|
لماذا السباحة ضد التيار ..؟
ابراهيم علاء الدين
الحوار المتمدن-العدد: 2509 - 2008 / 12 / 28 - 07:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تتكرر عبارة "لا تسبح ضد التيار" اما في سياق حالة وعظية يقوم بها بعض الاصدقاء لبعضهم الاخر، ليبعدوهم عن التصدي لتيار عارم سواء كان فكريا او بيئيا او اقتصاديا او اجتماعيا، كما ترد هذه العبارة في سياق التحذير للمخالفين بالراي، او في سياق الادانة والرفض لموقف البعض من مسالة ما. وايا كان الدافع لاستخدام هذه العبارة ، وعظا .. تحذيرا .. ادانة .. فانها تستهدف الدعوة لعدم التغريد خارج السرب ، وبمعنى اخر التماهي ضمن المجموع والتوافق مع الافكار والمفاهيم والموقف الجماعي. وهناك الكثير من الامثلة الشعبية التي تعبر عن هذه الثقافة من ابرزها مثل يقول " ضع رأسك بين الرؤوس وقل يا قطاع الرؤوس" ، ومنها ايضا " الموت بين الناس رحمة". ومن وجهة نظري هذه ثقافة استسلامية تؤدي الى الخنوع والاستسلام لرأي الجماهير العاطفي، او الراي السائد وغالبا ما يكون الراي السائد هو رأي السلطة (أي سلطة) ثورية رجعية تقدمية قبلية عشائرية .. وبمعنى اخر هي ثقافة تؤدي الى قمع الراي الشخصي المستقل ، وتحرم استخدام العقل لدراسة وتحليل الواقع وظروفه ، وهي ثقافة معارضة لنمط تفكير يقوم على الشك والبحث ومن ثم الاستنتاج، وهذا النمط الذي قدمت البشرية تضحيات هائلة لتثبيته وتعميمه وكل جوهر الفكر الحداثي الذي قامت عليه الحضارة الغربية المعاصرة، في مواجهة فكر التسليم الكامل والخضوع التام الذي تنشره ودافع وما زالت تدافع عنه بقوة اتباع الديانات السماوية اليهودية والمسيحية والاسلام، مع التفاوت بين هذه الديانات في تفاصيل ما يجب التسليم والخضوع له. ما سبق هو تلخيص مكثف لجذر استخدام الكثير من الناس لعبارة "لا تسبح ضد التيار" والذين يستخدموا هذه العبارة يشكلون في العادة غالبية المواطنين في أي دولة في العالم. ولكن متى كان اجماع الغالبية على راي يعني ان ذلك الراي سليم، ثم ما هي المعايير التي يقاس على اساسها ان غالبية الجماهير هي فعلا مع ذلك الراي. فلو اخذنا نموذجا للقياس من العراق مثلا "فحتى الساعات القليلة لسقوط نظام صدام حسين كان الانطباع العام ان غالبية العراقيين يؤيدون صدام ان عن قناعة وايمان او خوفا وقهرا، بمعنى ان ما هو ظاهر على السطح هو تاييد صدام حسين، ولكن بعد ساعات قليلة من سقوط النظام خرج مئات الالوف الى الشوارع يهتفوا ضد صدام وبعضهم يضرب تمثاله وصوره بالحذاء. والسؤال هنا هل يمكن ان نقول ان كل الذين عارضوا صدام حسين قبل الانهيار وهم بالفعل كانوا يسبحون ضد التيار "تيار السلطة وافكار ومفاهيم وايديولجية حزب البعث" هل كان هؤلاء المناضلين مخطئون، وهل كانت الدماء الكثيرة الي سالت والرقاب التي علقت على المشانق وملايين المضطهدين والمشردين ومن حرموا من مصدر العيش وطوردوا ولوحقوا في اركان الارض الاربعة هل كانوا مخطئون لانهم يسبحون ضد تيار البعث.؟ وهناك مئات الامثلة التي تدلل على ان السباحة ضد التيار هو الفعل الثوري الحقيقي الذي بتعاظمه وزيادة عدد اعضائه يؤدي الى التغيير الثوري المطلوب. ولو اخذنا مثلا اخر من سوريا .. فنلاحظ الخطاب العرمرمي الذي تمتليء به الصحافة السورية تمجيدا وتبجيلا بنظام البعث، والجماهير السورية بملايينها لم تخرج بتظاهرة صغيرة معترضة او محتجة على سياسة النظام، بل بالعكس نجد التظاهرات بمئات الالوف تاييدا وتجديد مبايعة للنظام كلما اراد النظام ذلك بالرغم من مئات الوقائع والظواهر على البؤس والاضطهاد والاستعباد الذي يرزح في ظله الشعب السوري. فهل قوى المعارضة السورية على محدوديتها عليها ان تعود الى حضن الجماهير وتسبح بحمد النظام حتى لا يقال انها تسبح ضد التيار. وهناك الاف الامثلة على ذلك تشمل كافة القوى الوطنية المعارضة في كل انحاء العالم، فهي قوى تسبح ضد التيار وتناضل ضد التيار ، وتسعى الى تحطيم التيار. وسياتي الوقت لتغير الجماهير العريضة موقفها من السباحة مع تيارات السلطة (أي سلطة) الى السباحة مع تيارات المعارضة في حال انتصارها . اذن فالسباحة ضد التيار مطلب ثوري حقيقي، ويجب ان يكون هدفا لكل من يسعى الى التغيير الحقيقي. والسباحة ضد التيار تعني النضال ضد التخلف والاستبداد والطغيان والتمييز والديكتاتورية بكل اشكالها ومسمياتها، وتعني النضال ضد الافكار والقيم والاعراف القديمة وما يترتب عليها من سلوكيات وبرامج واهداف ونظم وقوانين. كما ان السباحة ضد التيار تعني النضال ضد ثقافة الخنوع والخضوع، وثقافة الاحتجاج اللفظي، والنضال ضد الخطاب العاطفي والحماسة اللحظية المؤقتة، وضد ثقافة "الموت مع الجماعة رحمة". هذه الرؤية "السباحة ضد التيار" هي التي تفجر الطاقات وتبرز الابداعات وتؤدي الى تنمية الافكار حتى في داخل المؤسسة الواحدة، حتى لو كان حزبا ثوريا بكل المواصفات، فان جراة البعض من ابناء هذه الاحزاب للسباحة ضد التيار تؤدي الى قتل أي فرصة للجمود والثبات وتعمل على تطوير الحزب بصورة دائمة، وتمنحه من الحيوية ما يجعله قادرا في كل وقت على الارتقاء والنمو والتطور وتمكنه من تادية مهامه على اكمل وجه لخدمة وطنه وشعبه. لهذا فان من يعترض على السباحة ضد التيار فانهم يعترضوا على تحرير العقل واستقلاليته ورفض استلابه، وبالتالي فان دعوتهم رجعية، مضمونها الثبات والاستمرار على ما هي عليه الحال. والحقيقة ان منجزات البشرية في العقود الاخيرة جعلت من امكانية تحقيق اهداف السابحين ضد التيار "أي الثوريين" قابلة للتحقق بسرعة اكبر، بعد التطورات الهائلة في ميدان الاعلام والعلاقات العامة ووسائل الاتصال، فمع عصر "القرية الكونية" يقول المفكر الكندي مارشال مكلوهان مطلق عبارة "القرية الكونية" " ان الإنسان انتقل من الشفاهي، أي استخدام وسيلة السمع، إلى الكتابي، أي استخدام حاسة العين، ثم انتقل إلى دمج الحالتين في العصر الراهن أي استخدام البصر والسمع مع تغليب حاسة البصر على الوسائل الحديثة". ويضيف "ان الوسيلة لا بد من ان تعدل من حياتنا ومن محيطنا النفسي بل إنها تفرض علينا نمطا من التصور والتفكير، لذا يعيش الإنسان اليوم مصدوما، لأنه انتقل من التفكير المتقطع وهو التفكير عن طريق استخدام المكتوب الذي كان يمنح الإنسان فسحة للتفكير، إلى عالم الصورة أو المرئي حيث تهجم عليه الأمور كتلة واحدة ودفعة واحدة مما يجعله غير قادر على التحليل الكافي".
وهذا يدلل على مسألتان : الاولى : ان السباحة ضد التيار اصبحت اليوم اسهل مما كانت عليه، نظرا لسرعة التواصل مع الاخرين مما ممكن الانسان الفرد بدلا من ان يسبح وحده ضد التيار، صار بسرعة الضوء يتصل بملايين السابحين معه ضد التيار وبالتالي لم تعد السباحة فردية بل سباحة جماعية أي تيار ضد تيار. الثاني : ان استخدام الاعلام المعاصر بات من شانه ان يصل الى اخر اصقاع الارض مما مكن السابحين ضد التيار من الاتصال بالقاعدة الجماهيرية العريضة لينقل اليها الوعي ويحرضها على عدم الخنوع، ويدعوها الى الثورة بمعنى العمل من اجل التغيير، وهذا ايضا غير معادلة السباحة الفردية ضد التيار، نظرا لتزايد ونمو اعداد المنخرطين في النضال الوطني الديمقراطي، ولسهولة ايصا الراي الى الاف البشر يوميا، مما جعل من الفرد الواحد احد فروع مؤسسة ديمقراطية واسعة الامتداد. ويؤكد مكلوهان، بأن "وسائل الإعلام هي الرسالة" أي أن وسائل الإعلام اصبحت تسيّر الواقع وفقا لاحتياجات من يسيطر عليها. فاذا وجد السابحون ضد التيار الوسائل الاعلامية لايصال رسالتهم فانهم سيتمكنوا من التغلب على ثقافة وافكار التيار السائد، ويتمكنوا من قلب الواقع وتنحية الافكار والثقافات والقيم والاعراف القديمة التي تتعارض مع شروط العصر ومتطلباته وتعرقل التطور والتنمية السياسية والاقتصادية وبالتالي الاجتماعية. ان الثقافة السائدة في عالمنا العربي والتي توفر مناخا نموذجيا للفكر المتطرف الارهابي، وشيوع الافكار الدينية التي سادت في العصور الوسطى، وتحارب أي محاولة لتحديث المفاهيم الدينية لتتناسب مع حقائق العصر، وما زالت تتمسك بقيم القبيلة والعشيرة وعصبية الدم، ان هذه الثقافة يجب استبدالها اذا ما اريد لهذا العالم ان يتطور، ولن يستبدلها الا السابحون ضد التيار الذين اصبحوا الان اقوى واكثر فاعلية وتاثيرا مع ثورة الاتصالات التي جعلت العالم قرية كونية، وهذه القوى المعارضة للتيار السائد هي التي سوف تتمكن من تعزيز اسس الدولة الحديثة القائمة على قيم الديمقراطية وحقوق الانسان، والمساواة والعدالة وحقوق المرأة، ومبدأ سيادة القانون. ففي وجه المعترضين على السباحة ضد التيار، يجب العمل على زيادة تيار السابحين ضد التيار. انها معركة ضارية بين الثبات والتغيير ، بين الحاضر والمستقبل .. بين الخنوع .. والثورة .. بين التخلف والتطور. وهذه المعركة تمل كل جوانب الحياة وكل تفاصيلها من سلوكيات الفرد في تناول طعامه واختياره ملبسه وكيفية التعامل مع المحيط بشرا او مؤسسات او قوانين، وصولا الى التاثير الفعلي الحقيقي بالسياسات العامة للدولة. فمرحبا مرحبا بالسابحين ضد التيار
#ابراهيم_علاء_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثقافة حمار ابليس .. ومهام القوى الديمقراطية
-
امارة حماس.. والجلد والرجم .. وزوجة اخي الامريكية
-
هل تمجيد الفعل الفردي يعبر عن ثقافة المقاومة ..؟
-
سؤال يحتاج الى اجابة من كل من يمتلكها
-
ابن خلدون : الاعراب اذا تغلبوا على اوطان اسرع اليها الخراب
-
ثقافة الاحذية البدوية لا تبني حضارة
-
المرأة البحرينية تنتزع بعض حقوقها وما زال الكثير امام العربي
...
-
الشيخ هنية يعلن قيام امارة غزستان الطالبانية رسميا
-
في ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية .. كيف يكون الحل لازمة اليسار
...
-
ايها الوطنيون الى متى سيظل خداع حماس ينطلي عليكم
-
التسامح الديني لدى غالبية الشعب الفلسطيني سيهزم مشرع حماس
-
غزة ليست محاصرة .. المحاصرة هي حماس .. وأخذت سكان القطاع رهي
...
-
خطة الحاج ابو القعقاع للقضاء على مشكلة العنوسة
-
تحية الى -الحوار- المدرسة المتألقة في ذكرى تأسيسها السابعة
-
من اين ستنطلق الشرارة ..؟؟
-
خطة الحاج عطية للقضاء على مشكلة العنوسة
-
هيلاري وجانيت وسوزان .. والعقل الناقص للمرأة المسلمة
-
كيف أصبحت السيدة -يسرى- صاحبة عمارة
-
المرأة .. والرصيف .. والقهر الشرقي
-
فاطمة .. انا سورية .. وأفتخر ..
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|