|
هوية الصورة في فن فاروق حسني
أبو الحسن سلام
الحوار المتمدن-العدد: 2508 - 2008 / 12 / 27 - 00:55
المحور:
الادب والفن
هوية الإيقاعات التكوينية اللونية في إبداعات فاروق حسني التشكيلية
الفن التشكيلي وإشكالية فعل التلقي: من المقطوع به أن هناك إشكالية (منظومة المشكلات) التي لا تحل إحداها دون أن تحل المنظومة بكاملها في آن واحد – وفق ميشيل فوكوه، وهي المشكلة وأدوات حلها – وفق أرسطو - . وتتمثل هذه الإشكالية في قراءة لوحة تشكيلية ، هل تقرأ قراءة تستهدف استنباط معنى ما تتضمنه اللوحة ، أو تفصح عنه تكويناته اللونية وتوازناتها أو في تماثلاتها التامة وغير التامة ، وتعارضاتها التي أخمدتها وحدة التصميم؟ هذا ما تنفر من اللوحة التشكيلية. هل تقرأ بعين العقل المتأمل المحللة أو المفككة لمفرداتها ، ومكوناتها الكتلفراغية في تفاعل إيقاعاتها اللونية مع إيقاعاتها التكوينية المتباينة ما بين تكوين مفتوح وآخر مغلق ، أو تكوين إشعاعي وآخر هرمي ، أم تقرأ بعين الحس؟! هل تقرأ بالوعي المتصل بوعي الفنان الذي أبدعها أم تقرأ من منظور لا وعيه – تبعاً للسرياليين - . لقد تضاربت أقوال الفلاسفة وآراؤهم حول فكرة الوصول إلى الحقيقة ؛ فأفلاطون وأرسطو ومن جرى مجراهما لا يريان وصولاً إلى الحقيقة بدون العقل في مغايرتهما لرأي هيراقليطس الذي يرى أن الحس أو الإحساس هو المحقق لأي حقيقة مهما كانت وما يزال هذا الاختلاف ناشباً بين الطرف المشايع لدور العقل والطرف المشايع لدور الإحساس. فبأي قراءة يمكنني قراءة لوحات فاروق حسني التجريدية اللاشكلية ؟ هذه هي إشكالية هذا البحث.
يرى بيكون والبراجماتزم أن " القاعدة الأشد فعلاً في العمل هي كذلك الأصدق في النظر " ويرى ول.ديورانت أن الإحساس معيار الحقيقة ، ولكن العقل هو المكتشف لها " . أما ديمقريطس فيذهب إلى ذاتية الصفات المستمدة من الحواس " بألا يكون اللون ، والصوت ، والثقل ، والحرارة ، والشكل ، والطعم ، والرائحة ، والألم ، موجودة في الأشياء التي نحسها بل في الكائن الذي يشعر بها " . بينما يرى توماس هوبز Thomas Hobbes الذي جاء بعد ديمقريطس بعشرين قرناً أن " جميع الصفات التي تسمى حسية موجودة في الشيء الذي تنبعث منه حركات كثيرة للمادة ، تلك الحركات التي تضغط على حواسه بشكل مختلف " . فالصوت حركة الهواء والضوء حركة الأثير أو تأثير الجسيمات على العين ، والحرارة ليست إلاّ حركة جسيمات سريعة ، ويعتمد اللون على سرعة أمواج الضوء ، وسعة انتشارها ، والجزء من الحدقة الذي يتأثر بها. "فالحقيقة في ذاتها ليست حارة ، ولا باردة ، ولا متهوّسة ولا عادلة ، بل معتمة لا لون لها وصامتة " ويتساءل هوبز ونحن معه كيف يوجد ضوء لولا وجود عيون أو غشاء حساس في العالم ، وكيف يمكن أن توجد أصوات لولا وجود آذان؟ ويؤكد هوبز " أن أجمل قوس قزح هو في أبصارنا لا في السماء" إن اللوحة المتفردة لا تزدهي باستنتاج الناظر إليها لمعنى ما لذلك لا ترضى عن نظرة مثالية إليها . وفي ذلك يقول ديورانت : " إن المثالي يعتقد أننا لا نعرف شيئاً سوى المعاني " . ويضيف مؤكداً: " هذا العالم الذي تفترض أنه موجود وجوداً مستقلاً إلى جانبك ، هو أول كل شيء ، عالم من الألوان. ولكن الألوان ذاتية .. إنها موجودة فيك لا في الشيء الذي تراه. وهناك بعض الناس مصابون بعمى لبعض الألوان ، فلا يبصرون أي لون أحمر في الطبيعة . فلو أننا كنا جميعاً مثل هؤلاء ، أكانت الوردة حمراء؟ ويتغير اللون كلما انتقلت من الفجر إلى الظهر ، إلى السحر ، إلى الضوء الصناعي ، فأي الألوان حقيقي Real ، أهو لون النسيج الذي تشتريه حين تراه في الدكان ، أم لونه في ضوء الشمس في الهواء الطلق؟ " يواصل ول. ديورانت تفنيد مسألة التعرف على حقيقة اللون بالعقل على نحو ما رأى كل من أفلاطون وأرسطو فيضيف متسائلاً: " تختلف عيون الحيوانات الدنيئة مثل القشريات Crustacca في تركيبها عن أعيننا ، ومن المفروض أنها تسجل الأشكال والألوان بطريقة تختلف عنّا ، فأي شكل أو لون هو الحقيقي؟ " . في ظني أن مقولة الحس أصدق إنباء من مقولة العقل عند قراءة لوحة تشكيلية ، خاصة إذا كانت لوحة تشكيلية لا شكلية كلوحات فاروق حسني، ليس اقتناعاً بما قال به السرياليون فحسب ، بل بما طرحه منطق ول. ديورانت التحليلي الذي " يسوق الدليل تلو الدليل ، تأكيداً على صحة تأييده للإحساس وسيلة حقيقية صحيحة للتوصل إلى الحقيقة ، يقول: "انزع عن العالم (الموضوعي) سائر هذه الصفات التي تخلعها عليه بوجودك وإدراكك ، فماذا يبقى بعد ذلك؟ (الذرات والخلاء؟) – المادة والمكان والزمان؟ - " . ويضيف: "ولكن هذه المادة كيف نعرفها ، اللهم إلاّ بالإحساسات التي اجتمعت في هيئة معان في عقلك ؟ وما المكان إلا أن يكون الوراء والأمام ، والجانب ، والتحت والقمة ، وهنا وهناك كبيرة لا صغيرة " وللدلالة على أن الحقيقة تختلف باختلاف قدرات النظر إلى الشيء يقول: "(أ) للعين ، و (ب) للميكروسكوب ، و(ج) للتلسكوب" وبهذه الدلائل التي يطرحها ول. ديورانت واحدة تلو الأخرى للدلالة على دور الحس وفق القدرات الخاصة والمتفردة للمتطلع إلى حقيقة شيء ما ، يتوافق مع الفيلسوف اليوناني القديم بروتاجوراس في تأكيده على أن الإنسان مقياس الأشياء جميعاً " وهو الذي يخلق معظم العالم الذي يدركه" وبروتاجوراس برأيه ذاك لا ينفي دور العقل البشري ، بل يعطيه قسطاً من المشاركة ؛ غير أن الحس هو الذي يقود رحلة الوصول إلى اكتشاف حقيقة الشيء والعقل منوط باكتشاف العلاقات المكونة لذلك الشيء موضع النظر ، ومن ثم قياس قيمته الفكرية أو قياس دور الفكر Deductive في عمليات بنائه . وهذا ما دعى ول ديورانت إلى التأكيد في النهاية على أننا " ندرك التجاور واللامساواة ، والحركة ، والسكون . وحين نرى حشرة تتحرك على أرض ثابتة ، فإننا ندرك مباشرة الزمان والمكان معاً. ذلك أن الزمان ابن الحركة. وإذا لم توجد أي حركة فلا يوجد أي تغير ؛ وإذا لم يوجد أي زمان. والزمان باعتبار أنه إحساسش بالقَـبْـل والبَـعْد " . ولكل ما تقدم أطلق لإحساسي العنان في رحلة قراءته لعدد من إبداعات الفنان فاروق حسني التشكيلية ، انطلاقاً من حس بصري مستند إلى تأمل تلزمني به صعوبة قراءة لوحاته أولاً: لأنها إبداع لا شكلي ، وهي من ناحية ثانية تحمل تناقضاً في إيقاع تكويناته اللونية ، وهي من ناحية ثالثة تحمل خصيصة أسلوبية لا تجري على مجرى شكل فني تشكيلي محدد. غير أن حيرة الباحث لا تفارقني ، إذ أجد نفسي في حيرة من أمري هل انطلق من قراءة الإيقاع الذي يشع من تكويناته اللونية ؟ أم انطلق لهاثاً خلف خاصية أسلوبية تشكل هويته الفنية وتكشف عن بصمته الإبداعية؟ لا مخرج لي من تلك الحيرة إلاّ بأن أسلم حسي وإدراكي معاً لبنياته التشكيلية بخواصها وبإيقاعاتها التكوينية واللونية .
منطلقات الإبداع : للإبداع منطلقات متعددة ، ينطلق منها المبدع ليحلق بمشروعه الإبداعي سواء تمثل إبداعه في الشعر أو الأدب أو الموسيقى أو الفن التشكيلي ، فقد ينطلق الكاتب المسرحي من فكرة يعمل على تحقيقها باستنهاض شخصيات يجري بينها الصراع أو ينطلق من شخصية يضعها في حدث درامي أو ينطلق من حدث ينشيء له شخصيات في حالة صراع أو ينطلق من حالة تهيمن عليه حيث تهبط عليه المواقف والشخصيات والحوار ، دون أن يدري من أين هبطت ، فتملي عليه الشخصيات مواقف غريبة مفككة في لغة تتسم بالغرائبية . ينطلق فنان تشكيلي ما من فكرة ينجزها بالألوان والتكوينات المتقابلة والمتعارضة في وحدة اللوحة ، بينما ينطلق فنان تشكيلي آخر من شخصية يجسدها في (بورتريه) وهناك فنان تشكيلي ثالث ينطلق من حدث ما وجد نفسه منفعلاً به ، فقام بتجسيده في لوحة ، وليس فاروق حسني من هؤلاء ، إنما هو من النوع الذي تهيمن عليه حالة غرائبية فيهبها وقته وأحاسيسه ويبتكر لها من الألوان والتكوينات ما لا عين رأت ، لذا ربط بعض النقاد فنه بالفن اللاشكلي . فالمتأمل لتلك اللوحة من معرضه عام 1994 يصادق على ما قال به بعض نقاده ؛ حيث تتداخل الألوان والتكوينات فتخلق إيقاعات لونية في فضاء اللوحة ، فيما يقترب من ملحمة صيغت بالألوان والتكوينات التي لا تجري على مثال ، لذا فقد صدق الناقد الإيطالي كارميني سينيسكالكو . "يعايش فاروق حسني الفن ، كعنصر جوهري لبقائه ، وكحالة تثري جانبه الروحي . إن الإيهام التصويري الشاعري لفاروق حسني يمتد في تركيبات حرة ، ويعدو خلف المشاعر التي تتجسد في ومضات ، وطبقات من اللون ، ليؤلف متتاليات نغمية . إنها الموسيقى التي كتبت بفرشاة التلوين ، أو بالأقلام الملونة ، وربما أحياناً بالأصابع إما على النسيج أو على الورق. إن موسيقية أعماله تأتي من إيقاع تصويري لا يستند للاتجاه التقليدي، ولكنه بالفعل موجود ، ويمكن اكتشافه في رسومه ، وألوانه المائية ، وأعماله من الإكريليك. في أعماله من الحجم الصغير أو الكبير . إنه التجلي الظاهري للترقي الروحي والنضج " في لوحته (151) تلك يتدفق إيقاع الزمن وفق تحرر بنائي جمالي في فضاء اللوحة بما يمكن أن نطلق عليه ارتجال تشكيلي ، حيث حرية تنقل الفرشاة بعيداً عن خطة مسبقة ، بل وفق حالة الهيمنة التخييلية التي يعيشها الفنان في أثناء قيامه بعمله في لحظة تخلص من الإيقاعات والقيم البنائية الجمالية المعبرة عن فكرة ما. فاللوحة تتشابك فيها الألوان وتتضافر عناصرها اللونية في تكوينات متعارضة ، لا تنبو تعارضاتها عن وحدة إيقاعية ، فالإيقاع يقسم فضاء اللوحة تقسيماً جمالياً في الزمان والمكان حيث يموج الفضاء بالحركة المتدفقة في نسب متجانسة على الرغم من تعارض اتجاهاتها. يقول د.سلاّم : "الإيقاع هو نظام تشكيل المسموع في الزمان بحيث يؤثر امتاعاً وإقناعاً . وهو نظام تشكيل المرئي في المكان بحيث يؤثر إمتاعاً وإقناعاً . وهو نظام تشكيل فترات الصمت والظلام بالتوافق مع المسموع ومع المرئي " . هكذا تتفاعل الألوان في هذه اللوحة ما بين التقابل والتعارض والتبادل والتوافق والتوازن والتنويع والتماثل. وهي عناصر تحقيق الإيقاع في الصورة ، ذلك الذي يتمثل فيما تلمسه العين لمساً مباشراً وتحيله إلى تركيز مباشر على النسب المرئية المتسقة والمدركة والمرسلة بإدراك في نظام زماني ومكاني حسب ما تمليه عاطفة الفنان في عمله الإبداعي بما يحقق التوافق الإيقاعي. يقول الفارابي : " متى كانت نغمتا البعد ، أنّا سُمِعتا امتزجتا حتى تعتبران كنغمة واحدة في المسموع ، فإن هاتين النغمتين تسميان متفقتين ، وهو أيضاً كلمة تطلق على درجتين مختلفتين تحدثان صوتاً واحداً أو حركة تؤدى على مستويين مكانيين مختلفين يحدثان صورة حركية واحدة " بمعنى أن التشكيل في المكان الذي ترتاح لرؤيته العين وهو ما كان من لونين مجتمعين أو حركتين في الخيال المرئي عند الفنان . وهذا التوافق الإيقاعي متحقق في هذه اللوحة بين الألوان والتكوينات ؛ حيث يفرض الفنان هويته على اللوحة . يقول كارميني : " ظل فاروق حسني مخلصاً لهوية الرؤية الغنائية للفن التجريدي وكثيراً ما تخضب بأشكال غير محددة تعكس طبيعة ليست مصورة ولكن أعيدت صياغتها في ثنايا الذاكرة " . يقول لورنساتروكي : " لعل الجاذب أو اللافت في تصاوير فاروق حسني الطاقة أو الداينميزم الذي ينبثق من العقل والحواس المتألقة" . على أن هذه الطاقة الإبداعية المنبثقة من غرائبية تكويناته التلوينية ، لا تنفصل عن دلالة ما مختفية كاختفاء اللحم في المرق ، في بعض لوحاته، ومنها هذه اللوحة (138) التي تشف عن أنه كان مؤرقاً بموضوع الآثار الغارقة ، فالمتأمل للوحة لا يغيب عنه رأس فرعوني ملتحم بكتلة نحتية ، منتشلة من البحر. لذا فإن ما قالته لورنساتروكي حول إبداعاته حيث "هي تفاعل بين البساطة والوضوح يعكس نفسية تنشد جوانة عميقة وكثافة مطلقة " . وتتبدى تلك الجوانية العميقة المنشودة في اللوحة نفسها ، كما تتبدى في لوحة أخرى (32) متصلة بها اتصالاً دلالياً ، فنحن بإزاء كتلة صخرية سوداء تملأ فضاء اللوحة وتحيط بها زرقة صافية ، وتحتضن تلك الكتلة الصخرية عدداً من التماثيل ، المبهمة المعالم ، بلونيها الأصفر والأحمر ، وترديداتها التي تشكل لوناً من ألوان التعدد مع التنوع اللوني في حمرة قرمزية مشوبة برتوش سوداء . وتتبدى الكثافة اللونية في هذه اللوحة في استخدام الفنان للون الأسود في مركز فضاء اللوحة ، حتى يبدو اللون الأصفر فوقه ناصعاً ، وبتداخل الأحمر القرمزي مع الأسود الصخري ، يقهر الفنان به ذلك السواد. على أن خاصية أسلوب الفنان لا تغادره ، إذ يؤكر تكوينه بإطار أبيض غير منتظم.
لوحة
هوية الصورة في فن فاروق حسني الصورة تعبير وجودي عن السمو ، كما هو تعبير وجودي عن الانحطاط أيضاً ، تعبير عن الوحدة والتنوع ، عن الهوية القومية والهوية الإقليمية، عن الهوية الكونية والكوكبية ، عن الذات والآخر ، عن الانتماء والاغتراب ، عن التمرد والإذعان ، عن السائد والغريب ، عن الجمال والقبح ، عن الوعي والشعور ، وعن القطيعة والتواصل. والمصور كالشاعر لا يعبر عن النظام خارجياًَ أو داخلياً. فهو شاعر الألوان والتكوينات تعبيراً عن حنين الإنسان للهيولي . وهو في سبيل ذلك ينزع الألفة عن الأشياء ويخلق حالة اللاتشكل ؛ إذ يولد الأبنية اللونية في فضاء اللوحة بتلقيح الأبنية الإيقاعية للضوء والظل بهياج الأوديبي الذي يحتم التخلص من كل سلطة للذائقة الجمالية السائدة ؛ فبذلك وحده يحقق ما زعمه فولتير من أن " كل الفنون تسعى إلى أن تكون موسيقية " يقول أرسطو :" إن الألوان ، ربما تتواءم ، كما تتواءم الأنغام بسبب تنسيقها المبهج" وإذا كان أرسطو يرى أن: " الألوان البسيطة هي ألوان عناصر الوجود – النار والهواء والماء والتراب" فإن كل الألوان عند اسحق نيوتن متضمنة في الضوء الأبيض . فهو مكون من حزمة من الأشعة ، يمكن أن تتحلل بوساطة منشور سبعة ألوان ربطها بالأجرام السماوية أو الكواكب السبعة ، وبالنغمات السبعة للمدرج الدياتوني في الموسيقى ؛ فإن لكل لون نغم موسيقي: فلوحات محمود سعيد ولوحات ناجي على الرغم من كونها تصويراً استعارياً من الطبيعة أو من الحياة الإنسانية أو من الواقع المعلوم إلاّ أنها تأكيد لأثر ذلك الواقع الخارجي على داخل الفنان نفسه، وبذلك لا نرى خضراء محمود سعيد ولا بنات بحري كما نراها في الواقع الحقيقي ، ولكننا نرى كيف رآها محمود سعيد نفسه. كما يرى دافنشي أن "أول الألوان البسيطة الأبيض .. فالأبيض يمثل الضوء الذي بدونه ما كان يمكن رؤية لون ، والأصفر التربة ، والأخضر الماء ، والأزرق الفضاء ، والأحمر النار ، والأسود الظلام الكامل " (الأحمر: C – البرتقالي:D – الأصفر: E- الأخضر: F- الأزرق: G- النيلي: A – البنفسجي: B). فإذا وقفنا عند لوحات محمود سعيد أو لوحات ناجي فسنجد أن التعبير عن النفس يتخذ معنىً تعويضياً بالتكوينات اللونية والضوظلية حينما يصبح خيال الفنان هو مصدر الإبداع في تشكيل فضاءاتها بما اعتمل في وجدانه وشفت عنه تأملاته في إعادة قراءته للكون في محاولة واعية لكشف ماوراء ظاهرة ما شغلته أو تصوير إحساسه بوقع أثر ذلك على صفحة نفسه . وإذا كان صحيحاً أن جميع الألوان التي يوظفها الفنان توجد بثلاثة وجوه فإن ألواناً يعكس بها الفنان ما هو خارجه ، وألواناً محايدة في تكوين لا ينتمي إلى ما هو خارج الفنان ولا ينتمي إلى معنى ما محدد ، وألواناً تنتمي إلى داخل الفنان ، ومن ثم فهي محملة بصدى نفسه ؛ إذ هي تكشف عن موقف الفنان نفسه من الكون . وإذا أخذنا بما قاله باختين في شأن الاقتباسات اللغوية وأسقطناها على الفن التشكيلي فيمكننا القول إن كل التكوينات تشتمل على اقتباس عن تكوينات سابقة ولا وجود لاقتباس متطابق مع الأصل، فسوف نلحظ أن الترديدات الخطية عند فاروق حسني في حركتها المتعرجة والمنكسرة والمستقيمة بألوانها المتكررة هي لون من ألوان الاقتباس عن كتلة ترتدي نفس اللون ، وتشكل مركز الثقل في اللوحة . على أن الألوان التي تعكس ما هو خارج الفنان لا تجعل من الحقيقة في اللوحة التشكيلية حقيقة خارجية صغيرة تنتسب إلى الطبيعة .. بل هي ما يمكن أن تصدقها أو تؤمن بها بالفعل ، وهذا ما يجعلها قطعة من الفن . ذلك أن سر الفن يكمن في أنه يحول الخيال إلى حقيقة فنية جميلة. وفي اللحظة التي يشك فيها الفنان في الطاقة الإبداعية التي تنبعث من التوازنات الإبداعية لتكويناته اللونية والضوظلية والكتلفراغية في عمله الفني فإن الصدق يتلاشى ويحل محلها التظاهر والتكلف والزيف الفني والتعبير النمطي. أما الفنان اللاشكلي فهو الذي لا تنطلق فرشاة ألوانه في فضاء اللوحة منقادة خلف أسلوب أو شكل فني محدد. كما أنه لا يندفع بألوانه خلف معنى ما أو فكرة ما، ولكن خياله هو الذي يسري بالألوان سريان أشعة الشمس في صباح شتاء ضبابي لتنسج الألوان في فضاء اللوحة تكوينات تنسجم فيها الألوان مع الألوان ، لتنساب في أفق اللوحة ذلك الفضاء الذي تسبح فيه تلك التكوينات التي تتخذ لها ألواناً تشع بالسخونة كما في اللوحة (99) لفاروق حسني حيث تسبح كتلة مستطيلة متدثرة باللون الأحمر الناري في صفاء زرقة ثلجية تغرق فضاء اللوحة العلوي وتخيم على جزء من فضاء اللوحة المتشحة باللون الأصفر فلا تترك إلا مساحة محدودة تغرق في الاصفرار في رقدتها أسفل يسار اللوحة مستظلة بذلك الأفق الثلجي الزرقة في تزاوج الأفق اللوني العريض مع صفرة التكوين الأرضي المحدود ، دون أن نشعر بأن ذلك الأفق الصافي جاثم على الفضاء اللوني المستنيم استنامة اختيارية تحت ذلك الصفاء السرمدي المسيطر على فضاء اللوحة حتى الترديد الخطي المنكفيء في تعرجه اللوني الموهج بالاحمرار الناري لا نشعر معه بخطر ساقط من سماوات الكون الفضائي فهو بمثابة إنذار من التكوينا لعلوي المستعرض الملتهب بالاحمرار الناري ، والذي يشكل مركز الثقل في كلا الفضائين اللونيين العلوي الممتد والمسيطر ، والسفلي المستنيم في ركن فضاء اللوحة أو الكون. كذلك تخلق الترديدات الخطية الأرضية البيضاء والسوداء ذات المسارات المتعرجة بما يتماثل تماثلاً غير تام مع أصولها في فضاء التكوين السماوي المتسامي الذي تفضل على الفضاء اللوني الأرضي بجزء من صفائه أو نقائه مدموغاً بخط لوني أبيض لوناً من ألوان الاقتباس اللوني الذي أعاره الفضاء السماوي المتعالي إلى الفضاء الأرضي المتصحر ، كما لو كانت رسالة السماء إلى تلك البقعة من الأرض .. ومع كل تقدم فلا نستطيع التأكيد على أن وعي الفنان فاروق حسني كان يخطط لذلك المعنى الذي وصلني على إثر فعل التلقي الوجداني والإدراكي في الإحساس بالأثر الجمالي والتأملي لتلك اللوحة أو لغيرها من لوحات معرضه الأخير . فالفاعل الجمالي في لوحاته يعلي من شأن الصورة على حساب المادة. فلئن نظرنا إلى البقعة اللونية السماوية الساقطة على الفضاء اللوني الأرضي في فضاء اللوحة نفسها بوصفها بقعة مقتبسة من الفضاء اللوني السماوي المسيطر سنجد أن التنويع الإيقاعي الذي تخلقه تداخلات اللون الأزرق الثلجي في علياء الفضاء الكوني مع اللون الأصفر الذي يشكل ربع فضاء اللوحة سوف نلحظ أن الزرقة المتسامية تنسرب في نعومة لا تشعر الناظر إلى فضاء اللوحة بأن هناك حدوداً ملحوظة بين العالمين : عالم التكوين السماوي في سيطرة صفائه المتسامي ، وعالم التكوين الأرضي في صفرته المنسربة عند تخومها المتوجة بصفاء التكوين العلوي المسيطر من علٍ تحت زرقة شفت عما تحتها من ذرات صفراء بدت كما لو كانت أرضية من ذهب. ولاشك أن هذا التخلص التشكيلي ما بين اللونين المتداخلين يشكل جمالية إيقاعية لونية تزاوج فيها اللون الأزرق الثلجي مع اللون الأصفر المتصحر . كذلك تخلق الترديدات الخطية السوداء والبيضاء والحمراء تنوعات إيقاعية ما بين حركة انكساراتها واستقامتها وتعرجاتها. وتلك فيما تلاحظ لي تشكل خاصية أسلوبية في لوحات فاروق حسني.
لوحة اللوحة : (2) 2001 تتضح في لوحات فاروق حسني خصائص أسلوبية لا تفارقه ، بحيث تشكل علامة مميسزة لأعماله انطلاقاً من أرضية تملأوها الخيالات في تدرج لوني للرمادي أو الأزرق في غالبية أعماله ؛ إلى التكوين المثلثي الهرمي ، والذي يأتي متكرراً في اللوحة الواحدة ، وقد يشير إلى العلاقة الثالوثة الرمزية التي انبنت عليها الديانات السماوية . وقد يرمز إلى الهرم رمز الحضارة المصرية القديمة وثقافتها . كما تظهر أشباه وجوه تجريدية أو مجرد عيون ترمز في أغلب الظن إلى وجه المبدع نفسه وعيونه ؛ فهو يصور نفسه أو عينيه ترقبان مصر منذ أقدم العقود . وتصنف العلاقات التي نشأت بين تلك المراحل من تاريخ الوطن ، فقد يبدو الوطن في نظر فاروق حسني ، ومن خلال عينيه المجسدتين في وجهه تاريخ مصر من فترات ظلال وصمت لكنوز خبيئة الجبال ، تتضح شواهدها وحدودها في خلفية اللوحة إلى فترة اكتشاف وإحياء في هرم أحمر اللون تختفي تحته وداخله تداخلات ويزخر بالخبايا إلى ظلال قبور لا يبدو منها سوى قممها بلون أحمر أيضاً في انتظار الكشف عنها، وهي حبيسة الجبال إلى التخطيط التجريدي الأسود في منتصف التكوين الأهراماتي الذي يشبه إلى حد كبير توقيع فاروق حسني الفني على لوحاته ، فكأنما هو يطبع رمز الحضارة المصرية منذ قديم الأزل ببصمته فتزدهر آثارها وكنوزها الفرعونية باكتشافاتها وبمجهوداته فيها. وتتماثل لونياً عيني المبدع والهرم الأيسر رمز الإنجازات والمكتشفات الأثرية والكنوز مع قمم القبور الدفينة لتأتي كلها بلون أحمر يدل على توهج وحماسة مشتركة بينه وبينها لتضفي أهمية واندفاع على العلاقة الثلاثية بينهم. لتأتي الزرقة السماوية في المنتصف تعبيراًَ عن الضبابية والبرودة في فترة بينيه لم تكن بها اكتشافات وخبا فيها لهيب الإنجاز التراثي الأثري . وقد ترمز للنيل بزرقته وتدفقه ليغلف ذلك التراث الأثري المصري ويرعى كنوزه عبر العصور.
لوحة اللوحة : (3) s2000 في سماء الكون الزرقاء الشاسعة مع تعدد بيئاتها وثقافاتها في تباينها بين هرمية في الجانب العلوي الأيمن بحدود سوداء إلى دائرية فمربعة ومثلثة تظل الكتلة السوداء العلوية مسيطرة على الأفق وترهص بخطر دائم وتهديد فوقي قد يرمز إلى الدين ويده العليا مع مصدر خفي أسود أيضاً فوق تلك الكتلة السوداء يغذي هذا التهديد ويبث فيه الحياة والتوهج فيتزايد وينمو ، ومن ثم تزداد سطوته وسيطرته على العوالم المختلفة السابحة في سماوات سبع عبرت عنها علامة الرقم سبعة(7) في إشارة إلى التراث الديني منذ القدم ، وتحديده لسبع سماوات تحيط الكون كله. ويتصل المصدر الفوقي الخفي الذي يبث الروح والقدرة في تلك الكتلة العلوية السوداء بمصدر آخر سفلي يرتبط به بجذور خلفية سابقة.
لوحة إيقاع التكوينات اللونية في إبداعات فاروق حسني التشكيلية مع أن إيقاعاً كلياً عاماً يسري في النسيج اللوني لمنظومة التكوين التشكيلي في اللوحة الواحدة ، إلاّ أنها تشتمل على عدد من الإيقاعات البصرية لكل منها حركة خاصة وصفات مفردة ، ولذا فكل إيقاع من إيقاعاتها بمثابة ذات متفردة تتداخل مع تكوين لوني من لونين آخرين ، وهو ما ينتج في المحصلة منظومة الإيقاع البصري المتعدد المسويات في بنية بوليفونية ؛ حيث تتحقق التعددية اللونية بمكوناتها المتباينة ذات الخطوط المتعارضة في إطار وحدة التصميم أو التصور اللاشكلي. ومحاولتنا في ترجمة تلك التكوينات ترجمة بصرية قائمة على تفكيك نسق تلك التعددية هي محاولة لا تملك أي بعد استثنائي . ونحن عندما نستشف القانون الكوني الكامن داخل تلك البنية اللونية التشكيلية تتباين عناصر التكوين في تبادل اختراق الألوان بعضها بعضاً بحيث تمتزج فيما بينها وتشكل إحدى الظواهر المتكررة هنا وهناك " . ولذا يبرر بول كلي تلك الظواهر ويعللها بوجود مفاهيم بعينها تملك جذوراً قادرة على الإثمار في أي موقع تغرس فيه" وهذا ينطبق على الإبداع التكويني اللوني عند فاروق حسني ، فأهم ما يميز إبداعه التلويني هو تعدد الإيقاعات اللونية اختراقاً وامتزاجاً لبعضها بعضاً ، بحيث لا نعرف أين يبدأ اللون وأين ينتهي وذلك بسبب قوة التخلص التشكيلي اللوني في نعومة عملية انقطاع اللون واتصاله بغيره من الألوان في موضع ما في فضاء اللوحة ، حيث انسياح اللون الواحد الذي يشكل خلفية اللوحة أو أرضيتها ، ويتغلغل منسرباً في التكوينات السابحة على سطح اللوحة ما بين كثافة لونية وكثافة لونية أقل ، إلى كثافة لونية أثقل في تدرجات اللون الواحد في اللوحة نفسها . هذا فضلاً عن تكرار خاصية أسلوبية بعينها في أعماله مما يبرز بصمة الفنان أو هويته التي لا تنتسب إلى شكل محدد سلفاً. ويتمثل ذلك على سبيل المثال في هذه اللوحة (49) التي تتشكل خلفيتها من نسيج متدرج للون البني ما بين القتامة والإضاءة حيث تبرز هوية اللون وتكويناته فلا هي بنية صريحة ولا هي صفراء صريحة ، وإنما هي في كل تدرجاتها الناعمة وانسياب درجاتها تشكل تكويناًَ لونياً للون لا اسم له من قبل ، وكأنما هو لون وليد اللحظة وليس له مثيل في عالم الألوان ، هو خلق على غير مثال من حيث كونه لوناً ، وهو خلق على غير مثال من حيث كونه تكويناً ، وهو خلق على غير مثال من حيث كونه نسيجاً إيقاعياً في عالم التشكيل اللاشكلي ، وهو من حيث بوليفونية البنية التشكيلية يمزج ما بين تلك الخلفية وما على سطحها على الرغم من نصاعة لون التكوينين على السطح : التكوين المستطيل الرأسي السماوي اللون وتقطعه رأسياً خطوط بيضاء رقيقة وغير منتظمة كما لو كانت قد رسمت بطريقة عشوائية متعمدة لتشكل إيقاعاً فردياً . والمثلثين المتداخلين في أعلى ذلك المستطيل – العمود – في تداخل لونيهما . ويشكلان إيقاعاً بنائياً ، حيث المثلث الأمامي يتداخل فيه اللون البني الصافي مع اللون البني المصفر. ويتداخل البني المصفر في المثلث الخلفي المتزاوج معه، دون أن يتناسى الفنان تحديد كل مثلث منهما تحديداً إطارياً بلون خاص به ؛ فكان اللون الأسود لأضلاع المثلث الأمامي ، وكان اللون الأبيض في جزء من أضلاعه والمشوب بالصفرة في جزء من أضلاعه كسمة مميزة لأضلاع المثلث الخلفي . كذلك أطرت التكوينات اللونية لسطح اللوحة بخطوط مصفرة في منطقة من مسارات الخطوط / الحدود وسوداء في منطقة أخرى من مساراتها انتفاعاً بما للون الأسود أو الداكن من ثقل الكثافة وما للأبيض أو الفاتح المضيء من طاقة إشعاعية . وبذلك يتحقق الميزان الإيقاعي اللوني في اللوحة. على أنه لا يفوتنا إدراك الخاصية الأسلوبية في فن فاروق حسني والقيمة التشكيلية اللونية والإيقاعية في تكرار الشكل المثلثي الهرمي في العديد من لوحاته، مرتبطاً في أغلب اللوحات برقم سبعة (7) وهنا تحيلنا مثل تلك اللوحات التي تكررت في نسيجها التشكيلي الأشكال الهرمية متصلة عبر مسافة تبتعد أو تقترب من التكوين الهرمي لتتنوع مشتبكة اشتباكاً تكوينياً وعضوياً فتخلق بنية إيقاعية لونية تطمح إلى أن تكون موسيقية ، تطرب الأبصار ؛ تحيلنا تلك اللوحات إحالة معرفية تراثية إلى قداسة الرقم سبعة (7) في حياة المصريين منذ فجر التاريخ . وغالباً ما يرتبط هذان التكوينان الخطي والتصويري بخلفية زرقاء أو تتشكل تكويناتها اللونية من مستويات إيقاعية متدرجة يقودها اللون الأزرق وهنا يمكن قراءة اللوحة قراءة سيميولوجية لمنظومة العلامات (المكون اللوني للخلفية الزرقاوية بتدرجات إيقاعاتها اللونية – المكون اللوني للتكوينات الهرمية التي تتباين مركباتها اللونية عن الخلفية التي احتوت تلك التكوينات الهرمية ورسم الرقم (7) الذي تباينت مكوناته اللونية سواء تقنعت بقناع لوني ناصع اللون اسوداداً أو احمراراً أو ابيضاضاًََ لتعطينا تلك المنظومة العلاماتية قناعة الفنان الداخلية بوحدانية الكون . وتجذر المسحة الإيمانية في وجدانه شأن كل مصري على اختلاف عقائده اقتراباً أو ابتعاداً إيماناً أو إنكاراً ظاهرياً. ففي اللوحة ( 71 ) نرى ثلاثيات الأوجه ، معلقة ومتناثرة في الفضاء الكوني الحالك الظلمة بلونها الأزرق الصافي في ثنائيات متباعدة على ثلاثة محاور وهمية رأسية تتخذ ميولاً في اتجاه يسار الناظر للوحة . وتتداخل مع كائنات أو أشكال بيضاء اللون تتنوع خطوطها انحناءً أو انكساراً أو استدارة غير تامة ، كدر منثور فوق كون مظلم يلف تكويناً أفقياً لونياً لعالم مشتعل بالحمرة التي ينسرب خلالها سواد الكون العريض، ليشف الوضع الأفقي لذلك الكون المضيء عن الطاقة المستقرة مع أنها تسبح في فضاء كوني سرمدي يتشح بالسواد . وما كان ذلك إلاّ تعبيراً عن رؤية الفنان لما يحيط بكوننا الإنساني وثقله في الكون السرمدي . على أن جماليات اللوحة تتمثل في التماثلات اللونية التامة في زرقة ثلاثيات الأوجه ، وفي وحدة اللون الأبيض للكائنات السابحة في ظلمة الكون العريض ، بينما تتمثل في التماثلات التكوينية غير التامة في تنوع أحجام ثلاثيات الأوجه التجريدية المضيئة ، والتي تملأ كوننا الذي ينطوي لهيباً هائلاً ، وفي تنوع مواقعها أو حيازتها على صفحة الفضاء الكوني المعتم وفي المنظومة الإيقاعية البنائية التي تتداخل فيها تلك العوالم المتباينة في تماثلاتها وفي تعارضاتها ، كذلك في التعارض بين التكوين الملتهب احمراراً وعتمة الفضاء الكوني المغلف بإطارين خارجيين أحدهما يتخذ مساراً إطارياً حول سواء الكون وعتمته كما لو كان دثاراً تلوينياً عشوائي الحدود المتماسة مع السواد والمنسربة فوقه بدرجات لون طحيني طبع فوقه إطار خطي رقيق مشوب بالحمرة. ولا يفوتنا أن نشير إلى أن عدداً لا بأس به من لوحات فاروق حسني ينحو فيها الفنان إلى وضع أطر للتكوينات التي تمتطي سطح اللوحة أو تسبح في فضائها فيما يشبه تقنية قطع ووصل ، فمكونات فضاء اللوحة منفصلة متصلة، بما يشف عن فردية كل تكوين أو ذاتيته من ناحية ، وتفاعله مع مكونات ذلك الكون أو العالم الذي تتكشف وحدته في الفضاء أو الخلفية التي تلتحم بها التكوينات أو تسبح على سطحها أو تغوص في مكونها اللوني فتخلق منظومة الحركة الإيقاعية والسكون.
لوحة
الفن التشكيلي بين إيقاع الفكر وإيقاع التلقي الإيقاع ظاهرة فنية لا يخلو منها عمل فني ، ولكل عمل إيقاع ملائم له، مرتبط بإيقاع فكر مبدعه مرتبطاً بالإطار الفكري السائد في وسطه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بحيث يتناغم على المستويين الذاتي والموضوعي ، ولا يبتعد إبداع الفنان التشكيلي عن ذلك الطرح كثيراً ، حتى معه ميله نحو التجريد فبيانو (سلفادور دالي) المسجى في صحراء مترامية الأطراف لا ينفلت عن إيقاع فكر الذات المشتبك مع فكر العصر، الذي لم تعد له آذان . واللوحة وفق هذا الطرح تعبر عن موقف دالي من عصره الذي فقد حاسة الاستماع والتذوق والاستمتاع.. ومن نفس المنطلق يكون الرأي عند تأمل اللوحة (128) لفاروق حسني التي تشتبك إيقاعات التكوين اللوني : الأسود في الفضاء العلوي للوحة معلقاً على تكوينين خطيين على هيئة مثلثين ، تلمع في مقدمته عينان بلون أبيض لا تغيب عنهما عينان أخريتان بلون أصفر غامق ، بما يقترب بالشكل إلى أن توحي برأس وحش ، قد يكون نمراً أو قطاً يقبض بفمه على تكوين أبيض أقرب ما يكون طائراً مقتنصاً يتدلى جناحيه بلون أبيض نقي مغلف بلون أسود . وتتساقط على أرضية اللوحة بقعتان متباعدتان بلون أبيض، كما لو كانتا بعضاً من ريش ذلك الطير الذي أطبق عليه بأسنانه ذلك الوحش الجاسم في عليائه ، والذي تبدو أسفله مباشرة عينان غائرتان ترتعدان خوفاً بلون أصفر ترقبان ذلك الإطباق السوداوي الغاشم على الطائر البريء المتساقط ريشه وسط السياج في الأسفل. ويتنوع الإيقاع في التكوينات اللونية المتوازنة في فضاء اللوحة ما بين تلك الكتلة السوداء المتمكنة في وضعها الرابض فوق مثلين رأسيين تتداخل فيهما لمسات فرشاة تترك سحجاتها السوداء العريضة التي ما تلبث أن تمتزج بسحجات رمادية وتتقابل البقع السوداء لتشكل تذييلاً لونياً منعكساً على أرضية فضاء اللوحة كما لو كانت ترديداً توكيدياً لتلك الكتلة السوداء التي تنظر بعين ونصف العين إلى ذلك العالم الأدنى. وكأني بفاروق حسني يرى أن البقاء للأقوى الشرس في هذا العالم الذي يرفع كل مستقوٍ على الجميع إلى أعلى عليين ، فمنطق القوة الباطشة هو الأعلى وهو الأبقى ، ولا ملاذ للبراءة والنقاء من أسنان الشر. إن هذه اللوحة تجسد إيقاع فكر لا يبتعد كثيراً عن النيتشوية حيث السيادة لفلسفة القوة. ولأن الإيقاع يشكل - وفق هيراقليطس – أكثر الجوانب الحركية المميزة للكون ، ولما كانت " قيمة كل شيء في الوجود تدرك بقياس جملة ارتباطاته والكشف عن جملة القيود التي قيد بها مع غيره من الأشياء المتوافقة والمتناقضة معه في آن واحد ، وكان هذا التناقض والتوافق منتظمين في وحدة ؛ فإن عملية إدراكنا لقيمة الشيء على هذه الحالة تعد دليلاً على دور الإيقاع الرئيسي في تحقيق الأثر الجمالي والقيمي في داخل الشيء نفسه ، بحيث يتمكن من التأثير الإمتاعي بهذه القيم التي يحويها الشيء المقيس " ولأن الفكر - كما يرى د.سلام - مقيد بإيقاع المفكر ، وكذلك تتقيد أدوات هذا المفكر اللغوية والتعبيرية بإيقاع ذات المفكر وبإيقاع مجتمعه وبإيقاعات ذوات مستقبليه التي إن توافقت فإن أثر الفكر يتحقق ، كذلك الأمر نفسه بالنسبة لإبداعات الفنان التشكيلي المتأمل المهموم بالعالم وبالكون ، فالإيقاع بالنسبة لإبداعاته التصويرية أو النحتية يشكل عنصر القبول أو الرفض عند الذوق المتلقي لها ، خاصة مع توافق إيقاع فكر تصميم اللوحة أو التمثال مع إيقاعات ألوانه وتكويناته المتاوازنة في تماثلاتها وتناسبات ضوئها وظلالها ، كتلها وفضاءاتها ، تدرجات الألوان والأضواء والظلال وتقابلاتها التكوينية فضلاً عن هوية الامتزاجات اللونية التي تفصح عن هوية مبدعها مع تنوع مستويات إيقاع اللوحة ما بين بنية إيقاعية فردية بسيطة تتخذ خطوطاً متوازية سواء في هيئة مستقيمة أو على هيئة متعرجة أو متموجة تتنوع في أطوالها أو تنزوي في حيز ركني من اللوحة كما في اللوحة (114) من الإبداعات التصويرية للفنان فاروق حسني أيضاً. حيث ترتفع في حركة صاعدة أربعة خطوط بيضاء متموجة تتوج كل منها من أعلى دائرة حمراء صغيرة محددة بإطار دائري يميل إلى الصفرة ، كما لو كانت صواريخ موجهة من الأرض إلى الفضاء بزاوية 45 درجة . غير أن سهماً أبيض اللون محمولاً على قاعدة سوداء ينطلق في مواجهة الرؤوس الحمراء التي تمرق نحو منتصف فضاء اللوحة . على أن المدهش عند القراءة الأولى لمكونات اللوحة ذلك الصفاء اللوني لتدرج الرمادي الذي ينساب انسياب الهواء فيكسو فضاء اللوحة ويشكل خلفية تخترقها من أعلى يسار الناظر إليها مساحة بيضاوية الشكل تكتسي بزرقة سماوية شفافة تظهر ما تحتها من كائنات سابحات في اتجاهات متباينة ويقطعها من طرفها السفلي التكوين الخطي الأسود لرقم سبعة (7) مقلوباً لتتحول ساقه إلى حامل للرأس الثلاثي (الهرمي) الأبيض وترتفع قاعدته الأفقية فوق بقعة تشكل نقطة سوداء مستعرضة منفصلة عن الرقم 7 المقلوب . وقد أشر الفنان عليها بعلامة X على أن المربعين المتقابلين أحدهما برتقالي اللون أو أقرب إلى ذلك ومؤطر بخط أبيض على أرضية الفضاء الرمادي أسفل يسار الخطوط المتموجة البيضاء ذات الرؤوس الحمراء المندفعة إلى أعلى مخترقة سماء ليس يبدو أنها سماؤها . وفي مقابله مربع رمادي تحتضنه قاعدة سقف الحرف 7 المقلوب ، وهو شكل قريب الشبه من مظروف رسالة ختمت بخاتم أحمر على مغلفها. وبالمقاربة بين الدال في لوني المغلفين يمكن التوصل إلى دلالة التهديد المتبادل بين منطقتين تنذر كل منهما الأخرى . تبادر الأولى بالهجوم مبرزة الكارت البرتقالي الذي يشي بحالة التهيوء للهجوم ، بينما يتحصن الطرف اليساري – حسب موقعه في اللوحة من ناحية – وربما ترتيباً على توجهه السياسي – برقم 7 معكوساً – ربما ترتيباً على وضعه كرقية أو تميمة سحرية وفق طقوس منطقتنا السابحة في بحر الدروشة – فالنظر المتأمل إلى دال احتضان الرقم 7 وهو رقم مقدس عندنا ، خاصة وهو يحتضن مغلفاً مختوماً بالشمع الأحمر بما يشي بدلالة التحصن بالرسالة الدينية لنواجه بها رسالة التهديد التي تنذرنا بالهجوم اليميني – حسب موقعها في اللوحة من ناحية – وربما ترتيباً على توجهه اليميني – وهنا لا يكون النظر إلى لوحة تجريدية بوصفها مجرد علاقات لونية في تكوينا تشكيلية إيقاعية متوازنة تجمع ما بين متناقضات تكوينية في وحدة لا شكلية ، لا يكون نظراً صائباً ، فالتجريد اللاشكلي يمكن أن يعطينا دلالة تشف عن رؤية الفنان للكون وللأحداث التي يموج بها عالمنا.
لوحة
إبداعات فاروق حسني التصويرية بين المؤثرات التراثية والمؤثرات المابعد الحداثية كلما عاودت تأمل إبداعات فاروق حسني رأيت شيئاً روحانياً خفياً يشغل وجدانه ، لا ينفك يعاود تضمينه في العديد من لوحاته ؛ شيئاً مرتبطاً بقداسة الرقم (7) الذي لا يفارق الإطار ثلاثي الأوجه ، فما من لوحة من لوحاته التي فرض فيها الرقم (7) نفسه عميداً على فضائها بهويته اللونية وتكويناته المتنوعة ، وفي قناعاتي أن مس القداسة التي يفرضها ارتباط الشكل المثلثي بوصفه رمزاً لثلاثية الديانات القديمة والفرعونية بخاصة برسم الرقم 7 بوصفه رمزاً مقدساً في ثقافتنا الإسلامية لا يقف تأثيرها على فن فاروق حسني في إبداعاته التصويرية وحدها بل يتخطاها فيفرض نفسه على فلسفة عمله وزيراً لثقافة مصر فيما بين نهايات القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين حيث نرى إنجازاته في مجال ترميم الآثار الفرعونية جنباً إلى جنب مع إنجازاته في ترميم الآثار والمساجد والمزارات الإسلامية والمسيحية واليهودية ، والحفاظ عليها وإعادة اكتشاف جمالياتها وتوكيد قداستها ؛ وإن دل ذلك على شيء ، فإنما يدل دلالة أكيدة على أن تراث الأمة الثقافة يسكنه ويملأ وجدانه ويؤرق ضميره. يقول رينان : " إن الأمة نفس ، مبدأ روحي ، وإن ثمة شيئين يمثلان في حقيقة الأمر ، شيئاً واحداً في تشكيل هذه النفس . أما الشيء الأول فموجود في الماضي ، في حين الشيء الآخر قائم في الحاضر . فالشيء الأول يمثل ملكية مشتركة لإرث غني من الذاكرات . وأما الثاني فهو التوافق الحاضر والرغبة في العيش سوياً. والإرادة التي تملك مقومات الاستمرارية في إقرار شرعية الإرث الذي تم توارثه بشكل مشترك" وبتعبير آخر توجد الأمة في الذكريات والإرادة . إن الذي يوحد بين المؤثرات التراثية ومؤثرات ما بعد الحداثية في فن فاروق حسني التشكيلي هو إيقاع فكره ، ذلك الإيقاع الذي تكشف عنه قدرته التخييلية على تخليق ألوان لا تمت لثقافة غيره أو حساسية حداثية تقترب من معطيات ثقافة أوروبية – أوسطية تتزاوج مع موروثات ثقافية مصرية على نسيج ثقافة مصرية معاصرة . وربما اختلف الفنان فاروق حسني عن غيره من الفنانين التشكيليين المصريين سواء في عناية أكثرهم بتصوير حالات الخروج من واقعه المعيش ‘لى نهار اليقظة ، سواء تمركزت أعماله التصويرية حول فن استعارة حياة ما بعد الحياة ، أم تمركزت حول اختلاق حياة لم يكن لها وجود سوى في عالمه التخييلي الخاص ، أم دارت حول فن استعارة حياة مشاكلة للحياة المعيشة ، اعتماداً على مخزون ذاكرته البصرية ، ومدى تشكل مكونات الصورة في تفاعلها مع وجدانه . كان فاروق في مراحل عنايته بتصوير حالات الخروج من واقعه المعيش إلى نهار اليقظة الظنية مسترشداً برهافة حسه وعمق تأمله وقوة تمثله لصورة ذلك النهار الافتراضي مع براعة إدارة حوار فرشاته مع بالتة الألوان في سبيل تخليقه للغة اللون التي لا تنتسب إلاّ له هو وحده ، فهو يصور موقفه من العالم ، بعيداً عما هو معروف من أشكال فنية وأساليب. ويبدو أن دراسته للديكور المسرحي بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية ، وعشقه للمسرح لهما تأثير واضح في تكويناته اللونية التي لا تخلو من بقعة لونية مضيئة بما يقترب من البؤر الضوئية في مشهد مسرحي ؛ فبؤره اللونية تتوزع في فضاء اللوحة في تناسق وتلاؤم تام يوحي بمنظومة لونية متكاملة وبفهم عميق لوظيفة البؤرة الضوئية اللونية درامياً وجمالياً. فالبؤرة الضوئية اللونية تتجسد تجسيداً محققاً بما يحيط بها من إظلام أو تعتيم. غير أن البقع أو البؤر اللونية في اللوحة التشكيلية لا يشترط أن تسقط على كتلة أو شيء ما ، كما هو الحال في المشهد المسرحي ، فكثيراً ما يسقط الفنان التشكيلي بقعة ضوئية لونية على أرضية فضاء اللوحة أو على أعلاها لخلق تكوينات لونية إيقاعية ذات تأثير جمالي كما في اللوحة (126) التي تطبق قدم حديدية مطعمة بنقاط قوة حمراء تتوزع على عنقها الطويل وهي تدوس على شريط ممتد من مصدر ثابت وقائم رأسياً في يسار اللوحة موصولاً بكتلة تشع بمزيج لوني من الأخضر/ الأزرق يحتوي على بقعتين مستديرتين حمراويتين مخففتين بمحيط أبيض وكأن الحذاء الضخم الفارغ من ساق ليقطع خط الاتصال الممتد بين المصدر الإرسالي المتخفي الذي لا معالم له والطرف المستقبل للاتصال المقطوع ، فيما يشبه عمليات التشويش التي تدبرها القوى الكبرى الوحيدة على الساحة العالمية ، ضد تقدم قوى أخرى ناهضة ، مع وجود قوى أخرى تنبض بالحرارة وتشتعل بالقدرة على مواجهة ذلك الاعتداء، غير أنها ممتنعة عن التدخل رغم قدرتها ، لذلك وضع عليها الفنان علامة X ، قابلها بالتماثل غير التام بعلامة خطأ X أخرى فوق كتلة سوداء ضخمة تتوسط فضاء اللوحة فيما بين الحذاء الضخم الرابض من عل على خط الاتصال المشار إليه والتكوين الثلاثي الحاد الزاوية المتوهج من تحت الرماد. ويبدو أن موضوع انفراد قوة وحيدة بالمصير العالمي يشغل الفنان لذلك نراه يعبر عن موقفه منه في أكثر من لوحة . وتظهر براعة فاروق حسني في إدارته لحوارية الفرشاة مع لوحة الألوان لتتخلق لغة اللون وهويته التي لن تنتسب إلاّ لإسمه هو نفسه دون غيره من محترفي اللعب مع الألوان والتكوينات في فضاءات الضوء والظل ، فهو لا يصور الواقع حتى وهو يصوره محاكياً أو مشاكلاً ، وإنما يصور ذاته فيه أو يصور ذاته خارجاً عنه أو خارجاً عليه. وهو لا يصوره قطعاً وهو يعارضه ، أو يخلقه من العدم، وإنما يسويه خلقاً جديداً كما في هذه اللوحة. والمدهش حقاً إنك تستطيع أن ترى شيئاً جديداً مغايراً للدلالة السابقة ؛ فلو قلبنا اللوحة نفسها رأساً على عقب لطالعنا شيئاً جديداً مغايراً ، وهو إبداع سبق إليه دافنشي في عصر النهضة . فلو تأملنا أشهر إبداعات (ليوناردو دافنشي) واسترجعنا الشروح والتفسيرات التي دارت حولها وملأت أسماع فضاءات التذوق أو النقد الفني ، لرأينا منها ما زعم بأن (موناليزا) هي وجه (دافنشي) نفسه ، إذ تخيل ذلك المؤول لتلك اللوحة وجه (دافنشي) بدون لحيته الشهيرة، ولرأينا من زعم بأنها صورة لحبيبته – حتى مع افتراض صحة هذا الزعم الأخير- فليس في عالمنا البشري المادي من في مقدوره النظر نحو ثلاثة اتجاهات في زمن واحد – كما لو كانت له ستة أعين في وجهه - ومعلوم أن من وقف إلى يمين لوحة (الجيوكنده) تلك لاحظ أن الفتاة تنظر نحوه ، ومن وقف متطلعاً إليها من جهة اليسار لاحظ أنها تنظر إيه أيضاً. ومن يقف أمامها مباشرة يراها تنظر إليه. فأي كائن في عالمنا الحياتي له تلك الخليقة الخلاقة المختلقة اختلاقاً فائقاً. لا مثيل لذلك الفعل فيما قدّر لمخلوقات الله، فمع أن وجه الفتاة هو محاكاة لفتاة قد تكون فتاة حقيقية في حياة مبدعها، إلاّ أن قدرتها على فعل خارق للفعل البشري في واقعنا الكوني، يمثل حالة الخلق أو الخروج إلى نهار اليقظة الظنية، حيث رأى أن فتاته دون غيرها من بنات حواء هي الوحيدة التي تمتلك نظرة ذات ثلاثة أبعاد في زمن واحد، وكأنه من حيث التكنين يحقق بتلك المنزلة من منازل الإبداع فكرة المنظور بتجسيم نظرتها. على ضوء ما تقدم يمكن القول إن مشاكلة الفنان لواقع ما هي عمل من أعمال الاستعادة الإبداعية عن طريق التغذية الراجعة من مخزون الذاكرة البصرية – حيث وجه "الموناليزا" هو لون من ألوان محاكاة وجه حقيقي سواء وفقما زعم الزاعم المؤول بأن دافينشي رسم وجهاً مشاكلاً لوجهه دون لحيته أو وفق تفسير المفسر الزاعم بأن وجهها هو وجه المرأة التي سكنت وجدان مبدعها فجسدها تجسيد محاكاة مثلما انطبعت على صفحة وجدانه وأسند لآلة خياله وتخييلاته تجسيد روحها متمثلاً في درامية الفعل الذي ارتسم على شفتيها وفمها المتبسم في شيء من غموض متلازم مع ثلاثية النظرة إلى جهات ثلاث (يميناً وشمالاً وأماماً) في زمن واحد ، فكأن ذلك من أعمال التفرد الإيهامي لمخيلة الفنان المخترقة لحدود ما هو معلوم من واقعنا الكوني.
لوحة
الخاصية الأسلوبية في فن فاروق حسني: لكل فنان خاصية أسلوبية تنداح في كل إبداعاته بشكل أو آخر ، خاصية تترسم هوية الفنان وتكشف عن حالة من التفرد . ولأهمية تلك الخاصية الأسلوبية ، نشأ علم الأسلوب الذي " يحمل في طياته وصفاً للأشخاص والأفعال والأشياء وأحوالهم " في إطار المجتمع" يعتمد على وقائع لغوية ذات خصائص اجتماعية وجمالية معاً " . ولأن اللون لغة أيضاً والتكوين اللوني بمثابة وقائع لغوية ذات خصائص اجتماعية وجمالية ، لذا يمكن تتبع التكوينات اللونية بصفتها وقائع لغوية تشف عن خصائص اجتماعية أو كونية وجمالية تشغل فكر الفنان ، فالتكرار التنويعي لتيمة الشكل الثلاثي الهرمي يكشف عما وراء التكوينات الهرمية والمثلثية مما يؤرقه وهو المسؤول عن آثار مصر ، فانشغاله بتلك الأشكال المثلثية في تعبيراته التلوينية والتكوينية ، والتعبيرات – حسب العلم الأنطولوجي : "مظاهر فيزيقية نستقبلها بوساطة الحواس " فنحن نرى التكوين اللوني تماماً مثلما نرى العلامات المميزة على أنواع الزهور ، لكن الألوان على النقيض من تلك المظاهر الأخرى ، لها طبيعة مزدوجة . فهي تحيلنا إلى ما هو كائن وراءها. وهي تجسد لنا الأحاسيس التي تحرك وجداننا فتمتعنا ، أما التكوينات فهي تجسد لنا المعاني إذا قرأت مفردات اللوحة قراءة سيميولوجية . فطريق الإمساك بخاصية الفنان الأسلوبية يتحقق عندما يجعل الناقد هدفه الأساسي مقاربة علامات اللوحة بعلامات غيرها من لوحات الفنان نفسه عبر قراءة حميمية منتظمة تتعرف على المكونات والملامح الفارقة وتقيس مدى فعاليتها الوظيفية في تجليات إنجازها الجمالي. فكما أن اللغة نسق إصطلاحي للتعبير ، التكوين اللوني أيضاً نسق اصطلاحي تشفيري للتعبير ، حيث تشكل البنية الإيقاعية في اللوحة مناط التشفير كما يشكل التعالق التعبيري للألوان أساساً للتنميط الأسلوبي ما بين لون ولون. وانطلاقاً من أن التكوين اللوني يحمل تعبيراً مزدوجاً فبنظرة متأملة لتلك اللوحة (127) التي تأسس تصميمها على هرمين أحدهما متوج باللون البرتقالي المموج في تدرجه اللوني الذي ينتهي عند قاعدته بمزيج من اللونين الأبيض والأصفر في آن ، أما الهرم الثاني الأزرق اللون مع رتوش لدرجة لونية زرقاء مغايرة تموج على جسده ، يلف جانباً من جوانبه شريطاً ناصع البياض ويدور نصف دورة حيث يتضاعف حجم الخط . ومن خلف الهرم عين بشرية تسلط إبصارها ، كما لو كانت تعبر عن نظرة مستقبلية تدفع آثارنا نحو مستقبل ناصع. ولاشك أن هذا خير مثال على ازدواج التعبير في هذه اللوحة . هذا من حيث الدلالة ، أما البنية الإيقاعية اللونية التي تزخر بالتماثلات والمقابلات اللونية ؛ فتنطوي على تظليل لذلك التكوين التفعيلي ما بين هرم تراثي في الخلفية وهرم موعود، أقرب أن يكون حلم يقظة الفنان وتذييل لوني ناصع البياض لا يفصح التكوين عن دلالته إلاّ باشتمال اللوحة على ذلك التذييل. وهذا ما لمسه سينسكالكو بصدق في فن فاروق حسني حيث قال: " لا يمكن أن نتجاهل الروح الباطنة لفنه ، العاطفة التي تدعمه وتنطلق منه، دفعة الحرية التي تسيّره . إن الاحتياج للتعبير عن الذات – هو بلا منازع – المادة الأساسية لإلهام الفنان فاروق حسني ، فنان مثقف يعرف فن عصره ، وهو فطري في نفس الوقت ويوظف هذا كأداة يحقق من خلالها خصوصية أسلوبه في التعبير " وفي هذه اللوحة أيضاً تتمثل الخاصية الأسلوبية إذ نرى هرماً (أخضر زرعي) مستقراً فوق كتلة حجرية برتقالية اللون لا تخلو من ندبات أو بثور حمراوية تنتثر على سطحها .
#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيميولوجيا الفرجة الشعبية في المسرح
-
المرأة في مسرح صلاح عبد الصبور
-
معزوفة التواصل الثقافي الحضاري
-
اتركوا النار لنا
-
المونودراما وفنون مابعد الحداثة
-
نظريات المسرح
-
ليس ثمة من وطن .. حيثما الدين وطن
-
سفر الخروج من (طما ) مونودراما الممثل الواحد
-
الماركسية في الحضور وفي الغياب
-
التجريب بين حلم شكسبير وحلم كولن باول
-
الوصايا السبع للمسرح التجريبي
-
جواز (فاطمة) من (يوسف) باطل
-
المقامة التنظيرية الأردشية والصدمات المسرحية
-
التجريب المسرحي بين عروض الحكي وعروض المحاكاة
-
المسرح وفكرة المخلص المستبد العادل
-
شهرزاد/ موناليزا ..في كباريه وليد عوني السياسي
-
الفن والعلم بين التعليم والتعلم
-
( لير) قبل العرض ..(لير ) بعد العرض
-
إشتراكية ( سوسولوف) و نظام رأسمالية الدولة
-
مؤثرات الفابية في البنية المسرحية ل(جمهورية فرحات)
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|