|
سريالية عراقية!
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 2526 - 2009 / 1 / 14 - 07:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هل يستطيع أحد في العالم المتحضر -أو غير المتحضر- أن يتصور أن حوالي نصف الحكومة والبرلمان في العراق غادروا بغداد لأداء مناسك الحج، وتعطلت الأعمال والأشغال وأصبح كل شيء في الانتظار؟ وتكرر مثل هذا الأمر خلال السنوات الخمس الماضية. وبكل الأحوال، لا يمكن تبرير ذلك بمبررات دينية، لاسيما إذا تعلق الموضوع بحساب الوقت المقطوع من العمل، يضاف إليه أسفار المسؤولين والبرلمانيين المتواصلة، متناسين أن الرسول الأعظم هو من اعتبر العمل عبادة وحيّاه، لاسيما «خير العمل». والذي يتابع جلسات البرلمان العراقي يُصَاب بالدوار والحيرة، وإن كان هناك من يعتبرها الظاهرة المسلّية الوحيدة في عراق أخذت الأحزان منه مأخذاً، ولعلّي حزين أنا الآخر لسبب مختلف، هو أنني أرثي لبعض أصدقائنا: كيف يستطيعون تحمّل هذا الجو المليء بالشتائم والحزازات والاتهامات والصراخ واللغة الرثة! أما من يراقب الوضع الأمني، فيستطيع أن يلحظ أنه رغم التحسن النسبي، فإن عدد الضحايا لا يزال كبيراً والمفخخات مستمرة والعبوات لم يتم وضع حد لها، وقتل العلماء الأكاديميين يرتفع، والميليشيات والصحوات ومجالس الإنقاذ، ما تزال تسمن وتزداد خيلاءً وزهواً رغم المآسي.
ومشهد الوزارات الأمنية وهي تكدس موظفيها وتتنافس مع الوزارات الأخرى بدلاً من حفظ الأمن والنظام العام، ويصل الأمر لدرجة التآمر على بعضها بعضا وكيد الواحدة ضد الأخرى، وحدوث الاستقطابات والتجاذبات والاتهامات المعلنة والخفية، وتسريح ضباط باعتبارهم أكباش فداء، ليحلّ محلهم آخرون ينتظرون دورهم، وبعد أشهر يكتشف المسؤولون أن ولاءهم لجهات أخرى! وتضيع هوية الجيش بين الولاء للوطن والكفاءة وبين الولاء للجماعات السياسية والطائفية والإثنية، فالذين انتسبوا إليه كان بعضهم امتداداً لفيلق بدر التابع للمجلس الإسلامي الأعلى، والبعض الآخر لحزب الدعوة، وفريق ثالث ينتسب إلى جيش المهدي وجماعة السيد مقتدى الصدر، أما الذين انتسبوا إلى الجيش من الأكراد، فكانوا ضمن تشكيلات البيشمركة وموزعين على الحزبين الكرديين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني (أربيل والسليمانية)، في حين أن الذي جاء إلى الجيش من الصحوات، قسمٌ منه له علاقة بالحزب الإسلامي وبعض الجماعات المسلحة، بما فيها أطراف كانت محسوبة على المقاومة. هكذا هي حالة الجيش، وكذا حالة الأجهزة الأمنية، فكيف يمكن الحديث عن تأهيل وطني وعسكري للجيش رغم مرور خمس سنوات وثمانية أشهر؟ والأمر يشمل منتسبي وزارة الداخلية ووزارة الدفاع ووزارة الأمن الوطني ورئاسة الأركان ومكتب القائد العام للقوات المسلحة، أما حواشي المسؤولين في هذه الوزارات فهي كثيرة، بل إن أجهزة الدولة انتفخت بأعداد المستشارين وكبار الموظفين والحمايات ولكل من هؤلاء ذيوله من المسلحين والتجار والباحثين عن الفرص. والذي يتوقف عند أرقام وتقارير التزوير يُصاب بالغثيان، فحسب ما نقل لي أحد الأصدقاء من المسؤولين الأكراد، فإن هناك في وزارة التعليم العالي تدقيقات بخصوص 904 من الشهادات المزورة ومعظمها شهادات للدكتوراه أو الماجستير أو البكالوريوس، الأمر الذي أصبح إحدى قضايا التندر المثيرة. أما الفساد والرشوة فما تزال شكوى مفوضية النزاهة تثير الشفقة، فهذا البلد الذي خرج لتوّه من نظام استبدادي حكمه 35 عاماً ومن حروب ومغامرات عبثية دامت ربع قرن ومن حصار استمر ثلاثة عشر عاماً، يقع اليوم فريسة الفساد المالي والإداري والسياسي، لاسيما بعد حلّ مؤسسات الدولة، خصوصا المؤسسة العسكرية والأمنية واعتماد مبدأ المحاصصة الطائفية والإثنية، الذي جاء على حساب الكفاءة والاختصاص والذي كرسه بول بريمر الحاكم المدني الأميركي في مجلس الحكم الانتقالي، وانتقلت عدواه إلى جميع الحكومات التي أعقبته، الأمر الذي انعكس في ظل شيوع التقسيمات الوظيفية على المال العام، حيث تم هدره وتبديده أو سرقته. فالنفط استمر لسنوات بدون عدادات فكأن العدادات مسألة مستعصية، وهي مسألة تعني باختصار عدم القدرة على معرفة الكمية التي يتم بيعها منه، وقد أشارت بعض الإحصاءات إلى أن 400 ألف برميل شهرياً تُهرّب إلى الداخل ومثلها يُهرّب إلى الخارج، وقد اعتبرت منظمة الشفافية الدولية العراق أكثر بلد للفساد في العالم، وكانت مفوضية النزاهة قد وجّهت مذكرات تتهم فيها 93 مسؤولاً رفيعاً، بينهم 15 بدرجة وزير، لكنها عبرت عن خيبتها حين تعطلت مسألة ملاحقتهم وتقديمهم إلى القضاء، طبقاً لقرارات منعت ذلك من السلطة التنفيذية. ولعل كل طرف من أطراف الحكومة يتهم بعضها بعضا بالطائفية أو التمترس الإثني والمذهبي، لكنه لم يتقدم أحد بمشروع قانون إلى البرلمان مثلاً، لتحريم الطائفية وإنزال العقاب بمن يدعو أو يروّج لها أو يتستر عليها، وكذلك مشروع قانون لتعزيز المواطنة على أساس المساواة التامة وعدم التمييز لأي سبب كان واحترام حقوق الإنسان، بعيداً عن المحاصصات الطائفية والمذهبية، وحماية حقوق الأقليات الدينية والقومية والسلالية واللغوية وغيرها. ويدّعي كل فريق أنه يخالف الفريق الآخر، ولكن جميع الأطراف بغالبيتها الساحقة حتى وإن كانت فرحة بما عندها حيث يلقي سهام كل فريق ضد الفريق الآخر باعتباره يتحمل المسؤولية، إلاّ أنهم في نهاية المطاف، ورغم جميع المزاعم وافقوا على المعاهدة الأمنية مع الولايات المتحدة، وإن اختلفوا في التبريرات والتفاصيل والادعاءات. ولعل ما زاد المشهد كوماتراجيدية وسريالية هو الموقف من قضية الصحافي منتظر الزيدي الذي أقدم على رشق الرئيس بوش بفردتي حذائه، فبعض الذين وقعوا على المعاهدة استبشروا بما حصل وكأنه رد اعتبار لهم، وهو دليل عجز وبؤس، والبعض الآخر استنكر وهاج وماج، معتبراً ذلك إهانة له واعتداءً على هيبته، في حين أن المسألة كان يمكن أن تؤخذ ببعدها المهني والسياسي، الشخصي والعام إضافة إلى بعدها القانوني. ولعل موضوع الانتخابات الجديدة لمجالس المحافظات يعتبر محطة جديدة من محطات السريالية الكومتراجيدية، فالكل لا يزال يقف خلف الستار وإن رفع قائمته إلى الأعلى، لكنه ينتظر لاسيما الكتل الصغيرة، قدرة قادر لرفعه إلى منصات المجالس في المحافظات، وستكون تلك بروفة جديدة للانتخابات النيابية القادمة أواخر العام 2009. ويبقى تعديل الدستور وقانون النفط ومشكلة كركوك عقدة العقد، التي قد تؤدي إلى تفجير الوضع، فهي قنابل عنقودية يمكنها أن تنفجر في أية لحظة لتدفع الأوضاع إلى التذرر والتشظي، وقد ينقلب السحر على الساحر ويتداخل الأخضر باليابس ويصبح الوجود العسكري الأميركي بمعاهدة أو بدونها ورطة حقيقية، والخروج من غلوائها مجرد إفلات من يد القدر. أليست هذه مشاهد كوماتراجيدية سيريالية لفيلم كابوسي طويل يعيشه العراق؟
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حقوق الإنسان.. إشكاليات أم معايير؟
-
ماذا يريد سانتا كلوز من أوباما؟
-
حكم القانون ... من أين نبدأ؟!
-
هل يتمكن أوباما من إغلاق جوانتانامو؟
-
حقوق الإنسان بين التقديس والتدنيس!!
-
«نفاق» حقوق الإنسان.. وقفة تأمل!
-
جائزة التسامح
-
المواطنة «المفترضة»!
-
شرق أوسط ممكن شرق أوسط مستحيل
-
الاتفاقية الامنية رهن للعراق وشعبه
-
الاتفاقية العراقية- الامريكية من الاحتلال العسكري الى الإحتل
...
-
المعاهدة العراقية-الأميركية: من الاحتلال إلى الاحتلال! (2-3)
-
أوباما الشرق أوسطي!!
-
زمان الطائفية
-
أولويات الرئيس أوباما!
-
استحقاقات أوباما
-
الإرث الثقيل
-
المعاهدة العراقية-الأميركية... من الاحتلال إلى الاحتلال! (1-
...
-
ست حقائق أفرزتها الانتخابات الأميركية
-
بغداد - واشنطن بين التبرير والتحذير
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|