رأته في حالة من الاستغراق العميق، فأشفقت عليه من أفكاره. تجرأت بتقديم فنجان قهوته المفضل وجلست بجواره صامتة حتى انتبه لها وابتسم.. بادرته السؤال عما يشغله، فقال ببطء "أفكر في قضية ما يسمونه إصلاح ولا أدري إن كان ملهاة لامتصاص غضب الناس أو الضحك على الأمريكان أو أنها وسيلة أمريكية لإضاعة الوقت".
فقالت بصوت هادئ "كلنا نريد الإصلاح وأرجو أن تكون السلطة جادة هذه المرة".
فتذكر كيف كان مساعد النائب العام يستجوبه حول رسالة وجهها إلى الرئيس عرفات يطالب فيها باحترام القانون ومواجهة الفساد والتوقف عن التعذيب واحترام المبدأ الديمقراطي في الفصل بين السلطات.. وكيف دخل عليهما فجأة النائب العام الذي التقط على الفور محضر التحقيق وعيونه تلتهم سطوره وتتبدل ملامح وجهه وألوانه مع كل كلمة، حتى صاح فجأة في مساعده "ولماذا تسأله عن هذه الرسالة.. وتسجل إجاباته أيضاً.. عليك أن تواجهه بالتهمة الأخرى"... وعلى الفور قام المساعد من مقعده كمن لدغه ثعبان وأحضر مغلفاً ادعى أنهم وجدوه في أحد أدراج مكتبه ثم وجه إليه تهمة الاتجار بالحشيش!!.
وتذكر كيف لم يستطع تمالك نفسه من الضحك برغم ما كان فيه من ألم جسدي ونفسي بسبب الضرب والمعاملة السيئة، فلم يكن للمكتب الذي ذكره مساعد النائب العام أدراج - وقد أعترف له مؤخراً أحد الضباط العاملين في مكافحة المخدرات بأن النيابة قد طلبت منه ذلك الحشيش لاستعماله في القضية - وتذكر كيف قال للنائب العام يومها "يا أستاذ إن ما تفعلونه سيضر بالسلطة الفلسطينية أولاً وبسمعة الشعب الفلسطيني الذي سيستغل أعدائه هذه المهزلة ليقولوا أنه لا يستطيع حكم نفسه بالقانون.. وأرجوك يا أستاذ أن تعود إلى القيادة وتوضح لها أخطار ما تقومون به من اختراقات للقانون بدلاً من هذه الفصول المسرحية".
وتذكر أيضاً كيف ارتفع صوت النائب العام وهو يصيح بكل ثقة "نحن دولة القانون.. ولا يهمنا سوى كلمة الحق.. وسنقدمك إلى المحاكمة العادلة لتقول كلمتها فيك"!!
وقال "تذكرت ما فعلوه بي"، فوضعت يدها على يده وهي تقول بحنان بالغ وتأثر واضح "لقد أثرت عليك كثيراً تلك الحادثة المؤلمة وللأسف فإنهم لم يمتلكوا شجاعة الاعتذار".
فرد قائلاً "لم أكن الوحيد الذي تعرض لتهجم السلطة، فقد تعرض راجي الصوراني وخضر شقيرات وعبد الستار قاسم وعبد الجواد صالح لفنون متعددة من الإهانة والشتم والسب والضرب والاعتقال بل وإطلاق الرصاص، وتعرض أصحاب بيان العشرين من أعضاء المجلس التشريعي إلى مثل ذلك.. وكنا جميعاً ندافع عن القانون والعدالة وعن حقوق الناس التي كانت تعتقل وتعذب - وتقتل أحياناً - دون وجه حق، وكان عجز المجلس التشريعي سبباً أن يقدم حيدر عبد الشافي استقالته منه وقد اكتشف أن هذا المجلس لم يكن سوى جزءاً من المسرحية، فما الذي جدّ إذن؟ ما هذه الدعوى إلى الإصلاح التي تأتي من قيادة السلطة ذاتها ومن المجلس التشريعي؟ أليس كل ذلك هو ما كانت قيادات المجتمع المدني تصرخ مطالبة به وباحترام حقوق الإنسان والفصل بين السلطات واحترام القضاء؟، فكيف نعرف الحقيقة إن كانت هذه الدعوة للإصلاح هي صحوة مفاجئة للضمير؟ أم أنها وصول البصيرة على قطار الهزيمة؟".
فقالت "إن معظم الناس يحتاجون إلي قليل من الملح حتى يستطيعوا ابتلاع هذه الوجبة التي تبدو لهم غريبة الطعم، ويا للمفارقة الساخرة أن يطالب شارون أحد زعماء التوجه العنصري في إسرائيل، وجورج بوش الذي يهادن العسكرية الباكستانية والروسية وغيرها من الدول البوليسية بالإصلاح الديمقراطي!".
فرد قائلاً "ألم يكن من الأشرف للسلطة أن تستجيب للناس بدل أن تضع نفسها اليوم في موقف وكأنها تستجيب فقط لما تطلبه أمريكا".
فقالت "دعنا نتمنى أن يكون ذلك كله بداية لاستعادة مصداقية السلطة التي فقدتها داخلياً وخارجياً، وأعتقد أن إثبات جدية السلطة يكون بتعيين رئيساً للوزراء، ووزارة جديدة تماماً تمثل الوعي العميق بالديمقراطية وبالقانون وباستراتيجية السلام".
فقال "إن الأهم هو أن يكون هناك نظام بعد الفوضى وأن تبدي السلطة احتراماً للقانون والقضاء المستقل بوضع أشخاص يمتلكون الأهلية المهنية والشجاعة أيضاً في مناصب القضاء والنيابة العامة، وأن تلتزم السلطة باحترام حرية النشر والتعبير دون ملاحقة أو إهانة ودون إغلاق للصحف أو مطاردة للصحفيين والكتاب أو أعضاء المجلس التشريعي أو نشطاء حقوق الإنسان".
فقالت "إني أتمنى أن تقوم السلطة بإثبات جديتها لو قامت بمعاقبة ضباطها ومسؤوليها الذين قاموا بانتهاك القانون واستباحة كرامة المواطن وأرض الوطن، وحين تضرب لنا السلطة بقياداتها المثل في احترام النظام العام".
فقال "وماذا عن نوايا أمريكا من وراء كل ذلك؟".
فقالت "إن هناك الكثير من الأسئلة حول النوايا الأمريكية بالأساس وحتى إذا أصبحت السلطة على المقاس، فهل تستطيع أمريكا الضغط على إسرائيل لإنهاء الاحتلال وترجمة "رؤية جورج بوش في إقامة دولة فلسطينية" إلى "حقيقة"؟".
وقال "هناك أسئلة أيضاً فيما يتعلق بالإصلاح ذاته، فهل ستصر أمريكا على السلطة أن تبقي على المحاكم العسكرية المناهضة لأبسط حقوق الإنسان حتى يستمر استعمالها ضد من تسميهم أمريكا بالإرهابيين ونسميهم في فلسطين بالمناضلين؟".
وبدا عليها الاستغراق في التفكير حتى تمتمت قائلة "ليس أمامنا سوى خيار إعطاء هذه الفرصة الأخيرة للسلطة، وعلينا أن نصبر ونرى وإن غداً لناظره قريب".
*مدير مركز غزة للصحة النفسية، وناشط في مجال حقوق الإنسان. وقد سبق له أن اعتقل من قبل السلطة الفلسطينية بسبب انتقادات كان قد وجهها، وحاولت النيابة العامة توجيه تهمة الاتجار بالحشيش!!