|
الاسس المادية للثورة التحديثية في المغرب -1- عند الفقيد عبد السلام المؤذن
بلكميمي محمد
الحوار المتمدن-العدد: 2511 - 2008 / 12 / 30 - 03:26
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
« ماهي الاسباب التي جعلت من المغرب ، وهو البلد الزراعي حسب المعايير الاقتصادية – الاجتماعية ، يصبح عاجزا حتى عن انتاج ما يكفي لتغذية مواطنيه ؟ . لماذا ظل المغرب ، رغم امكانياته البشرية وثرواته المعدنية ومحيطاته الشاسعة ، عاجزا عن ان يكون بلدا صناعيا ؟ لماذا لم يجد المغرب المثقل بالديون الخارجية من مخرج لازمته المالية سوى التنازل عن السيادة الوطنية لصندوق النقد الدولي الذي اصبح المتحكم في رسم السياسة الاقتصادية للبلاد ؟ . هل مرد هذا التخلف المجتمعي الشامل الى عجز بنيوي في نفوس وعقول واجسام المغاربة ، بما هم ذوات مشلولة الفكر والفعل والارادة ؟ .» ام يعود لاسباب اخرى ؟.
2
ان البلدان التي كانت في ذلك الوقت قد بلغت مستوى معينا من التطور المادي – المجتمعي ، هي وحدها التي استطاعت القيام بالثورة التحديثية ، فلقد نجحت المانيا وايطاليا واليابان واخفقت مصر والصين والهند . اما روسيا التي ظلت متذبذبة في عصر الثورات التحديثية الجديدة على يد البلاشفة ( ان الاصلاحات الاقتصادية التي ادخلها النظام القيصري سنة 1861 على البادية الروسية ، كانت ترمي من وراء الغاء القنانة وتحرير الفلاحين ، الى امكانية انتاج فائض زراعي يمكن تحقيقه في الاسواق الراسمالية الاوربية ، الا ان قوانين الاصلاح كانت تفرض على الفلاحين الابقاء على انتاج الكفاف ، ولم تكن تسمح بانتاج الفائض المعد للتسويق الا للملاكين العقاريين الكبار ، الامر الذي حد من نتائج ذلك الاصلاح – انظر التحالف العمالي الفلاحي في الاتحاد السوفياتي 1921- 1928 مشكل القمح للكاتبة السوفياتية زغريد كروسكويف ، بالفرنسية . اما حينما اضطر النظام القيصري تحت ضغط ثورة 1905 ، الى القيام باصلاح زراعي جديد اكثر تقدما ، وهو الاصلاح الذي يحمل اسم الوزير" ستوليبين" الذي كان النظام يستهدف من ورائه ، حسب راي لينين ، خلق نظام عقاري مماثل لنظام طبقة اليونكر في المانيا ، فانه قد فشل هو ايضا ، هذا الفشل دفع تروتسكي الى القول : " لو تم حل المسالة الزراعية ، من طرف البورجوازية ، لو كانت هذه الاخيرة قادرة على حلها لما استطاع البلاشفة ابدا الصول الى السلطة ( تاريخ الثورة الروسية – بالفرنسية ) . فحينما تكون القاعدة المادية – المجتمعية متوفرة عندئذ يكفي ان تكون النخبة السياسية القائدة تتمتع بوعي تاريخي وارادة سياسية ، حتى تتمكن من انجاح الثورة التحديثية . هذا ماحصل مثلا في اليابان ( البلد الشرقي القريب منا ) ، وهو ما لم يحصل في مصر محمد علي ( رغم ان هذا الاخير كان يتمتع بكل خصال القائد التاريخي ورغم جهوده التحديثية الجبارة وهو على راس الدولة المصرية ) . ان القاعدة المادية – المجتمعية المعنية ، هي النظام الاجتماعي الذي تسمح طبيعته الاقتصادية البنيوية ، باستقبال وتمثل عناصر التحديث وغرسها في الجسم المجتمعي ، ومن ثمة اطلاق الصيرورة التحديثية الشاملة . وهذا النظام كانت تمثله في القرن التاسع عشر ، ايام الاحتكاك بالعالم الراسمالي الغربي ، البلدان ذات الانظمة الاقطاعية . فاذا كان المغرب قد عجز عن تطويق اثار هزيمة حرب تطوان ومقاومة الفتح التجاري الاوربي ، فحسب ، ذلك يعود الى انه لم يكن يتوفر حينئذ على نظام اجتماعي له سمات النظام الاقطاعي . ان نظامه الاجتماعي كان عشية حرب تطوان ، لايزال في طور تشكل الارستقراطية القبلية التي " فاجاها" الغزو الراسمالي قبل ان تنضج امامها الشروط الموضوعية والذاتية للانتقال الى مرحلة ارقى من التطور ، أي تحول الارستقراطية القبلية الى طبقة اقطاعية ( يشير الناصري – المصدر السابق - في وصفه للجيش الاسباني خلال حرب تطوان ، بان هذا الاخير كان يتميز بالانضباط والتنظيم والقيادة الموحدة ، وكان لايتقدم في احتلال المزيد من الاراضي الا اذا احكم سيطرته على ما سبقها ، وان تقدمه يتم وفق نظام الصفوف المتراصة التي لاتسمح للجندي الاسباني بالانسحاب من المعركة والا عرض نفسه لخطر الموت من طرف رفاقه . وكان مجهزا بالاسلحة المدفعية الثقيلة المجرورة بالخيول ، كما كان لاينقصه أي شيء من المواد الغذائية ، بينما كان الجيش المغربي عكس ذلك تماما . ان الاعتقاد بان الهزيمة في حرب تطوان كانت مجرد هزيمة عسكرية تقنية صرفة ، سيدفع ببعض السلاطين المغاربة الى الاهتمام بادخال بعض عناصر التحديث على الجيش بمعزل عن تحديث المجتمع ككل . هذا مافعله محمد بن عبدالرحمان الذي كان سلطانا في فترة الحرب ، وما سيفعله الحسن الاول بشكل اكبر ، لكن بدون جدوى ).
تشكل الارستقراطية القبلية :
في التطور التاريخي للمجتمع المغربي ، يجب اعتبار منطقتين جغرافيتين متميزتين ، رغم تشابههما البنيوي وتداخلهما السياسي في هذه الفترة او تلك من فترات التاريخ هاتان المنطقتان هما : 1) المنطقة الخاضعة للسلطة السياسية المخزنية . 2) المنطقة المستقلة عنها نسبيا "السائبة".
1) المنطقة الاولى : لما تم الفتح العربي – الاسلامي للمغرب ، كان اول اجراء حقوقي مهم تحدثه السلطة الجديدة ، يتعلق بنظام الملكية العقارية في البادية ، ان هذه الملكية التي كانت قبل الفتح توحد بين ركنيها الاساسيين ، أي بين حق التملك الفعلي للارض وحق " التصرف والانتفاع " بالغلة المستخرجة منها . ستعمل بعد الفتح على الفصل بينهما . بهذا الاجراء سيتم تفويت الحق الاول " للامة الاسلامية " في شخص الامير ( مما سيمنحه سلطة دائمة على جميع الاراضي ) مع الاحتفاظ بالحق الثاني للفلاحين . ان هذا الاجراء الحقوقي الذي يحرم اذن الملكية الخاصة ( من خلال ضرب الملكية الجماعية للقبيلة ) كان في نفس الوقت يشكل غطاءا ايديولوجيا لخدمة ثلاث اغراض سياسية رئيسية هي : 1- حق انتزاع الضريبة من الفلاحين العاملين في "ارض الامير " -- 2- حق تشكيل ممتلكات عقارية خاصة بالدولة –3- حق اقتطاع بعض الاراضي من ممتلكات الدولة لمنحها لبعض المواطنين الكبار ( بشكل مؤقت وغير وراثي ). ان ضريبة الخراج ، وهي الضريبة المفروضة على الفلاحين ، كانت شديدة الوطئ بسبب ارتفاعها الكبير ، غير انها من ناحية اخرى كانت مجرد ضريبة شخصية قائمة على التمييز بين الاشخاص ، وليست واقعية تقوم على القانون العقاري المؤسس ، فالذين كانوا يدفعونها هم فقط الاشخاص غير المسلمين بعد اعلان ملكية الارض ملكية للامة ، ومقابل السماح لهم باستغلالها بحرية وحسب اعرافهم وتقاليدهم في الانتاج . في عهد الدولة الاموية ، ستشتد وثيرة المعتنقين للاسلام مما سينجم عنه تضاؤل في الموارد المالية اصبح يهدد خزينة الدولة ، ولتطويق هذا الخطر ، ستضطر الدولة الاموية للقيام بتعديل جبائي كانت له اهمية تاريخية بالغة ، اذ سيتم اعتبار اراضي الخراج ابتداءا من تاريخ التعديل ، اراضي للخراج بشكل نهائي مهما كانت العقيدة الدينية لاصحابها . ان النظام العقاري الذي ادخله الاسلام قد ساهم في اعادة تطور شروط الانتاج من ناحيتين ، الناحية الاولى لكونه حرم الملكية الخاصة ( اعلان ملكية الارض ملكية عليا للامة ) ، والناحية االثانية لكون الخراج المجحف لايسمح للفلاح المنتج بالحفاظ على أي مقدار من الفائض الزراعي للاستعانة به في تطوير وسائل الانتاج . من هنا كان مثلا القائد المخزني الذي يتم تعيينه على بعض المناطق ، يفتقد الى الشرعية القانونية التي تسمح له بالتحول الى اقطاعي . طبعا ان مجرد تحمل مسؤولية الوظيفة المخزنية ، هو في حد ذاته يمنحه العديد من الا متيازات المادية ، ، فلكي يتمكن من نشر هيبة السلطة التي يمثله ، كان مفروضا عليه ان يكون هو نفسه مهابا ، ولكي يكون كذلك لابد لنمط عيشه وسكناه واستهلاكه ان يتسم بنوع من الجاه والبذخ ، الشيء الذي لن يتاتى بدون امتلاك الاراضي واستغلال الفلاحين ، والاراضي التي قد تمنحها له الدولة على شكل اقطاعات لاتكفي ، بل قد يستخدمها فقط كدعم لتوسعه العقاري ، ليس غريبا اذن اذا ما اصبح القواد المخزنيون اسياد ارض منذ ذلك العهد ، وليس غريبا ايضا ان يتحول الفلاحون الى اقنان ( العمل بالسخرة ، نظام الخماسين . .). بيد ان نقطة ضعف ذلك النظام الاساسية التي كانت تعيق تطوره ، هي افتقاده لشروط الاستقرار والرسوخ . فالقائد المخزني كان في العديد من الحالات شخصا اجنبيا عن المنطقة ، لقد كانت السلطة المخزنية تختار واحدا من ضباط جيشها او من رجال ادارتها او من طلبتها الاكفاء ، فتنصبه ممثلا لها في المنطقة الاستراتيجية اقتصاديا وسياسيا التي تريد بسط نفوذها عليها . لذلك كان القائد المخزني في هذه الحالة ، يستمد كل سلطته من سلطة المؤسسة المخزنية . ومادامت هذه المؤسسة تملك قانونيا حق الملكية العليا للارض ، وسياسيا قادرة على اقالته وتغييره متى شاءت وكيفما شاءت ، فان املاك القائد المخزني تبقى بالتالي معرضة للتصفية في أي وقت ( يشير احمد التوفيق – بشيئ من التفصيل الى بعض نماذج القواد المخزنيين في منطقة دمنات ). 2- المنطقة " السائبة " : اذا كانت للمناطق المخزنية ضوابطها القانونية - السياسية المعيقة لتحول اسياد الارض المخزنيين الى اقطاع فعلي ، فان المناطق "السائبة " هي الاخرى كانت لها ضوابطها الخاصة . هذه الضوابط هي " التحالفات القبلية " المتوازنة ، المستندة للاسرة الابوية . ان اول واهم اكتشاف للبنية الداخلية للقبيلة المغربية ، يرجع الفضل فيه الى عالم الاجتماع الفرنسي روبير مونطانيه في كتابه حول " المخزن وبرابرة الجنوب " . واذا كانت افكار ونظريات المؤلف المعروضة في الكتاب، تحركها اغراض استعمارية كولونيالية واضحة ( صدر الكتاب في مطلع العشرينات ، أي ايام اشتداد الضغط العسكري الفرنسي لاخضاع البادية المغربية ) ، فان تلك الاغراض في حد ذاتها لاتمس القيمة العلمية للكتاب . بل بالعكس فان هذا الكتاب الذي كان ضباط الجيش الفرنسي يسمونه "انجيلهم الخاص " (" المغرب في مواجهة الامبرياليات "، شارل اندري جوليان – بالفرنسية - ) ، كان قد سلحهم بالمعرفة النظرية التي استفادوا منها في تعميق التناقضات وشل التحالفات داخل البناء القبلي من اجل هزمه عسكريا والسيطرة عليه سياسيا . ان جوهر اكتشاف الكاتب الفرنسي يتمحور حول نظرية " اللف القبلي " . واللف هو الاطار التحالفي المتوازن داخل القبيلة . فالقبيلة المكونة من مجموعة من- تاقبيلت - ، أي مجموعة من الدول الصغرى ، تحرص على ان تنقسم على نفسها تلقائيا بشكل يتم فيه توزيع "الدول الصغرى" بين معسكرين متعارضين لكن متكافئين من حيث القوة . ان هذا التحالف السياسي التاقبيلتي المتوازن على صعيد القبيلة ، يسمح اذن في شروط المجتمع القبلي المغلق الذي تمثل فيه الاسرة الابوية وحدة انتاجه الاساسية القائمة على الكفاف . . . يسمح بالاستمرارية والاستقرار والركود ( يؤكد مونطانيه بان ذلك الركود دام قرونا كاملة ، ولم يدخل النظام القبلي في صيرورة التفكك الا في القرن التاسع عشر ). فالتحالفات القبلية المتوازنة التي كانت تعكس سياسيا ، في لحظة من لحظات التاريخ ، القاعدة الانتاجية المجسدة في الاسرة الابوية ، ستلعب فيما بعد دور المحافظ على استمرارية تلك الوحدة الانتاجية الاساسية. ان هذه التحالفات لم تتعرض للانهيار الا حينما انهارت الاسرة الابوية – دعامتها المادية - نتيجة غزو البضاعة الراسمالية للبادية المغربية في منتصف القرن التاسع عشر . تحت الضغط الاقتصادي الراسمالي ، سينقسم المجتمع القبلي على نفسه بين الاسر الصغيرة المتساقطة واسر الاعيان الكبيرة الصاعدة . هكذا سيتمخض عن رئيس لمجلس تاقبيلت المنتخب " امغار " مستبد ، في مرحلة اولى ، ثم في مرحلة ثانية زعيم كبير واسع النفوذ ، ثم في مرحلة لاحقة سيتحول ذلك الزعيم الى قائد مخزني بفعل التزكية المخزنية له ( مونطانيه – المصدر السابق -) . هنا نجد اذن صنفا اخر للقائد المخزني . فاذا كان الصنف الاول يتميز بكونه اجنبيا عن المنطقة ، ولايستمد مفوذه الا من السلطة المركزية التي عينته . فبالعكس ، ان الصنف الثاني يستمد نفوذه من ثرواته واصوله الارستقراطية المحلية ، بحيث ان دور السلطة المخزنية هنا لا يتعدى حدود المصادقة والتزكية ( يذكر احمد التوفيق – المصدر السابق – مثالا للصنف الاول ، القائد : علي او حدو ، وكامثلة للصنف الثاني : الكلاوي والكندافي والمتوكي . ان الملاحظة التي يجب تسجيلها في هذا السياق ، هي ان الزعيم القبلي الكبير ما كان له ليقبل التعاون من السلطة المخزنية لو لا حاجته اليها من اجل الحماية العسكرية . فاذا كان قد استطاع الاستحواذ على بعض الممتلكات العقارية ، فانه سيبقى عاجزا عن خلق القوة العسكرية المحلية اللازمة لحمايتها . ان انخراطه في المؤسسة المخزنية يسمح له اذن بحل هذا المشكل عن طريق وضع الحامية العسكرية للسلطان تحت تصرفه ( تجدر الاشارة بهذا الصدد الى ان صيرورة تشكل هذا الصنف من اسياد الارض المغاربة ، تختلف عن مثيلتها في التجارب الاوربية الكلاسيكية . في المغرب كان المنطلق اقتصاديا : فجمع الثروة يولد الحاجة الى الحماية العسكرية ، التي يتم البحث عنها وايجادها لدى السلطة المخزنية ، بينما العكس هو الحاصل في اوربا : فالمجتمع الاقطاعي كان في منطلقه ، مقسما الى "طبقتين " متخصصتين واحدة في الانتاج ( الفلاحون ) ، والاخرى في الحروب ( النبلاء ) . ان احتكار النبلاء لوسائل الحرب واتقان ممارستها هو الذي سيسمح لهم بالاستحواذ على الاراضي وتحويل الفلاحين الى اقنان . وفي مرحلة متطورة من النظام الاقطاعي عندما ظهرت الدولة المركزية ببيروقراطيتها وجيشها النظامي ، ستصبح الوظيفة الحربية للنبلاء زائدة مما سيجعلهم يحولون نشاطهم الحربي القديم الى هواية لصيد الحيوانات ووحوش الغابة ) . خلاصة القول ، ان اسياد الارض المغاربة لم يكونوا في نهاية القرن ، قد تجاوزوا في تطورهم العقاري مستوى الارستقراطية القبلية . ان هذا التجاوز لم يتحقق فعليا الا في مرحلة الاستعمار الكولونيالي المباشر .
تحول الارستقراطية القبلية الى اقطاع تحت الرعاية الاستعمارية : ان التطور التاريخي للملكية العقارية حتى مجيئ الاستعمار ، يسمح اذن بالخلاصة العامة التالية: لقد كانت البادية المغربية في ذلك الوقت مقسمة الى منطقتين اقتصاديتين – سياسيتين متميزتين نسبيا . فبالنسبة للمنطقة المخزنية التي كانت تشمل معظم المناطق المجاورة للمدن الكبرى ، فقد كانت قد ظهرت فيها اذن ارستقراطية قبلية تابعة للسلطة المخزنية المركزية ، وخضعت هذه الارستقراطية في تشكلها – كما تم التاكيد سابقا - لطرفين مختلفين ، الطريق الفوقي الذي تميز بكون السلطة المركزية استطاعت فرض موظفيها الاجانب عن المنطقة بالقوة ، كقواد وولاة قبل ان يسمح تفكك القبيلة الذاتي بفرز ارستقراطية محلية يمكن الاستناد اليها . في هذه الحالة ، كانت السلطة السياسية الفوقية هي صانعة قاعدتها العقارية . اما الطريق الاخر فهو الطريق التحتي ، الذي كان يتميز بتبلور ارستقراطية محلية نتيجة التفكك الاقتصادي الذي اصاب الاسرة الابوية ، والذي انعكس ايضا على البناء السياسي . فالرئيس التاقبيلتي الذي كان في البداية يتم انتخابه بشكل " ديمقراطي " ، سيصبح فيما بعد "امغار" مستبدا فزعيما قبليا كبيرا . ان هذا التطور السلطوي التصاعدي ينتهي حتما بصاحبه الى المؤسسة المخزنية التي يصبح واحدا من افرادها ، باعتبارها الوحيدة التي تمنحه الحماية العسكرية الضرورية . في هذه الحالة كانت اذن القاعدة العقارية التحتية هي صانعة غطائها السياسي . بالنسبة للمنطقة " السائبة " التي كانت تشمل الجبال البعيدة والمناطق النائية ، فانها ظلت محتفظة بقاعدتها الانتاجية الاسروية ، لكون التجارة الراسمالية الاوربية لم تصلها . وعلى الصعيد السياسي لم تكن القبيلة قد تجاوزت بعد مرحلة الرئيس التاقبيلتي المنتخب . هذا التمايز الاقتصادي - السياسي بين المنطقتين ، سيولد موقفين سياسيين مختلفين تجاه المستعمر الاجنبي الذي دخل البلاد . بالنسبة للمنطقة المخزنية : ان القواد المخزنيين وخاصة الكبار الذين راكموا ثروات واسعة ، والذين اصبحوا اندادا للسلطة المخزنية نفسها ، لم يزكوا فحسب معاهدة الاستعمار التي قبلها المركز ، بل كانوا في العديد من الحالات محاوريه الاوائل الاساسيين . وهذا ينسجم كليا مع مصالحهم باعتبار ان الدعم الذي تقدمه لهم الادارة الاستعمارية سيفوق دعم المؤسسة المخزنية . بالنسبة للمنطقة " السائبة " : كانت المقومة هنا التي قادها الزعماء القبليون المحاربون ، مقاومة شرسة . فالضباط الفرنسيون انفسهم يعترفون بان القبائل كانت لاتقبل القاء السلاح الا اذا اضطرت لذلك اضطرارا وبعد ان تكون قد استنفذت كل امكانيات المقاومة ( جرمان عياش : اصول حرب الريف ، بالفرنسية – منشورات سمير – لاسوربون ) . ولما كان ميزان القوى العسكري – الاجتماعي مختلا بشكل لا يقاس لصالح الجانب الاستعماري ، فقد تمكنت الادارة الاستعمارية في الاخير من اخضاع كل القبائل لسلطتها المركزية وفرض ما اصطلحت على تسميته ب " التهدئة Pacification في منتصف الثلاثينات . اما سياستها تجاه زعماء القبائل المنهزمين ، فلم تكن ترمي الى التخلص ، بل اختارت الاستفادة منهم عن طريق الاحتواء والتاطير . هكذا . . . فباحتفاظها لهم على مناصبهم القيادية على راس القبيلة ، وبتجنبها فرض موظفين اداريين تابعين لها ، تكون اذن قد سهلت على نفسها مهمة احكام سيطرتها على البادية واطلاق صيرورة التحويل العقاري لصالح الزعماء القبليين ، وهو التحويل الذي ستستند اليه لتاسيس تحالفها الاستراتيجي مع البادية المغربية . يقول رومي لوفي ، المساعد التقني الفرنسي في وزارة الداخلية ، في الستينات ، عن تلك الحقبة التاريخية ، في كتابه الهام " الفلاح المغربي حامي العرش " – بالفرنسية ما يلي : " ان النخبة القبلية التي قادت الكفاح ضد الغزو الفرنسي ، قد مكنتها سياسة " التهدئة " من البقاء في السلطة . ولقد وجد كل الفرقاء في هذا الوضع ما يرضيه . فالفرنسيون قد زكوا الزعيم الذين يعرفون انه يتمتع بنفوذ داخل وسطه الاصلي . والسكان يفضلون طاعة اوامر الزعيم الذي اختاروه هم بانفسهم للدفاع عن وجودهم وحريتهم ، بدل صنيعة يفرضها عليهم المنتصر الاجنبي " ( الفلاح المغربي – بالفرنسية ) . غير ان هذا الزعيم القبلي لم يكن يستمد نفوذه قبل التدخل الفرنسي - الا من كفاءته الشخصية ومن احترام السكان له ، سيجد نفسه فجاة بعد التدخل محاطا بالحماية العسكرية والقانونية التي توفرها له الادارة الكولونيالية بسخاء . لذلك فان منطق الاشياء نفسه ، سيدفع هذا الزعيم القبلي الى تشييد القاعدة العقارية – تحت التغطية الساسية الكولونيالية – التي اصبحت تلائم وضعه الجديد ، بهذه الطريقة سيتم اذن التحول التدريجي من زعيم حرب قبلي الى ملاك عقاري كبير " لوفو ( المصدر السايق- ) . ان النظام العقاري المغربي الذي ظلت تعترض نزوعه الاقطاعي ، العديد من المعيقات ، سوف يعمل التدخل الكولونيالي على تكسيرها عسكريا وسياسيا وقانونيا ، وسوف يمنحه القاعدة العقارية الثابتة والراسخة التي طالما افتقدها ، والتي عليها سيتم توحد جناح القواد المخزنيين مع جناح زعماء الحرب القبليين ، ليشكلوا معا فئة اجتماعية جديدة موحدة المصالح ، هي الفئة الاقطاعية ( بكل ما لكلمة اقطاع من دلالة ) . ان الصعود السريع للاقطاع المغربي ، مع ماترتب عليه من تمركز للملكية العقارية ، ادى حتما وبالنتيجة الى فصل المنتجين المباشرين ( الفلاحين ) عن وسائل انتاجهم وبالتالي الى تساقطهم . والفلاحون الذين وجدوا انفسهم فجاة بلا ارض وبلا وسائل استغلالها ، بحيث لم تبق في ملكيتهم سوى قوة عملهم ، سيضطرون اذن من اجل ضمان عيشهم ، الى استخدام تلك القوة كاقنان في اراضي الاقطاعيين ( لنلاحظ هنا ان الفلاحين الذين تحدث عنهم بول باسكون في كتابه " تطور الراسمالية في حوز مراكش في عهد الحماية " ، والذين كانوا يفضلون العمل كعمال زراعيين في ضيعات المعمرين ، على العمل كاقنان في اراضي الاقطاع ، لم يتعزز لديهم ذلك الميل الا حينما اشتد عليهم الضغط . اما في البداية فقد كانت الروابط الايديولوجية العشائرية – القبلية قادرة على شدهم الى ارض الاقطاعي ). ان اصطلاح القن ينطبق في النظام الاقطاعي المغربي على الخماس ( او احد اشتقاقاته مثل الرباع ، والخباز ، والعزاب ... الخ ) . والعلاقة التي يضبطها العقد المتفق عليه بين الاقطاعي والخماس ، تسمح للاول بالاستحواذ على اربعة اخماس المنتوج على شكل ريع عقاري ، بينما يترك الخمس الباقي للثاني مقابل عمله .وهذا معناه ان الاقطاعي الذي يملك اراضي شاسعة ، يعمل على تجزئتها على عدد كبير من القطع الارضية الصغيرة ، فيضع على راس كل واحدة منها خماسا يمده بوسائل الانتاج الضرورية ( حبوب ، حيوانات الجر ... ) مقابل ان تعود اربعة اخماس المحصول لمالك وسائل الانتاج والخمس الاخر لمالك قوة العمل ( ان بعض النظريات الافتصادية التي تريد طمس واقع الاستغلال الذي يتعرض له الخماس ، لاتقدم علاقة الاقطاعي بالخماس على انها علاقة اجتماعية بين مالك لوسائل الانتاج وغير مالك لها . بل بصفتها علاقة عوامل انتاج ساهم فيها عامل العمل بالخمس والعوامل الاخرى باربعة اخماس !!) . بيد ان الشروط التاريخية المتميزة التي احاطت ظهور النظام الاقطاعي المغربي ، وهي شروط الهيمنة لراس المال العالمي دوليا والفرنسي محليا ، ستطبع ذلك النظام بطابعها الخاص . لذلك لم يكن الاقطاع المغربي منغلقا على ذاته كما كان الشان بالنسبة للاقطاع الاوربي في مراحله الاولى ، بل كان بالعكس خاضعا وتابعا للسوق الراسمالية ( لتبيان درجة الانغلاق القصوى التي كان يتميز بها الاقطاع الالماني – مثلا - في بداية نشاته ، يسوق كارل كاوتسكي في كتابه " المسالة الزراعية " – بالفرنسية - الحكاية التالية : مادامت العلاقة التجارية مع العالم الخارجي منعدمة انعداما كليا ، كان الاقطاعيون عندما يريدون تجديد انتاجهم من الخمور للاستهلاك الخاص ، يضطرون من اجل التخلص من الخمور القديمة ، الى فرض شربها قهرا على الاقنان كنوع من انواع العمل الاكراهي ، حتى اذا ما اصيبوا بالسكر واخذوا يتشاجرون فيما بينهم ، يتدخل عندئذ يصفته رجل امن فيفرض عليهم دفع الغرامات بسبب المخالفات التي ارتكبوها . وبهذه الطريقة الملتوية كان يسترجع مقابلا لخموره ) . ان السوق الراسمالية قد خلقت للاقطاعي المغربي حاجيات جديدة وكثيرة ، وكماليات متنوعة . لذلك كان يحرص على تحويل جزء هام من فائض الانتاج الى نقود لشراء وسائل بذخه ( يذكر بيير جيلي في "جمهورية لملك " ، بان الكلاوي كان زبونا مداوما لارقى المحلات التجارية الباريسية ، وقد سبق له ان اشترى جوهرة فريدة من نوعها اراد اهداها الى الملكة اليزابيت بمناسبة تتويجها على عرش بريطانيا ، ولكنها رفضتها ) .
#بلكميمي_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تراث الفقيد عبد السلام المؤذن حي لايموت//الاسس المادية للثور
...
-
تراث الفقيد عبد السلام المؤذن حي لايموت// الاسس المادية للثو
...
-
تراث الفقيد عبد السلام المؤذن حي لايموت// الاسس المادية للثو
...
-
من / تراث الفقيد عبد السلام المؤذن حي لايموت// جيل الانشغالا
...
-
تراث الفقيد عبد السلام المؤذن حي لايموت// مثالية البرنامج وم
...
-
تراث الفقيد عبد السلام المؤذن حي لايموت// عاشت« الكتلة الديم
...
-
تراث الفقيد عبد السلام المؤذن حي لايموت// الحلم بتغيير العال
...
-
تراث الفقيد عبد السلام المؤذن حي لايموت//في ذكرى اقتراب نصف
...
-
تراث الفقيد عبد السلام المؤذن حي لايموت//في ذكرى اقتراب نصف
...
-
تراث الفقيد عبد السلام المؤذن حي لايموت//في ذكرى اقتراب نصف
...
-
تراث الفقيد عبد السلام المؤذن حي لايموت// عندما يتوحد التكتي
...
-
تراث الفقيد عبد السلام المؤذن حي لايموت// كتابات مضيئة // ال
...
-
من قلب الراحل عبد السلام المؤذن - المعتقلون في القلب -
-
بمناسبة اليوم الوطني للاعلام 15 نونبر :
-
نظرية الديمقراطية المغربية -3-
-
نظرية الديمقراطية المغربية : دولة كل طبقات المجتمع - تتمة -
-
نظرية الديمقراطية المغربية: ديمقراطية دولة كل طبقات المجتمع
...
-
نظرية الديمقراطية المغربية : ديمقراطية دولة كل طبقات المجتمع
...
-
نظرية الديمقراطية المغربية :ديمقراطية دولة كل طبقات المجتمع
-
نظرية الديمقراطية المغربية : تناقضات ديمقراطية دولة الطبقة ا
...
المزيد.....
-
ترامب يأمر الجيش الأمريكي بتنفيذ ضربات جوية في الصومال
-
تظاهرات في مدن ألمانية ضد سياسة الهجرة المدعومة من البديل
-
نتنياهو: سنواصل العمل لتحقيق أهداف الحرب
-
شاهد.. نيران وحطام طائرة متناثر في الشوارع إثر الحادث الجوي
...
-
مصر.. اجتماع عربي لرفض تهجير الفلسطينيين
-
صحيفة: في الغرب يدركون أن بوتين يعرف نقطة ضعفهم
-
اختفاء معلومات وبيانات مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية من
...
-
السودان.. الجيش يعلن استعادة السيطرة على عدة مدن في ولاية ال
...
-
دانماركي يحرق مصحفا أمام السفارة التركية في كوبنهاغن (فيديو)
...
-
واشنطن: يجب إجراء انتخابات في أوكرانيا
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|