محمد زكريا توفيق
الحوار المتمدن-العدد: 2510 - 2008 / 12 / 29 - 02:13
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
كنت فى زيارة لمصر العام الماضى بعد غيبة طويلة, فسرتنى أشياء, وراعتنى أهوال. لكن والحق يقال, أشد هذه الأهوال هولا, وأكثرها ضراوة, هى المسألة التعليمية. والذى هالنى أكثر وأصابنى بالقلق والأرق هى الامبالاة الشديدة وعدم إكتراث السادة المسؤلين.
لقد رأيت رأى العيان, مالا يخطر على بال إنس أو جان. لقد رأيت كيف توقفت طلبة المدارس, وخصوصا طلبة الشهادات والثانوية العامة, عن الذهاب إلى المدارس الحكومية. لأن المدارس الحكومية أصبحت مضيعة للوقت.
ورأيت كيف أدمنت الطلبة الدروس الخصوصية إدمان المخدرات, إلى الدرجة التى لم تعد معها قادرة على فهم أى شئ, إلا عن طريق ملقن خصوصى فى المنزل. وهذا يذكرنى بعملية تزغيط البط فى الريف. أى تغذية البط بدون كامل إرادته, بعد أن تضع الفلاحة رجلها فوق دكر البط وتفتح فمه بالقوة وتصب فيه كمية لابأس بها من الفول الناشف والدشيشة, وهى عملية لابد أن تتنبه لها جمعيات الرفق بالحيوان, لأنها مؤلمة جدا للطائر المسكين, وتفقده القدرة على البلع.
وشاهدت طالب الثانوية العامة يتعاطى دروسا خصوصية فى المادة الواحدة عند أكثر من مدرس واحد (إثنين أو ثلاثة). هذا يشرح أفضل, والثانى يلخص أفضل أما الثالث فهو أمهر فى حل المسائل. ورأيت كل الطلبة تأخذ دروسا خصوصية فى كل المواد. كل ذلك حتى يستطيع الطالب المسكين الإلتحاق بالكلية التى يريدها, والتى تتطلب مجموعا معجزا يقترب من المائة فى المائة.
فقد أصيبت طالبة, تمت لى بصلة القرابة, بإنهيار عصبى, نقلت فى أثره إلى المستشفى, لأنها حصلت على مجموع ثلاثة وتسعون ونصف فى المائة, وهو مجموع لا يؤهلها لدخول الجامعة التى تريدها. وأعتقد أن السيد وزير التربية والتعليم, رغم إحترامى الشديد له وتقديرى لكفاءته, لن يستطيع الحصول على هذا المجموع لو دخل الإمتحان بدلا منها.
ولقد رأيت أيضا الكتب والمناهج التى لا تفهم (بضم التاء), والطلبة التى لا تفهم (بفتح التاء). وشاهدت وسمعت عن الأسر التى تعانى الأمرين لتوفير أجرة المدرس الخصوصى على حساب قوتها اليومى. مما يضطرها فى أحيان كثيرة لبيع قطع أثاث من عفش البيت, أو الإستدانة وسؤال اللئيم, أو إستبدال جزء من المعاش, أو عمل جمعيات بين الأهل والأصدقاء, لتوفير ما تيسر.
ورأيت أيضا طلبة الجامعات لا تذهب إلى المدرجات, ولا حتى تقوم بالمراجعة والإستذكار, بحجة أن الملازم والمطبوعات لم تصدر بعد, لأن الأستاذ غالبا ما يصدر الملازم قبل الإمتحان بأيام قليلة, حتى لا يكون أمام الطالب أى خيار آخر سوى شراء هذه الملازم (فتاكة وفهلوة).
شاهدت أيضا مدارس خمس نجوم بالعملة الصعبة لأولاد الحظوة والنخبة, بها كل شئ يبهج النفس ويسر الخاطر. ومدارس فى الكفور والنجوع وعلى أطراف الوجود, للعامة والدهماء والبؤساء والمعذبون فى الأرض, تثير الحصرة, ويندى لها الجبين. مدارس بدون فناء وبدون دورات مياة.
وهناك مدارس متنوعة. مدارس عامة حكومية, ومدارس خاصة, ومدارس دينية حكومية, ومدارس دينية خاصة. مدارس مصرية, وأخرى أجنبية. مدارس ومعاهد على كل لون يا باتسطا(نوع من القماش), دون هدف مشترك لكل هذه الخلطابيطا أو المكرونة الإسباجتى.
كما أننى شاهدت ولامست وعاينت مدى الخواء والهيافة والسطحية التى آل إليها شبابنا وأولادنا وبناتنا, سواء كانوا طلبة المدارس الحكومية أو الأجنبية. فلاهم يعلمون من هم, ولا إلى أين هم ذاهبون. ولا كيف كانوا أو أصبحوا أو أمسوا. لا يقرأون ولا حتى الجرائد اليومية, ولا يسمعون ولا يشاهدون إلا التلوث السمعى والبصرى الموجود فى الفضائيات. ولا يهتمون إلا بملابسهم الخارجية والعربية والمبيل. فتيان كالنخل, وما أدراك ما الدخل. أرض بلقع, وبحار تئن فيها الرياح, ضاع فيها المجداف والملاح. ثم نتساءل, لماذا التطرف؟ ولماذا المخدرات؟
أذكر أن معلم الجيل الأستاذ أحمد لطفى السيد كان يعارض سياسة التعليم المزدوج, المتمثل فى المدارس الدينية والمدارس المدنية. بحجة أن هذا يخلق إنشطارا فى بنية المجتمع المصرى وشخصيته. وكان من رأيه أن التعليم الدينى يجب أن يكون موادا دراسية عن طريق المدارس الحكومية العامة والجامعات. ويكون متاحا للجميع, مسلم أو مسيحى, حتى يظل النسيج الوطنى متماسكا. وقد كنت ألاحظ فعلا أثناء دراستى الإعدادية والثانوية, أن مدرس اللغة العربية والدين فى أيامنا, كانت تختلف شخصيته ولبسه وسلوكه وطريقة تدريسه عن باقى المدرسين. لا لشئ سوى إختلاف الخلفية التعليمية لكل منهما.
ما هو الهدف من الخطة التعليمية فى مصر, ومن هو المسئول عنها, وأين دور مجلس الشعب, ولماذا لا يسخن وينفعل ويصاب بالهياج العصبى كما فعل بالنسبة لتصريحات وزير الثقافة عن موضوع الحجاب؟
هل الهدف من التعليم هو بناء مدارس وتوفير مكان لكل طالب فقط؟ أم تربية الطالب بدنيا وعقليا وخلقيا؟ ام كل هذا؟ وإذا كان الهدف هو التربية, فعلى أى منهج؟ هل نريد من أولادنا أن يكونوا أبطالا, أو عباقرة, أو نساكا زاهدين, أو بنى آدمين؟ أم الهدف هو تدمير أجيال وتحويلها إلى غثاء سيل, حتى يسهل حكمها, أم ماذا بالضبط؟ وكيف نعدهم لكى يستطيعوا العيش والبقاء والمنافسة الشريفة فى هذا الزمن الصعب؟
هذه بعض الملاحظات والتأملات فى المسألة التعليمية لعلها توقظ هذه القضية الهامة من رقادها. لأن هدفى من الكتابة هو التنبيه والتحذير, وليس الإمتاع والتخدير. "ويابخت من بكانى وبكى الناس علية, ولا ضحكنى وضحك الناس علية" (مثل شعبى).
- التعليم فى بلادنا يعتمد على الحفظ والتسميع بدون فهم. إجهاد للذاكرة, وشلل للقدرة التفكيرية, وقتل لملكات العقل التحليلية. ولقد كنت اتساءل فى صباى عن جدوى تدريس نظرية تطابق المثلثات وما شابهها من نظريات فى الهندسة المستوية(الإقليدية) فى سن مبكرة. ويأتى الجواب لأن تدريب التلاميذ فى سن مبكرة على نظريات الهندسة المستوية وعلى حل تمارينها, هو خير وسيلة لتدريب العقول على التفكير المنطقى. إذا لم يكن تفكيرك فى تسلسل منطقى ومنظم, فلن تستطيع برهان شئ, أو حل أى تمرين هندسى, أو كسب أى قضية, أو الوصول إلى أى حقيقة.
تدريب العقول منذ نعومة أظافرها على التفكير المنطقى, هو الذى سوف ينهض بشعوبنا ويحل مشاكلنا الإجتماعية والسياسية والإقتصادية. الهدف بناء عقول قادرة, وليست عقول حافظة لمعلومات مكدسة لا يربطها رابط. عقول فاهمة, وليست عقول تحمل شهادات وأجازات بدون فهم. مثل الحمار الذى يحمل أسفارا, ولكنه لايعلم ما بها من معرفة. ويا ريت يلغوا الشهادات بالمرة. حتى لا يطلب العلم إلا من يريده حقا. وأنا جاد فى هذا الإقتراح.
- معظم المدرسين غير أكفاء لهذه المهنة الجليلة. فمنهم من يقوم بصب المواد فى عقول الطلبة صبا. وكأنك تصب سائل فى قمع دون روية, ودون مراعات درجة إستيعاب كل طالب على حدة. ومنهم من يقف حجر عثرة فى طريق الفهم والتحصيل. ومنهم من يسبب بأسلوبه وغبائه كره الطلبة لمادته ولعملية التعليم برمتها. ومنهم من يحول الفصل إلى مجموعة متطرفين, وثان يعرض على طلبتة أفلام جنسية أثناء الدروس الخصوصية, وثالث يقول بقتل طلبته ضربا وركلا لتقويمهم. كما جاء فى صحافتنا مؤخرا. فهل ننتبه لدور المعلم فى تشكيل عقول أولادنا.
- هل نعلم أولادنا القدرة على النقد؟ والقدرة على التمييز بين الحقائق والخرافات؟ ومعرفة أى ريح تدفع شراع المركب إلى الأمام أو الخلف؟
وهل نضع أمامهم المواضيع والقضايا بأوجهها المختلفلة كما هى, حتى يختاروا بأنفسهم إذا إستطاعوا؟ وإن لم يستطيعوا, هل نعلمهم القدرة على الشك؟ لأن الأغبياء فقط هم الواثقون والمتأكدون والمدافعون حتى الموت عن أول فكرة أو قضية تواجههم فى حياتهم. وكما قال دانتى:" الشك يسرنى كما تسرنى المعرفة".
وهل نشجعهم على إبداء الرأى؟ فى أى موضوع يخصهم أو لا يخصهم؟ ونجعلهم يتساءلون, لماذا تكتب "عمرو" بواو زائدة و "داود" بواو ناقصة. أو لماذا مصر فقيرة اليوم؟ ولديها البحر الأبيض بالعرض, والبحر الأحمر بالطول, ونهر النيل بحصة مياهه الكبيرة, والبحيرات والمياة الجوفية والجزر والغابات والواحات والجبال والصحارى وسيناء والمناجم وقناة السويس والبترول والغاز الطبيعى والأيدى العاملة والآثار والمناخ الرائع والموقع الفريد؟
- هل نربى أولادنا على الخشونة, والرجولة, والقيم النبيلة؟ وهل نشجعهم على إعادة إكتشاف أنفسهم وقدراتهم وإمكانات بلادهم؟ وهل نشجعهم على إكتشاف ودراسة حيوانات ونباتات الوادى والصحراء وسيناء. وهل نعلمهم النظافة والنظام والحفاظ على البيئة وحمايتها منذ نعومة أظافرهم؟
- هل نعلمهم الأخلاق, والصدق والأمانة, وأدب الحوار, والإستماع الجيد, وفضيلة الصمت, كما كان أجدادنا قدماء المصرين يعلمون أولادهم؟ وهل نعلمهم تقديس الحق والعدل, والإمتثال للحقيقة متى وجدت, والإعتراف بالخطأ عندما يظهر.
وهل نعلمهم التذوق الفنى الذى يرقى بالحس والشعور, من موسيقى وشعر وأدب وفنون تشكيلية وسينما ومسرح؟ فالفنون والآداب الجيدة تحرر الإنسان. وتجعله أكثرة حكمة وقدرة على فهم معنى الحياة. وهل يمكن أن نفهم النفس البشرية إذا لم نقرأ أو نشاهد مسرحيات شكسبير؟
- وهل نهتم بصحة أولادنا وبناء أجسامهم بالرياضة البدنية, لكى يكون العقل السليم فى الجسم السليم. ولكى نقوى عندهم روح الفريق, والمنافسة الشريفة, والثقة فى النفس؟
وهل نعرضهم للريح والشمس والبرد والخشونة والخطر؟ حتى يتخلص كل منهم من كل مظاهر الضعف والليونة فى ملبسه ونومه ومأكله ومشربه ومسلكه. دعنا نجعله شابا قويا مسؤولا, بدلا من صبى مايع ضعيف متروشن (جاية من روشنة).
وهل نعلمهم الشجاعة والأمانة, والقدرة على قول كلمة "لا" عندما يتطلب الأمر ذلك, حتى لا يصبحوا عبيدا لشخص واحد؟
- هل نعلمهم لماذا وكيف, بدلا من أين ومتى, عند دراسة التاريخ؟ وهل نعلمهم الفلسفة والتساؤل حتى لا يقعوا فريسة لحاكم ظالم يغرر بهم, وأن الفضائل تقاس بإعتدالها لا بحدتها حتى لا يختلط عليهم الأمر؟
- هل نعلمهم حب الوطن, والتعايش السلمى مع أبنائه, وإحترام الآخر والمرأة والكبير, والعطف على الصغير والضعيف, وأصول الصداقة, وواجبات المواطنة, وحقوقهم وواجباتهم السياسية, وأن الدين لله والوطن للجميع؟
وهل نعلمهم حب فعل الخير, وكره فعل الشر, بدون الخوف من عقاب, أو طمعا فى مكافأة؟
هذا هم والهموم كثيرة. ولكنه هم مخيف. السلعة الرديئة يمكن التخلص منها, والعوض على الله فى ثمنها وإنتهى الأمر. ولكن ما بالك فى دكتور سئ التربية والتدريب, أو مدرس ردئ أو مهندس غير كفء. سوف تظل هذه السلع الرديئة تدمر المجتمع وتلقى بسمومها داخله لعدة أجيال هى عمرها الوظيفى.
وما بالك بجيل من الشباب الهايف المتروشن. وماذا يكون تأثيره على مستقبل أمة؟ التقدم له أسبابه, والتخلف له أسبابه أيضا. ولننظر كيف تبنى الحضارات, وماهى نوعية الفرد فيها وأسلوب تعليمهم.
لذلك نقول أن التعليم مهم لمستقبل بلدنا الحبيب (ومن يعترض على هذا؟). فيجب أن نوجه لمشاكل التعليم بعض إهتماماتنا. ويا ريت نفك دبابتين أو طائرتين, وبثمنهم يمكن عمل شئ ولو قليل. حتى لا نكون أقل من إسرائيل فى جودة برنامجها التعليمى, ومقدار ما تصرفه على التعليم, وكذلك دول أخرى كثيرة. لكن كما يقول الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيا---ولكن لا حياة لمن تنادى
ولو نار نفخت بها أضاءت---ولكن أنت تنفخ فى رماد
#محمد_زكريا_توفيق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟