سيار الجميل
الحوار المتمدن-العدد: 775 - 2004 / 3 / 16 - 09:30
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
الضمانة التاريخية
لا يختلف اثنان في ان انجاز الدستور المؤقت للعراق الانتقالي هو بمثابة انتصار حقيقي لارادة العراقيين الجدد، ورد سريع على ما خلّفه النظام السياسي السابق وعلى كل مؤيديه من العراقيين والعرب الذين يرون بمنظار سوداوي لكل ما يحصل اليوم ويخلطون الايجابيات بالسلبيات وينطلقون باحكام عاطفية وسريعة .. تمثّل بطبيعة الحال ردود فعل معبّرة عن مواقفهم بين الامس واليوم . واذا كان المجال قد اتسّع اليوم لكل الناس بالتعبير عن وجهات نظرهم وان يقول الانسان ما يشاء ، فلابد من السؤال : هل كان بالامكان الاعتراض سابقا ولو بالاشارة لما في قوانين مجلس قيادة الثورة وبتوقيع صدام حسين ولعشرات السنين ؟؟ اننا نبارك من صميم قلوبنا كل العراقيين على منجزهم المسّمى بالدستور المؤقت او القانون الاساسي لادارة الدولة الانتقالي .. ولما قرأت بنوده وفروعه لم اسجّل الا بضعة ملاحظات نقدية خصوصا وانني قارنت مضامينه بدساتير اخرى في العالم ، فوجدت كم هو متطور في رؤيته وتطلعاته وما منحه من حقوق للعراقيين وكم وددت ان يثّبت واجبات العراقيين بقدر ما اعطاهم من حقوق واهبت ايضا بمدى حالة المساواة التي يتمتع بها العراقيون في تاريخهم لأول مرة بعد عهود تاريخية انهكتهم قوانينها وتعليماتها واعرافها وتقاليدها وطقوسها ..
لقد اعطى الدستور المؤقت للمجتمع من حريات وحقوق وانفتاح وحياة حديثة .. ولكنه لم يعط للدولة والمؤسسات نفس ما اعطى للمجتمع . انني اعتقد بأن هذه القانون لابد ان يسّمى بقانون ادارة المجتمع اكثر مما هو قانون لادارة الدولة .. لقد جاء محققا بعض تطلعات النخب والاحزاب التقدمية والفئات المعلمنة من العراقيين نحو التحديث والحداثة وانه يريد ان يسمو بالعراق الى مصاف الدول المتقدمة . فمثل هذه الدستور يشابه الى حد كبير كل من الدستور الكندي والسويسري وهذا ما كنت قد ناديت به من اجل تكريس قيم العصر وما توصلت اليه المجتمعات التعددية والمتنوعة ليضمنها دستور العراق الدائم ( انظر مقالتي في الزمان ، العدد 1586 في 18/8/ 2003 ) .
العراقيون وبصمات العصر
وعليه ، فالمشكلة ليست في هذا " الدستور " بل المشكلة في من سيطّبق هكذا دستور .. واعتقد انه اول قانون ينبثق في تاريخ القرن الواحد والعشرين وهو يحمل بصمات العصر من الانفتاح والشفافية ومنح الحريات وفرص الديمقراطية والمساواة والحركة والسفر والتملك والتجنس والعمل والمال والتجمعات المتنوعة وعدم الزام المواطن ما لا رغبة له به واطلاق المواطنة ليتمتع بها الجميع كاسنان المشط .. الخ اقول : كل ذلك جميل وهو ما يسعد اي عراقي في الداخل والخارج ، ولكن السؤال الذي يشغلني دوما : هل يمكن لأي دولة تتأسس في العراق ان تطّبق ما نص عليه الدستور حرفيا ؟ وهل يمكن للمجتمع العراقي ان يستوعب كل هذا الذي يصاغ من اجله حرفيا ؟ هل ستنتفي امراض العقود الطويلة من السنين ؟ هل سيتقبل اولئك المتعصبون والمتطرفون هكذا قانون يعمل على اتاحة الفرص لكل العراقيين لأن يفعل كل واحد منهم ما يريد وان يتحدث بما يعتقد من دون خوف ولا ترويع ولا ارهاب !! اخشى ايها السادة من الذين وقعتم على دستور عالي المهمة والشأن ان نكون واياكم في واد وان هناك الملايين من العراقيين في واد آخر ؟؟ بماذا تفسرّون الهجمات على اخواننا العراقيين من المسيحيين والارمن ؟ بماذا تفسّرون هذا الاضطهاد الذي يقوده اناس متخلفّون باسم الدين والشريعة تارة وباسم الاعراف والتقاليد تارة اخرى ضد النسوة السافرات .. واكبر دليل هو ابدال عدم افساح المجال لمثقفات وسياسيات متمدنات متمكنات كونهن سافرات وان تأتي بدلهن متحجبة كأنها قدمت توا من العصور الوسطى ! والسافرات كأن العراق لم يعرفهن ابدا منذ عشرات السنين عندما اختلطت المرأة مع الرجل وقادت المرأة العراقية السيارة وشاركت في التظاهرات وزاملت الرجل في الكليات وعملت برفقته في المؤسسات .. وحتى المزارعات كن واياه في الحقول وهناك العاملات في المصانع وهناك المحاميات والطبيبات والمعلمات في كل الساحات !! المشكلة كيف نخلق وعيا مبكّرا عند العراقيين بالتمدن وعدم استغلال الفرص التي يوفرها الدستور ..
مرة اخرى اردد انني اخشى على المبادىء من المجتمع قبل الدولة اذا ما اسيىء استخدامه لاغراض عقيمة وتراجعية وارهابية وعشائرية وطائفية وكل ما يوفره هذا العصر المتمدن لشراذم باستطاعتها قتل الاخضر واليابس ! هل نضمن حياة لدستور مدني عالي المواصفات لا يريد البعض التوقيع بنفسه عليه كونه سجّل موقفا بالضد منه .. مما يدّلل ان هناك مسافة واسعة بين بعض القادة العراقيين اليوم وبين مفهوم الديمقراطية وتطبيقاتها في الحكم !! وقد قلت ذلك قبل اسبوعين في واحد من الحوارات بأن الذي سيقف عائقا في وجه تقّدم العراق هم رجال الدين .. انني احترم مواقفهم الوطنية في الدفاع عن وجودنا وارضنا وسمانا وكل حياتنا ازاء المحتل الاجنبي .. ولكن يتقاطع الساسة معهم اذا ما فرضوا اجندتهم الصلدة على قوانين البلاد وممارساتنا وحركتنا وتقاعلاتنا السياسية . وعليه ، فلابد من التفكير مليا بما يمكننا قوله والتنظير فيه على الورق او حتى التحفّظ عليه لأسباب تبدو معقولة .. وبما سيطبق ويمارس في الحياة العراقية اذ تكمن الخشية في خرق القانون تحت حجج وبدائل تافهة .. ويكون العراقيون قد سجلوا نوعا من الهراء !
مشكلات اكبر من الاخطار
لابد من حماية المكتسبات الدستورية والسياسية بمعالجة الاخطار المحدقة بمستقبل العراق ليس من قبل هذا المحتل الذي سيرحل عن العراق عاجلا ام آجلا .. ولكن مشكلة العراقيين مع تدخلات الاخرين بوسائط غير مباشرة لفرض اجندة معينة او خيارات مبهمة او اثارة زوابع لا معنى لها .. فهل سنضمن زعامات ومواطنة عراقية تؤمن بالعراق وحده من دون اية عواطف دينية او املاءات اقليمية او مشاعر قومية شوفينية ؟ وهل سنضمن استئصالا للارهاب السياسي والفكري والاجتماعي في العراق ؟ هل سنضمن حياة للديمقراطية وحلولا للمجتمع الذي لا ينتظر قيادات متخلفة تقوده الى الجحيم ثانية ؟ وهل يمكننا ان نقيس حجم المدركات والوعي بما هو دستوري وديمقراطي في الحياة السياسية العراقية بعد قرابة خمسين سنة من الاختلاطات والتبدلات والتهشمات في العادات والتقاليد والاخلاقيات ؟ كان العراقيون ينتقدون نوري باشا السعيد قبل خمسين سنة باعتماد سياسته العراقية في الداخل على العشائرية وشيوخ العشائر .. واليوم يتراكض المجتمع للاحتماء بهم وكأنهم اصبحوا اوصياء على مجتمع العراق ! فكيف اذا ما اصبحت الدولة بايديهم ؟ انني متفاءل جدا بهكذا دستور مؤقت وسينال العراقيون حظهم السعيد بدستور دائم مثل هذا المؤقت .. ولكن هل استطيع ان انفي عن نفسي كل هذا التشاؤم من مجتمع التناقضات الهائلة ؟؟ ففي الوقت الذي اثبت فيه العراقيون للعالم اجمع انهم مجتمع متلاحم ومتعايش ويسعى من اجل التقدم والحياة وكل الايجابيات .. اعطى للعالم بنفس الوقت صورة سيئة لا يحسد عليها ابدا بما يحدثه اليوم من دمار وقتل وتخريب واحتراق ونهب واستلابات ..وتطرف واضطهادات وانحيازات ومحسوبيات ومنسوبيات ومناورات ومثالب وسلبيات .
على العراقيين ان يعترفوا بأنهم قد اختلفوا عما كانوا عليه قبل خمسين سنة .. وقد قال قائل منهم : علينا ان ننفض ايدينا من كل بقايا الاجيال التي عاشت الماضي ونعتمد على الجيل القادم في بناء العراق ، فكل الذين تخرجوا في عراق القرن العشرين لا يصلحون لاداء العملية السياسية وبناء العراق الجديد سواء كانوا بعثيين او قوميين او ناصريين او شيوعيين او اسلاميين دعويين وخمينيين واخوان مسلمين وسلفيين او من قدماء ملكيين او اصلاحيين اشتراكيين او وحدويين حالمين او اقلياتيين عنصريين . وبالرغم من قساوة هذا الطرح ، فان الحاجة تدعو العراقيين الى الاعتراف بأن العراق الجديد لا يمكنه ان يبنى على موروثات الماضي العقيم ولا على بقايا التمزقات السياسية والصراعات الايديولوجية .. ان من يقرأ بنود الدستور العراقي المؤقت يشعر ان هناك حالة طبيعية ومجتمعا مثاليا .. ان مجرد مديحنا هكذا مواد دستورية لا ينفع ابدا اذا بقي العراق محتقنا على اشد ما يكون الاحتقان ، ولعل اول ما يمكن المطالبة به : الوعي الوطني والوعي الدستوري والوعي الديمقراطي لدى كل عراقي !
ملاحظات لابد من التفكير بها
ان الذي ينفع العراق والعراقيين في بناء مستقبلهم هو فصلهم بين المؤسسات المدنية السياسية والحكومية عن كل مؤسسات المجتمع الدينية والعشائرية .. ولابد ان يفصل المشّرع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية فصلا كاملا ، اذ لابد ان تكون التشريعية هي فوق التنفيذية ! ولابد ان تكون المرحلة الفاصلة بين الانتقالي والدائم هي مرحلة اختبار حقيقي في تاريخ العراق والعراقيين ، فاذا نجح العراقيون في تجربتهم من دون اي تحديات او منغّصات او خطايا في اللعبة الديمقراطية من اجل التسلط والنفوذ والمنفعة الذاتية فانني اعتقد أنهم سيعطون مثلا تاريخيا لكل شعوب المنطقة في تحقيق التغيير على اسس معاصرة ومبادىء حضارية .. ان من اهم المبادىء التي يمكن للعراقيين ان يدركوها انما تتمثّل بمنع الاخرين من التدخل في شؤونهم السياسية والداخلية ، فلقد اثبتت التجارب والبديهيات بأن الجيران العرب والاتراك والايرانيين لهم مصالحهم التي تسبق مصالح العراق العليا . وان على العراقيين في السعي لتحقيق استقلالهم السياسي وان يكملوا الفترة الانتقالية ويستحصلوا السيادة .
الملاحظة الاخرى تقول بأن الدستور العراقي سواء اقر 25 بالمئة ام 40 بالمئة لتمثيل المرأة ، فثمة ما يمكن اعادة اثارته هنا ، ذلك ان الواقع النسوي في العراق بحاجة الى حداثة وتطوير ، فما نفع ان يقرر الدستور نسبة معينة وتأتي للتمثيلكثيرات ممن يعطين صورة مشّوهة من البلادة فثمة مشاركات في مجلس الحكم لا يعرفن تركيب جملة مفيدة !! اذ لابد ان يكون الانسان العراقي المناسب في مكانه المناسب بعيدا عن اي حسابات كوته معينة ! ان اسوأ ما يمكن تخيّله ان نضع مبادىء رائعة على الورق منذ ثمانين سنة ، اي منذ ان وضع العراقيون اول دستور دائم لهم في العام 1925 بكل مبادئه الممتازة ونرى تطبيقات سيئة من قبل العراقيين انفسهم تلتف حول اي مادة لتخريج وصفات جاهزة باسم القانون ، وهي لا تخلو من انفاس جهوية او عشائرية او طائفية او دينية او عنصرية شوفينية .. الخ
وأخيرا : ماذا نقول ؟
نبارك للعراقيين خطوتهم التاريخية في انجاز دستور مؤقت لهم من اجل بناء عراق جديد .. نرجو من صميم القلب ان يخدم العراق والعراقيين ويفتح لهم مجالا واسعا في حياة العصر وان يكتبوا من خلاله تاريخا سليما مشاركين كل هذا العالم التقدم والتغيير . ان اهم ما يمكن ان نتمناه : تطبيق حسن للمبادىء التي يحتاجها كل العراقيين والعرب . فهل سيتحقق ذلك ؟
#سيار_الجميل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟