هايل نصر
الحوار المتمدن-العدد: 2490 - 2008 / 12 / 9 - 01:22
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في نقد الديمقراطية لتلافي العيوب المنسوبة إليها , والوصول بها إلى درجات من التطبيق أكثر تطورا, بعد أن أُشبعت نظريا دراسة وتحليلا وتركيبا ونقدا , ذهبت بها المذاهب الفلسفية والفكرية في اتجاهات متعددة, واختلفت طرق تطبيقها ونماذجها: ديمقراطية مباشرة أو شبه مباشرة أو تمثيلية. و ديمقراطيات شعبية. وبُنيت عليها أنظمة برلمانية, أو رئاسية. أو نصف برلمانية نصف رئاسية. أو ملكيات دستورية يملك فيها الملك ولا يحكم.
الديمقراطية, على تنوع أشكال تطبيقها الحالية وتعددها, لا تجد بين الشعوب التي اختارتها كنظام سياسي من يطالب بإلغائها, أو إحلال أنظمة شمولية استبدادية, أو دكتاتوريات قمعية محلها.
وباعتبار أنها نظام وضعي ساهمت في بناء مبادئها وفكرها وأهدافها, عقول بشرية متنورة من مختلف الأجناس والقارات, منذ عهد الإغريق, منذ 25 قرنا والى اليوم. لم تدع القدسية, ولا الكمال, ولا تعترف بالجمود. ولا تلجأ لتكفير من لم يؤمن بمثلها وقيمها. ولا تصف بالتحريفية من يبني منها نماذج مختلفة عن النماذج الكلاسيكية.
ـ ولأنها مفتوحة على كل مكونات المجتمعات.
ـ ولأنها تدعي أنها أداة الشعوب لحكم نفسها بنفسها, حكم الأغلبية وقبول الأقلية.
ـ ولأنها لا تنظر للإنسان إلا على انه إنسان مساو لغيره من البشر.
ـ ولأنها تساوي بين المواطنين, على الأقل أمام القانون. وتساوي بين الرجل والمرأة وتعترف بحقوق الطفولة. وتقدس حقوق الإنسان.
ـ ولأنها تعتبر الحاكم إنسان كغيره مكلف بمهمة, منها ومن طريقة وصوله إليها والقيام بها يستمد مشروعيته , حسب ما يرسمه الدستور وتحدده القوانين. ومن الخروج على ذلك والتنكر له تنتفي هذه المشروعية.
ـ ولأنها, رغم عيوبها الفعلية أو المنسوبة إليها, لا تزال تعتبر أفضل النظم القائمة, وتقبل تعديل وتصحيح نفسها نزولا على إرادة المواطنين وبآليات ديمقراطية.
ـ ولأنها, بأنواعها, تقوم على أسس مشتركة وميكانيزم واتفاقيات منها : التداولية, على مبدأ الانتخابات التنافسية المنتظمة الحرة والنزيهة, لاختيار ممثلي الشعب على قاعدة فصل السلطات. وعلى التعددية الحزبية والنقابية. وعلى حماية الحريات الفردية والجماعية.
ـ ولأنها تنظم بشافية طرق ووسائل المراقبة والمحاسبة وتحارب الفساد والإفساد وتقطع دابره, ليس بطريق الوعظ والنصائح وتحييد مناطق قاطنيها ووضعهم فوق كل الشبهات وخارج كل مساءلة ومحاسبة, وإنما عن طريق القضاء النزيه والمستقل.
ـ ولأنها تفصل بين السلطات فصلا حقيقيا يستحق اسمه, وتترك للدستور والقوانين تحديد ذلك, وإيجاد آليات التنسيق والتعاون بينها, في إطار الدولة.
ـ ولأنها تقيم الاستقرار والأمن على قواعد هدفها الأساسي المواطن: استقراره النفسي. استقراه المادي. أمنه الغذائي. استقراه وحمايته في وطنه. وتوفير العمل المناسب له كحق ثابت غير منازع فيه بعيدا عن كل "منحة" أو "مكرمة" أو "هبة" تُنزّل عليه مقابل تنازلات عن بعض كرامته أو عنها كلها. وأمن أسرته. بعيدا عن امن رجال الأمن القائم على التخويف وامتهان الكرامة الإنسانية وقتل كل ما هو إنساني فيه.
ـ ولأنها ترفع الوصاية عن المواطن, عن عقله وتفكيره, وطرق عيشه, وأنماط سلوكه.
ولأنها تقوم على التعددية والتنافس الشريف ضمن القوانين والأنظمة. والاعتراف للغير بغيريته.
ـ ولأنها تقيم الدولة على القانون والمؤسسات, وليس على الفرد الذي يعتبر نفسه فوق القانون و أساس المؤسسات ومنشؤها على مقاسه لتدور في فلكه. وجعلها, كأشخاص معنوية, كالأفراد العاديين, من مكونات الرعية.
ـ ولأنها تقوم على التداولية وترفض الصنمية وعبادة الشخصية.
ـ ولأنها مبنية على التسامح, يتعايش في ظلها بأمان وسلام كل أنواع البشر, بأعراقهم وألوانهم وأديانهم وطوائفهم ومذاهبهم .
ـ ولأنها من وضع البشر, لحكم وتنظيم البشر, لا تنفك عن تطوير نفسها, دون أي عقد نقص, لصالح مستقبل وسعادة البشر.
ولذلك لا يتورع أنصارها عن نقدها, وكأنها مشروع يبحث دائما عن الكمال, دون خوف على حياتهم أو حرياتهم أو أرزاقهم, نقدا بناء ومسؤولا.
ـ ولأنها كل هذا ينتقدها أعداؤها من غلاة المتزمتين نقد تشهير, حقيقته رفض وتكفير, فهي رجس من عمل الشيطان و شر مستطير.
و ينتقدها "المتنورون" منهم, أكانوا في السلطة أم من الساعين إليها سعيا لا ديمقراطيا, نقدا تتضمنه "أطروحات" بهلوانية منها:
يمكن أن تكون جيدة لشعوب أخرى غير شعوب عالمنا العربي. فشعوبنا لم تنضج لها بعد. و لان خصائصنا مختلفة عن خصائص غيرنا من الشعوب فهي لا تتلاءم مع قيمنا ومفاهيمنا وأخلاقنا واحتياجاتنا و موروثنا. ولان الأعداء المتربصين بنا يريدون إيقاعنا في براثنها. وعليه يجب الحذر كل الحذر, قبل وقوع القدر, مما يحاك لنا في الخفاء والعلن, باسمها وتحت خُلُب شعاراتها.
ولكن وفي هذا السياق:
ـ لم يقدم لنا هؤلاء, فيما يتعلق بالنضوج, ما يثبت أن الإغريقي الذي أنتج الديمقراطية وعاش في ظلها قبل 25 قرنا, كان أكثر نضوجا وتطورا من نضوج وتطور مواطننا في عالمنا العربي في قرننا الواحد والعشرين, ولم تكسبه كل هذه القرون نضجا, فبقي ما قبل إغريقي في مفاهيمه وتكوينه الفكري !!!. وإذا ما كان الإنسان المعاصر, بعد هذه القرون, في الغرب وفي الشرق وأمريكا اللاتينية وبعض الدول الإفريقية مخطئ بقبوله الديمقراطية والمطالبة الدائمة بها, وكاذب بإعلانه سعادته في ظلها. ولم بينوا لماذا الديمقراطية "وهمية, وضعية, ليبرالية" بكل أشكالها, تنفر منها قيمنا لتعارضها معنا وتعارضنا معها.
ـ ولم يبرزوا لنا, ولأنفسهم, الخصائص الفسيولوجية والنفسية المتميزة التي أودعها الله في سكان هذه المنطقة دون غيرهم من عباده, وجعلها بحت شرق أوسطية . ولا كيف تصبح قيما: المفاخرة دون إبداع. والأخذ دون عطاء. والتغني بالحضارة دون إنتاج حضارة. والتخلي دون سعي للاستعادة. والثأر قولا و شعرا من الهزائم. والتلويح بسيوف الماضي المسلولة دون مقدرة على إعادة سلها. والتشبه بالسلف من العظماء دون امتلاك أحلامهم. فكيف أيها السادة من المقاعد الخلفية نروم ريادة البشرية.
ـ ولم يقدموا لنا أنظمة بديلة, بقيم تسمو على ما هو سائد في الديمقراطية المرفوضة, غير ما قدموه من نماذج تخجل منها الإنسانية.
ـ ولم يدلوا ببراهينهم على إن الدين الذي يبشر بخلاص الإنسان وبحفظ إنسانيته وكرامته, ويدعو لازدهار شخصيته وتفتحها, يقف ضد أساليب وأهداف الديمقراطية التي هي من وضع البشر, ومن وحي العقل الذي خص الله الإنسان به دون غيره من المخلوقات, دون أن يفرض عليه عدم القيام بوظائفه كاملة, في التفكير, والتدبر والتدبير, والبحث الدائم, والمقارنة, والتمحيص, والتحليل والتركيب, وإلا لخلقه محدودا ناقصا, اتكاليا, يقبل بالظواهر مثلما هي, و بالتفسير ولا يرقى إلى الإبداع, ولما ميزه عن جهاز الهضم المعد لهضم كل ما يقدم له من طعام وشراب جاهز أو بطهي الطهاة. ولا كيف يمكن للدين, أي دين, أن يعارض خلاصة فكر الإنسانية الباحث منذ التكوين عن السمو بالإنسان الذي كرمه الله تكريما, و لا يرضى له أن يُذلّ على يد مخلوق مثله.
ومع ذلك, وفي الظروف العصيبة, يقدم "المتنورون" المشار إليهم, بعد طول دراسة وتمحيص وتفكير, انه لا بد قبل الحديث عن الديمقراطية, وقبل الشروع في الإعداد لها من:
ـ بناء الأسرة الديمقراطية.
ـ بناء المدرسة الديمقراطية.
ـ بناء المجتمع الديمقراطي.
ـ بناء العلاقات الديمقراطية, على الخصائص الخاصة في خصوصيتها, والأصيلة في أصولها, والرابطة بحبكة متميزة يصعب "حلحلتها", بين الماضي والحاضر والمستقبل, والقابلة لان تكون صالحة لكل الأجيال , وكل البشرية, كالنظرية الثالثة من حيث الدقة والعمق والشمولية.
ولكن كيف ومتى ولاية ضرورة سيقوم هذا المشروع الطموح !! ؟ يصمت على ذلك المتنورون من القابلين بالديمقراطية المؤجلة إلى حينه, وغير القابلة للانجاز قبل أن يرث الله الأرض وما عليها.
ـ فإذا كانت أنظمتهم المفروضة منذ عقود وعقود تفتت الأسرة وتستهدف قيمها ومثلها وتماسكها, محاولة أن تقيم على أنقاضها أسرة بديلة بالتربية على مفاهيم التبعية والخنوع وقتل الشخصية.
ـ إذا كانت المدرسة المشار إليها تربي تلامذتها وطلابها منذ الحضانة والى التخرج من الجامعات على تمجيد الحكام, والفكر الحزبي الواحد, ونبذ الآخر وعدم الاعتراف به, واحتكار الحقيقة, وترديد الشعارات التي تمجد الشمولية والدكتاتورية والظلامية. ومنهاجها تختصر المواد العلمية لصالح التوعية والتوجيه والدعاية للأنظمة السائدة ومآثرها. وإذا كانت مفاتيح النجاح, والمستقبل الوظيفي والمهني, والخروج في بعثات, هي في الولاء المطلق والمزايدة فيه, وليس في التحصيل العلمي والتنافس الشريف. وإذا أصبحت الجامعات العربية تحتل الدرجات الخلفية الخلفية في سلم تقييم الجامعات العالمية.
ـ وإذا أصبح الجاهل المتنفذ, لغنى ونعمة حديثة أو لمركز وظيفي أو حزبي أو عشائري أو قبلي أو طائفي, مسؤولا عن المتعلم والمثقف والفنان وسيدا وموجها لهم.
ـ إذا كان المجتمع معبأ تعبئة إيديولوجية, أو على الأفكار القبلية والعشائرية, والولاءات الدينية والمذهبية والطائفية.
ـ إذا كانت مُحرمّة فيه الجمعيات المدنية, والتعددية الحزبية, والنشاطات الحرة, والخيرية, والتطوعية, ولا تصله إلا المعلومة التي يراد لها أن تصل, والكتاب والجريدة والمقال وموقع الانترنت الموالي, أو الذي لا طعم ولا لون ولا رائحة له, ولا فائدة ولا ضرر فيه ومنه. ولا تقام فيه ندوات أو اجتماعات أو سهرات أو حفلات أو أفراح أو أتراح إلا بترخيص. والغناء في أعراسه للزعيم وليس للعريس,
ـ وإذا كان من عدم الحصافة التفكير بالتضحية بالحاكم المجرب عبر العقود الزمنية, الهبة, المعصوم الذي لا يخطئ, من اجل ديمقراطية غير مأمونة و خطّاءة.
إذن, والحالة هذه, على إي منعطف في مسيرة التاريخ سينتظر المواطن العربي عناق الديمقراطية؟.
#هايل_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟