منذر بدر حلوم
الحوار المتمدن-العدد: 768 - 2004 / 3 / 9 - 09:12
المحور:
الادب والفن
يقود التعرف على سيرة الكاتب فلاديمير بوكوفسكي الإشكالية إلى أسئلة إشكالية من نمطها: هل يكفي, مثلا, أن تكون معارضا لنظام تعسفي حتى تكون أنت ديمقراطيا, أو محتجا على انتهاكات حقوق الإنسان حتى تكون إنسانيا؟ من الواضح أن ذلك لا يكفي, بل يبدو ذلك أكثر وضوحا على خلفية تجربة بوكوفسكي. فقد كان واحدا من أهم نشطاء ما كان يسمى بـ ( حركة الدفاع عن حقوق الإنسان في الاتحاد السوفيتي ). ولد بوكوفسكي عام 1942, و اعتقل مرّات عدة, وأمضى معظم حياته البالغة في السجن, إلى أن تمّت مبادلته في كانون الأول عام 1976 بالسكرتير الأول للحزب الشيوعي التشيلي لويس كورفالان, وكان بوكوفسكي يمضي آنذاك حكما بالسجن لمدة سبع سنوات مع النفي اللاحق لمدة خمس سنوات. وقد بدأ نشاطه المعارض مذ كان تلميذا في الصف العاشر بإصدار مجلة نشر فيها مع زملائه في المدرسة أعمال الأدباء المستبعدين من البرنامج المدرسي, ثم بعد عام واحد من تسجيله في كلية البيولوجيا في جامعة موسكو الحكومية فصل جراء نشره, دون موافقة, مجموعة " فينيكس ". وكان من منظمي لقاءات ساحة ماياكوفسكي والمشاركين فيها, حيث كان يلتقي الشعراء لإلقاء قصائد معارضة للنظام السوفيتي. كما شارك عام 1965 في مسيرة احتجاج للدفاع عن الكاتبين سينيافسكي أ.د , و دانييل يو. إم. ثم بمسيرة احتجاج أخرى على تدخل الجيش السوفيتي في تشكيوسلوفاكيا عام 1968. من أعماله المنشورة: (وتعود الريح)– نيويورك ,1978, و(رسائل رحالة روسي)- نيويورك ,1981, و( دعاة السلم ضد السلم) – باريس ,1982.
يستوقف كتاب بوكوفسكي " وتعود الريح " الذي يلخص تجربته مع معارضة النظام السوفيتي قارئه عند أسئلة جدية عن وظائف الأدب, وخاصة ما يمكن تسميته بالأدب المناصر للحرية المناوئ للتعسف والطغيان, بينما تستوقف سيرته التالية قارئها عند معنى الحرية وحقوق الإنسان التي يتناولها هكذا أدب. الواقع أنني, رغم اعتراضي الجدي على الكثير مما قاله بوكوفسكي في مواقع أخرى, كنت من المثمنين عاليا لكتاب " وتعود الريح ", وما أزال نظرا لأهمية الوظائف التي يؤديها, ومنها كسر القناع الذي تتجمل به الأنظمة المستبدة, وتعريتها لتظهر على حقيقتها, والعمل على نزع حالة الرعب التي تسعى الأنظمة التعسفية لزرعها في الناس, فالناس الذين يستوطنهم الخوف يديرون ذاتهم كما يريد الطغاة. فالخوف الذي يستبد بالإنسان يزرع فيه سجّانا يخدم الطاغية, ويجعل الإنسان, تلقائيا, عبدا يقاد بالإيحاء. وليس أنجع ضد التعسف من أن يتخلص الناس من خوفهم. " فلا البندقية ولا الدبابة ولا حتى القنبلة الذرية تخلق السلطة, ولا السلطة تعتمد عليها. فالسلطة تأتي من الإذعان, من الموافقة على الخضوع, لذلك فكل من يمتنع عن الاستسلام للقمع يقلّص من حجم هذا القمع ". وأهم ما في كتاب (وتعود الريح) روح التحدي, تحدي السجن والتعذيب, التحدي الذي يكاد يتحول السجن معه إلى لعبة يقهر فيها السجّان وليس السجين.
"من الأصح أن نحكم على البلد بسجونه لا بإنجازاته " يقول بوكوفسكي ذلك منطلقا من أن السجون تعرف على حقيقتها من زنزاناتها الافرادية, فالافرادية هي سجن السجن, هي روح السجن, كما السجن هو روح البلد. أمّا الهدف من السجن وما فيه من تعذيب فليس إرعاب السجين, بقدر ما هو إرعاب المجتمع " فالمجتمع كلما أرعب نفسه أكثر, عذّب المعتقلين أكثر. أمّا السلطة فتتعطش إلى مثل هذا الرعب". وبوكوفسكي محق في ذلك, فحالة الرعب تسوّغ للناس أن يكونوا ضعفاء خانعين فيتمسكون بها, بل إن رعبهم يضيف إلى واقع أهوال السجن أهوالا وإلى واقع عذاباته عذابات مضاعفة. أمّا أولئك المغايرون الرافضون فإذا ما اعتقلوا وعذّبوا اطمأن الناس إلى صحة اختيارهم الصمت على الكلام, والإذعان على الرفض, حتى إذا ما فُتِك بالمختلفين الذين يقولون (لا) اطمأن الناس إلى أنهم أسوياء واعتدّوا بأنفسهم. لذلك يكون المجتمع أكثر وطأة على المعتقلين من السجّان, يتناقل أخبارهم متمنيا لهم, في سرّه, المزيد من القهر والعذاب. بل تبلغ حاجة الخانعين إلى قمع وتعذيب غيرهم درجة يحضر معها ما يمكن تسميته بالطلب الاجتماعي على القمع. ذلك أن مجتمعا من كائنات عجيبة تديره غريزة البقاء لا يركن إلى الراحة ما لم يكن جميع من فيه من صنف واحد, سعيا نحو ذات جمعية منسجمة, أي خانعة.
يقول بوكوفسكي في(وتعود الريح) ما مفاده أن السلطة لا تحتاج إلى أن يؤمن الناس بالأوهام التي تسوّقها, إنما تحتاج إلى أن يذعنوا لها, ألا يخالفوها, ذلك إذا لم يتفقوا معها, أن يسكتوا عما تقوم به فيكون لها شأنها ويكون لهم شأنهم. ولكن السلطة لا تكتفي بذلك, بل هي تطالب المذعنين الصامتين مشاركتها في حفلات المبايعة والمباركة والتمجيد, تطلب منهم, كما يقول الكسندر شميمان , " حين يصيح كل شر من الشرور أنا الخير! بايعوني, أن يبايعوه صائحين, مبتهجين: أنت الخير, أنت الحرية, أنت السعادة ". وحينئذ يكون مطلوبا من الناس ليس فقط أن يصمتوا, بل أن يتحوّلوا إلى أدوات مطواعة تفعل ما يطلب منها دون أن تقسر على ذلك. وذلك ما يفعله تلقائيا الخانعون, فكل إنسان لا يعتد بنفسه كشخصية مستقلة متفردة يكون, بالضرورة, أداة عامّة بيد غيره. وأمّا من تديره غريزة الخوف فلا يكون شخصية, ولا يكون غير أداة مهما بلغت درجة تحصيله العلمي أو بلغ رقم حسابه المصرفي. ولذلك ليس أخطر على السلطات التعسفية من أن يعي الناس أن إنسانيتهم تكون بتفردهم, بتمايزهم, باختلافهم الواحد عن الآخر, باستقلال شخصياتهم, وذلك كله لا يكون إلا في وسط من الحرية. أمّا حيث يسود الخوف, وحيث تدير غريزة البقاء الناس, فعن أية حرّية يمكن الحديث وعن أي تمايز أو أية شخصيات!؟
تصاغ القوانين في الدولة الاستبدادية بحيث تقود الجميع لأن يكونوا مذنبين أمام الدولة, مما يتيح معاقبة أي شخص, " ويقف خلف ذلك فلسفة نمطية, فلسفة نظام حكومي سلطوي ". وهذا يعني أن يكون الجميع مرتكبين بدرجة ما, وأن تكون مرتكبا تحت الطلب أمر يجعلك تحت قبضة الدولة, فالتهديد هنا يتجاوز المعارضة السياسية, ليبلغ الجميع. وهذا ما يسهّل استخدام الناس لأغراض أخرى, ويجعلهم أدوات في منظومة القمع " فما الذي لا يجعل صناعة الأسلاك الشائكة جريمة, بينما يجعل العمل كسجّان جريمة؟ فالجميع بدرجة أو بأخرى مشاركون في جرائم السلطة. الجميع يعملون في مؤسسات حكومية مدعّمين بذلك المنظومة, وينتجون القيم المادية من أجلها, والجميع يرفعون أيديهم بالموافقة في الاجتماعات, ويصوّتون بالموافقة في الانتخابات, والأهم من ذلك أنهم لا يعترضون ". وإذا سألتهم عن مشاركتهم في جرائم السلطة يبدون استغرابا, فهم شرفاء طيبون ويقومون بوظائف مدنية لا علاقة لها بالقمع, أمّا مشاركتهم في حياة الحزب الواحد وفي لعبة الانتخابات والتصويت فحاصل تحصيل ولا يغيّر الامتناع عنها في الواقع شيئا. يقول الواحد منهم: " ما الذي أستطيع فعله وحدي ؟ (لو فعل الجميع لفعلت)؛ أو: إذا لم أكن أنا, فغيري (والأفضل أنا لأنني أقوم بشرور أقل)؛ أو: في سبيل الشيء الأساسي يجدر تقديم تنازلات وتضحيات". وكم هم كثر أولئك الذين لا يخطر ببالهم أن منظومة الاستبداد لا تقوم إلاّ بالناس, بجميع الناس الخاضعين لها بطريقة أو بأخرى, تقوم بالصمت واللامبالاة كما تقوم بالمشاركة والموافقة! وكم هم كثر أيضا أولئك الذين يعرفون لكنهم يؤثرون السلامة على فعل أي شيء يضعف الاستبداد وإن يكن الامتناع عن التصفيق. وقد لا يكون ذلك قليلا حين يكون التصفيق ضجيجا يكتم صراخ البعض وعويل البعض الآخر. وهنا يحضرني ما قاله سولجينيتسين في نهاية خطبة نوبل:" بإمكان أي إنسان بسيط جريء أن يخطو خطوة بسيطة – رفض السير في مسيرة النفاق, رفض مساندة الأعمال الكاذبة! ليعم الكذب العالم كله وليسُد النفاق الكون كله ولكن ليس عبري أنا. أمّا الكتّاب والفنانون فبإمكانهم أكثر من ذلك, بإمكانهم الانتصار على النفاق, فبالصراع مع النفاق انتصر الفن دائما وينتصر دائما ". كنت أود لو أختم بقول سولجينيتسن, لكن ثمة تساؤلات لا تكتمل لوحة بوكوفسكي دونها, تساؤلات بعض إجاباتها كان في إسرائيل وبعضه الآخر في علاقته ببعض مصاصي دم الروس من أمثال بيريزوفسكي. أتساءل: أليست الحرية قيمة إنسانية عليا ؟ ولمّا هي كذلك, فهل يجوز أن تخضع لاعتبارات أدنى منها – دينية أو قومية فتكون حرّية للإسرائيليين ولا تكون للفلسطينيين؟ وإلا كيف تريدنا أن نفهم موقفك من (سلام الإسرائيليين مع الفلسطينيين) الذي عبرّت عنه في المقابلة التي أجراها معك في إسرائيل ميخائيل غينديليف عام 1996 ؟ ثم, أيجوز أن تخضع حقوق الإنسان لاعتبارات عرقية فتكون حقوق إنسان دون الآخر؟ أم أن النضال من أجل حقوق الإنسان عمل سياسي لا حاجة به إلى الأخلاق ؟ أم لعل الإنسان نفسه يكون, من منظوركم, مقولة سياسية مما يسوّغ إخضاعه للمفاضلة والتمييز وحسابات الربح والخسارة؟ فإذن, عن حقوق أي صنف من الناس كان يتم الدفاع, وعن حرية من ورفاه من يدور الحديث اليوم؟! أخيرا, لعلّك لم تنس أن قصيدة يوري غالانسكوف التي أوردتها في (وتعود الريح) تدعو إلى الحقيقة , وإلى تمزيق الطرق السوداء المنسوجة من رياء!!
- انتهى –
اللاذقية , سوريا:هاتف433126- (41 - 00963)
#منذر_بدر_حلوم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟