في الجولان ومزارع شبعا والضفة وغزة والقدس، وشاهدا على عجز النظام العربي عن الفعل وتآكل الإرادة السياسية العربية الذي تجلى بأفدح صوره في التخاذل السياسي العربي المهين تجاه اجتياح إسرائيل للضفة الغربية وارتكابها أبشع المجازر في نابلس وجنين. 35 عاما يتأكد خلالها، ليس فقط العجز الفادح للنظام العربي عن محو آثار تلك الهزيمة، بل استفحال آثارها عاما بعد آخر.
إن العجز الراهن يعيد إلى الأذهان نفس المشهد الذي تكرر من قبل عندما اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان عام 1978، ثم عندما احتلت أول عاصمة عربية –بيروت- عام 1982، وأقدمت على ارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا.
منذ وقعت هزيمة 1967 بدأ تنامي الإدراك بصورة متزايدة إلى أن مصادرة الحريات والتغييب القسري للشعوب عن المشاركة في تقرير مصيرها قد قاد إلى تلك الانتكاسة الكبرى، وهو ما عبرت عنه شعارات وهتافات التحركات الشعبية الغاضبة في هباتها العفوية بعد شهور قلائل من الهزيمة.
وفي عام 1982 بدا الشارع العربي عاجزا بدوره عن تحويل غضبته-رغم كل مظاهر الاحتجاج العارم- إلى فعل مؤثر بعد احتلال بيروت ومجازر صبرا وشاتيلا. بل إن المفارقة الكبرى في ذلك الوقت تجسدت في أن أكبر مظاهرة احتجاج على تورط شارون في لبنان وفي مجازر صبرا وشاتيلا، خرجت في تل أبيب، وأن التحقيق الوحيد الذي أجرى في أعقاب تلك المجازر، هو الذي قامت به لجنة كاهانا في إسرائيل، التي أدانت في ذلك الوقت شارون وأوصت بإعفائه من منصب وزير الدفاع.
لقد دعا المثقفون العرب في ذلك الوقت إلى مؤتمر في قبرص بعد أن تعذر اجتماعهم في أية عاصمة عربية، وتوصلوا إلى أن الهزائم والانتكاسات المتتالية التي منى بها العرب، تنبع من سياسات النظم العربية التي قايضت أو صادرت الحريات الأساسية وحقوق الإنسان بدعاوى تحقيق العدالة الاجتماعية أو التنمية الاقتصادية أو التطلعات القومية في الوحدة العربية ومواجهة التحديات الخارجية، فلم يتحقق لا العدل الاجتماعي ولا التنمية ولا الوحدة، وفي نفس الوقت خسرنا الأرض وكرامة الوطن والمواطنين. وانتهى المثقفون في ذلك الاجتماع إلى تشكيل منظمة إقليمية للدفاع عن حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
وعلى مدى عقدين من الزمان، ظلت المنطقة العربية هى الأقل تأثرا برياح الديمقراطية وعمق تحولاتها التي عرفتها مناطق أخرى من العالم، ولم يتعد الأمر بعض التحسينات التي لم تمس جوهر البنى الاستبدادية للنظم العربية في مجملها، وكان مرور هذين العقدين كافيا للنكوص عن معظم هذه التحسينات في أغلب البلدان العربية، ومصادرة أهم الأدوات الكفاحية والتنظيمية للشعوب العربية، ولينحسر إلى حد كبير دور الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية، بل ويجري تقديم الديمقراطية وحقوق الإنسان باعتبارها جزءا من مؤامرة غربية، وينظر إلى منظمات حقوق الإنسان التي ولدت خلال هذه الحقبة باعتبارها العدو الذي ينبغي محاصرته، بإجراءات قانونية وتدابير أمنية فضلا عن حملات تشويه السمعة التي تصل إلى حد التخوين.
لذلك عندما يتحرك الشارع العربي الآن –كما لم يتحرك من قبل- فإن تحركه لا يكشف وحسب عمق الهوة التي تفصل بين طموحاته وعجز هياكله السياسية، بل يكشف أيضا افتقار الشارع العربي لتلك الأدوات التنظيمية التي يمكن أن تحول غضبته إلى فعل مؤثر على حكوماته، كما يكشف الافتقار الهائل في بلداننا لحريات التعبير، حتى عندما يتعلق الأمر بالتضامن مع الشعب الفلسطيني، أو إعلان صيحات الغضب على السياسة الأمريكية والجرائم الإسرائيلية.
في العالم العربي وحده فقد مواطنون حياتهم ثمنا للتظاهر والاحتجاج، بل وتجاسر مسئولون عرب على إعلان حظر مظاهرات التضامن مع الشعب الفلسطيني! بينما كانت أوروبا وأمريكا مسرحا لمظاهرات سلمية متوالية يشارك فيها عشرات الألوف -بكل حرية وأمان- بينهم أبناء الجاليات العربية. وعلى حين نجح الشارع في أوروبا في التأثير ولو بصورة نسبية، مثلما انعكس في قرارات برلمانات مقاطعات بلجيكية بمقاطعة إسرائيل، ومطالبة البرلمان الأوروبي لحكومات الاتحاد الأوروبي بتجميد اتفاق الشراكة مع إسرائيل وحظر تصدير الأسلحة إليها، فقد صمت الحكومات والبرلمانات العربية آذانها عن المطالب المرفوعة –سواء إلى الحكومات العربية أو حتى إلى دول العالم شتى- بفرض عقوبات دبلوماسية واقتصادية على إسرائيل من أجل إجبارها على الانصياع لقواعد الشرعية الدولية.
إننا ندرك أن الأمر يتعدى بالطبع حدود العناد والمكابرة من جانب النظم العربية تجاه مطالب شعوبها، وهو وثيق الصلة بالدرجة الأولى بغياب الإرادة السياسية للنظام العربي التي تمكنه من تصحيح أوضاعه وتجاوز حالة الهوان التي من المؤكد أن الحكومات العربية ذاتها تستشعرها.
فقد أفضى غياب الديمقراطية طيلة عقود سابقة، إلى تبديد هائل لعناصر القوة الأساسية في عالمنا العربي، وإلى إخفاقات محبطة لطموحات تحديث حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ووجد ذلك ترجمته على وجه الخصوص في اختلال موازين القوى الداخلية والخارجية بشكل فادح لغير صالح العرب، وأفضى إلى عجز السياسة الخارجية عن إحراز تقدم على صعيد كسب الدعم الدولي للشعب الفلسطيني.
الأكثر إيلاما ومهانة، أن سفاحا ومجرم حرب مثل شارون، لا يجد غضاضة في استثمار غياب الديمقراطية واستشراء انتهاكات حقوق الإنسان في العالم العربي، للتغطية على جرائمه أو للتهوين من فظاعتها والتنصل من المحاسبة عليها.
لقد أهدرت طاقات ومقدرات عربية هائلة في العديد من المغامرات العسكرية التي لم تجد من يوقفها أو يحاسب المسئولين عنها، ودفعت شعوبنا ثمنا فادحا للحروب العربية-العربية، والحروب الأهلية العربية، وأدى إهدار حقوق الإنسان وحقوق المواطنة وتجاهل التنوع الثقافي في عالمنا العربي إلى صراعات داخلية طاحنة، ربما فاقت خسائرها ما خسره العرب في صراعهم مع إسرائيل عبر أكثر من خمسة عقود. وتآكلت مقدرات العرب في التنمية بفعل ذلك وبتضافره مع تفشي الفساد وتبني سياسات واستراتيجيات للتنمية الاقتصادية تفتقر إلى الرشاد، بفعل استئثار النخب الحاكمة بصنع السياسات واستبعاد أية آليات ديمقراطية تؤمن فرص المراجعة والتصحيح والرقابة والمحاسبة. وليس أدل على ذلك من أن البلدان العربية التي تحتل ترتيبا متأخرا بين دول العالم من حيث مؤشرات التنمية واحترام حقوق الإنسان هى ذاتها التي تحتل مكانا متقدما فيما يتعلق بمؤشرات تفشي الفساد وغياب قواعد الشفافية والمحاسبية.
وليس أدل على إخفاقات العرب في التنمية وفي النهوض باقتصادياتهم من تراجع نصيبهم في التجارة الدولية إلى أقل من 3% يشكل النفط معظمها، وليس أدل على ذلك أيضا من أن المبادرات الشعبية الرامية لمقاطعة البضائع والشركات الأمريكية تصطدم بدورها بمخاوف أن تلحق هذه المقاطعة أضرارا أكبر بالاقتصاديات العربية وبالمواطنين العرب، أكثر مما تلحق بالاقتصاد الأمريكي وشركاته.
ولا يبدو خلال هذه العقود الممتدة من نجاحات للنظام العربي، أكثر من استثماره لهزيمة 1967 ذاتها لإحكام القبضة على الشعوب وتكميم الأفواه بزعم الإعداد لمعركة -لن تأتي- لا يعلو صوت عليها!
إن قدرة العرب على تعديل موازين القوى لصالحهم يقتضي نضالا لا يلين من أجل انتزاع الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان. تلك هى الركيزة الأساسية من أجل الحفاظ على كرامتنا كمواطنين أولا، ومن أجل تنمية حقيقية؛ عمادها البشر وهدفها الأساسي البشر أيضا، ومن أجل التصدي لكل مظاهر الفساد وإهدار الموارد والطاقات، ومن أجل استعادة عناصر القوة والطاقات العربية المهدرة وتوظيفها بصورة رشيدة.
إن عقودا ممتدة من الإخفاقات العربية في شتى المجالات تقتضي أن تتصدر حقوق الإنسان والإصلاحات الديمقراطية نضالات كافة القوى والجماعات الغيورة على مصالح أوطانها، انطلاقا من إدراكها أن الانتصار لحقوق الشعب الفلسطيني والدفاع عن الحقوق الجماعية للشعوب بصفة عامة لن يتأتى في ظل غياب الديمقراطية وتضاؤل فرص التمتع بحرية الرأي والتعبير وبحقوق التنظيم.
إن المنظمات الموقعة على هذه الرسالة تحث كافة القوى السياسية والمدنية في العالم العربي على تعزيز وتضافر جهودها من أجل إصلاح سياسي ودستوري شامل، وتعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية دستوريا وقانونيا وعمليا، وإنهاء حالات الطوارئ التي ترزح تحت ظلها –بصورة مقننة أو غير مقننة- معظم الشعوب العربية، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية، ووضع حد لعملية الاحتكار السياسي واستئثار شخص واحد أو حزب واحد بصنع السياسات الداخلية والخارجية، وتأمين آليات انتقال لتداول سلمي للسلطة عبر انتخابات نزيهة تقوم على احترام التعددية وتكفل فيها فرص متكافئة للجميع، بما يضمن أن تكون تعبيرا أمينا عن التنوع السياسي والفكري والثقافي في مجتمعاتنا.
إن النهوض الديمقراطي واستعادة قدراتنا على بناء منظماتنا السياسية والمدنية بحرية هو أيضا الضمان لتأسيس حركة مدنية عربية عابرة للحدود تشكل نواة لجبهة تضامن مدني عالمي مع حقوق الشعب الفلسطيني.
بغير ذلك ستبقى آثار هزيمة 67 قائمة، ويبقى تحرير الوطن والمواطن مجرد حلم بعيد المنال، ويستمر العجز والانهيار.
لا مجال للفصل بين الوطن ومواطنيه .. ولا بين تحرير الأوطان وتحرير الشعوب.
المنظمات الموقعة
1- الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان (البحرين)
2- الجمعية اللبنانية لحقوق الإنسان (لبنان)
3- الجمعية المغربية لحقوق الإنسان (المغرب)
4- الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان (الجزائر)
5- الرابطة الليبية لحقوق الإنسان (ألمانيا)
6- الشبكة العراقية للتنمية وحقوق الإنسان (لندن)
7- المؤسسة العربية لحقوق الإنسان (فلسطين 48)
8- المجموعة السودانية لحقوق الإنسان (السودان)
9- المركز المصري لحقوق المرأة (مصر)
10- المنظمة العربية لحقوق الإنسان (لندن)
11- المنظمة الفلسطينية لحقوق الإنسان (لبنان)
12- المنظمة المصرية لحقوق الإنسان (مصر)
13- المنظمة المغربية لحقوق الإنسان (المغرب)
14- بديل / المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين (فلسطين)
15- جمعية الدفاع عن الحقوق والحريات (لبنان)
16- جمعية القانون (القدس-فلسطين)
17- دار الخدمات النقابية والعمالية (مصر)
18- شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية (تضم 92 منظمة من الضفة الغربية وقطاع غزة) (فلسطين)
19- لجان الدفاع عن حقوق الإنسان في سوريا (سوريا)
20- لجنة الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان في تونس (فرنساX)
21- مؤسسة الأرشيف العربي (الأردن)
22- مؤسسة الحق (رام الله-فلسطين)
23- مركز البحرين لدراسات حقوق الإنسان (البحرين)
24- مركز الأردن الجديد للدراسات (الأردن)
25- مركز الخرطوم لحقوق الإنسان (السودان)
26- مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان (فلسطين)
27- مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان (اليمن)
28- مركز الميزان لحقوق الإنسان (غزة-فلسطين)
29- مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف (مصر)
30- مركز حماية حرية الصحفيين (الأردن)
31- مركز دراسات المرأة الجديدة (مصر)
32- مركز هشام مبارك للقانون (مصر)
33- ملتقى المجتمع المدني (اليمن)
34- منتدى الحقيقة والإنصاف (المغرب)
35- ميزان/مجموعة القانون من أجل حقوق الإنسان (الأردن)
36- مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان (مصر)
Xنظرا للموقف النقدي لمنظمات حقوق الإنسان داخل تونس من الاستفتاء الرئاسي الأخير، فقد قطعت الحكومة التونسية كافة وسائل الاتصال مع العناصر النشيطة في هذه المنظمات، الأمر الذي تعذر معه استطلاع رأيها في مشروع هذه الرسالة !!!