حسن الشام
الحوار المتمدن-العدد: 149 - 2002 / 6 / 3 - 21:38
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
فلنبدأ بالمعطيات والوقائع التي قدمتها هيئات استطلاع الرأي في فرنسا لمعرفة الملامح السوسيولوجية لناخبي الزعيم والمرشح الشعبوي الفرنسي جان ماري لوبن، غداة الدورة الاقتراعية الاولى للانتخابات الرئاسية. في ما يخص الهوية الجنسية للناخبين، يظهر ان زعيم اليمين المتطرف يجتذب الذكور أكثر من الاناث، اذ انه حصل على نسبة 21 في المئة من الذكور و13 في المئة من الاناث. وفي ما يخص الفئة او الفئات العمرية، يظهر من الخريطة الاقتراعية ان لوبن حصل على نسبة 16 في المئة من الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 18 24 سنة، وحصل تقريبا على النسبة ذاتها في الشريحتين العمريتين التاليتين (ما بين 25 34 سنة، وما بين 35 44 سنة)، الا انه حصل على 19 في المئة من الناخبين لدى فئة 45 59 سنة و18 في المئة من فئة 60 69 سنة (والنسبة الاخيرة هذه كانت 9 في المئة في الانتخابات السابقة عام 1995). يستفاد من هذا ان لوبن حقق تقدما ملحوظا لدى الكهول والمتقدمين في السن.
في ما يخص التوزع المهني، حقق لوبن تقدما في أوساط المزارعين والفلاحين، اذ حصل على 20 في المئة من هؤلاء، وعلى 19 في المئة من التجار الصغار والحرفيين، فيما بلغت نسبة العمال 30 في المئة، كما في انتخابات عام 1995، بعدما كانت هذه النسبة لا تتعدّى 12 في المئة عام 1988، ويظهر كذلك أن جاذبية لوبن ضعيفة في أوساط المهن الحرّة والكوادر العليا، اذ انه لم يحصل لدى هؤلاء الا على 8 في المئة، على ان المؤشر السوسيولوجي الاكثر أهمية هو البطالة، ذلك ان نسبة 38 في المئة من العاطلين عن العمل اقترعوا لصالح لوبن، بعدما كانت 25 في المئة عام 1995، و12 في المئة فقط عام 1988.
الى ذلك تتضمن الخريطة الاقتراعية للوبن نسبة 15 في المئة من الطلاب و16 في المئة من المتقاعدين، فيما يتوزّع الناخبون من ذوي الأجور بالتساوي (17 في المئة) بين المستخدمين في القطاع الخاص وفي القطاع العام وفي المهن المستقلة.
في ما يتعلق بالمستوى التعليمي للناخبين، وبالنظر الى آخر شهادة تعليمية حصل عليها الناخب، يتبين ان لوبن حصل على نسبة 22 في المئة من حملة الشهادة الابتدائية، وحصل على 22 في المئة من حملة شهادة البكالوريا، فيما كانت النسبة الاخيرة هذه تقتصر على 13 في المئة عام 1988.أما من الواصلين الى الدراسات العليا، فلم يحصل لوبن الا على نسبة 8 في المئة. ويظهر ايضا، في ما يتعلق بأمزجة الناخبين السياسية وآرائهم، ان لوبن حصل على 13 في المئة من الناخبين القريبين تقليديا من أقصى اليسار، وكانت هذه النسبة لا تتعدى في المئة عام 1988، فيما حصل لوبن على 7 في المئة من أصوات الناخبين القريبين من اليسار التقليدي، و12 في المئة من اليمين التقليدي، وهذه النسبة لا تدلّ على شيء جديد او غير متوقع.
برغم احتواء الخريطة الاقتراعية <<الشعبوية>> هذه على قدر من التنوع السوسيولوجي، فإنها لا تعدم وجود ملامح بارزة وغالبة لشخصية الناخب الشعبوي الفرنسي. وقد رأى البعض ان صورة (بورتريه) الناخب <<النموذجي>> للوبن هي انه رجل من فئة العمال لكنه في معظم الحالات عاطل عن العمل، ومسكون بهواجس ومخاوف حيال قضايا مثل الهجرة ووجود الأجانب وانعدام الامن. وهذا الناخب القاعدي يسكن عموما في ضاحية مدينية طرفية، خصوصا في مناطق الشمال الشرقي لفرنسا ذات الطابع الصناعي، ويقود هذا التشخيص السوسيولوجي للناخب الشعبوي الفرسي ذي الملامح العمالية البارزة الى طرح <<المسألة العمالية>> على بساط البحث، والى مقاربة التحولات التي عرفتها خلال عقدين من السنين.
يمكننا القول إذاً ان نسبة العشرين في المئة تقريبا من اصوات الناخبين لصالح اليمين المتطرف، في الدورتين الاولى والثانية، تضمنت كتلة كبيرة من اصوات فئات كانت تحسب تاريخيا، وفقا لمفهوم ومرجعية سوسيولوجيين راسخين بعض الشيء، في عداد <<الطبقة العاملة>>. فمن أصل سبعة ملايين عامل في فرنسا، حصل لوبن على ثلث هؤلاء وحلّ في المرتبة الاولى، فيما يأتي جاك شيراك في المرتبة الثانية، والمرشح اليساري الاشتراكي ليونيل جوسبان في المرتبة الثالثة. اما الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان طوال عقود من السنين أبرز قطب عمالي ونقابي في فرنسا فلم يحصل الا على نسبة 3,5 في المئة من اصوات العمال، اي مسبوقا بكثير المرشحة التروتسكية آرليت لاغييه التي تستهل دائما خطابها بعبارة <<أيتها العاملات، أيها العاملون>>، ومرشح التقاليد الريفية، وفي مقدمها الصيد، جان سان جوس، اذ حصل كل واحد من هذين الأخيرين على نسبة عشرة في المئة تقريبا من أصوات العمال. وكان بالفعل لافتا للنظر ان يغيب غيابا شبه كلي عن خطاب الحزب الشيوعي، ناهيك عن الحزب الاشتراكي، أي حديث عن الطبقة العاملة. غير ان هذا يتعدّى مشكلة التجديد المضطرب الذي يسعى اليه الحزب الشيوعي للخروج من الازمة المستعصية التي يتخبط فيها. ويطاول مقومات الصورة المعهودة <<للطبقة العاملة>> وتمثيلاتها المرجعية في الأدبيات اليسارية.
فالمعطيات تقول بأن العمال ما زالوا يمثلون نسبة 26 في المئة من السكان الناشطين اقتصاديا في فرنسا، بيد أن نسبتهم باتت أقلّ وأدنى من نسبة المستخدمين. وتفيد المعطيات أيضا بأن نسبة ثمانين في المئة من العمال هم من الذكور، وهؤلاء يتزوجون في معظم الأحيان من مستخدمات، ويستفاد من هذا ان <<العائلات العمالية>> لا تزال تشكّل في فرنسا أكبر طائفة اجتماعية. ويعني هذا ايضا ان نحو 40 في المئة من الاولاد الفرنسيين يترعرعون وينتمون الى عائلات يكون فيها أحد الأبوين عاملا. هذه الأرقام تدلّ، بطبيعة الحال، على ان المسألة العمالية ليست مجرّد بقية من بقايا العهد الصناعي، بل لا تزال مسألة مركزية. والحال ان ما يتعرّض للتبدّل والضمور، ليس الحجم العددي للعمال، بل قسم بارز من مدلولات ما كان يعرف بعبارة <<الطبقة العاملة>> باعتبارها مرجعية مفهومية وهوية اجتماعية تاريخية، وكان بعض الباحثين قد انكبّوا منذ سنوات على هذه المسألة وتقدموا بدراسات يستفاد منها ان مواصفات وشروط القوام العمالي، ومعايير الانتماء الطبقي، أصبحت اليوم مختلفة كثيرا، وفي صورة نوعية، عما كانت عليه في أوج الحقبة الصناعية. فغالبية العمال اليوم باتت مواصفاتهم أقرب الى ان تكون على مثال وصورة المستخدمين في القطاع الثالث (الخدمات)، وصار القسم الاكبر منهم يعملون في الصيانة وقيادة الشاحنات، ويتوزعون على شركات صغيرة، او يشغلون الجانب الخدماتي في مؤسسات كبيرة ومتوسطة تظل طريقة عملها أقرب الى الطراز الحرفي منها الى عمل المصانع الضخمة المتمركزة جغرافيا، وفيها صفوف مرصوصة من العمال الكادحين كدحا متشابها. في هذا الاطار، مشفوعا باتساع وتعاظم لعبة السوق والتنافس، صار عمل العمال اكثر خضوعا لمتطلبات الزبائن والمستهلكين، مما ساهم في إنشاء روابط <<مصلحة>> بينهم وبين أرباب عملهم كي يلبّوا سويا حاجات السوق الاستهلاكية. بعبارة اخرى، ان الشعور بالانتماء الى طبقة شديدة التجانس هو ما أخذ اليوم، أي منذ فترة غير بعيدة، يخبو ويتقلّص.
من نافل القول ان نهاية الحرب الباردة وانهيار جدار برلين، وما رافقهما من ضجيج دعاوي فكري حول <<نهاية الايديولوجيات>>، او حول <<نهاية التاريخ>> و<<صدام الحضارات>>، لعبت كلها دورا في خلخلة التمثيلات المعهودة عن الدور التاريخي للطبقة العاملة. على ان التحولات المشار اليها والتي طاولت الشروط المادية لتبلور شخصية عمالية، تظل بمثابة السند المادي والسوسيولوجي للتبدل الطارئ على المفاهيم والتصورات المتعلقة بالمسألة العمالية. في هذا السياق، يبدو ان التوظيفات الرمزية ذات الطابع الرسولي والخلاص في التوقعات والآمال المعقودة على طبقة عاملة يتطابق وعيها لذاتها مع خطورة موقعها في عملية الانتاج، هذه التوظيفات تعيش هي الاخرى انقلابا في مسوغاتها وأسسها. وفي هذا المعنى، يصبح انهيار الحزب الشيوعي الفرنسي عارضا من أعراض انقلاب اجتماعي عام، وليس سببا للانقلاب هذا. والحق ان عددا من الباحثين والمفكرين المتحدرين من الماركسية والمتحررين من سطوة المذهبية الدوغمائية او المدرسية، كانوا قد بدأوا يشيرون الى ضرورة الالتفات الى التحولات الاجتماعية والى ضرورة تعديل القراءات المعهودة والمتوارثة. وفي مقدم هؤلاء، يأتي عالم الاجتماع الراحل بيار بورديو الذي سعى الى صوغ تحليل حول الاقتصاد السياسي لتبادل البضائع الرمزية، ومن ثم الى <<العنف الرمزي>> الذي لا يتحدد تلقائيا بالموقع الطبقي. فالعمال الذين عقدت عليهم احزاب شيوعية تزعم تمثيلهم وقيادتهم، مانحة إياهم وظيفة رسولية ذات طابع صوفي حديث (يا عمال العالم، اتحدوا)، هؤلاء العمال أصبحوا أكثر فأكثر ينظرون الى مواصفات الشرط العمالي باعتبارها إمارات على الضعة والدونية الاجتماعية، وصاروا يحلمون أكثر فأكثر بالخروج من دائرة الحياة العمالية، خلافا لما كان يحسبه مثقفون مغويون وطلبة طهرانيون أوكلوا الى الطبقة العاملة في حد ذاتها مهمة غسل العالم من فساده الجوهري. غير ان تراجع الوجه الاسطوري لشخصية الطبقة العاملة ومرجعيتها، يترك بالتأكيد فراغا ثقافيا، ليس واضحا بعد ما سيؤول اليه، وليس واضحا كذلك كيف سيملأ هذا الفراغ. المؤكد ان الشعبويات تجد مادة لدعوتها في مثل هذه الانقلابات والفراغات.
جريدة السفير
#حسن_الشام (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟