كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 769 - 2004 / 3 / 10 - 10:52
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
وأخيراً تم التوقيع على قانون إدارة الدولة المؤقت في الثامن من آذار 2000, وهو يوم احتفالي بعيد المرأة العالمي, من قبل جميع ممثلي القوى السياسية والمستقلين في مجلس الحكم الانتقالي. وقد احتاج هذا القانون إلى وقت مناسب من أجل إقرار أفكاره وصياغته ثم التوقيع عليه. ويأمل الإنسان أن يبدأ المجتمع بتأمين سبل تنفيذه لصالح التطور الديمقراطي المستقل واستعادة الاستقلال والسيادة الوطنية وإعادة بناء العراق وتحقيق التنمية الاقتصادية والبشرية فيه. إلا أن الأيام الأخيرة التي سبقت التوقيع على هذه الوثيقة التاريخية, بغض النظر عن بعض نواقصها المعروفة لقوى المجتمع المدني الحديث, تميزت بمناورات لم تكن , كما أرى, حكيمة ومناسبة لعراق جديد يسعى إلى بناء مجتمع جديد وعلاقات جديدة بين أفراد وقوى المجتمع.
فالمجتمع العراقي يواجه منذ سقوط النظام الدموي مصاعب جمة, سواء أكانت لأسباب داخلية أم لعوامل تدخل وتأثير خارجي, وسواء أكانت نتيجة طبيعية لتداعيات الحرب وسقوط النظام والإرهاب المتفاقم في البلاد أم بسبب وجود وطريقة عمل وممارسات سلطة وقوات الاحتلال في العراق, أم بسبب الخلافات التي كانت وما تزال تسود بين القوى والأحزاب السياسية العراقية ذات الاتجاهات الإسلام السياسي أم ذات الاتجاهات المدنية الديمقراطية. وهو أمر, كما يبدو لي, طبيعياً ومنطقياً بعد كل الذي عانى منه الشعب العراقي طيلة العقود التي أعقبت سقوط النظام الملكي الإقطاعي الرجعي وعجز القوى السياسية العراقية عن الارتقاء إلى مستوى المسؤولية وبناء الديمقراطية في البلاد وأسس المجتمع المدني الحديث. وإذا كان بروز المصاعب والعوائق كلها أمراً منطقياُ ومحتملاً, فأن من غير المنطقي أن تكون بعض أو كل القوى والأحزاب السياسية العراقية قد عجزت عن فهم دروس الفترة المنصرمة, فترة الجدب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإرهاب والحروب والدمار والموت. فالإنسان العراقي, امرأة كانت أم رجلاً, يمتلك عقلاً وقدرة على التفكير والعقلانية في محاكمة ألأمور والتعرف الدقيق على موازين القوى واتجاهات تطور الأحداث وسبل التأثير فيها, كما يفترض أن تكون الخبرة قد منحة هذا الإنسان الحكمة في التعامل مع الأحداث الجارية واتخاذ المواقف المناسبة في القضايا التي تطرح نفسها على بساط البحث.
لا شك في أن العراق لم يعرف الديمقراطية ولم يتعلم منها الشيء الكثير, وبالتالي لم يتعود عليها, كما أن البعض من العراقيات والعراقيين يرفض الديمقراطية أصلاً لأنه يعتقد بأنها مخالفة للشريعة الإسلامية, وبالتالي يستحي حتى من ذكرها أو النطق بها, والبعض الآخر من طالب بالديمقراطية لنفسه لا لغيره, وكان مع نفسه يضمر ممارسة الاستبداد على غيره. ولكن هذا الجمع الذي تمثل في مجلس الحكم الانتقالي, رغم كل تنوعه واختلافاته قد اتفق على أسس معينة قبل تعيينه في مجلس الحكم من جانب سلطة الاحتلال بإدارة السيد بريمر. واتفق هذا الجمع على احترام الديمقراطية وممارسة حقوق الإنسان والاستجابة للحقوق القومية العادلة والمشروعة ...الخ. ولهذا كان لا بد من الابتعاد عن المناورات في العمل السياسي, ولكن هذا لا يعني بأي حال الابتعاد عن الحوار للوصول إلى اتفاق بين وجهات نظر متباينة إزاء مختلف القضايا المطروحة.
وبعد مناقشات معقدة وتحضيرات مهمة للمبادئ الأساسية التي يراد إجالها في القانون المؤقت ومن ثم في الدستور الدائم لاحقاً, توصل أعضاء مجلس الحكم الانتقالي بالإجماع إلى صيغة مشروع قانون إدارة الدولة خلال الفترة الانتقالية التي يمكن أن يكون أمدها سنتان أو يزيد بقليل, من أجل إدارة وتنظيم شؤون الدولة والخلاص من الإرهاب والتخريب والإعداد للانتخابات العامة وفق جدول زمني اقر من قبل المجلس أيضاً في شهر كانون الأول/نوفمبر 2003, رغم كل التحفظات التي أبديت عليه. وحدد الموعد المناسب للتوقيع على القانون. كل ذلك قد تم بروح ديمقراطية ومحاورات جادة وشاقة ولكنها مثمرة توصل بعدها المتحاورون إلى صيغة لا تعبر عن آراء الجميع ولكنها تشكل القاسم المشترك في ما بينها خلال الفترة الانتقالية. فمثلاً لا يمكنني القبول بأن يكون الإسلام هو دين الدولة الرسمي مثلاً, في وقت لا أرفض أن يكون الدين الإسلامي وبقية الأديان أحد مصادر التشريع في العراق, إذ يمكن اختيار ما هو مناسب منها في العراق الجديد. ولكن الفصل بين الدين والدولة كانت الصيغة المناسبة لهذا العراق الذي يراد إقامته. وهذا الموقف لا يعني بأي حال موقفاً من الدين الإسلامي, بل هو الموقف الذي أجده عقلانياً من وجهة نظري لضمان الاحترام الكامل للدين ولبقية الأديان والمذاهب وتمتعها بالحرية الكاملة, في حين تبقى الدول حيادية إزاء جميع الأديان وتقوم برعايتها كلها ومنع التدخل في شؤونها وحمايتها من أي اعتداء عليها. ومع ذلك وافق القوى العلمانية في المجلس على ما ورد في هذا القانون ذلك بهذا الصدد بهدف دفع المسيرة إلى أمام وبأمل تسلم السلطة من سلطة الاحتلال والعمل الجاد من أجل تطبيع الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق, وبهدف التخلص من قوى الإرهاب والاستبداد والظلام التي تمارس القتل والتدمير في مختلف مدن العراق باسم مقاومة الاحتلال وهي أول من جلب قوات الاحتلال إلى العراق.
ودفعة واحدة قاطع خمسة من أعضاء مجلس الحكم الانتقالي, أطلق على هذه المجموعة "بالشيعة الخمسة", حضور مراسيم التوقيع على المشروع واعتباره وثيقة ملزمة بحجة أن هناك مسائل لم يتم التداول بشأنها, وبالتالي لا بد من بحثها مع المرجع الديني المختص. كان الأجدر بأولئك الذين يريدون الالتزام بالمرجعية الدينية الخاصة بهم والتي يرتبطون بها أن يتشاورا معها قبل الموافقة على مشروع الدستور المؤقت وتحديد موعد التوقيع عليه, لا أن يؤجلوا ذلك إلى حين الاتفاق الكامل عليه وتحديد موعد التوقيع عليه. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هذه الحجة مقبولة؟ لا أعتقد ذلك! إذن, ما هو السبب وراء هذا التأجيل, وهل هي مناورة في إطار ما نطلق عليه باللعبة الديمقراطية؟
أعتقد أن بعض الأخوة من الأحزاب الشيعية, ومعهم بعض من فقد الأرضية الشعبية التي يقف عليها والرصيد الذي يستند إليه في صفوف الشعب, فحاول الانضواء تحت لواء القوى الدينية لينزل في قوائمهم الانتخابية بأمل الحصول على مواقع له ولجماعته في البرلمان العراقي القادم, بعد أن ادعى طويلاً أنه يميل يقف إلى جانب المجتمع المدني العلماني,. يحاول منح المرجعية الدينية الشيعية صوتاً فاعلاً ومؤثراً, وربما كما يعتقدون, وحاسماً في الحياة السياسية والاجتماعية العراقية, في حين أن هذه المرجعية بالذات لم يكن لها دور يذكر في الحياة السياسية في فترة حكم البعث. وهذا يعني أن كل قرار لا تصادق عليه المرجعية الدينية الشيعية لا يمكن تميره, وهو ما ينبغي رفضه منذ الآن وعدم القبول به. يشار إلى أن الاعتراضات التي يجري الحديث عنها تنصب على ثلاث مسائل جوهرية, وهي:
1. حق الشعب الكردي في الاعتراض على أي دستور دائم يرفض حق شعب كردستان العراق في الفيدرالية, وهو أمر سليم تماماً, رغم أنه قد تمت صياغته على أساس ثلاث محافظات دون مبرر, إذ كانت هنا الصراحة والمجاهرة واردة ومطلوبة في آن واحد. إن التجارب المنصرمة تشير إلى ضرورة عدم الاكتفاء على الثقة المتبادلة, إذ كثيراً ما خيب السياسيون العراقيون لوعودهم الكثيرة آمال الشعب الكردي أو الجماهير الشعبية على نطاق العراق كله, وبالتالي لا بد من وضع وإقرار آليات وضوابط تمس مصالح الشعب الكردي والحقوق الثقافية والإدارية للقوميات الأخرى والحقوق الديمقراطية للشعب العراقي بأسره. ولا أجد ما يمكن الاعتراض على حق الفيتو للشعب الكردي في حالة رفض الغالبية العربية لحق هذا الشعب في التمتع بفيدرالية ضمن الجمهورية العراقية, إذ أن الاعتراف بحق تقرير المصير لا يعني أن كل الشعب العراقي يصوت على هذا الحق, بل يعني حق الأكراد في تقرير مصيرهم بأنفسهم, وليس هذا بدعة, بل حقاً مضموناً في لوائح ومواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان وعلينا الاعتراف به والتعامل معه إنسانياً وحضارياً لكي لا نرجع إلى الوراء ونعيد المآسي التي مرّ بها الشعب العراقي طيلة العقود الثمانية المنصرمة منذ تأسيس الدولة العراقية وإلحاق ولاية الموصل بالعراق في عام 1926. إن من واجب القوى الديمقراطية العراقية أن توضح للجميع لماذا طالب الأكراد بحق الاعتراض أو الفيتو على الدستور العراقي الدائم الذي يراد وضعه في حالة عدم تضمينه الحق في الاستمرار بالفيدرالية والاستفتاء عليه على نطاق العراق كله والموافقة عليه من الغالبية العربية والتركمانية على سبيل المثال لا الحصر. إن قاعدة المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين لا بد من أخذها بنظر الاعتبار بعد أن لدغ الأكراد عشرات المرات.
2. موضوع نسبة تمثيل المرأة في الهيئات السياسية للدولة العراقية, حيث قرر مشروع قانون إدارة الدولة المؤقت حصة قدرها 25 % لنسبة سكانية تصل إلى أكثر من 53 % من إجمالي سكان العراق أو تزيد حتى عن ذلك. لقد كان المفروض منح المرأة حصة أعلى بكثير من هذه النسبة وفق ما اقترحته السيدة الدكتورة رجاء الخزاعي في مجلس الحكم الانتقالي, وهي 40 %, ولكن المساومات, إلى جانب رفض بعض الذكور وبعض النساء هذا المقترح, هي التي قادت إلى تثبيت هذه النسبة. ومن المعروف أن المجتمع يضع هذه النسبة كهدف يسعى إليه, وهذا لا يعني بالضرورة وجود إمكانية فعلية في الوقت الحاضر, رغم تصوري عن وجودها فعلاً, وبالتالي فالاعتراض إن وجد حقاً فينطلق من مواقع الذكورية ومن المواقع التي تدعي بأن المرأة ناقصة العقل وقليلة القدرة على التفكير والمشاركة, كلنا يعرف بان المرأة لا تختلف عن الرجل لا عقلاً ولا ذكاءً ولا قدرة على أداء المهمات والمبادرة والإبداع. لا شك في أن واجب احترام الرأي الآخر الآخرين إزاء المرأة وارد في كل الأحوال, ولكن ليس من حق بأي حال أن يحرم المرأة من حقوقها المشروعة التي ضمنتها لها اللوائح والمواثيق الدولية أو التقليل من شأنها ودورها في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعامة في المجتمع, إنها نصف المجتمع وينبغي لها أن تلعب هذا الدور فعلاً, بغض النظر عن التباين في وجهات نظرنا بهذا الصدد.
3. أما المسألة الثالثة فيبدو أنها تدور حول الموقف من رئاسة المجلس أو مجلس السيادة للفترة الانتقالية, حيث تقرر أن يكون المجلس ثلاثي العضوية على الطريقة التي تعامل بها قائد ثورة تموز عبد الكريم قاسم. إن من المؤسف حقاً أن تسير الأمور في العراق على نمط طائفي غير معقول وغير مقبول يحس به الإنسان ويعيشه يومياً, وهو الذي سيشدد من المشكلات التي يعاني منها الشعب رغم كونها ثقيلة حتى دون هذه الطائفية المقيتة التي يراد رفع رايتها في العراق, رغم ادعاء كل قوى الإسلام السياسي بأنها لا تلتزم بالطائفية ولا تعمل بها, ولكن الواقع يدلل على أن بعضها يقوم على هذا الأساس, وإلا لكان الأجدر بها أن تشكل أحزاباً إسلامية سياسية يلتقي عندها المسلمون من جميع المذاهب دون تمييز, لا أن تقوم على أساس مذهبي, كما عليه الحال في الوقت الحاضر.
إن العراق بحاجة إلى الديمقراطية وإلى أن نفهم ونمارس قواعد اللعبة الديمقراطية بحرص كبير على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية بعيداً عن أجواء المناورات التي لا تنفع أحداً وتقود إلى بروز مشكلات جديدة تساعد القوى المخربة والإرهابية في زيادة مساعيها لتهديم العراق الجديد وتحويله إلى جحيم لا يطاق.
إن العراق أمام مرحلة تاريخية جديدة يأمل الإنسان أن نكون جميعاً في مستوى المهمات والمسؤوليات التي تواجه الشعب العراقي بكل قومياته واتجاهات الفكرية والسياسية, وبكل أحزابه السياسية الوطنية وقواه المستقلة, وعلينا أن نتخطاها بنجاح ونسقط الورقة التي يلعبون عليها اليوم, وخاصة الورقة الطائفية.
برلين في 8/3/2004
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟