|
هذه هي الكواليس، سيدي الرئيس
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 2504 - 2008 / 12 / 23 - 09:53
المحور:
حقوق الانسان
سيدي الرئيس، تحية طيبة، وبعد. أعلمُ أنك تشاهدُ العرضَ النهائيَّ وحسب. لكنك لا ترى البروفات قبل العرض، ولا ما يدور في الكواليس أثناء العرض. تلك طبائعُ الأمور. في تنقّلاتك من البيت إلى القصر الرئاسيّ، أو في جولاتك لافتتاح صرح، أو في العودة من المطار، الخ، أنت لا ترى إلا شوارعَ هادئةً خاويةً نظيفة، ورجالَ أمن مركزيّ يصطفّون على الجانبين مثل نباتات صبّار نبيلة، قطرةُ ماءٍ في العام ترويها، وقوفا تحت قيظِ الشمس. وجوههم إلى الحائط وظهورهم تحمي موكبك. أدركُ جيدا أن تأمينَ الرئيس هو قضيةُ أمن قوميّ، لكنني أتساءلُ ما إذا كان تأمينُ رأس الدولة لابد أن يتمَّ على حساب ثمانين مليون رأس مصريّ هم متنُ هذا البلد الأمين! وأنا لم أقرأ كثيرا في بروتوكولات تأمين الرؤساء، لكنني أشكُّ أن البروتوكولَ المصريّ يتفق مع أيٍّ من النظم الدولية. أعرفُ، وحسب، أن الرئيسَ إذا كان محبوبا من شعبه يمشي دون حراسة كثيفة، مثلما كان الملك حسين يقود سيارته بنفسه وسط المواطنين، ومثلما شاهدتُ الرئيس جمال عبد الناصر في طفولتي يمرُّ أمام بيتي يُلوّح، من سيارته الكابورليه المكشوفة، للجماهير المصطفّة لتحيته. وإن لم يكن محبوبا فلا أظن أن الحلَّ هو المبالغةُ في تأمينه من قِبَل رجالات الشرطة والحرس. لابد هناك حلٌّ آخر لا أدري ما هو! وتلك ليست الحالَ لدينا، لأن الاستفتاءات ثم الانتخابات تشهدُ أنكَ محبوبٌ، ومن ثم لستَ تحتاجُ كلَّ هذا. وقد خطر لي اليوم، بوصفي أحد ثمانين مليون مواطن يمثلّون بعضَ أدوات عرض تأمين سيادتكم، أن أنقل لكم شيئا مما لا تراه من كواليس العرض ومما شاهدته بنفسي ظهيرة يوم 18 ديسمبر 2008. كنتم سيادتكم تفتتحون مبنى رقم 3 بمطار القاهرة، ونشكرك على هذا الصرح المتطور على أرض مصر الجميلة. آنذاك كان رجالك يؤمّنون وجودك على مساحةِ دائرةٍ: مركزُها المطارُ، وقُطْرُها الأبد. أقصدُ أن محيط الدائرة امتدّ لمساحات غير معقولة، حتى أن كيلومتراتٍ طويلةً من السيارات والحافلات والبشر تراصت محتجَزةً من الكيلو 118 طريق القاهرة-السويس حتى الكيلو 4.5 بالقرب من ألماظة. وبالطبع ليست هذه المرة الأولى التي أُحتجَز فيها بسبب مرور موكب، لكنني في المرات السابقة لم أكن أرى أمامي إلا طوابيرَ من السيارات ونسأل فيقولون "تشريفة". أما اليوم فالحظُّ حالفني لأحتلَّ الصفَّ الأول فأشاهد، لأول مرة في حياتي، ما يجري. فوددتُ أن أنقله لكم لطرافته. بغتةً يمدُّ رجالُ المرور متاريسَ حديديةً أمام السيارات. في صمت وتجهم ودون كلمة تفسير واحدة. ثم تأتي فِرَقُ الأمن المركزيّ تعدو في مارش عسكري وهم يطلقون تلك الصيحة المتقطعة المحببة "ها"، التي مثل زفرةِ المُقاتِل، فتُشعرنا، نحن الجبهة الداخلية، بأنَّ يدًا أمينةً تحرسنا. لكنهم، يا سيادة الرئيس، سرعان ما يحاصروننا، وجوهُهم متحفزةٌ وهراواتٌ سوداءُ في أياديهم، كأننا الأعداء! مرَّ عقيدٌ يتفقدُ، فسألته: فيه حاجة؟ رمقني شذرًا ولم يجب! فعاودتُ السؤالَ: "لو سمحت تقولنا احنا واقفين ليه؟ من حقنا نعرف على الأقل!" ولم يرد أيضا. وجاءني عميدٌ وقال: "معلش الريس في المطار!" فعتبتُ مستنكرةً: "ليه العقيد ده مش بيرد عليّ! أليس من حقي أن أفهم، ومن واجبه أن يُفهمني؟" فابتسمَ ومضى. سألته: "طيب لإمتى إن شاء الله حنفضل واقفين؟" فقال: نصف ساعة. لكننا بقينا ساعةً ونصف. سأله مواطنٌ: طيب نقدر نلف ونرجع؟ ردّ العميد: "لأ". قالت سيدة: "طيب أنا عندي ميعاد طيارة دلوقت!" أجابها بحسم: "برضو حتستني." هتف واحدٌ من سيارته: كأننا معتقلون! فرددتُ عليه: نعم، والتهمةُ أنك مصري! فاقترب مني رجل يرتجف ويرمق العميد بخوف هامسا: "اسكتي اسكتي، المصريين أحسن ناس في الدنيا." فقلتُ له: ليس في هذا البلد من يفخرُ بمصريته قدري، لكنني أبكي عدم تقدير هؤلاء لمصريتنا. ما الذي يضيرُ جهازَ الأمن لو حملَ أحدُهم ميكروفونا صغيرا واعتذر للناس بأن موكبا تشريفيا يمرُّ ويرجوهم أن يصبروا ويتحمّلوا؟ هل هذا كثير علينا؟ حتى المعتَقلُ من حقّه أن يعرف سبب اعتقاله! لكنْ أن تُستَلَبَ من أعمارنا ساعاتٍ تحت قيظ الظهيرة مُكبّلين في مقاعد سياراتنا دون أن نفهم السبب فهذا لا يليق بمصريتنا التي نعتز بها، ولا يتفق مع أدنى مبادئ حقوق الإنسان. سيما أنه أمر يتكرر كل يوم، سواء مع تشريفتكم، أو مع مرور طاقم الوزراء، ووكلائهم، ووكلاء وكلائهم. وماذا يضير سيادتكم أن تتحرك في هليوكوبتر كما كان الرئيس السادات يفعل؟ صحيحٌ أن شعبنا لم يتقبّلِ الأمرَ واعتبره بدعةً غربية، لكنَّ السلوكَ غيرَ المعتاد يكوّن مع الأيام ثقافةً. وسوف يدركُ شعبُنا الذكيُّ، بعد حين، أن هذا هو السلوكُ الأفضلُ لكيلا تتعطلَ مصالحُ البلد. يا سيادة الرئيس، أعلمُ أنك تعلمُ أن تلك التشريفاتِ اليوميةَ قد عطّلت طُلابا عن امتحاناتهم، ومواطنين عن أعمالهم، ومرضى عن أطبائهم، وموتى عن قبورهم. لكنْ هل فكّرَ رجالُك، وهم يحتجزون الناسَ بصَلَفٍ وغِلظة كأننا أعداء الوطن، أننا مصريون مثلهم؟ وأن واجبهم هو رعايتُنا وتأمينُنا تماما مثل تأمينِ سيادتكم؟ هل فكروا أن بين هؤلاء المحتَجَزين امرأةً توشك أن تضع وليدا، وعجوزا مُنهكا، وطفلا جائعا أو مريضا، ومُتعجلا يودُّ اللحاقَ بطائرة أو قطار أو موعدٍ خطير لا ينتظر؟ صغيري "عُمَر" كان معي. وهو لا يستوعب معنى الاحتجاز والاعتقال. ليس وحسب لأنه فنان، ونال المركز الأول على الجمهورية في الرسم بالزيت، بل لأنه متوحّد autistic. وتلك الكائناتُ الجميلةُ العذبة، المتوحّدون، لا يفهمون معنى الحبس وتقييد الحرية. هم كائناتٌ مُحَلِّقةٌ مثل الطيور. يعرفون أن الحريةَ والعدالة هما مبدأ هذا الكون، وشِقَيّ الجَمال في الوجود. مستحيلٌ أن يقبلَ المتوحّدُ أن يُنتَزَع منه هذان الحَقّان: الحرية والعدل. هؤلاء يا سيادة الرئيس ليسوا مثلنا يقبلون الظلمَ والقمعَ والترويعَ صاغرين، هم لا ينصاعون مثلما ننصاعُ خوفا من بطش رجال الشرطة الذين جبروتهم اليومَ فاق كلَّ حد. المتوحدون يَردّون الأشياءَ لأسمائها الأولى ولا يُغيّر التراكمُ الخِبراتي من مبادئهم. لذلك ظلّ صغيري يرددُ على مدار ساعة ونصف: "الظابط يفتح الطريق!" فأقول له: "مينفعش يا عمر عشان الريس معدي." فيقول: "طيب نرجع البيت!" فأقول له: "برضو ممنوع!" فيصرخ ويضرب بيده على تابلوه السيارة! أما أطرفُ ما في الأمر هو سلوكُ المواطنين، الذين في العادي لا يكفّون عن استعمال آلات التنبيه بسبب ودون سبب حتى أعتلتِ القاهرةُ مرتبةَ أعلى مدن العالم ضجيجا، كانوا بالأمس صامتين كأنَّ على رؤوسهمُ الطيرَ! ولم أدرِ هل أفرحُ لذلك؟ أم أندهش! نسيتُ أن أخبر سيادتكم، أن العلاماتِ البيضاءَ الجميلة والأسهمَ المرسومة على الأرض، "المنظفة بعناية"، من المطار وحتى بيتكم، لم تكن موجودةً حتى الأمس. رسموها من أجلك وحدك، ومازال جيرُها الطباشيريّ الأبيضُ طريًّا لم يجف. أرجو ألا يقوموا بمحوها غدا، أو بعد غد.
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنا مؤمن والمؤمن مُصاب، بس انتم لأ!
-
ليلةُ غفران
-
ليلةٌ تضيئُها النجوم
-
الرغيفُ أمْ القيثارة؟
-
أنتِ جميعُ أسبابي!
-
خلسة المختلس
-
العصافيرُ ستدخلُ الجنة
-
يا مولانا رفقا بالصبيّ!
-
انظرْ أمامَك بغضب
-
الجميلة بحق!
-
تلصّصٌ على بيتِ شاعر
-
فنجان نسكافيه لكل متهم
-
تعالوا نركب عَجَل!
-
شيءٌ من -الحبِّ- و-العدل- يا -حبيب العادلي-!
-
اِرجعْ للخلفِ قليلا حتى ترى
-
وجهُكِ الذي يغيبُ من شباك الفصل
-
مسيحي -بس- طيب!
-
فنجانُ الشاي العُنصريُّ
-
هذه ليست كُرَة، إنها صديقي!
-
اللعنةُ تريدُ أن تضحك
المزيد.....
-
ماذا يعني أمر اعتقال نتنياهو وجالانت ومن المخاطبون بالتنفيذ
...
-
أول تعليق من أمريكا على إصدار مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغال
...
-
الحكومة العراقية: إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتق
...
-
العفو الدولية: نتنياهو بات ملاحقا رسميا بعد مذكرة المحكمة ال
...
-
البيت الابيض يعلن رسميا رفضه قرار الجنائية الدولية باعتقال ن
...
-
اعلام غربي: قرار اعتقال نتنياهو وغالانت زلزال عالمي!
-
البيت الأبيض للحرة: نرفض بشكل قاطع أوامر اعتقال نتانياهو وغا
...
-
جوزيب بوريل يعلق على قرار المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنيا
...
-
عاجل| الجيش الإسرائيلي يتحدث عن مخاوف جدية من أوامر اعتقال س
...
-
حماس عن مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالانت: سابقة تاريخية مهمة
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|