|
الدين.. والموروث السياسي والاجتماعي
فاخر السلطان
الحوار المتمدن-العدد: 2498 - 2008 / 12 / 17 - 09:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يعتقد العديد من المفكرين بأن الحقائق الدينية لايمكن إخضاعها للإثبات. ومن هؤلاء ابن سينا الذي يقول أن "المعاد لايمكن إثباته بالدليل العقلي". والأمر نفسه ينطبق على التوحيد والنبوة. بالتالي ظهر في الوسط الفكري الديني جهد لإلغاء الدليل العقلي كشرط للاعتقاد بالحقائق الدينية وتم وضع الإيمان بديلا عنه والتأكيد على أن الحقائق الدينية وتعاليمها لاعقلية. بعبارة أخرى، رأى البعض أن الإيمان بالله لايستند إلى العقل ولايحتاج إلى دليل، وأن من يقيس التعاليم الدينية بميزان العقل كأنه يضحي بالإيمان بالله في مقابل العقل، وأنه في مسألة الاعتقاد بالله وبالحقائق الدينية يجب التعلّق بحبل الإيمان لا بحبل الأدلة العقلية. وقد كان الرئيس الثالث للولايات المتحدة توماس جيفرسون، المفكر السياسي الأمريكي الشهير في العصر المبكر للجمهورية الأمريكية وأحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، يقول بأن التعاليم الدينية التي وردت على لسان المسيح عيسى بن مريم يستطيع الأطفال أن يفهموها، في حين أن آلاف الكتب التي كتبت حول إفلاطون لم تستطع أن توضح مقاصد هذا الفيلسوف اليوناني. فالإيمان يحقق غاية الاعتقاد من دون الاستناد إلى أدلة وبراهين. أو بجملة أخرى، بسبب عدم وجود دليل عقلي يثبت وجود الله، فإن الإيمان بالله يتحقق. وفي اعتقاد بعض رجال الدين المسيحيين تعتبر المسيحية "أفضل الأديان"، لأنها لاتثبت الحقائق الدينية بالدليل العقلي، إذ كلما ابتعد الدليل العقلي عن الحقيقة الدينية كلما أصبح الإيمان بها أقوى. من جانب آخر، يعتقد أنصار كل دين بأن دينهم هو فقط دين الحق، لأنهم "واثقون ومطمئنون" من تعاليمهم الدينية. لكن هذا الإطمئنان لايعني أن الأدلة العقلية هي التي ساهمت تأكيد "صدق" تلك التعاليم. فممكن للاعتقاد أن يكون ثابتا وقويا وصادقا، بينما لاتوجد أدلة عقلية تؤكد صدق هذا الاعتقاد، لأن "صدق" أي شيئ يعتمد على وجود هذا الشيئ على أرض الواقع. أما إذا لم يوجد ما يثبت هذا الشيئ على أرض الواقع فإنه لن يكون صادقا، لكنه لن يمنع أحدا من أن يؤمن به. فلا توجد أدلة وبراهين عقلية تؤكد صدق الحقائق الدينية، لكن ذلك لايمنع الإيمان بها. بالتالي يستطيع الباحثون أن يبحثوا في ادعاءات صدق الأدلة العقلية الساعية إلى إثبات الحقائق الدينية، لكنهم لايقتربون من منطقة الإيمان بتلك الحقائق، بسبب عدم خضوع مسألة الإيمان للأدلة والبراهين العقلية. فالإيمان بوجود الله هو بمعنى عدم إثبات ذلك بالأدلة والبراهين العقلية. والسؤال الذي نطرحه هنا هو: هل إسلام المسلمين قام على الأدلة والبراهين العقلية؟ أم قام على "الإيمان"؟ أم على التربية والتقليد، وعلى الموروث السياسي والاجتماعي الديني؟ مع العلم أن المفكرين والفلاسفة الإسلاميين لم يستطيعوا حتى الآن أن يطرحوا أدلة وبراهين يستطيعون من خلالها إثبات الحقيقة الدينية. يشير الكثير من الفقهاء والمفسرين والفلاسفة الإسلاميين إلى أن الدين الإسلامي يتألف من مجموعة من الحقائق المستندة إلى الأدلة العقلية، وأن اعتقاد المسلمين بدينهم قام على براهين ثابتة غير قابلة لأي خدش أو نقد، في حين يؤكد الكثير من الباحثين بأن إسلام الغالبية العظمى من المسلمين جاء عن طريق التربية والتقليد المتوارث، وأن أسبابا سياسية واجتماعية دينية ساهمت في ارتباط المسلمين بالدين الإسلامي وفي تشكيل هويتهم الدينية والمذهبية. بمعنى أنه كان من الممكن للغالبية العظمى من المسلمين أن يكونوا مسيحيين أو يهودا أو أي شيئ آخر لو كانت تربيتهم الدينية وتنشئتهم مختلفة، كما كان من الممكن أن تساهم الأسباب السياسية والاجتماعية الدينية المختلفة في تغيير هويتهم الدينية. يشير تاريخ المسلمين إلى أن الكثير من الشعوب التي أسلمت في زمن النبي محمد والخلفاء الراشدين إنما أسلمت بسبب الفتوحات العسكرية، أو لعدم دفعها الجزية، أو لأسباب سياسية واجتماعية مختلفة. بمعنى أنها لم تسلم استنادا إلى الأدلة والبراهين العقلية. ويشرح رجل الدين الشيعي البارز محسن كديور كيف أدخل الشيعة مفهوم "عصمة" الأئمة الإثني عشر إلى المذهب في حين لم يكونوا يعتقدون به في القرون الهجرية الأولى. ويقول رجل دين شيعي آخر هو الباحث حسين مدرسي الطباطبائي أن الشيعة المتشددين أدخلوا إلى المذهب الكثير من الإضافات، من ذلك عيد الغدير الذي سمّيَ "عيدا" منذ القرن الرابع الهجري، وهو ما وظّف سياسيا واجتماعيا لتقوية موقف اتباع المذهب تجاه التحديات التي كانوا يواجهونها، كذلك أدخلوا "زيارة عاشوراء" التي يعتقد باحثون ورجال دين شيعة بأنها تفتقد إلى سند تاريخي. إن تلك المسببات ساهمت بشكل لاجدال فيه في تقوية الرابط الديني للمسلم الشيعي وفي تشكيل هويته في مواجهة التحديات المذهبية، ومن كان يقف في الضد من تلك المسببات أو يشكك فيها كان يتعرض إما للتكفير أو للاستتابة. (حينما أثبت الباحث في الحوزة الدينية الشيعية سيد مرتضى العسكري أن زيارة عاشوراء تفتقد إلى سند تاريخي، اعتبر أحد مراجع التقليد الشيعة أن أفكار العسكري منحرفة، وأن زيارة عاشوراء وتوجيه اللعنات لأعداء أهل البيت هي جزء من عقائد الشيعة الإثني عشرية، وأن من ينكر ذلك عليه الاستغفار لكي تنزل عليه رحمة الله). إن المسببات السياسية والاجتماعية التي جاء بها التاريخ الإسلامي ساهمت في تشكيل الهوية الدينية الإسلامية، الشيعية والسنية، بالتالي هي لاتنتمي إلى الدين الإسلامي إنما إلى تاريخ المسلمين. ومن هذا المنطلق لم يكن الخلاف بين الأديان أو بين المذاهب داخل الدين الواحد جزءا من الحقائق الدينية، بمعنى أن الخلاف لم يكن نزاعا بين الحق الديني والباطل الديني، إنما ساهمت تلك المسببات في تصويره بأنه صراع حول الحق الديني. وذلك لأن الموضوعات التي تستند إليها الصراعات الدينية هي التي تنتمي إلى الواقع، في حين أن الحقائق الدينية الإيمانية ليس من الضرورة وجودها على أرض الواقع.
#فاخر_السلطان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الصراع بين الوصاية والتنوّع
-
الدين.. والدليل العقلي.. والإلغاء
-
حول الدين والاعتقاد والدليل العقلي: الإمام المهدي نموذجا
-
الفقهاء.. والعالم الجديد
-
الإسلام.. والعالم القديم
-
حول جدل -التبشير- السني والشيعي
-
شعبية رجال الدين
-
آل الصباح.. والمطلق الديني.. ومستقبل العراق
-
في الجدل حول الدين والتديّن
-
الديموقراطية.. والدين والدنيا
-
حرية الفكر ضحية لهيمنة الإسلام السياسي
-
نظام التقليد.. والتبعية
-
الحرية تُنتهك باسم -لجنة الظواهر السلبية-
-
العلمانية.. هل تصلح لمجتمعاتنا؟(2 – 2)
-
العلمانية.. هل تصلح لمجتمعاتنا؟ (1-2)
-
بين معيار الحقيقة.. ومعيار الحرية
-
الإنسان.. وفصل الدين عن السياسة
-
في صراع الدين والحداثة
-
لنُسقط العمامة المسيّسة
-
الإسلاميون غير تواقين للديموقراطية
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|