|
قراءة في الحدث- الزلزال العراقي
منذر خدام
الحوار المتمدن-العدد: 774 - 2004 / 3 / 15 - 03:02
المحور:
ملف - اذار/ نيسان 2004 - مرور عام على الغزو/ الاحتلال الأمريكي للعراق وانهيار النظام البعثي الدكتاتوري
لقد تحول الحدث العراقي إلى شأن داخلي سوري بامتياز، وهذا أمر مفهوم، بل مطلوب، لما بين العراق وسورية بحكم الجغرافيا والانتماء والمصالح من صلات تمتد من اليومي والراهن إلى الاستراتيجي والبعيد، وهي صلات باقية ومستمرة رغم كل التعرجات التي مرت بها، ومحاولات الإعاقة التي لم تتوقف يوما، ولن تتوقف في المستقبل. لقد دخل الحدث العراقي إلى حياة كل أسرة سورية، لا تنعقد سهرة، ولا يجري حديث بين أصدقاء، ولا نقاش بين المشتغلين في الحقل العام، إلا والحدث العراقي حاضر يفرض سيطرته. رغم كل ذلك من النادر أن تجد حدثا قسم السوريين مثلما فعل الحدث العراقي وهذا أمر طبيعي أيضاً. قسم من السوريين لم ينس الدور العراقي السلبي في الأحداث التي شهدتها سورية في أواخر السبعينات أوائل الثمانينات من القرن الماضي، وقسم آخر لا يزال يذكر بنوع من الاعتزاز ضرب العراق لإسرائيل بصواريخ من صنع عراقي. وقسم ثالث بقي في ذاكرته غزو العراق للكويت وما جلبه هذا الغزو على المنطقة من أثار سلبية، لكن قسماً آخر ما زال يحتفظ في ذاكرته بصورة العراق "المنتصر" على إيران، والمتحدي لأمريكا. وهناك قسم من الشعب السوري يختصر الحدث العراقي بسقوط نظام صدام حسين كنوع من التعويض عما لا يستطيع الجهر به، غير أن هناك أيضاً قسم يتوجس خوفاً على العراق من الحرب الأهلية والتقسيم وضياع العمق الاستراتيجي لسوريا، وما يمكن أن يتركه ذلك من آثار على مجمل المنطقة العربية..الخ. وفي جميع هذه التقسيمات كانت أمريكا حاضرة، فهي الجزء الفاعل من الحدث العراقي، إنها القوة الغازية، وبسبب ذلك يكاد الرأي العام السوري يتوحد حول ثلاثة مواقف: الموقف الأول أدان الحرب على العراق من حيث المبدأ، ولذلك فهو يدين الاحتلال، وهذا هو موقف أغلبية الشعب السوري، وقد يتطرف بعض هذه الأغلبية إلى حد حمل السلاح والانخراط في صفوف "المقاومة" العراقية. الموقف الثاني، يرى في غزو أمريكا للعراق تحريرا لهذا البلد من نظام صدام حسين الاستبدادي، وبالتالي فتح الطريق أمام خيار "الحرية والديمقراطية" في العراق وفي غير العراق، وهو موقف القلة القليلة، وقد يتطرف بعض من يتبنون هذا الموقف إلى حد الترحيب بقدوم القوات الأمريكية إلى بلادهم. الموقف الثالث يحاول أن يسلك مسلكا وسطاً، بمعنى أنه في الوقت الذي وقف ضد غزو أمريكا للعراق وأدان احتلاله من حيث المبدأ، يحاول التعامل معه بواقعية سياسية بعد حصوله، هذا من جهة. ومن جهة أخرى لا يخفي أنصار هذا الموقف ارتياحهم لسقوط الطاغية صدام حسين، وإن كانوا يفضلون لو حصل ذلك على يد الشعب العراقي. أنصار هذا الموقف قلة أيضاً، وإليه يمكن تصنيف القوى المعارضة السورية في الداخل. هذا ما جاء في المواقف، وفي التحليل سوف نكتشف أن الحدث على درجة عالية من التعقيد والإشكالية والخطورة بحيث يستطيع كل طرف مشارك فيه أو متأثر به أو مراقب له أن يجد ما يدعم موقفه منه. بداية لنلقي الضوء على دور الولايات المتحدة في الحدث العراقي، فهو الدور الذي في شق منه على الأقل، يشكل موضوع إجماع في سورية، أعني الأجندة الخاصة للولايات المتحدة من غزوها للعراق. وهذه الأجندة، كما نرى، تتجاوز قضية أسلحة الدمار الشامل وقضية محاربة الإرهاب، وقد تكشّف أن هاتين القضيتين لم تكونا سوى ذريعتين لتأمين التغطية السياسية لعملية غزو العراق واحتلاله بعد أن فشلت الإدارة الأمريكية في تأمين الغطاء القانوني الدولي في منظمة الأمم المتحدة، مغامرة بتوتير الأجواء الدولية حتى مع حلفائها. إذن قضية أسلحة الدمار الشامل وعلاقة النظام العراقي بتنظيم القاعدة بدأت تسقط من نطاق التداول حتى في أوساط الإدارة الأمريكية، فهي كذبة فاضحة بدأت ترتد سلبا على الإدارة ذاتها. وكنوع من التعويض لجأت الإدارة الأمريكية إلى يافطة أخرى، أعني نشر الديمقراطية في العراق، مستغلة كون هذه القضية تحوز على القبول من قبل الشعب الأمريكي، ومن قبل بعض القوى الفاعلة في المجتمع العراقي كل على طريقته، وفي أوساط شرائح من المجتمعات العربية. غير أن ما يثير الشكوك حول نجاح أمريكا في مسعاها لتحويل العراق إلى بلد ديمقراطي على افتراض أنها جادة في ذلك، ما تقوم به على الأرض، وما ينتعش في المجتمع العراقي من بنى و تكوينات أهلية سابقة على الدولة، والديمقراطية بلا دولة لا تكون. إن من الأخطاء الكبيرة التي وقعت بها أمريكا في العراق، حتى لا نقول مع القائلين بأن ذلك كان مستهدفاً لذاته، تدمير الدولة العراقية تحت ذريعة أنها دولة دكتاتورية، مع أن السلطة هي التي تكون دكتاتورية أو لا تكون، والدولة في أعتى الدكتاتوريات لا تفقد وظيفتها العمومية. وفي حال العراق لم تكن الدولة مندغمة في السلطة، أكثر مما كان الحال عليه في دول أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي السابق، مع ذلك لم يتم تدمير الدولة فيها، ولم يمنع الشيوعيون من ممارسة حقهم السياسي في ظل الأنظمة الديمقراطية الجديدة. بل حتى بعد هزيمة ألمانيا النازية حافظ الحلفاء الغربيون في مناطق احتلالهم على وحدات الجيش النازي ومن ثم عملوا على إعادة هيكلتها ودمجها في النظام الجديد. أما في العراق فلم يكتف المحتلون الأمريكان وحلفائهم بتدمير الدولة العراقية بمختلف مؤسساتها و تسريح الجيش والقوات المسلحة الأخرى، بل عمدوا إلى حل حزب البعث وطرد البعثيين من مختلف دوائر الدولة ومؤسساتها واعتبارهم خارجين على القانون. إنهم ببساطة غيروا فقط في موقع أطراف المعادلة العراقية، بين البعث والقوى الاجتماعية الحليفة له أو التي استفادت من حكمه الطويل للعراق، والقوى المنضوية تحت عنوان المعارضة العراقية بكل تلاوينها، فالقامع أصبح مقموعا، والمقموع أصبح قامعاً، وتغير بالتالي نزلاء السجون العراقية التي اكتظت بهم حسب مصادر بعض أعضاء مجلس الحكم نفسه، وتغير أيضا اللاجئون العراقيون الذين يجوبون شوارع الدول العربية، وغير العربية. هل يخدم كل ذلك قضية الديمقراطية؟ ليس صعبا الإجابة بكلا. كان من مصلحة العراق والعراقيين الاكتفاء بإسقاط السلطة الدكتاتورية في العراق، ومحاسبة من يجرمه القضاء من مسؤولي العهد البائد ، ومن ثم العمل على إعادة هيكلة أجهزة الدولة العراقية المختلفة ومنها الجيش والقوات المسلحة بما يتلاءم مع الوضع الجديد. وفي هذا الإطار فصل حزب البعث عن الدولة ومنحه الحق في الوجود والدفاع عن أفكاره ورؤاه السياسية في إطار الحياة الديمقراطية المنشودة. باختصار كان لا بد من طرح قضية المصالحة الوطنية بكل جدية باعتبارها القضية المركزية لجميع العراقيين، لا أن تولد أحقاد جديدة، وانقسامات جديدة، يدفع العراقيون ثمنها من دمائهم. لكن المحتلون ومن يأتمر بأمرهم لهم أجندتهم الخاصة كما ذكرنا، وهذه القضية ليست منها على ما يبدو، فهي قضية الشعب العراقي وتعبيراته السياسية المختلفة. إن الأسباب الحقيقية التي دفعت الولايات المتحدة لغزو العراق كما نعتقد يجب البحث عنها في غير ما ادعته الإدارة الأمريكية وأعلنته، وهي تندرج في أكثر من مستوى، فهناك أسباب استراتيجية، وأخرى إقليمية، وثالثة محلية. الأسباب الاستراتيجية تتعلق أساساً بالنزوع الأمريكي نحو الهيمنة العالمية، في محاولة إدامة إدارة أمريكا للمنظومة الرأسمالية العالمية على قاعدة القطبية الأحادية. فهي تدرك جيدا أن من يسيطر على موارد الطاقة العالمية يستطيع التحكم بالمنظومة الرأسمالية العالمية الآخذة في الاندماج والتكامل الوظيفي في إطار ما أصبح يعرف بالعولمة، ويملي إرادته الاقتصادية والسياسية في مواجهة احتمالات بروز أقطاب آخرين، بل العمل على تأخير هذه الاحتمالات. لقد استطاعت أمريكا خلال السنوات الأخيرة أن تسيطر على حقل قزوين النفطي، وأمنت عليه سياسيا من خلال تنصيب حكومات موالية في دول المنطقة تكون أقل إشكالية أمام شعوبها، وكان أخرها في جورجيا. وأمنت عليه عسكريا من خلال قواعدها العسكرية التي أنشأتها في أغلب دول المنطقة تحت ذريعة محاربة الإرهاب. أما بالنسبة للحقل النفطي الخليجي الذي كان بالأساس تحت الهيمنة الأمريكية، باستثناء ما هو متوضع منه في إيران والعراق، فكان عليها أن تكمل السيطرة عليه، وتقطع الطريق على المساعي الروسية والفرنسية للتحكم بالنفط العراقي من خلال تكثيف الاستثمار فيه. وعندما فشلت سياسة الاستيعاب المزدوج التي مارستها أمريكا على العراق طيلة سنوات الحصار، وتنامي الضغوط الدولية لرفعه مع ما يمكن أن ينجم عن ذلك من مخاطر على المصالح الأمريكية في ظل وجود نظام "مارق" لم تخمد طموحاته لامتلاك القوة وللعب دور إقليمي فاعل، فاستغلت الإدارة الأمريكية أحداث أيلول وما رافقها من أجواء محلية ودولية لتتخلى عن نهج الاستيعاب المزدوج لصالح الخيار العسكري في ترتيب بعض الأوضاع العالمية بما يعزز هيمنتها العالمية. في هذا الإطار يجب وضع القضية الأفغانية والقضية العراقية، وقبلهما كانت قضية يوغسلافيا والبوسنة والهرسك، والآن قضية كوريا الشمالية وقضية فنزويلا، وربما غدا قضية إيران أو سورية أو السعودية..الخ. لقد أصبح النفس الدبلوماسي الأمريكي قصيراً جداً في ظل الإدارة الأمريكية الحالية، إلى درجة أن العديد من المراقبين والمحللين يشكون في وجود دبلوماسية أمريكية أصلاً، بل خطاب عسكري أو فعل عسكري. الجانب الآخر من المسعى الأمريكي لتأمين سيطرتها الاستراتيجية على حقل الخليج النفطي يتمثل في العمل على وجود حكومات أقل إشكالية مع شعوبها تحت يافطة دعم خيارات الحرية والديمقراطية، وهنا يأتي المستوى الثاني للأسباب الأمريكية لغزو العراق، وفي هذا يتمايز الرأي العام السوري بين مصدق و محبذ، وبين مشكك، ورسميا مستنكر. حتى حين كانت المصالح الغربية عموما والمصالح الأمريكية خصوصا في المنطقة العربية مؤمن عليها من خلال ما استصلح عليه بسياسة دعم الاستقرار، والتي ترجمت عملياً من خلال دعم الأنظمة الاستبدادية في المنطقة. غير أن هذه السياسة كما تبين لم تعد قادرة على تأمين الاستقرار المنشود، بل تولد الإرهاب وفق المصطلح الأمريكي. وعلى الصعيد الدولي لم تعد هذه السياسة مجدية بعد انهيار النظام السوفييتي السابق والأنظمة الشيوعية الأخرى. وحتى الحركات السياسية الإسلامية المتطرفة التي رعتها أمريكا وباركتها في مرحلة الحرب الباردة انقلبت عليها، وأخذ خطابها الجهادي المتميز بقدرته التعبوية العالية يجد أذانا صاغية في أوساط شرائح عديدة من السكان، وقد ساعد على ذلك إلى جانب "نقص الحرية" في المجتمعات العربية، فشل الحركات القومية والشيوعية في تحقيق مشاريعها الخاصة. لذلك كله سارعت الإدارة الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام2001 إلى تغيير سياستها السابقة تجاه المنطقة، والتحول باتجاه سياسة دعم خيارات الحرية والديمقراطية في عموم المنطقة العربية و الإسلامية، وقد أفصح الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عن هذه السياسة الاستراتيجية في خطابه أمام الصندوق الوطني للديمقراطية في السادس من تشرين الأول عام 2003 و في خطابه في بلدية لندن في19/تشرين الثاني2003 خلال قيامه بزيارة دولة للمملكة المتحدة البريطانية، وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده مع طوني بلير في اليوم التالي. وقبل ذلك وبعده، كان باول وغيره من المسؤولين الأمريكيين قد تحدثوا مراراً عن ضرورة تغيير الأوضاع السياسية في المنطقة العربية وأخرها مقالة باول في الواشنطن بوسط في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي. باختصار ثمة استراتيجية أمريكية جديدة في المنطقة العربية، تهدف إلى تغيير الأنظمة وإعادة رسم وتكوين الجغرافيا السياسية على قاعدة مزيد من الحرية وشيء من الديمقراطية، حماية للمصالح الأمريكية الاستراتيجية في المنطقة(أنظر مقالتنا "عندما تحاول أمريكا التفكير بعقل غير إسرائيلي يظل مثقفونا يفكرون بعقل السلطة" المنشورة على موقعنا الفرعي على شبكة الإنترنت Rezgar . com / m . asp?! = 230). وفي سبيل تنفيذ هذه السياسة الجديدة تستخدم الإدارة الأمريكية طائفة واسعة من الأدوات بدءاً من الدبلوماسية الأوامرية السرية إلى الخطاب السياسي المباشر مدعوما بكل أشكال الضغط الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري. هنا يطرح التساؤل التالي: كيف كان تفاعل شعوب المنطقة وأنظمتها مع هذه السياسة الجديدة؟ بالنسبة للأنظمة الحاكمة ليس خافيا انزعاجها واستنكارها للسياسة الأمريكية الجديدة، فهي لأول مرة في تاريخ المنطقة تتعرض لهذا الانكشاف الخطير، من خلال خسارتها للغطاء الخارجي، بل وانقلابه ضدها. لذلك تحاول بعض الأنظمة التكيف، وملاقاة المطالب الأمريكية في جزء من الطريق الذي رسمته الإدارة الأمريكية وليس غيرها، على أمل أن تغض النظر عنها في حال تلكها في قطع الأجزاء الأخرى من الطريق. في هذا الإطار يجب فهم محاولات الإصلاح والانفتاح الجزئية التي تقوم بها الأنظمة الحاكمة في الدول العربية تحت مسميات مختلفة، فهي قد جاءت بالدرجة الأولى استجابة لضغط العوامل الخارجية أكثر منها استجابة لضغط العوامل الداخلية. ويبدو لي أن الإدارة الأمريكية قد رسمت معالم البداية المتطرفة لهذا الطريق بشكل واضح من خلال النموذج الليبي والنموذج العراقي. لكن نهاية هذا الطريق ليست واضحة مثل بدايتها، مع ذلك لا يجوز الشك بعد الآن بجدية أمريكا، وأنها لن ترضى بديلا عن استراتيجيتها الجديدة بغض النظر عن بقاء الإدارة الحالية أو استبدالها بإدارة جديدة، وهذا ما يقلق الأنظمة الحاكمة ويؤرقها. الشق الثاني من التساؤل السابق يتعلق بردود فعل الشارع العربي وتعبيراته السياسية المعارضة على السياسة الأمريكية الجديدة. هنا يسود الشك والارتياب بمصداقية أمريكا لأسباب عديدة (أنظر مقالتنا المشار إليها سابقاً). فالشعوب العربية وقواها السياسية المعارضة وهي المكتوية من جهة بنار أنظمتها، والمذلة والمهانة من قبل أمريكا، من جهة بسبب دعمها السافر السابق للأنظمة الحاكمة، وغزوها للعراق، ومن جهة ثانية من خلال دعمها اللامحدود لإسرائيل وسياساتها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، يملؤها الارتياب بكل ما يصدر عن أمريكا. مع ذلك لا يخفى على المراقب النبيه الشعور المضمر بالارتياح لدى القوى السياسية المعارضة، ولدى قطاعات واسعة من الرأي العام، من جهة بسبب انكشاف الأنظمة الاستبدادية التي ساستها طوال الحقبة الماضية، وما تسببت به من انهيار شبه كامل لكل طموحاتها القومية والوطنية والاجتماعية والاقتصادية، وزرع المجتمعات العربية بالأزمات التي تتوالد وتتناسخ مثل الخلايا السرطانية. ومن جهة ثانية بسبب زوال أحد المعوقات الكبيرة من أمام خيارات الحرية والديمقراطية، أعني تغير العامل الخارجي(السياسة الغربية عموما والسياسة الأمريكية خصوصا) وتحوله من اتجاه دعم الاستبداد في المنطقة، باتجاه دعم خيارات الحرية والديمقراطية، حتى ولو أن هذا التحول جاء في سبيل التأمين الاستراتيجي على المصالح الغربية والأمريكية في المنطقة العربية، فهو يحقق موضوعياً مطلباً داخلياً. وإذا كانت هذه المعارضة لا تزال، حتى الآن، في وضعية المراقب، مترددة في التحرك بصورة فعالة في سبيل قضيتها، أعني قضية الحرية والديمقراطية، وتطرح طريقها الخاص إلى ذلك، فإنه لا يمكنها البقاء في هذه الوضعية طويلا وإلا ماتت بالتجاوز على الطريقة الأمريكية. وهنا أيضا حددت أمريكا بدائل من خلال نموذج الشلبي وعلاوي وغيرهما في العراق، والغادري ونيوف وغيرهما في سورية. بالطبع لا يتوقف كل شيء في هذا المجال على المعارضة، بل تتحمل قسطا كبيرا من ذلك الأنظمة الحاكمة ومدى استجابتها للمتغيرات الجديدة بحيث تأتي هذه الاستجابة وطنية تحافظ على المصالح الوطنية. في المستوى الثالث من الأسباب الأمريكية لغزو العراق تندرج جملة من الأسباب الداخلية العراقية وهي أسباب تتعلق بالعراق لذاته، وبالمنطقة العربية، والصراع العربي الإسرائيلي، لنتفحصها. لقد اختارت أمريكا العراق لأنه البلد العربي الوحيد الذي يحقق للاستراتيجية الأمريكية الجديدة عدة أغراض دفعة واحدة. فهو البلد العربي الذي يمتلك الثروة والسكان والأرض والجغرافيا والتاريخ والثقافة والتنوع..الخ، مما يؤهلة أكثر من غيره ليكون منطلقاً لتطبيق الاستراتيجية الأمريكية الجديدة من خلال تقديم نموذج قابل للتعميم على جميع دول المنطقة. أضف إلى ذلك فإن العراق بما يمتلكه من مقومات كنا قد اشرنا للتو إلى بعضها، هو من بين الدول العربية الأكثر أهلية للنجاح في تجربته الديمقراطية، رغم كل الإعاقات الناجمة عن انتعاش البنى الأهلية في المجتمع، وما تسببه "المقاومة" العراقية من إرباك جدي، إلى جانب تدمير المحتلين للدولة العراقية. وما دمنا نتحدث عن الديمقراطية فلا يتوهمن أحد أنها تتحقق بمجرد إسقاط الدكتاتورية، بل تصير عبر زمن طويل من الممارسة ومن إجراء تحولات عميقة في المجتمع العراقي تعزز البنى المدنية على حساب البنى الأهلية، تعزز من الدولة بقدر ما تعزز من المجتمع المدني. إن إسقاط الدكتاتورية فتح المسار فقط، وقد تم فتحه على يد الغازين والمحتلين، وهذا ما يقلل بالتأكيد من مصداقية القوى المحلية التي استدعته ودعمته، وسوف تدفع فاتورة ذلك في أول انتخابات ذات مصداقية تجرى في العراق. مع ذلك لا يجوز التقليل من أهمية زوال الدكتاتورية الصدامية من العراق، حتى ولو تم ذلك على يد الأمريكان، وضمن أجندتهم الخاصة، طالما أنها أصبحت واقعا سياسيا، وربما يكمن في ذلك المكسب الموضوعي للشعب العراقي. وقد اختار الأمريكان العراق أيضاً لكونه يحاذي كلا من سورية وإيران والسعودية، وهي دول متضمنة في قائمة الأجندة الأمريكية للتغيير، وإن الأمريكان لن يغادروا العراق قبل إنجاز مهامهم الخاصة كاملة، وفي مقدمتها إجراء التغييرات المطلوبة في عموم المنطقة وفي مقدمتها الدول المشار إليها. لا يجوز أن يتوهم أحد أن الأمريكان يلعبون وأنهم لا يعنون ما يقولون، ومن يتوهم ذلك سوف يرتكب خطأ قاتلا، وهذه رسالة لحكامنا الأشاوس كي يسارعوا إلى المصالحة مع شعوبهم فيبادروا إلى إطلاق الحريات والدعوة إلى مؤتمر يشارك فيه جميع القوى الاجتماعية والسياسية في المجتمع لتدارس ما يمكن فعله للحؤول دون الكارثة القادمة. وقد اختار الأمريكان العراق أيضاً لأنه البلد العربي الوحيد الذي استطاع إيجاد معادلة استراتيجية إقليمية جديدة، تهدد إسرائيل والمصالح الغربية في الخليج، وهي معادلة صيغت على التراب العراقي وبأيد عراقية وعقول عراقية، مستفيدة من ظروف الحرب مع إيران، وهذا خط أحمر بالنسبة للغرب عموماً ولأمريكا وإسرائيل خصوصاً. فكان لا بد من القضاء على عناصر هذه المعادلة الاستراتيجية من قوة عسكرية وبنية تحتية فنية وإدارية وعلمية.. الخ. وهذا ما تم تحقيقه على مراحل بدءا من حرب 1991، مروراً بالحصار الجائر والطويل للعراق الذي نتج عنه أجيال مشوهة، عداك عن مئات الآلاف من الأطفال الذين ماتوا جوعا ومرضا، وانتهاء بغزو العراق واحتلاله. ألم يقل جيمس بيكر قبيل حرب عام1991 إن أمريكا سوف تعيد العراق إلى العصر الحجري!. ومن الخطأ التصور أن ما قامت به أمريكا هو رد فعل على نظام صدام الدكتاتوري فقط، بل ثمة خطوط حمر أمريكية وإسرائيلية على هذا الصعيد. مع ذلك فإن وجود نظام صدام الدكتاتوري قد سهل المهمة على الأمريكان بغبائه السياسي، وغزوه للكويت، وبتقديمه الذريعة تلوى الذريعة للأمريكان وغيرهم من أجل وضعه خارج القانون وحشد القوى الدولية لضربه وتدميره. هل نلوم الغرب وإسرائيل عندما يفعلون كل شيء للدفاع عن مصالحهم؟ أم علينا أن نسأل أنفسنا ماذا فعلنا نحن للدفاع عن مصالحنا؟.وهل من معنى لهكذا سؤال لدى إنسان عبد وجائع. أنسطو أيها الحكام العرب، الفاروق لا يزال يناديكم مستنكراً "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!".
#منذر_خدام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الديمقراطية التي نريد
-
الصراع الطبقي وأشكاله
-
أزمة الديمقراطية في الوطن العربي
-
البناء الاجتماعي ومفاهيمه الأساسية
-
المادية التاريخية وسؤالها الأول
-
الديمقراطية: معوقات كثيرة …وخيار لا بد منه
-
المادية الجدلية وسؤالها الأول
-
الديمقراطية بين الصيغة والتجسيد
-
المنهج الماركسي واشتراطاته
-
شي بحط العقل بالكف....
-
منطق الفكر
-
نقد الفكر مقدمة لنقد السياسة
-
الديمقراطية وبيئتها المفهومية في الوعي السياسي العربي
-
الديمقراطية والنخبة
-
الديمقراطية والعلمانية والليبرالية
-
الديمقراطية والمجتمع المدني
-
عندما -تحاول- أمريكا التفكير بعقل -غير- إسرائيلي يظل مثقفونا
...
-
الديمقراطية وحقوق الإنسان
-
الديمقراطية والحرية
-
الديمقراطية الحديثة بين نخبوية لوك ومساواتية روسو
المزيد.....
-
مصر.. كيف تأثرت القيمة السوقية لشركة حديد عز بعطل في مصنع؟..
...
-
تونس.. البرلمان يصادق على فصل يهم التونسيين المقيمين بالخارج
...
-
جميل ولكنه مؤذ.. مقتل 5 أشخاص إثر تساقط الثلوج في كوريا الجن
...
-
اعتذار متأخر: بوتين يعبّر عن أسفه لميركل بسبب حادثة الكلب
-
أردوغان: مبادرة بايدن الجديدة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة م
...
-
السودان.. وفاة 4 أشخاص جوعا في غرب أم درمان
-
سحب ملحق إلكتروني لـ-ساعة آبل- من الأسواق بعد اكتشاف عيب خطي
...
-
المغرب - إسبانيا: تفكيك شبكة لتهريب المخدرات من المغرب بطائر
...
-
قاذفات بي-52 الأمريكية الضخمة تحاكي قصف أهداف معادية في المغ
...
-
تونس: قيس سعيّد يشدد على أهمية إيجاد نظام قانوني جديد لتحفيز
...
المزيد.....
|