|
جائزة التسامح
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 2494 - 2008 / 12 / 13 - 07:35
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
في ختام اجتماعها في لبنان (برمانا) أقرت الشبكة العربية للتسامح، وهي منظمة إقليمية غير حكومية تأسست من شخصيات ثقافية وأكاديمية وحقوقية، وثيقة برنامجية اعتبرت بمثابة مرجعية فكرية استندت إلى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والعديد من الوثائق والمعاهدات الدولية ذات الصلة. كما أقرت منح جائزة سنوية تقديرية، وهي عبارة عن وسام ومكافأة مالية رمزية لإحدى الشخصيات العربية، ممن لها حضور اجتماعي أو إبداعي أو أكاديمي أو إعلامي أو مساهمات ونشاطات فكرية وعملية، بما يخدم قيم التسامح ويعزز رصيدها المعنوي والأخلاقي من جهة، والحقوقي والقانوني من جهة أخرى. ولعل هذه هي المرة الأولى التي تؤسس فيها شبكة عربية تهتم بالتسامح، لاسيما بعد أن طفح كيل مجتمعاتنا من التمييز والتعصب والتطرف والعنف والغلو، وإلغاء وإقصاء الآخر ومنع حقه في الوجود والتطور أحياناً. وإذا كانت قضية التسامح حديثة في مجتمعاتنا العربية وهي ما تفتقر له وما تحتاج إليه، فإنها ما تزال محدودة على الصعيد العالمي، وإن كانت بعض المجتمعات قد وصلت إليها بعد معاناة طويلة. ولعل إعلان منظمة اليونسكو بشأن التسامح كان قد حثّ المجتمع الدولي على الاحتفال بيوم التسامح من كل عام، وذلك بتحديد يوم 16 نوفمبر باعتباره اليوم العالمي للتسامح ودعا إلى اعتماد أساليب منهجية وعقلانية لتعليم التسامح، وذلك بعد تشخيص أسباب عدم التسامح أو اللاتسامح، الثقافية والاجتماعية والدينية والسياسية وغيرها، أي أنه دعا إلى فحص وتدقيق الجذور الرئيسية للتمييز والعنف والاستبداد في المجتمعات، لاسيما مع الآخر المختلف، دون تأثيم أو تحريم أو تجريم. ومنذ عام 1996 والأمم المتحدة، استناداً إلى إعلان اليونسكو 1995، تحتفل باليوم العالمي للتسامح، الذي يعني فيما يعنيه أن المجتمع البشري بحاجة إلى نشر وتأصيل قيم التسامح كمنظور إنساني وأخلاقي، لا يمكن تقدّم المجتمع الدولي والإنساني من دونه، إذ لا يمكنه الخروج من غلواء التطرف والتعصب واللاتسامح، إلاّ بتعميم فكرة قبول الآخر، حتى وإن تناقض مع رأي «الجماعة»! وحسب إعلان اليونسكو فالتسامح يعني: الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا، وهو يتعزز بالمعرفة والانفتاح والاتصال مع الآخر وحرية الفكر والضمير والمعتقد. التسامح لم يعد واجباً أخلاقياً فحسب، بل هو فريضة سياسية وقانونية في الوقت نفسه، وقد أصبح حاجة ماسّة وليس ترفاً فكريا، فنقيضه هو اللاتسامح والتعصب والاستئثار ورفض الآخر. والتسامح يعني اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخر في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية. وبهذا المعنى فهو مسؤولية قيمية وواقعية للإقرار بالحقوق والتعددية والديمقراطية وحكم القانون، وهو أمر ينطوي على نبذ الدوغمائية والاستبدادية، خصوصاً بالإقرار بحق الإنسان في التمسك بمعتقداته، وهو إقرار ناجم عن أن البشر المختلفين في طباعهم ومظاهرهم وأوضاعهم وسلوكهم وقيمهم وقومياتهم ودياناتهم ولغاتهم وأصولهم، لهم الحق والمساواة في العيش بسلام، ولعل الخطوة الأولى لتعميم مبدأ التسامح حسب إعلان اليونسكو هي «تعليم الناس الحقوق والحريات التي يتشاركون فيها»، وذلك كي تحترم هذه الحقوق والحريات، فضلاً عن تعزيز عزمهم على حماية حقوق وحريات الآخرين. وإذا ما استعرضنا العوامل الكابحة لنشر قيم التسامح، فعلى الصعيد الفكري ستعني حجب وتحريم حق التفكير والاعتقاد والتعبير لدى الآخر، بفرض قيود وضوابط تمنع أو تحول دون ممارسة هذه الحقوق، وأحياناً تنزل أحكاماً وعقوبات بالذين يتجرأون على التفكير خارج ما هو سائد أو مألوف سواءً عبر قوانين مقيّدة أو ممارسات قمعية تحت مبررات شتى. أما على الصعيد السياسي فإن اللاتسامح يعني احتكار الحكم والسعي للحفاظ عليه وتبرير مصادرة الرأي الآخر، تحت مبررات مختلفة، تارة قومية أو بحجة الصراع العربي-الإسرائيلي، وأخرى طبقية بحجة الدفاع عن مصالح الكادحين، وثالثة دينية بحجة الحفاظ على الدين وإعلاء كلمته، وفي كل الأحوال فإن الأمر لا يعني سوى إسكات الصوت الآخر أو تسويغ فكرة الاستئثار وادعاء الحقيقة. وعلى الصعيد الديني فإن عدم التسامح يعني التمييز بحجة الأفضلية ومنع الاجتهاد وتحريم وتكفير أي رأي حر، بحجة المروق في ظل تبريرات ديماغوجية وضبابية، تمنع الحق في إعطاء تفسيرات مختلفة، خصوصاً ضد ما هو سائد، وأحياناً تزداد اللوحة قتامة في ظل الدين الواحد عبر التمترس الطائفي أو المذهبي في محاولة لإلغاء الفرق والمذاهب والاجتهادات الفقهية الأخرى، بل فرض الهيمنة عليها بالقوة. واجتماعياً فإن عدم التسامح يعني فرض نمط حياة معينة بغض النظر عن التطورات العاصفة التي شهدها العالم، لأنماط متنوعة، مختلفة، متداخلة، متفاعلة، وأحياناً يتم التخندق بسلوك وممارسات عفا عليها الزمن وأصبحت من تراث الماضي. وثقافياً، فإن اللاتسامح يعني التمسك بالقيم والمفاهيم القديمة والتقليدية ومحاربة أي رغبة في التجديد، أو أي شكل أو نمط للتغير، حتى إن الشعر الحديث يصبح «بدعة وضلالاً»، بل ضد التراث والتاريخ، وربما مؤامرة كبرى تستحق رجم ومعاقبة القائمين عليه، وتنسحب مثل هذه النظرة على الكثير من الآداب والفنون وبخاصة الموسيقى والرقص والغناء والمسرح والنحت وغيرها، ناهيك عن الحب! وإزاء الانغلاق وعدم التسامح الذي يسود عالمنا العربي والإسلامي، ورغم بعض الإرهاصات الجديدة، نرى العالم يسعى لتوسيع التسامح حقوقياً بعد أن جرى تعميمه أخلاقياً، بحيث تشتمل الدعوة للدفاع عن أولئك اللامتسامحين أو الذين ينشرون ويروجون لأيديولوجيات اللاتسامح التوتاليتارية. ورغم أن هذه الفكرة تثير نوعاً من النقد وربما الفزع في الغرب حالياً، خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة لأن هناك من يعتبرها خطراً على فكرة التسامح ذاتها، بل وتدميرها للحرية، لكن كارل بوبر، يجيب بأن علينا عدم الانخداع بذلك الشعور الغريزي بأننا على صواب دائماً. وتطور مفهوم التسامح من الفرد إلى المجتمع ومنه إلى الدولة، ثم إلى المجموعة الدولية، ولم يعد المفهوم اصطلاحياً أو لغوياً يرتبط بالتكرم والسخاء والجود والعفو والصفح والغفران والتساهل وغيرها، بل وصل إلى الاعتراف بالحق واحترام الحق، مثلما له علاقة بالعمران والتنمية. إن نشر مبادئ التسامح وسيادة روح الحق في الاختلاف، تتطلب إعادة التفكير في الموروث الثقافي وأخذ التراث في سياقه التاريخي وإعادة بناء العلاقة بين الثقافة والدولة وبين المجتمع والسلطة وبين الحكومة والمعارضة، التي هي مسؤولية جماعية وفردية في آن، فلا يوجد مجتمع بمعزل عن إغراء الإقصاء أو اللاتسامح، إلاّ إذا أثبت هذا المجتمع قوة عزيمة ويقظة دائمة. التسامح واللاتسامح ليس لصيقاً بتراث أو مجتمع، إنه يمتد عبر العصور فلا هو غربي ولا هو شرقي. ورغم أن الأديان جميعها تعلن تمسكها بالتسامح، فإن الحروب والإبادات استمرت عبر التاريخ وتمت في الكثير من الأحيان باسمها وتحت لوائها. يمكن القول إن كل المجتمعات البشرية تحمل قدراً من اللاتسامح سلبياً أو إيجابياً، لكن الفرق بين مجتمع وآخر هو في مدى اعتبار التسامح قيمة أخلاقية وقانونية ينبغي إقرارها والالتزام بها حتى وإن كان البعض لا يحبّها، فعلى حد تعبير غاندي «لا أحب التسامح ولكني لا أجد أفضل منه للتعبير عمّا أقصده». واعتبر غاندي التسامح هو القاعدة الذهنية في التعامل مع الآخر، لأننا لا نفكر جميعاً بنفس الطريقة ولا ندرك إلاّ جزءاً من الحقيقة ومن زوايا مختلفة. أما الفرق الثاني بين المجتمعات المفتوحة التي توافق على التسامح وبين المجتمعات المغلقة التي ما تزال تتمسك باللاتسامح وبتهميش أو إلغاء الآخر، فإن بعض المجتمعات تستطيع إدارة التنوّع والتعددية الثقافية والدينية واللغوية والسلالية والاجتماعية وغيرها، في حين تخفق أو تعجز فيها مجتمعات أخرى، ويوجد في العالم اليوم أكثر من عشرة آلاف تعددية، الأمر الذي يستوجب أن تكون الدولة هي الحاضن الأكبر للتسامح، وهو يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين الأنا والآخر على أساس المواطنة والمساواة الكاملة، ومن خلال التربية والاستفادة من المخزون القيمي للأديان وللفطرة الإنسانية، وهو ما ينبغي أن ينعكس على الصعيد الدولي أيضاً. بقي أن نقول إن التسامح ليس أيديولوجيا مثل الأيديولوجيات الأخرى الاشتراكية أو القومية أو الدينية، بل هو جزء من منظومة ثقافية، وعلينا أن نتعاطى معه على هذا الأساس الذي يسهم في تنمية المجتمع من خلال سنّ منظومة قانونية لا تعترف بالتمييز أو التعصب أو التطرف أو العنف، وهو ما تبنته الشبكة العربية للتسامح عندما وضعت شرطاً لمنح الجائزة على أن يكون «من الداعين لفكرة المساواة وحق البشر في العيش بسلام ودون خوف على المستوى الفردي والجماعي، دون تعصب أو انغلاق أو إقصاء أو إلغاء».
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المواطنة «المفترضة»!
-
شرق أوسط ممكن شرق أوسط مستحيل
-
الاتفاقية الامنية رهن للعراق وشعبه
-
الاتفاقية العراقية- الامريكية من الاحتلال العسكري الى الإحتل
...
-
المعاهدة العراقية-الأميركية: من الاحتلال إلى الاحتلال! (2-3)
-
أوباما الشرق أوسطي!!
-
زمان الطائفية
-
أولويات الرئيس أوباما!
-
استحقاقات أوباما
-
الإرث الثقيل
-
المعاهدة العراقية-الأميركية... من الاحتلال إلى الاحتلال! (1-
...
-
ست حقائق أفرزتها الانتخابات الأميركية
-
بغداد - واشنطن بين التبرير والتحذير
-
المستقبل والمجتمع المدني
-
سباق اللحظة الأخيرة بين بغداد وواشنطن
-
هل المجتمع المدني شريك للحكومات؟
-
أنغولا غيت!
-
موريتانيا والديمقراطية إلى أين؟
-
العراق منجم الخطر
-
من المستفيد من استئصال المسيحيين في العراق؟
المزيد.....
-
قائد الثورة : اصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو غير كاف بل يجب
...
-
قائد الثورة: لا يكفي صدور احكام اعتقال قيادات الكيان الصهيون
...
-
حملة اعتقالات بالضفة تطال 22 فلسطينيا بينهم صحفي وجريح
-
هيومن رايتس:-إسرائيل- استهدفت صحافيين بلبنان بأسلحة أميركية
...
-
عاجل | المرشد الإيراني: إصدار قرار الاعتقال لقادة إسرائيل لا
...
-
الأمم المتحدة: السودان يواجه أكبر أزمة نزوح في العالم
-
هآرتس: ربع الأسرى الفلسطينيين في سجون -اسرائيل- اصيبوا بمرض
...
-
اللاجئون السودانيون في تشاد ـ إرادة البقاء في ظل البؤس
-
الأونروا: أكثر من مليوني نازح في غزة يحاصرهم الجوع والعطش
-
الأونروا: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال
...
المزيد.....
-
التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من
...
/ هيثم الفقى
-
محاضرات في الترجمة القانونية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة
...
/ سعيد زيوش
-
قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية
...
/ محمد أوبالاك
-
الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات
...
/ محمد أوبالاك
-
أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف
...
/ نجم الدين فارس
-
قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه
/ القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
-
المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي
/ اكرم زاده الكوردي
-
المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي
/ أكرم زاده الكوردي
-
حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما
...
/ اكرم زاده الكوردي
المزيد.....
|