أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - جورج حداد - البلقان المضطرب: أي مستقبل؟!؛















المزيد.....


البلقان المضطرب: أي مستقبل؟!؛


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 2522 - 2009 / 1 / 10 - 09:56
المحور: السياسة والعلاقات الدولية
    


"برميل البارود"، "البلقنة"، عبارتان دخلتا القاموس السياسي في كل لغات العالم. وذلك لما اشتهر به "البلقان" او ما يعرف باسم "شبه جزيرة البلقان" من نزاعات واضطرابات داخلية، ومن كونه منطقة نزاع عالمي. ويعود ذلك الى الموقع الستراتيجي الحساس للرقعة الجغرافية للبلقان بين ثلاث "مناطق محورية كبرى" تضم ثلاث "كتل حضارية" هي: الكتلة المسيحية الاوروبية الشرقية؛ الكتلة المسيحية الاوروبية الغربية والكتلة الشرقية العربية ـ الاسلامية، من جهة، ومن جهة ثانية شموله على تعددية ملونة: قومية (مع غلبة العنصر السلافي)، ودينية (مع غلبة المذهب الارثوذكسي، المسيحي الشرقي) واتنية (حيث توجد جماعات اتنية عديدة، لم تتطور الى مستوى امة او قومية، الا انها تمتلك خصائص ثقافية ولغوية، واكبر هذه الاتنيات الغخر).

ومنذ الحرب الروسية ـ العثمانية (1877-1878) حتى الحرب العالمية الثانية لم تختف رائحة البارود، بالمعنى الحرفي للكلمة، من جبال البلقان. وقد انطلقت شرارة الحرب العالمية الاولى من البلقان بالذات، حينما قام احد الطلاب القوميين الصرب (الذين كانوا يطمحون الى الاستقلال عن امبراطورية النمسا ـ المجر) باغتيال ارشيدوق النمسا في 28 حزيران 1914 في مدينة سراييفو في البوسنة.

خلال الحرب العالمية الثانية، وبسبب وجود أنظمة ملكية ـ برجوازية عفنة، من جهة، وحركات ثورية قومية واصلاحية ودمقراطية نشطة، من جهة ثانية، تميز البلقان، اولا بسرعة سقوط حكوماته التقليدية في قبضة دول المحور النازي، او بانضمامها الطوعي الفوري اليه، منذ بداية الحرب. ولكن الميزة الاهم التي طبعت البلقان خلال الحرب العالمية الثانية هي ظهور مقاومة شعبية واسعة وشديدة المراس ضد النازية والفاشية وعملائها من الانظمة السابقة. وقد اضطلع الشيوعيون، خصوصا في ما صار يعرف باسم يوغوسلافيا الاتحادية السابقة، بقيادة جوزف بروز (تيتو) بدور رئيسي في المقاومة وقيادتها. وباستثناء تركيا، اسفرت هزيمة دول المحور وانتصار المقاومة الشعبية ضد النازية عن استلام السلطة من قبل الشيوعيين وحلفائهم في جميع بلدان البلقان، بما في ذلك اليونان. ولكن الملك اليوناني الهارب الى مصر، عاد الى اليونان، واستعاد السلطة من الشيوعيين والدمقراطيين اليونانيين، بمساعدة الانجليز (وبتواطؤ ضمني من قبل ستالين، الذي كان يطبق اتفاقية يالطا، التي تجعل اليونان ضمن دائرة النفوذ الغربية، ونذكر هنا ان الجنرال ماركوس، القائد الاسطوري للثوار الشيوعيين اليونانيين، وبعد ان لجأ الى الاتحاد السوفياتي، مات كعامل بسيط في معمل احذية "غير مرضي عنه" من قبل القيادة الستالينية).

وبعد الحرب العالمية الثانية، وخلال الحرب الباردة، انقسمت دول البلقان الى ثلاث فئات سياسية:

1 ـ تركيا واليونان، اللتان انضمتا الى الكتلة الغربية بقيادة اميركا والى حلف الناتو العسكري، بالرغم من التناقض الشديد التاريخي والراهن بين البلدين.

2 ـ بلغاريا وألبانيا، اللتان انضمتا الى الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق، والى حلف فرصوفيا العسكري.

3 ـ يوغوسلافيا السابقة بقيادة تيتو (وكانت تضم: صربيا، كرواتيا، سلوفينيا، البوسنة والهرسك، الجبل الاسود ومقدونيا اليوغوسلافية)، التي ـ بالرغم من وجود حكم الحزب الشيوعي فيها ـ انتهجت سياسة مستقلة عن موسكو الستالينية، وتبنت سياسة الحياد الايجابي بين المعسكرين الشرقي والغربي، وخصوصا على مستوى المواجهة العسكرية بين حلف الناتو وحلف فرصوفيا. هذا مع العلم ان الشعب الصربي، كشعب سلافي عريق، وكشعب ارثوذكسي (مسيحي شرقي)، تربطه علاقات عنصرية (race) وحضارية وروحية ـ دينية، وثيقة وعميقة، بالشعب الروسي. الا ان القائد الشيوعي التاريخي ليوغوسلافيا، الكرواتي الاصل، جوزف بروز (تيتو)، انتهج سياسة مستقلة ومختلفة تماما عن سياسة ستالين. وكانت اتفاقية يالطا تقضي ان يكون النفوذ الغربي والشرقي في يوغوسلافيا بنسبة 50 ـ 50%. اي ان تعطي يوغوسلافيا اذنا صاغية لـ"الشرق" و"الغرب" معا، وترضي الطرفين في آن واحد. ولكن تيتو، مستندا الى الدعم الشعبي القوي له، وقف بشدة ضد هذا التوجه "الدولي" اليالطاوي، الذي كان من شأنه تحويل يوغوسلافيا الى "دولة عهر سياسي" و"مكسر عصا" و"ممسحة" او "فوطة حمام" لسياسات الدول العظمى.

ومنذ انهيار وهزيمة دول المحور النازية والفاشية، فإن يوغوسلافيا "الشيوعية المستقلة" كانت المنطقة الوحيدة في شبه جزيرة البلقان الخالية من القواعد العسكرية الاجنبية، الغربية او الشرقية، والمستقلة استقلالا حقيقيا. ولاعطاء فكرة تقريبية صحيحة عن الدور الخاص والهام الذي اضطلعت به يوغوسلافيا تيتو في السياسة البلقانية خاصة والدولية عامة، لا بد من ذكر القضايا التالية:

1 ـ اضطلعت يوغوسلافيا بدور مميز في الموقف من القضية الفلسطينية، اذ انها من الدول القلائل التي صوتت ضد قرار تقسيم فلسطين الذي صدر عن الامم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947؛ وأيد الوفد اليوغوسلافي الى الامم المتحدة مشروع انشاء دولة فلسطينية دمقراطية موحدة، بعد جلاء الاحتلال البريطاني، تقوم على اساس "الكوتا الطائفية" (على الطريقة اللبنانية) مع الاحتفاظ بالطابع الوطني الاصلي ـ الفلسطيني العربي ـ لفلسطين. ولكن هذا المشروع رفض على السواء من قبل الدول الغربية ومعها الصهيونية العالمية كما ومن قبل القيادة الستالينية والدول الشيوعية الدائرة في فلكها. وهذا ما جلب الحقد الدفين للصهيونية العالمية، وللستالينية، معا، على يوغوسلافيا والشعب الصربي خاصة.

2 ـ في أسبقية تاريخية على فكرة انشاء "الاتحاد الاوروبي"، طرحت يوغوسلافيا التيتوية فكرة إنشاء "الاتحاد الفيدرالي البلقاني"، لتحويل البلقان من ساحة للنزاعات الاقليمية وتصفية الحسابات "الدولية"، الى بوتقة للتعاون والتفاعل الحضاري بين الشعوب، والى جسر تواصل بين الحضارات العالمية والكتل العالمية الكبرى. ولكن هذه الفكرة كانت تخالف تماما "روح" اتفاقية يالطا، التي تقوم على وجود "مناطق نفوذ" للدول العظمى، اي على تقسيم العالم الى "دول كبرى نافذة" وبلدان وشعوب ودول "منفوذ فيها"، اي ما يشبه "الحوْش الخلفي" او "مزارع دجاج" للدول النافذة. وتحقيق فكرة "الاتحاد الفديرالي البلقاني" كانت تعني تحويل البلقان من "حوْش خلفي" للدول العظمى الى حديقة امامية نموذجية للعالم المتحضر بأسره. وهذا ما لم يكن في مصلحة الامبريالية والصهيونية العالمية المتسترتين بـ"الدمقراطية" الكاذبة، ولا من مصلحة الاستبدادية الستالينية المتسترة بـ"الاشتراكية" الكاذبة. ولهذا تضافرت جهود اطراف "اتفاقية يالطا" لاسقاط وإفشال هذه الفكرة الانسانية والحضارية العظيمة.

3 ـ انتهجت يوغوسلافيا سياسة "الحياد الايجابي" بين المعسكرين الغربي والشرقي، ولعبت دورا مميزا في انعقاد مؤتمر باندونغ باندونيسيا سنة 1955، وتأسيس حركة عدم الانحياز الدولية. ومن خلال هذا الموقف "الاستقلالي" و"الحيادي الايجابي"، استطاعت يوغوسلافيا التيتوية ان تتحول الى "دولة عازلة" بين المعسكرين الدوليين المتواجهين، والى عنصر استقرار وتهدئة في منطقة البلقان طوال مرحلة الحرب الباردة.

بعد هدم جدار برلين وسقوط المنظومة السوفياتية والاتحاد السوفياتي السابقين، كان من اللافت ان الدول الاوروبية الشرقية (بما فيها البلقانية) الموالية للسوفيات والعضو في حلف فرصوفيا سابقا، كانت سباقة الى الانضمام الى حلف الناتو والتحول 180 درجة الى مناطق نفوذ غربية؛ خلافا ليوغوسلافيا التي تمسكت باستقلاليتها وحياديتها، ورفضت الانجرار الى سياسة اقامة القواعد العسكرية المعادية لروسيا وللدول العربية وايران. وهذا ما جعل يوغوسلافيا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، هدفا للعداء الشديد من قبل الدوائر الامبريالية الغربية والصهيونية العالمية، التي عملت المستحيل لمحاصرة وتدمير يوغوسلافيا من داخلها وخارجها. ودفعت شعوب يوغوسلافيا السابقة ثمنا غاليا مقابل "استقلاليتها" و"حياديتها الايجابية" السابقة، ورفضها الخضوع للمخططات العدوانية الغربية. وهكذا تحولت يوغوسلافيا من "دولة عازلة" و"عامل استقرار" مركزي و"عدم تصادم" في البلقان طوال مرحلة الحرب الباردة السابقة، الى منطقة لاشعال النزاعات البلقانية التقليدية، في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.

وقد تجندت لشن هذه الحرب الظالمة على وحدة واستقلال ومصير شعوب يوغوسلافيا السابقة جبهة عالمية كبرى شملت: الحلف الاطلسي الذي زج بكل قوته العسكرية الجوية خصوصا ضد يوغوسلافيا في حرب 1999؛ الدول الغربية وعلى رأسها اميركا التي وضعت كل وزنها وامكانياتها السياسية والاقتصادية والاعلامية والمخابراتية ضد شعوب يوغوسلافيا السابقة؛ الصهيونية العالمية واسرائيل؛ بعض الحركات الاسلامية المشبوهة المرتبطة بالمخابرات الاميركية والاسرائيلية والتركية؛ المافيات بكل انواعها وتخصصاتها. ووقفت روسيا ما قبل البوتينية عاجزة عن ان تنجد بشيء الشعب الصربي خاصة وشعوب يوغوسلافيا عامة. وبعد ان عملت الجبهة الامبريالية الغربية على تعميق النزاع القومي بين الصرب والالبان وايصاله الى نقطة اللارجوع، دعمت ومولت وسلحت عملية فصل اقليم كوسوفو عن صربيا، واعلانه جمهورية مستقلة. وقد طبقت الجبهة الامبريالية الاميركية ـ الصهيونية، اول ما طبقت وبنجاح ملفت للنظر، سياسة "الفوضى البناءة" ضد شعوب يوغوسلافيا. وتأسيسا على هذا النجاح، نقلت التجربة لاحقا الى "الشرق الاوسط الكبير". ويكفي ان نجري المقارنة التالية:

أ ـ استخدم شعار "حق تقرير المصير للشعوب" لتغطية فصل كوسوفو عن صربيا، وتحويلها الى قاعدة اميركية بكل معنى الكلمة (توجد في كوسوفو اكبر قاعدة عسكرية اميركية في العالم هي قاعدة بوندستيل). والاحتلال الاميركي ـ الاطلسي لكوسوفو وتحويلها الى قاعدة ضد شعوب البلقان وشعوب العالم قاطبة، هو مشرّع وقانوني بموجب اتفاقات تغطيها الامم المتحدة ذاتها. واي اعتراض على هذا الاحتلال غير الشرعي يواجه فورا بتهمة معاداة شعب كوسوفو او معاداة الالبان ومعاداة المسلمين، ودعم العنصرية الصربية والوقوف الى جانب ميلوسوفيتش وكارادجيتش الخ.

ب ـ "اللعبة المسرحية" ذاتها تم نسخها وتطبيقها في العراق، حيث تحولت كردستان العراق الى قاعدة "يستريح" فيها الاحتلال الاميركي ـ الاطلسي المغطى بالشرعية الدولية وقرارات الامم المتحدة واخيرا الاتفاقية الامنية الاميركية ـ العراقية. وخلافا لـ"القاعدة الستراتيجية الاميركية" ـ اسرائيل، التي هي "جسم غريب" في المنطقة، فإن كردستان العراق هي جزء من البيت، واي اعتراض على العلاقات الكردية العراقية ـ الاميركية والاسرائيلية والصهيونية، يتهم فورا بمعاداة "حق تقرير المصير للشعب الكردي" ومعاداة "حرية الشعب الكردي" وتأييد ابادة الشعب الكردي التي كان يمارسها نظام صدام حسين؛ تماما كما يتهم المعارضون للغزو والاحتلال الصهيوني لفلسطين بمعاداة اليهود وتأييد الهولوكوست.

ج ـ ومثلما تستخدم الان كردستان العراق، كقاعدة اميركية: عسكرية ـ سياسية ـ مخابراتية ـ اقتصادية ـ ثقافية (لنتذكر الاحتفالات والمهرجانات "الثقافية" التي تجري باستمرار في كردستان العراق)، لاجل اعادة رسم خريطة العراق والمنطقة ككل؛ يجري الان استخدام كوسوفو كقاعدة احتلال اميركي شمولي لاعادة رسم خريطة منطقة البلقان خاصة، والمنطقة المحيطة به عامة. وتحويل البلقان الى منطقة مواجهة حامية مع روسيا، والى "حاجز اميركي ـ صهيوني" بين اوروبا وبين العالم العربي ـ الاسلامي. وانطلاقا من كوسوفو التي اصبحت "جنة المافيات": العمل لتحويل البلقان كله الى منطقة مافياوية موالية للغرب، وبالتالي الى قاعدة للمافيات العالمية بكل اشكالها وفروعها وتخصصاتها، من مافيا المخدرات، الى مافيا العملات المزورة، الى مافيا سوق الدعارة وخطف الفتيات بعشرات ومئات الالوف من كافة انحاء العالم وسوقهن الى "غابة البلقان" و"تدعيرهن" بالقوة، ثم اعادة تصديرهن الى مختلف البلدان؛ مافيا تجارة الاعضاء البشرية التي بدأت طلائعها في كوسوفو؛ مافيا القتلة المأجورين، حيث تنتشر هذه "الصناعة" في كافة ارجاء العالم، ويصبح البلقان منطلقا وملجأ للقتلة قبل وبعد تنفيذ عملياتهم؛ واخيرا لا آخرا يصبح البلقان المافياوي "موطنا" لـ"الجيوش الخاصة" التي هي وريثة ما كان يسمى "المرتزقة" في افريقيا، والتي تتخذ اليوم الشكل القانوني لشركات الامن الخاصة مثل عصابة "بلاك ووتر" التي ذاع صيتها في العراق.

هذا هو احد جانبي الصورة او المخطط الجهنمي المرسوم للبلقان المظلوم؛ ولكن في الجانب الاخر فإن التجربة التاريخية ليوغوسلافيا التيتوية، اي تجربة الاتحاد والتعاون والتآخي بين شعوب واتنيات المنطقة وتحويلها الى منطقة سلام وتفاعل حضاري عالمي، لا تزال تجد انصارها ليس في صربيا وحدها، او في كرواتيا (موطن تيتو الاصلي)، بل لدى ما يسمى "الاكثرية الصامتة" في جميع بلدان يوغوسلافيا السابقة والبلدان البلقانية الاخرى بما فيها اليونان. وقد جرت الى الان العديد من الاجتماعات الرسمية والشعبية تحت شعار توحيد البلقان. الا ان الاتحاد الاوروبي، والحلف الاطلسي، وبسبب من وقوعهما تحت النفوذ الاميركي لا يزالان يعرقلان هذا الاتجاه التوحيدي لشعوب البلقان.

وهذا يعني انه، بالرغم من سياسة الهيمنة الاميركية ـ الصهيونية، يوجد في البلقان اكثر من خيار واكثر من احتمال للتطور المستقبلي، ولا يمكن الفصل بين مستقبل البلقان وبين المتغيرات الجوهرية التي يشهدها العالم. ويمكن ايجاز هذه المتغيرات فيما يلي:

1ـ ان البنية الدولية ووضعية العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة والآحادية القطبية بدأت تتهاوى، وتحل محلهما بنية ووضعية جديدتان تعملان على اضعاف دور الغرب الامبريالي ـ الصهيوني.

2 ـ ان تأثير هذه المتغيرات في اوروبا سوف يدعم لسنوات عديدة عدم الاستقرار في كوسوفو وكل اقليم جنوب شرق اوروبا.

3 ـ خلال السنوات الخمس الماضية، فقدت الولايات المتحدة الاميركية باستمرار من جبروتها، وسمعتها وتأثيرها على المسرح العالمي. فلحظة الآحادية القطبية، التي كان يجب ان تسم القوة الاميركية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي و"الشيوعية"، لم تكن بالحقيقة سوى لحظة. ويتأكد ذلك بالاخص من خلال الفشل الاميركي في العراق الذي ادى الى إضعاف المواقع الاميركية القوية في العالم.

4 ـ ان جبروت الولايات المتحدة الاميركية اثرت عليه ايضا الى درجة كبيرة المتغيرات الجارية في اوروبا، والتي تعجز واشنطن بشكل كامل عن ابقائها تحت سيطرتها.

5 ـ ان الاتحاد الاوروبي يضعف الى درجة كبيرة ويصبح غير موثوق. فالرقعة الجغرافية الكبيرة، واختلاف المصالح وتعدد "سرعات" التطور في الاتحاد الاوروبي الحالي تقود الى ان الادارة، واخذ القرارات، والمواءمة بين المصالح والرغبات المختلفة، كل ذلك يصبح اكثر تعقيدا، ومن حين الى آخر غير قابل للتحقيق. ان اتفاق لشبونة، الذي تم التوقيع عليه في نهاية سنة 2007، يمثل محاولة من قبل الاتحاد الاوروبي ان يجدد توجهاته وتماسكه بعد الفشل في الاستفتاء على الدستور الاوروبي الموحد في فرنسا وهولندا. وبالارتباط بذلك، يبدو اكثر فاكثر ان الاتحاد الاوروبي سيتم خفض سقفه السياسي ليتحول الى مجرد اتحاد تجاري واقتصادي واسع جدا.

6 ـ ان حلف الناتو يشيخ. فبالرغم من نهاية الحرب الباردة، حينما كان الحلف "ضروريا" للدفاع عن الغرب، فإن هذا الاتحاد يستمر بالوجود بقوة زخم الاستمرار وبسبب عجز القادة الغربيين عن ايجاد نظام جديد للامن، يستجيب للواقع في القرن 21. بالطبع ان الناتو تابع حياته، الا انه بالواقع لم يعد سوى منظمة هشة ذات هدف غير مضمون في العالم الذي يتشكل من جديد. ان الاختبار الاكبر للناتو اليوم جرى في افغانستان. ولكن حتى هناك فهو، كاتحاد، غير ناجح، لانه لديه مشكلات ملحوظة في تجميع القوات الضرورية للصراع. فأكثرية الدول الاوروبية الاعضاء في الناتو لديها ببساطة اهتمام ضئيل للانخراط في افغانستان بطريقة ذات شأن.

7 ـ ان روسيا في عهد فلاديمير بوتين قد ظهرت على المسرح الدولي من جديد كقوة مهمة. وبالرغم من ان العلاقات بين موسكو وبين اوروبا والولايات المتحدة الاميركية تبدو احيانا غير محددة المعالم، الا انه من الواضح ان النفوذ الاقتصادي والسياسي والهيبة العسكرية لروسيا المعاصرة يتزايدان. لا شك ان اميركا والحلف الاطلسي يمتلكان ترسانة عسكرية اكبر، الا ان روسيا تمثل تهديدا عسكريا جديا، والاخطر انها تحولت الى مغناطيس لجذب الدول والقوى، التي تجد نفسها على تناقض او اختلاف مع الغرب. وللمثال، فإن دعم موسكو للموقف الصربي فيما يتعلق بكوسوفو له دور مهم جدا لموسكو كطريقة لاظهار مناهضتها للولايات المتحدة الاميركية. والاهم من ذلك انها وسيلة لاظهار قوتها الجديدة على المسرح الدولي.

8 ـ ان تحسين العلاقات الروسية ـ الايرانية والتعاون بين الطرفين على الاصعدة السياسية والاقتصادية والستراتيجية، يهدد بقلب "رقعة الشطرنج" الستراتيجية العالمية رأسا على عقب.

9 ـ ان اسرائيل التي كانت الاداة الرئيسية الفعالة لتحقيق اهداف الستراتيجية الامبريالية الغربية في منطقة الشرق الاوسط طوال اكثر من نصف قرن، بعد انهيار النظام الاستعماري القديم، كانت تمثل "نموذجا ناجحا" للقاعدة الامبريالية. اما الان فهي تتحول الى عبء حقيقي على السياسة والميزانية الاميركيتين. فقد فشلت الادارات الاميركية المتعاقبة في ايجاد اي حل "ادنى حد ادنى" يرضى به الفلسطينيون الموالون للغرب بالذات، كما هي ما يسمى السلطة الوطنية الفلسطينية بزعامة محمود عباس. والان تنفق اميركا المليارات وتضع كل وزنها الى جانب اسرائيل، من اجل كسر شوكة الممانعة في قطاع غزة. فماذا ستجني اميركا واسرائيل من غزة القاحلة والفقيرة؟ واذا اكتسح غدا الجيش الاسرائيلي غزة وطرد حكومة اسماعيل هنية، ودخل محمود عباس الى غزة منتصرا، يمتطي دبابة اسرائيلية، ماذا ستفعل اميركا واسرائيل بالـ 9 ـ 10 ملايين فلسطيني الذين لا يحملون الجنسية الاسرائيلية ويعيش اكثر من نصفهم في مخيمات اللاجئين؟ هل ستمنحهم الجنسية الاسرائيلية كـ"عرب الـ48"؟ وماذا سيصير حينذاك؟

10 ـ ان احتمال تحسين العلاقات بين روسيا وتركيا يحمل في طياته تغيير وجهة العلاقات السياسية، الاقتصادية والعسكرية ليس فقط في شواطئ البحر الاسود، بل ومن المحتمل في كل جنوبي شرق اوروبا ايضا. بالطبع، مرت مرحلة طويلة من النزاعات بين روسيا وتركيا، ولكن مرت ايضا فترات من التعاون، تعود بدايتها الى زمن انفتاح اتاتورك تجاه الاتحاد السوفياتي الجديد في العشرينات من القرن الماضي. واليوم فإن مصالح متشابهة بين انقرة وموسكو تؤدي الى علاقات اوثق بين الطرفين في حقل التجارة، الامن والدفاع المدني في منطقة البحر الاسود. ان النظام التركي الحالي هو من الهشاشة انه اصبح يقف على مفترق صعب بين الانفجار او الاستقرار. وهو قد يجد في العلاقات الاقتصادية وغيرها ، الايجابية، مع روسيا من جهة، ومع ايران من جهة ثانية، ما يشجعه على الوقوف "على الحياد" كما فعلت تركيا في الحرب العالمية الثانية.

XXX

في سياق هذه المتغيرات سيجري تقرير المستقبل البعيد لكوسوفو. وهذه المتغيرات ستفتح امكانيات امام صربيا والبلقان لم يكن بالامكان التفكير بها قبل 5 ـ 6 سنوات. فالغرب، ولزمن طويل، كان يصر انه لا يوجد امام دول البلقان ككل وخصوصا امام صربيا اي خيار آخر، غير خيار الانضمام الى الاتحاد الاوروبي وحلف الناتو، اذا ارادت ان تتقدم، وان تصبح دولا حديثة و"طبيعية". ويبدو الان بوضوح متزايد ان هذا ليس صحيحا.

فبتطور المتغيرات المذكورة آنفا، فإن صربيا والدول المشابهة لها سيكون لديها الخيار والامكانية لأن تتطور وتتقدم بدون ان تدخل في عضوية الاتحاد الاوروبي والناتو. فالمتغيرات الاوروبية والعالمية تعني فعلا ان صربيا ودول البلقان بأسرها اصبح بامكانها الان ان توسع افقها وعلاقاتها بشكل مستقل. فالغرب الامبريالي، وخصوصا القطب الاميركي الاوحد، لم يعد يمتلك الاحتكار على المستقبل، كما طبل وزمر اذناب اميركا في مختلف انحاء العالم، ومنهم بالخصوص اذنابها العرب الذين رفعوا عاليا شعار السادات "99% من الاوراق هي بيد اميركا"، والذين لن يكون مصيرهم ومصير اميركا ذاتها بأفضل من مصير السادات وعرفات تغمدهما الله بواسع رحمته وغفرانه.



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوجه الافريقي لأوباما لن يستر الوجه الحقيقي البشع لاميركا
- خطوط النار من البلقان الى افغانستان، ومن جيورجيا الى فلسطين ...
- اميركا فتحت ابواب الحرب الباردة على مصاريعها، فهل تستطيع اغل ...
- فؤاد النمري: حلقة -مستورة- بين المعلوم والمجهول..
- اميركا والكابوس الصاروخي الروسي
- فؤاد النمري: ماركسي مزيف وستاليني حقيقي
- الازمة المالية العالمية: الكانيبالية الامبريالية العالمية وع ...
- لينين، على الاقل كإنسان، يستأهل كشف وادانة قتلته!!
- اميركا بعد 11 ايلول 2001
- دولة -اسلامية- في كوسوفو بدلا من دولة -عربية- في فلسطين!!؛
- ثورة اكتوبر: المنارة الاكبر في تاريخ البشرية!
- نشر الصواريخ الاميركية في بولونيا: اميركا تخسر المعركة قبل ا ...
- العقوبات ضد روسيا: سلاح معكوس
- كرة الثلج... من القوقاز... الى أين؟
- الصراع الاوروبي الاميركي على جيورجيا والمصير المحسوم لسآكاش ...
- روسيا واميركا: الحرب السرية الضارية
- اميركا تتلقى لطمة جديدة(!!) من اذربيجان
- جيورجيا: -حرب صغيرة-... وأبعاد جيوبوليتيكية كبيرة!!
- الامن العالمي و؛؛الامن القومي الاميركي؛؛
- جورجيا: قبضة الخنجر الاميركي الصهيوني التركي في خاصرة روسي ...


المزيد.....




- بعد وصفه بـ-عابر للقارات-.. أمريكا تكشف نوع الصاروخ الذي أُط ...
- بوتين يُعلن نوع الصاروخ الذي أطلقته روسيا على دنيبرو الأوكرا ...
- مستشار رئيس غينيا بيساو أم محتال.. هل تعرضت حكومة شرق ليبيا ...
- كارثة في فلاديفوستوك: حافلة تسقط من من ارتفاع 12 متراً وتخلف ...
- ماذا تعرف عن الصاروخ الباليستي العابر للقارات؟ كييف تقول إن ...
- معظمها ليست عربية.. ما الدول الـ 124 التي تضع نتنياهو وغالان ...
- المؤتمر الأربعون لجمعية الصيارفة الآسيويين يلتئم في تايوان.. ...
- إطلاق نبيذ -بوجوليه نوفو- وسط احتفالات كبيرة في فرنسا وخارجه ...
- في ظل تزايد العنف في هاييتي.. روسيا والصين تعارضان تحويل جنو ...
- السعودية.. سقوط سيارة من أعلى جسر في الرياض و-المرور- يصدر ب ...


المزيد.....

- افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار ... / حاتم الجوهرى
- الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن / مرزوق الحلالي
- أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا ... / مجدى عبد الهادى
- الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال ... / ياسر سعد السلوم
- التّعاون وضبط النفس  من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة ... / حامد فضل الله
- إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية / حامد فضل الله
- دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل ... / بشار سلوت
- أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث / الاء ناصر باكير
- اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم / علاء هادي الحطاب
- اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد ... / علاء هادي الحطاب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - جورج حداد - البلقان المضطرب: أي مستقبل؟!؛