرت فحققت لي سمعة طيبة بين الجغرافيين العرب. وقد امتص ذلك كل جهدي ووقتي. لكنني لم أهجر الأدب يوماً. وكنت أقتنص الفرص لقراءة الكتب الأدبية مهما اشتد ضغط العمل الأكاديمي عليّ. ولذلك فعودتي إلى الأدب أمر طبيعي. وبالمناسبة فإنني لم أهجر الأدب في بداية تعييني أستاذا للجغرافية في جامعة بغداد 0 فقد كنت عضواً في اللجنة المركزية لاتحاد الأدباء العراقيين فيما بين عام 1959 و1963. وأما جوابي عن سؤالك الثاني فليس باستطاعتي الحكم بأن عملي الأكاديمي كان أجدى من اهتماماتي الأدبية، لكنني أستطيع القول بأن الجانب العملي منه، وأعني التدريس، كان مجدياً جدا. فلقد شعرت دائماً بتجاوب بيني وبين تلامذتي0 وأزعم أن البعض منهم يشكّل امتداداً لي وتواصلاً لأفكاري. وكانوا دائماً بعدونني أستاذاً ناجحاً0 وهم راضون عن علمي وعن سيرتي فيهم على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم. وسأضرب لك مثالاً عملياً على ذلك فأتلو عليك رسالة تلقيتها من أحد تلامذتي، وهو تلميذ صيني كنت قد درّسته سنة واحدة في أواسط عام 1962 في بغداد. وقد بعث إليّ بهذه الرسالة في عام 1981 أي بعد مرور ما يقرب من عشرين عاماً. قال الباحث ببهجة: يسرني جداً أن أستمع إلى هذه الرسالة يا سيدي. وقلّب الأديب الشيخ أوراق "ملفّّه" ثم انتزع منه ورقة وراح يتلوها ببطء: شنعهناي في 5/3/1981 أستاذي العزيز شاكر خصباك المحترم قبل أشهر كتبت رسالة إلى زميلي شيان وان الذي يدرس العربية بقسم اللغة العربية بكلية الآداب راجياً منه أن يبحث عنكم لأنني لست متأكداً عما إذا كنت لا تزال أستاذا للجغرافية بالكلية أو نقلت منها إلى كلية أخرى أو مدينة أخرى بعد هذه المدة الطويلة التي استغرقت ما يزيد عن خمسة عشر عاماً منذ غادرتكم وغادرت بلدكم الحبيب العراق الذي علّمني أقدم لغة من لغات العالم وأرقى الحضارات الإنسانية. وقد طلبت منه أن يتصل بكم لكي يحصل على بعض إنتاجكم الأدبي ويستمع إلى آرائكم القّيمة لما وصل إليه الأدب العراقي بصورة عامة والقصة العراقية بصورة خاصة. وبعد وقت قصير راسلني شيان وان وأخبرني قائلاً أنكم قد وافقتم على أن تكتبوا لي مقالة أدبية وبحثاً قيماً مما سرني بالغ السرور. وعندما سمعت أنكم في صحة قوية وفي حالة طيبة ولا تزالون تدّرسون الجغرافية في الكلية كدتّ أطير من شدة الفرح والحبور. ربما لا تتذكرونني الآن فقد كان ذلك في أوائل الستينات حيث كان عدد الطلبة الصينيين في كلية الآداب أكثر من عشرين طالبا إلاّ أن صورتكم وابتسامتكم وجهودكم المبذولة من أجل تعليمنا الجغرافية كلها ظلت ماثلة أمام عيني كأنها قد حدثت بالأمس أو أول أمس، وصوتكم ظل يرن في أذني.. حقاً إن هذه الانطباعات العميقة لا يمكن أن تمحى أبداً من قلبي.. وذلك إنني أثق بأنكم لستم رسل العلم والمعرفة فحسب بل رسل المحبة والقيم الإنسانية0 آه.. كم أتمنى أن أزور العراق مرة أخرى وألتقي بكم وأبلغكم أعمالي وإنجازاتي إن صح هذا التعبير. فبعد عودتي إلى وطني العزيز منذ عام 1965 مارست التدريس مثلكم ولا أزال مدرساً في قسم اللغة العربية بمعهد اللغات الأجنبية في شنغهاي، أعلمّ الطلاب الصينيين اللغة العربية وآدابها على أشكال وأنواع مختلفة من المواد التدريسية. وقبل أيام وصلتني رسالة شيان وان الثانية يخبرني فيها أنكم وهبتموه أشرطة تسجيل وبعض الكتب وأنه سيرسلها إليّ عما قريب. وهنا أرجوكم أن تقبلوا أطيب تمنياتي لكم وأسرتكم جمعاء. وأخبركم أنني سأترجم بعض قصصكم ومسرحياتكم وأقّدمها إلى القّراء الصينيين الذين يتطلعون إلى معرفة الأدب العربي الحديث. وفي الختام لا يسعني إلا أن أبعث إليكم بامتناني وشكري وتمنياتي الصادقة لكم.
طالبكم المخلص شو شن شيان
رفع الأديب الشيخ رأسه عن الورقة في اعتزاز. فقال الباحث في حماس: حقا إنه لتلميذ مخلص. فقال الأديب الشيخ وهو يهز رأسه: وهذا ما نكسبه من التعليم، ولذلك حديث آخر وربما أعود إليه في لقاء أخر. قال الباحث الشاب بامتنان: شكراً لك يا سيدي على هذا الحديث الممتع. انتهت
مؤلفات الدكتور شاكر خصباك الكتب العلمية المؤلفات 1. الكرد والمسألة الكردية_ دراسة في الجغرافية السياسية 1959_ ابن بطوطة ورحلته – دراسة في أدب الرحلات 1971. 2. الأكراد – دراسة جغرافية أثنوغرافية 1972. 3. العراق الشمالي – دراسة لنواحيه الطبيعية والبشرية 1973. 4. في الجغرافية العربية – دراسة في التراث الجغرافي العربي 1974. 5. دولة الإمارات العربية المتحدة – دراسة في الجغرافية الاجتماعية 1978. 6. كتابات مضيئة في التراث الجغرافي العربي 1982. 7. الجغرافية عند العرب 1984. 8. الفكر الجغرافي (بالاشتراك مع الدكتور علي المياح) 1985. 9. تطور الفكر الجغرافي 1987.
المترجمات 1. أعلام الجغرافية الحديثة- تأليف .ج. كرون 1963. 2. دراسة الجغرافية_ تأليف ج. موجي 1964. 3. الارتياد والكشف الجغرافي_ تأليف ه. وود 1966. 4. قرن من التطور الجغرافي- تأليف ت.و.فريمان 1976. 5. جغرافية الرفاه الاجتماعي- تأليف د. سميث1980. 6. أصول الجغرافية البشرية_ تأليف فيدال دي لابلاش 1984. 7. طبيعة الجغرافية (الجزء الأول)_ تأليف ريتشارد هارتشورن 1984. 8. طبيعة الجغرافية (الجزء الثاني)- تأليف هارتشورن1985. 9. مستقبل الجغرافية_ تأليف مجموعة من العلماء. 10. التحليل المكاني في الجغرافية البشرية- تأليف بيتر هاغيث.
المؤلفات الإبداعية
1- حكايات من بلدتنا رواية – 1967م 2- الدكتاتور مسرحية – 1995م 3- كتابات مبكرة كتابات أدبية – 1995م 4- عهد جديد مجموعة قصص – 1958م 5- صراع مجموعة قصص – 1948م 6- السؤال (الحقد الاسود) رواية – 1966م 7- حياة قاسية مجموعة قصص1959 8- ذكريات أدبية سيرة حياة – 1996م 9- التركة والجدار مسرحيتان –1996م 10- هيلة رواية – 1996م 11- الغرباء واللص مسرحيتان –1996م 12- مسرحية القهقهة مجموعة مسرحيات – 1998م 13- العنكبوت والغائب. مسرحيتان –1996م 14- الهوية رواية _ 1996 15- بيت الزوجية مسرحية – 1962م 16- الشيء مسرحية – 1966م 17- تساؤلات خواطر فلسفية – 1991م 18- القضية مسرحية – 1992م 19- امرأة ضائعة رواية – 1997م 20- البهلوان مجموعة مسرحيات – 1997 21- قصة حب رواية – 1997م 22- الطائر رواية – 1997م 23- الخاطئة رواية – 1998م 24- موت نذير العدل رواية – 1999م 25-أوراق رئيس رواية – 2000م 26- نهاية إنسان يفكر رواية – 2001م 27- خواطر فتاة عاقلة رواية – 2002م 28- الرجل الذي فقد النطق مجموعة مسرحيان – 2003م 29- عالم مليكة رواية – 2003م 30- الفصول الاربعة رواية – 2004م
الكاتب في سطور ولد شاكر خصباك في مدينة الحلة (بابل) في عام 1930 درس الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدارسها, ونال الشهادة الثانوية عام 1947. التحق بجامعة القاهرة في سبتمبر عام 1948 ونال الليسانس في الجغرافيا عام 1951، ثم التحق بالجامعات الانجليزية عام 1954 ونال درجة الدكتوراه في الجغرافية عام 1958. درَس في جامعات بغداد والرياض وصنعاء 0 نال درجة "الأستاذية" في عام 1974. له سجل علمي حافل، إذ تربو كتبه العلمية المؤلفة والمترجمة على عشرين كتاباً.
#شاكر_خصباك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القهقهة ومسرحيات اخرى
-
الطائر
-
كتابات مبكرة
-
مسرحية -الغرباء-
-
عالم مليكة
-
البهلوان ومسرحيات اخرى
-
هيلة
-
مسرحية-القضية-
-
اوراق رئيس
-
مسرحية -الدكتاتور-
-
الهوية
-
الاصدقاء الثلاثة
-
عهد جديد....مجموعة قصصية
-
السؤال؟!!
-
الشيء مسرحية من ثلاث فصول
-
تساؤلات وخواطر فلسفية
-
حكايات من بلدتنا
-
دكتور القرية
-
بداية النهاية
-
حياة قاسية
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|