حبيب بولس
الحوار المتمدن-العدد: 2501 - 2008 / 12 / 20 - 09:33
المحور:
المجتمع المدني
وإذا هانت صرنا ضحايا الهوان!
تشير الإحصائيات المبنية على نتائج الامتحانات التي تقوم بها وزارة التعليم والثقافة في المدارس الابتدائية والإعدادية, كما تشير نتائج امتحانات "البجر وت" في نهاية المرحلة الثانوية إلى تدني مستوى اللغة العربية بشكل عام. وهذا أمر مقلق, لا بل مقلق جدا. فاللغة العربية, التي من المفروض أن نحافظ عليها وان نطورها ونرقى بها إلى مصاف اللغات الأخرى, نجدها اليوم في تراجع كبير. ونحن إذا قمنا بعمل استطلاعي في مدارسنا ووجهنا السؤال إلى طلابنا على مختلف مستوياتهم بالنسبة للمواضيع المفضلة عندهم. نجد أن اللغة العربية تحتل آخر درجات السلم- مع انه من المفروض أن تتصدر هذه اللغة لغة الأم, المرتبة الأولى.
وهذا أمر يدفعنا إلى التفكير لماذا؟ ما الحاصل؟ فالعربية وعاء حضارتنا وتراثنا, وهي المركب الأساس لهويتنا القومية, وهي المحافظة على وجودنا وتميّزنا وفرادتنا في البلاد. هي لغة الأم, لغة تفاهمنا واتصالنا, لغة أدبنا وشعرنا وأغانينا, لغة صلواتنا وأدياننا, لغة تجمعنا مع أشقائنا في العالم العربي. هذه العربية التي رقت وتطورت وتغلبت على جميع لغات الأرض في الماضي, ما بالها اليوم في تراجع؟! سؤال يرتفع وبحق في هذه الحقبة الزمنية الحرجة التي نعيشها. ما سبب نفور الكثيرين منها؟ ما سبب تغليبهم للغات الأخرى عليها؟لما ذاينظر إليها الكثيرون منا وكأنها لغة مقصّرة عن مجاراة نبض العصر ومفاهيمه؟ هل هي حقا كذلك؟ هل العيب كامن فيها ام فينا؟
أسئلة كثيرة ترتفع ونحن لا نملك عنها الإجابة كل الإجابة, كما أننا لا نملك توصيفا شافيا, ولكن سنحاول أن نضع أصبعنا على الجرح.
أولا لنقرر أن العيب ليس في اللغة بل العيب فينا, وأولا وقبل كل شيء في المسؤولين.
اذ ما من شك في أن المسؤولية الأساس تقع على وزارة التعليم والثقافة, لان هذه الوزارة رغم النتائج المتدنية التي اشرنا إليها, لا تعمل على تطوير هذه اللغة وتحبيب الطالب بها, وذلك لأنها لا تعصرن مناهجها ولا تعنى بتحسين طرائق تدريسها. ولا تخصص لها الساعات الكافية ولا المحفزات بالشكل الصحيح. ولكن ونحن نقول هذا, نتسا ءل: ومنذ متى كانت هذه الوزارة حريصة على لغتنا وتهتم بها؟! العكس هو الصحيح؟ فنحن نعرف تماما أنها تسعى جاهدة, وعلى مدى سنوات كثيرة, تنفيذا لنهج سلطوي عام, لطمس معالم لغتنا وحضارتنا ولضرب تراثنا وتشويهه كما أنها تسعى لتذويبنا ولحرفنا عن المسار الصحيح.
وطالما أن الأمر كذلك, إذن علينا أن لا ننتظر الفرج منها. بل علينا نحن أن نسعى واعني المثقفين والأدباء والمعلمين والمسؤولين وسائر شرائح المجتمع- كل في موقعه- أن نسعى إلى عمل شيء يتم من خلاله انتشال العربية مما هي فيه. ولكن المصيبة أن الكثير من مثقفينا وأدبائنا ومعلمينا لا يجيدون العربية ويتهربون منها إلى العبرية وغيرها. ومهما كانت الأسباب التي يتذرعون بها, من أن تعليمهم تم بالعبرية أو بالأجنبية, أو مزاحمة العامية للعربية الفصيحة, فان هذه الأسباب لاغيه. وحقيقة هي أنهم لا يجيدون لغتهم وليس أيسر من التأكد من ذلك, إ; حاول أن تصغي إلى حديثهم أو إلى مؤتمراتهم واجتماعاتهم, عندها ستسمع لغة عجيبة غريبة هجينة. لأنها خليط من العربية وغيرها أو هي عربية مطعمة بالكثير من الأجنبية, وكان الشهادة على ثقافة هؤلاء منوطة بتطعيمهم للغتهم بمثل تلك المصطلحات. إن التكلم بالعبرية أو بغيرها لا يعني طمس لغتنا أو استبدالها بغيرها, العكس هو الصحيح. الإنسان الواعي المعتز بهويته القومية, ولغة شعبه, هو الذي يسعى ويبذل الجهد الكبير ليقوّم لسانه ويطور لغته, لا الذي يجعلها أو يتركها تغرق في مستنقع من التراجع والإهمال.
الإنسان الواعي المعتز بهويته القومية- من المفروض أن يشكل كل ما ذكرناه سابقا, حافزا عنده لمحبة لغته, كي يبرهن على أنها لغة حية نابضة قابلة للتطور وللاشتقاق, تتماشى مع متطلبات العصر ومستجداته. فالعربية ليست لغة متحجّرة كما يحاول أن يصورها بعض الذين لهم فيها مآرب خاصة بل على العكس هي من أكثر اللغات قابلية للعصرنة.
إذ كيف استطاعت في ما مضى حين دخلت العلوم الوافدة أن تحتضن المنجزات والمصطلحات العلمية الهندية واليونانية والفارسية وغيرها. لم تتقوقع اللغة حينها, بل فتحت صدرها إلى هذه المصطلحات, عربتها أو نحتت بدائل لها, وفي أسوا الحالات استوعبتها ووظفتها حتى كدنا ننسى أصلها.
ما يقلق ويخيف أكثر من الذي ذكر, هو نظرتنا إلى لغتنا. فنحن نجد الكثيرين في مجتمعنا وخاصة بين المثقفين ينظرون إلى العربية نظرة استرخاص وربما استهزاء, وهذا نابع في رأيي من "عقدةال نقص" الموجودة فيهم أمام كل ما هو أجنبي. فأنت تجد هؤلاء بدلا من أن يتمسكوا بلغتهم يتنازلون عنها بسهولة, بل يسخرون ممن يجيدها, وكان إجادة العربية كلغة أو حفظ تراثها وأدبها نقيصة أو عيب!لهؤلاء نقول:
دلونا على شعب يحتقر لغته وتراثه وأدبه. خذوا مثالا من العبرية, انظروا إلى متكلميها, كيف يستمسكون بها ويفخرون ويعتزون, ويرفضون استبدالها أو تطعيمها أو تدجينها وتهجينها. انظروا إليهم كيف يشتغلون على أنفسهم لتقويم الضعف إن وجد, ذلك لأنهم على وعي تام بان شعب يهمل لغته وتراثه وأدبه هو شعب لا يستحق الحياة, شعب يصبح على هامش التاريخ.
لا أتخيل كيف يقبل عربي حريص على هويته أن ينظر إلى لغته نظرة هزء أو أن يفضل غيرها عليها. إذ أن استرخاص لغتنا يعني استرخاص كرامتنا- ومثلما لا نسمح لأحد المس بكرامتنا- علينا أيضا ألا نسمح لأحد المس بلغتنا. لغتنا جزء عضوي من هويتنا وكرامتنا.
من هنا يقع علينا اليوم واجب كبير وهو زرع الحب لهذه اللغة. وهذا الواجب يقع على معظم شرائح المجتمع, خاصة على المعلمين الذين عليهم أن يشتغلوا على أنفسهم أولا ومن ثم على طلابهم وألا ينتظروا الفرج من الوزارة. فليس يحك جلدك مثل ظفرك.
واجب كبير يقع على مثقفينا إذ عليهم هم كذلك الاشتغال على أنفسهم وذلك بالقراءة والتعمق والمتابعة.
إن حبي لهذه اللغة وحرصي على راحتها ومستقبلها يدفعانني إلى ما ذكر, ويقلقني أن أراها تلتوي على الألسن تتراجع وتتقوقع. يقلقني أن أجد العديد منا لا يجيدون التعبير فيها, وكل الأسباب والذرائع مرفوضة.
لنرجع إلى عقدين فقط من الآن ولننظر كيف كانت العربية تتبوأ المركز الأعلى- وكيف كان درس العربية هو المفضل. وكيف كان معلم العربية واجهة مدرسته. ما الذي يحصل اليوم؟ وهل تراجع العرب على الساحة السياسية وتشرذمهم وانقساماتهم من المفروض أن ينعكس على لغتنا؟
حاولوا أن تصغوا إلى اللغة المنطلقة عبر أثير إذاعتنا كي تتأكدوا مما أقول. إن السامع يشعر بان ما يقوله مذيعونا مترجم عن لغة أخرى. بحيث لا تستقيم على أفواههم جملة. ولو أن الأمر متعلق بفتحة وكسرة لكان بسيطا, ولكنه تشويه بنية اللغة وإتلافها.
من هنا تأخذ القضية جديتها خاصة ونحن نواجه اليوم حملة شرسة تهدف إلى ضرب وجودنا وما يتعلق به.
لاجل ذلك علينا بالصمود الثقافي والحضاري أن نحافظ على منجزاتنا وعلى رأسها لغتنا. من هنا أهيب بكل المسؤولين في مؤسساتنا ومعاهدنا ومجالسنا وهيئاتنا وخاصة لجنة المتابعة إلى السرعة في معالجة هذه الآفة, والى دراسة الوضع والتفتيش عن مخرج.
د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية
#حبيب_بولس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟