كان الشعب العراقي يئن تحت وطأة الظلم والقهر والإستبداد طوال فترة حكم البعث العراقي منذ أن قبضت مجموعة من العصابات الإرهابية البعثية على دفة الحكم من خلال فوهات البنادق في إنقلاب 17 تموز عام 1968. ولم يشهد العراق فترة الظلام الدامس والتخلف السياسي القاتل مثلما عاشه في الخمسة وثلاثين عاما الأخيرة من تاريخه . فقد تعرض الشعب العراقي بكل طوائفه وشرائحه لأبشع أنواع الظلم والتشرد والجينوسايد. فالمقابر الجماعية بحق الكرد والشيعة واليساريين التقدميين والوطنيين والديمقراطيين ، وحملات الأنفال بحق الشعب الكردي ، بقتل 182 ألف كردي مدني ، وإستخدام الأسلحة الكيماوية في حلبجة عام 1988 ، وتسفير آلاف الأخوة الكرد الفيليين ، وقتل ثمانية آلاف كردي بارزاني، ودفن آلاف الأطفال والنساء ، وخاصة من الشيعة والكرد أحياء ، وإغتصاب آلاف المحصنات من العذارى والسيدات والقائمة طويلة. فحين نتحدث ونتذكر هذه الجرائم البشعة ، نتمنى لو كان لصدام حسين ألف ألف روح ، وكل روح تعذب وتتقطع وتحرق ألف ألف مرة.
كان الشعب العراقي قد إبتلى بذلك المخلوق السادي ، ولم يجد أمامه وسيلة لإسقاطه وعزله بمفرده بسبب الماكنة العسكرية والأمنية المتعسفة والمسلطة على رقاب الشعب، وتصفية جميع أفراد عائلة الشخص الذي كان يقاوم الجلاد. إنها آلام وأحزان تسير في جوارح كل العراقيين وهم لا يزالون يرون الجلاد يستنشق الهواء في زنزانته ، بعد أن قادوه كالوحش الكاسر في قفصه ، وهم يسحبونه من القبو كالفأرة من جحرها. ونتأسف أن نقول بأنه لازال هناك مَن يدافع عنه، بعد أن حُرِموا من الرشاوى التي كانوا يستلمونها من أموال الشعب العراقي، ليصفقوا للقاتل، ويضحكوا على القتلى.
أسطورة سيادة العراق في ظل نظام صدام
كان صدام حسين وعدي وقصي يمتلكون السيادة الكاملة على العراق وشعب العراق وأموال وممتلكات العراق. أما العراق كدولة فكانت معدومة السيادة، وكان التلاعب بمقدرات العراقيين وأموالهم في أعلى درجات العهر الفكري. وكان العراق يعيش في أكثر مراحل الإنحطاط الثقافي ، بسبب إمتلاك صدام وولديه جميع المؤسسات الثقافية التي أصبحت في الممارسة العملية ثقافة تمجيد القوة ، وتعظيم الدكتاتورية، وعبادة الشخصية. وقد تمكن صدام شراء ذمم آلاف الكتاب والشعراء ذات النفوس الضعيفة والمريضة من الدول العربية . ولا أريد هنا أن اذكر أسماء بعضهم ، لأتجنب التشخيص، ولكن قرأنا وسمعنا أسماء كثير منهم من خلال الإنترنت ، وما نشرته صحيفة (المدى) العراقية في 25 يناير / كانون الثاني من هذا العام، وثائق اكبر عملية عراقية لشراء الذمم في عهد الطاغية العراقي المخلوع. وقد كان منهم رؤساء وسياسيون وصحافيون واحزاب استلموا ملايين الدولارات النفطية من صدام . وقد حصلت صحيفة "المدى" العراقية المذكورة على مجموعة من الجداول الخاصة بأسماء الشركات والأشخاص الذين تم (تخصيص كميات من النفط الخام لهم خلال مراحل مذكرة التفاهم) كما ورد نصاً في وثائق شركة تسويق النفط ، وهي شركة عامة تابعة لوزارة النفط . وأتأسف أن أقول بأن من بين هؤلاء مفكرين والشعراء من أكثر المدافعين اليوم عن نظام صدام ، وممن يعتبرون شعراء المقاومة لبعض حركات التحرير العربية ، ويتبجحون بالحرية والديمقراطية ، وينقدون الامبريالية . وقد تركوا الشعب العراقي فريسة الذئاب، مقابل فتات كانوا يحصلون عليها ، وهم يقتلون الشعب العراقي بأسماء براقة وعبارات تجارية لم تعد خافية على أحد اليوم ، بعد أن زال حجاب الديماجوجية بأسم العروبة يوما ، وبأسم الإسلام يوما أخر ، والعروبة والإسلام براء من ذلك.
يتباكى هؤلاء اليوم على سيادة العراق، ونحن نتساءل ، هل كانت للعراق سيادة في عهد صدام حتى يتباكون عليها؟ أين كانت سيادة العراق يومئذ؟ الجواب سهل وبسيط . لقد كانت سيادة العراق في جيوبهم. ولكن العراقيين لايريدون تلك السيادة بذلك الشكل ، بل يريدون سيادة الشعب العراقي بعربه وكرده وأقلياته ، على العراق كله. سيبني العراقيون وطنهم ، بعيدا عن الإرهاب وشراء الذمم ، وليتمتع العراقيون بحريتهم، وليذهب أولئك الذين يتباكون على الدولارات النفطية العراقية إلى الجحيم ليغسلوا بالنار أرواحهم من دماء الشعب العراقي .
بداية عملية تحرير العراق في 19 آذار عام 2003 من نظام القمع والإرهاب
نجح صدام حسين وزمرته من بعض العراقيين ضعاف النفوس من العرب والكرد والأقليات ، ومن المرتوقة المأجورين من الدول الأخرى، من تحطيم معنويات عدد كبير من العراقيين الوطنيين والديمقراطيين في الداخل والخارج. ((كنت شخصيا ككاتب عراقي مقيم في السويد أحد أولئك الذين لم يترددوا أن يكتبوا ضد نظام صدام حسين منذ الثمانينات ولحد اليوم. وقد نشرت عدة كتب بهذا الخصوص وصدام حسين في السلطة، وتعرضت للتهديد ومحاولات الإغتيال أكثر من مرة. أقول ذلك حتى لا يتصور أحد بأن قلمي بدأ يكتب بعد إنهيار أمبراطورية صدام)) .
لجأت القوى والأحزاب والقيادات العراقية في الخارج إلى تكاتف قواها. وإتصلوا بالولايات المتحدة والدول الأوربية الحرة ، مستغيسة بالنجدة ، لتحرير العراق من براثن الطاغية وعصابته. عُقدت عدة مؤتمرات أهمها إجتماع المعارضة العراقية في نيويورك في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1999. ومؤتمر لندن بين 14-17 ديسمبر/كانون الأول عام 2002 تحت شعار عراق ما بعد صدام . ومؤتمر صلاح الدين المنعقد في مارس/آذارعام2003 وبحضور زلماي زادة ممثل الرئيس الأمريكي جورج بوش . إتفقوا على جملة من القرارات والخطوط العريضة ، على عراق ديمقراطي فدرالي برلماني تعددي ن ينعم فيه الشعب العربي والشعب الكردي والأقليات بحقوقهم العادلة ، وإزالة آثار محو الشخصية القومية للشعب الكردي، وتمتع الشعب العراقي بحريته وكرامته. وبهذا إتفقوا مع الولايات المتحدة والحلفاء بالمساعدة ، وأعطاهم الضوء الأخضر بعملية التحرير . قد يحلو لبعض العرب من الدول الأخرى ، والذين تضرروا من سقوط صدام ، وإنتهاء سرقات أموال النفط العراقي، أن يقولوا بأن المعارضة العراقية خونة. ولكن العراقيين لا يحتاجون إلى صكوك التزكية والغفران ، من الآخرين. فلهم الحق في أن يحرروا أنفسهم ، بل وأموالهم من المستبدين إعتبارا من صدام وإنتهاءا بالسراق الذين كان صدام يتقاسم معهم أموال الشعب العراقي.
غزت القوات الأمريكية وحلفاء أمريكا العراق في 19 آذار 2003 لتحريره من دكتاتورية الطاغية صدام حسين وزمرته. وراقب الشعب العراقي بكل طوائفه وإتجاهاته يوم الخلاص من الظلم والمقابر الجماعية. حتى البلابل كانت قد هجرت العراق مع مايقارب أربعة مليون عراقي، وهم ينتظرون العودة إلى الوطن العزيز. ولم تستغرق عملية التحرير أكثر من أسبوعين، ولم يعد لمليون جندي من قوات البعث أن يحمل السلاح ، لأنهم لم يكونوا مستعدين للحرب من أجل دكتاتور لا يفكر إلا بنفسه، وليكن بعده الطوفان. إنهار النظام ، وهرب (زعيم العروبة الأوحد) ، وسقط صنم ساحة الفردوس في 9 نيسان من نفس العام. وأشرقت الشمس من جديد بعد كانت قد غابت عن بلد الرافدين، بلد الحضارة التي حُرِمَت من حضارتها طوال سنين حكم الفساد والدعارة تحت قيادة الصنم الذي ضُرِبَ بنعال العجوز العراقي الذي فقد أطفاله لأنهم كانوا يريدون الحرية لشعب العراق.
يتباكى اليوم القوميون المتطرفون والإسلامويون المتحزبون على كرسي صدام حسين. وظل هؤلاء يرددون بأن صدام ضرب إسرائيل يوما بالصواريخ، دون أن يدركون بأنه كان قد ضرب منطقة صحراوية في إسرائيل ببعض الصواريخ بالإتفاق مع إسرائيل ، ودون خسائر تُذكر ، لكي تحصل إسرائيل على مضادات لتلك الصواريخ. إنهم يغنون على ما حققه صدام من سلاح الدمار ، مع أمنيتهم بضرب إسرائيل ، دون أن يفهموا بأنه سلاح دمار ضد الشعب العراقي نفسه.
في 13 يوليو/تموز 2003 تشكل مجلس الحكم الإنتقالي الذي تضمن أغلبية شرائح الشعب العراقي وقواه الوطنية. وفي 14 ديسمبر/كانون الأول 2003 سُحِبت الفأرة من جحرها والديدان تتآكل من لحيته. وفي 8 آذار 2004 تم التوقيع على قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الإنتقالية ، والذي كان بمثابة الدستور العراقي المؤقت. وقد جاء في ديباجته مايلي:
"إن الشعب العراقي الساعي إلى إسترداد حريته التي صادرها النظام الإستبدادي السابق. هذا الشعب الرافض للعنف والإكراه بكل أشكالهما. وبوجه خاص عند إستخدامهما كأسلوب من اساليب الحكم. قد صمم على أن يظل شعبا حرا يسوسه حكم القانون" . وجاء في الديباجة أيضا " لقد أُقِر هذا القانون شؤون العراق خلال المرحلة الإنتقالية إلى حين قيام حكومة منتخبة تعمل في ظل دستور شرعي دائم سعيا لتحقيق ديمقراطية كاملة".
ضرورة إنهاء عملية الإحتلال لترسيخ التحرير وتحقيق الديمقراطية
لقد كان الغزو الأمريكي بمثابة عملية تحرير للعراق ولشعب العراق من الطغيان البعثي الصدامي. إنها عملية تحرير ، لأن الأحزاب الوطنية العراقية طلبت وتعاونت مع القوات الأمريكية وقوات الحلفاء بغزو العراق وتحريره ، لأن الأنظمة العربية والمسلمة لم تتحرك ساكنا لإنقاذ الشعب العراقي الذي كان يفقد خيرة ابنائه كل يوم. وبدأت عملية الإحتلال كمرحلة ثانية بفعل القوانين الدولية. وسوف تنتقل السيادة بشكل من الأشكال إلى العراقيين في نهاية يونيو/ حزيران من هذا العام. وذلك طبقا للفقرة (ب) 1 بتشكيل حكومة عراقية مؤقتة ذات سيادة كاملة تتولى السلطة في 30 حزيران 20004 ". وفي الفترة الثانية بعد تأليف الحكومة العراقية ، تتم إجراء الإنتخابات للجمعية الوطنية كما هو منصوص في القانون. ثم تنتهي المرحلة الإنتقالية عند تأليف حكومة عراقية وفقا للدستور الدائم. والدستور الدائم يستفتي عليه الشعب العراقي.
ونجح العراقيون لحد الآن على الأقل في تطور العراق من نظام رئاسي إستبدادي دكتاتوري إلى نظام تصفه المادة الرابعة كما يلي:
" نظام الحكم في العراق جمهوري إتحادي (فدرالي) ، ديمقراطي ، تعددي ، ويجري تقاسم السلطات فيه بين الحكومة الإتحادية والحكومات الأقليمية والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية. ويقوم النظام الإتحادي على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية والفصل بين السلطات وليس على أساس الأصل والعرق أو الأثنية أو القومية أو المذهب" . (إنتهى الإقتباس).
إنني مقتنع بأن تحقيق الحريات العامة ، والديمقراطية الكاملة ، طبقا لما جاء في ديباجة قانون إدارة الدولة العراقية ، ستتعرض لبعض التراجعات ، وربما لبعض النكسات تدريجيا ، بفعل تأثير الأنظمة الإيرانية والسورية والتركية على بعض العقليات التي لا تملك الممارسة السياسية ، ولا تتمتع بالروح الديمقراطية. فتأخذ الدين والمصالح الوطنية واجهة لتحقيق مكاسب مذهبية أو قومية. لكن الحقيقة هي رغبة أولئك الناس في إفشال العملية الدستورية، والممارسة الديمقراطية. وأعتقد بأن هؤلاء الناس يقترفون أخطاء كبيرة بغض النظر عن مركزهم الحزبي أو القومي أو الديني، لأن العراق بلد متعدد القوميات والأديان، وأنه لايمكن إجبار الشعب العراقي كله للمرجعية القومية لقومية معينة ، أو للمرجعية الدينية ، لمذهب معين. ولا أعتقد بأن الشعب العراقي يتحمل أساليب المظاهرات الخمينية عام 1979 لفرض آراء معينة على الشعب. وأظن بأنه ينبغي للشعب العراقي بصورة عامة ، وللشعب الكردي بصورة خاصة أن يكون مأهلا ومستعدا لمواجهة حالات الغليان ، وأن يوحد صفوفه ، ويقترب أكثر فاكثر من أصدقائه في الداخل والخارج ، لإتخاذ ما ينبغي إتخاذه ، ولو دعت الحاجة إلى إعلان إستقلال جنوب كردستان ، فيما إذا شعر الكرد بأن المسرحية السياسية الإيرانية ستطبق على العراق ، حيث الشعب الكردي محروم من حقوقه هناك، رغم وجود دستور يتضمن قواعد الإنتخابات، لأن الديمقراطية تعني أيضا حماية حقوق القوميات الأخرى ، وحقوق الأقليات أيضا. أو تُطَبق المهزلة العلمانية التركية ، رغم أن الدستور التركي دستور يحتوي على مواد تتحدث عن الديمقراطية والحرية ، لكن الشعب الكردي يتعرض هناك لأبشع أنواع الإضطهاد. وهكذا الحال في سورية. مع الأسف لازالت هناك عقول عراقية ، لم تستطع أن تتحرر من الخضوع لتأثيرات خارجية، وإذا كان الأمر كذلك ، فلماذا يُلام الكرد أن يفتحوا أبوابا أخرى إذا تطلب الأمر ؟
ضرورة بقاء القواعد العسكرية الأمريكية في العراق
يتعرض العراق وشعب العراق اليوم لأشرس غزو من قبل الإرهابيين الوافدين من دول الجوار العراقي ، وخاصة سورية وإيران وتركيا. ولقد ناشدت القوى الوطنية والديمقراطية العراقية والمسؤولين الأمريكيين بضرورة ضبط الحدود ومنع تسلل الإرهابيين من المتطرفين العرب والإسلامويين الذين يرفضون الإستقرار في العراق، ولا يحلو لهم تحقيق الديمقراطية والحرية لشعب العراق. إنهم يدَعون بأنهم يقاومون القوات الأمريكية، ولكن الحقيقة خلاف ذلك ، لأنهم لو صدقوا لناضلوا في دولهم لتحريرها من الإحتلال.
في الحقيقة تخشى هذه الأنظمة من الديمقراطية في العراق، لأن شرارة الديمقراطية ستصل يوما إلى تلك البلدان المجاورة ، وتحترق أنظمتها الشمولية التي تضطهد شعوبها بأسم القومية الشوفينية يوما ، وبأسم الإسلاموية السياسية يوما آخر. إنهم في الحقيقة والواقع ، لا ينوون إنهاء حالة الإحتلال في العراق، ولا يرغبون أن يستلم الشعب العراقي سيادته ، بعد نقل السيادة ، وإجراء الإنتخابات العادلة ، في عراق ديمقرطي فدرالي تعددي. ومن هذا المنطلق، ولعدم قدرة الشعب العراقي في الوقت الحاضر من مواجهة هجمة الإرهاب الدولي ضد العراق، وتآمر بعض دول الجوار على سيادة العراق، فإنه من الضروري بقاء القوات الأمريكية في العراق بإرادة العراقيين ، وبناء قواعد عسكرية أمريكية ، على غرار وجود القواعد العسكرية في بعض دول الخليج كالكويت وقطر والبحرين والسعودية ، وبعض الدول الأوربية كألمانيا وإيطاليا ، ودول أخرى كاليبان والفلبين ووو الامثلة كثيرة. وذلك بموجب إتفاقيات سياسية وعسكرية ، حفاظا على الأمن العراقي ، ولكي يتجنب الشعب العراقي في الدخول في حرب اهلية ، وذلك لا ينتقص من سيادته. فالعراق محاصر من قبل قوى الشر والإرهاب ، ولابد من أن يصل العراق إلى مستوى دولي ، قادر على تصفية جيوب الغدر والإعتداء ، وقص جذور الإستبداد والإرهاب، وتدريب العراقيين على ممارسة الديمقراطية في عراق بعيد عن الطائفية والعرقية والمذهبية. فلا زالت هناك قوى دينية وقومية تعطي تصريحات بعيدة عن المسؤولية، ولذلك لابد من إيجاد الوقت الكافي لتقبل الديمقراطية ، وممارستها بأجلى صورها، لأن الديمقراطية تربية وممارسة ، ووعي وثقافة
مخاطر الإسلاموية والشرائح القومية الشوفينية على السلام والإستقرار في المنطقة
العراق ليس جزءا من الأمة العربية إنما الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية. والشعب الكردي في العراق جزء من الأمة الكردية. إن أسطورة كون العراق جزء من الأمة العربية تعني إذابة القوميات الأخرى في العراق في بوتقة القومية العربية، وهي ممارسة إستعمارية لايمكن قبولها من قبل كافة الديمقراطيين العراقيين من عرب وكرد وأقليات. كان صدام حسين يعمل على محو الشخصية القومية للشعب الكردي والأقليات القومية الأخرى، وإبادة كل ثقافة وحضارة غير عربية في العراق لتحقيق ذلك الشعار ، في الوقت الذي كان أكثر القيادات العربية عداءا للأمة العربية. وكان نظامه العدواني متمثلا بحزب البعث العربي الإشتراكي الفاشي يرفع شعار "وحدة ، حرية، إشتراكية" وهو أكثر الأنظمة العربية محاربة للوحدة العربية ، من خلال ضرب الحركة الفلسطينية ، والحرب ضد إيران لتهديد الأمن القومي العربي ، وإضعافه من الصميم، وغزو الجارة الكويت، وتهديد دول الخليج الأخرى.
العبرة لا تكمن في الشعارات الرخيصة إنما في الممارسة الديمقراطية، وتحقيق إرادة الشعوب في الحرية بالقناعة وإحترام حقوق الآخرين مثلما يحترم الإنسان إرادته. وإن أي خلل في ذلك يؤدي إلى الإصطياد في الماء العكر ، مما قد يؤدي إلى النكسات المتلاحقة في المنطقة. فأمامنا مثال القضية الفلسطينية، والمواجهات العنيفة بين الفلسطينيين والعرب أنفسهم. فقد قُتل من الفلسطينيين على أيد عربية في تل الزعتر في لبنان ، والزرقاء وجرش في الأردن ووو لا تقل عن الذين قُتلوا على أيدي إسرائيل. وفي كل ذلك يتساءل المرء ماذا تعلم العرب من التاريخ؟ وماذا جنى العرب من الوحدة والحرية والإشتراكية البعثية ، بحرمان الآخرين من حريتهم.
لقد أدركت القوى العراقية هذه الحقيقة ، لذلك لم تعترف بما ورد في الدساتير الرجعية المتخلفة للعراق ، بجعل العراق جزءا من الأمة العربية. ونجحت في صياغة مادة تعبر عن الواقع الموضوعي لما يلائم العراق في قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الإنتقالية ، والمُصَدقة بتواقيع كافة أعضاء مجلس الحكم الإنتقالي العراقي الخمسة والعشرين. حيث جاءت في الفقرة (ب) من المادة السابعة مايلي: "العراق متعدد القوميات والشعب العربي فيه جزء لا يتجزء من الأمة العربية" . ليس في هذه المادة غبار ، لأن الشعب الكردي ليس جزءا من الأمة العربية. كما أنه ليس من العدالة جعل الكرد والأقليات الأخرى جزءا من الأمة العربية بدون إرادتهم، أو العمل على إجبارهم بقبول ذلك وإلا فإنهم خونة.
كيف يمكن جعل الكرد خونة إذا رفضوا أن يكونوا جزءا من الأمة العربية؟ إنهم ليسوا عربا، ولايمكن للعرب أن يكونوا أوصياء عليهم أو على القوميات الأخرى؟ لماذا يمكن للعرب إتهام الكرد بالخيانة ، كما نادى بذلك بعض الجهلة والسُذج من السوريين في مدينة قامشلي لأن الكرد كانوا ضد صدام حسين؟ ماذا يريد هؤلاء المغفلين السوريين من الكرد أن يفعلوا لصدام حسين؟ هل عليهم أن يمجدوا دكتاتورا قتل فيهم وشردهم؟
الإسلامويون والقوميون المتطرفون يجعلوا الكرد خونة إذا طرقوا الأبواب الغير عربية لتحقيق طموحاتهم. أليس من حقهم أن يفتحوا ألف باب لحماية أنفسهم من الإضطهاد والإستغلال والظلم الذي يعانونه بسبب ممارسات الأنظمة العربية والتركية والسورية التي تحكم كردستان بالعلاقات الإستعمارية. أليس من حق الغريق أن يطلب النجدة ، ليصل إلى بر الأمان؟ اليس من الغباء للكردي أن يقول للمنقذ، لا تنقذني لأنك لستَ ملاكا؟ ومَن يقول بأن الذين يضطهدون الشعب الكردي ملائكه؟ لقد تعلمنا من الإسلام ، وأنا أعني هنا الإسلام ، كما جاء به الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ، ولا أعني الإسلاموية، بأن الملائكة لا يمثلون الشر، إنما يمثلون الخير. فمن أراد الخير لنفسه يجب أن يعلم بأن هناك مَن يريد الخير لنفسه أيضا. لذلك من الأفضل أن يعمل الإنسان من أجل الخير لنفسه وللآخرين.
إن الإصرار على الدفاع عن صدام حسين ونظامه المنهار ، والدفاع عن الأنظمة الشمولية الفاسدة في المنطقة ، بحجة محارية الأمبريالية يؤدي إلى التشرزم والتفتت في مجتمعاتنا. فالذين جاؤوا بالأمبريالية هم أنفسهم المتشددون الإسلامويون والقوميون المتشددون من العرب وغير العرب. وهم أنفسهم الذين يلتهبون كالجمر ثم يتركون وراءهم رمادا. وهم الذين يتركون الشعب الفلسطيني وحيدا في الساحة لمقارعة الإحتلال الصهيوني .إنهم أيضا يجبرون الشعب الكردي باللجوء إلى خيارات أخرى فيما إذا تعرضوا للإضطهاد في كردستان الجنوبية (العراق) من جديد . وحينذاك لم يبق أمام الكرد إلا إعلان الإستقلال.
لايمكن قبول أسطورة جعل كافة الأقوام لخدمة الإسلام ، وجعل الإسلام لخدم القومية العربية، ليتعرض الآخرون للإضطهاد على أيد مستبدين أمثال صدام حسين تحت غطاء محاربة الإمبريالية المزعومة. كلنا لله ، والوطن للجميع لأن مَن لم يكن أمينا لذاته، وفِيا لشعبه ، مخلصا لوطنه ، لا يمكن أن يكون كذلك للآخرين، ومَن لم يفهم هذا الأمر من التاريخ فهو غبي لا علاج له . وكما قال شاعر الشعراء صاحب معلقة الطلية المذهبية زهير بن أبي سُلمى:
ومَن يجعل المعروف مِن دون عِرضِه يفِره وَمَن لا يتقِ الشـَتمَ يُشـتَمِ
ومَـن كان ذا فضل فيـبخل بفضلِـه على قومه يُستغنى عنه ويُـذمَـمِ