|
بوش إذ تقمَّص حكمة الفلاسفة!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2484 - 2008 / 12 / 3 - 03:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قبل شهر ونصف الشهر من انتهاء إقامته في البيت الأبيض، قرَّر الرئيس بوش أن يتحدَّث بنفسه عن نفسه، أي عن أدائه الرئاسي في ولايتيه الأولى والثانية، لعلَّ منتقديه يجنحون لـ "الموضوعية" في انتقاده، وينزلون على حكمه، أي يقبلون رأيه هو في عهده ونهجه وسياسته.
لقد تقمَّص، أوَّلاً، حكمة الفلاسفة، وهو الذي لا يعرف من حكمتهم إلاَّ ما يكفي لجعله يشعر بالدونية العقلية، فاكتشف، إذ تأمَّل تجربته في الحكم والرئاسة، أنَّ من خواص الرئاسة في عصرنا "العجز عن التوقُّع"، فالرئيس إنَّما يقرِّر أفعاله وأعماله الرئاسية، على وجه العموم، بما يُظْهِر ويؤكِّد أنْ لا قيمة، ولا أهمية، لِمَا توقَّعه من قبل، وكأنَّ خير توقُّع هو أن تتوقَّع دائماً أن تذهب حقائق الواقع، التي لا تُرى جيِّداً وفي وضوح تام إلاَّ بعد، وبفضل، تولّيِكَ الرئاسة، بما توقَّعْت وأردت من قبل، أي في أثناء حملتكَ الانتخابية على وجه الخصوص.
هل كان الرئيس بوش قبل أن يصبح رئيساً، وفي أثناء حملته الانتخابية، يتوقَّع خوض الولايات المتحدة للحروب التي خاضتها في عهده؟
كلاَّ، لم يكن يتوقَّع؛ والدليل على ذلك، على ما قال، أنَّه لم يَدْعُ الناخبين إلى أن يصوِّتوا له من أجل حرب تدرأ مخاطر عن الأمن القومي للولايات المتحدة، فهو لم يقاتِل انتخابياً وفي ذهنه توقُّع أن يقود بلاده إلى حروب، كالحرب على "الإرهاب"، وحربيها على (وفي) أفغانستان والعراق. كان يتوقَّع، على ما أراد أن يُفْهِم العالم وشعبه، أن يكون عهده عهداً لنموِّ السلام؛ ولكنَّ رياح الحادي عشر من أيلول 2001 عصفت بتوقُّع هذا الكاهن!
وبما يوافِق هذا الاكتشاف لهذه الخاصية للرئاسة في عصرنا لا عجب إذا ما اكتشف الرئيس أوباما أنَّ كل، أو معظم، أو أهم، ما قرَّر، ويقرِّر، فعله لا يمتُّ بصلة إلى ما توقَّع من قبل، أو إلى ما قال وأراد وتعهَّد في أثناء حملته الانتخابية!
ثمَّ تقمَّص الرئيس بوش "الفضيلة"، متحدِّثاً عن حربه على العراق وكأنَّه الفضيلة التي أفرطوا في إساءة فهمها، فشكت بثِّها وحزنها إلى الله.
هو، والباطل يُقال، لم يكن يعتزم شنَّ حرب على العراق، ولم يكن يريدها، أو يرغب فيها، أو يسعى إليها؛ ولكنَّهم قالوا له أنَّ صدام حسين، وبما يمثِّل ويعني، بات يمتلك (بالفعل) ترسانة من الأسلحة الكيميائية والبيولوجية؛ وقد شرع ينسج خيوط علاقة مع تنظيم "القاعدة".
هم لم يكذبوا عليه، ولم يخدعوه أو يضلِّلوه، ولم يخبروه إلاَّ بما اعتقدوا أنَّه في منزلة المعلومات البيِّنات. وهو، مع كبار مستشاريه ومساعديه وفي مقدَّمهم نائبه ديك تشيني، لم يَدْعُ أجهزة استخباراته إلى اختلاق وتزوير أدلة على أنَّ صدام حسين يملك تلك الترسانة.
كل ما حدث هو أنَّ تلك المعلومات والأدلة لم تكن صحيحة، فهو ومستشاريه ومساعديه وأجهزة استخباراته كانوا جميعاً ضحية معلومات وأدلة غير صحيحة، أو ثَبُت، بعد غزو واحتلال العراق وإطاحة نظام حكمه، أنَّها كانت غير صحيحة، أي أنَّ كل ما حدث هو أنَّ "المصادِر السرِّية والتي لا يجوز كشفها" قد قالت لأجهزة استخباراته، فقالت قيادات تلك الأجهزة له، فلم يبقَ لديه من خيار إلاَّ شنَّ الحرب على العراق، درءاً لـ "كارثة كبرى"!
إذا كان "التوقُّع".. توقُّع أن يكون صدام حسين قد امتلك فعلاً ترسانة (وترسانة ضخمة) من الأسلحة الكيميائية والبيولوجية هو ما حَمَل الرئيس بوش على شنِّ الحرب على العراق فإنَّ ما قاله في أمر تلك الخاصية للرئاسة في عصرنا يجب أن يَغْفِر له؛ أمَّا إذا كانت المعلومات والأدلة التي ثَبُت لاحقاً أنها غير صحيحة هي التي حملته على ذلك فيجب، أيضاً، أن يُغْفَر له، فلولا الحرب ذاتها، وما انتهت إليه من احتلال للعراق وإطاحة لنظام حكمه، لَمَا أمكن إثبات أنَّ تلك المعلومات والأدلة كانت غير صحيحة!
لقد عالج الطبيب مريضاً بالسرطان حتى قتله؛ ولكن ربَّ ضارة نافعة، فقد ثَبُت بعد ذلك، وبفضل ذلك، أنَّ المريض لم يكن مصاباً بالسرطان!
الرئيس بوش أسِفَ؛ ولكنه لم يأسف لشنِّه الحرب (مع ما ألحقته من خراب ودمار بالعراق وشعبه) بناءً على معلومات وأدلة غير صحيحة؛ وإنَّما لفشل أجهزة استخباراته في التحقُّق من صحة المعلومات والأدلة قبل شنِّ الحرب.
إذا كان هدف الحرب هو القضاء على تلك الترسانة ولو من خلال احتلال العراق وإطاحة نظام حكم صدام حسين فإنَّ الرئيس بوش فشل في تحقيق هذا الهدف؛ لأنَّ الترسانة ذاتها لم يكن لها من وجود يفوق وجود العنقاء.
ومع ذلك ظلَّت تلك الحرب، في مُعْتَقَد الرئيس بوش، شيئاً واجب الوجود، وتستمد شرعية لها من مصادِر أخرى، فالنتائج، التي ذهبت بالهدف والتوقُّع، كانت في حدِّ ذاتها أسباباً وجيهة للحرب، وكأنَّ الرئيس بوش يريد أن يقول لنا: انسوا "الهدف" الذي من أجله شُنَّت الحرب لأنَّ تحقُّقه يَعْدِل الإتيان بمعجزة، وتذكَّروا "النتائج"، فَمْن رحم هذه الحرب وُلِد "العراق الديمقراطي الجديد"، والذي بولادته وُلِدت، أيضاً، الحاجة إلى "الاتفاقية الأمنية"، التي تُلْزِم الولايات المتحدة السهر على حمايته إلى أن يصبح قادراً (ولن يصبح) على حماية نفسه بنفسه!
لقد آثر الرئيس بوش التحدُّث عن تلك "النتائج"، أو "الثمار الطيبة"، حتى يبدو مُقْنِعاً في جوابه عن السؤال "هل كنتَ ستذهب إلى الحرب لو تأكَّدتَ أنَّ المعلومات والأدلة لم تكن صحيحة؟".
ومع أنَّ هذا السؤال فاسِد منطقياً؛ لأنَّ إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لا تعني عودة الإنسان مسلَّحاً بالحكمة التي اكتسبها من تجربته الأليمة، فلقد أجاب عنه الرئيس بوش قائلاً (على ما استنتج من كلامه) إنَّه لو كان يعلم أنَّ تلك المعلومات والأدلة غير صحيحة، وأنَّ الحرب، مع ذلك، ستُثْمِر تلك "الثمار الطيبة"، لَمَا تردَّد في شنها وخوضها!
والرئيس بوش الذي يحرص على "العراق الديمقراطي الجديد" حرصه على فلذة كبده يجب ألاَّ يُلام إنْ هو توعَّد هذا العراق بـ "القاعدة"، وبالويل والثبور وعظائم الأمور، إذا لم يوقِّع تلك "الاتفاقية"، فقسوة الأم على ابنها لا تعني أبداً افتقارها إلى الأمومة!
أمَّا إذا انتهى "العراق الديمقراطي الجديد"، بعد "الاتفاقية"، وبفضلها، إلى ما هو أسوأ ممَّا كان عليه "العراق الدكتاتوري القديم"، فلا تعجبوا إذا ما سمعتم الرئيس بوش يقول وهو في بيته: ألمْ أقُلْ لكم من قبل إنَّ نفاد القدرة على التوقُّع هو من أهم خواص الرئاسة في عصرنا؟!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نحن المسؤولين عن الأزمة المالية والاقتصادية العالمية!
-
اتفاقية تؤسِّس للبقاء وليس للرحيل!
-
اتفاقية تنهي الاحتلال بإنهاء العراق!
-
الشارني وموسم ازدهار المنجمين!
-
الشفافيَّة!
-
فلسطينيو -توتسي- وفلسطينيو -هوتو-!
-
قصة الولايات المتحدة مع النفط المستورَد!
-
-الرئيس- الذي يصنعونه الآن من أوباما المنتخَب!
-
سرُّ أوباما!
-
فاز أوباما.. وظهر المهدي!
-
نظام الرواتب يحتاج إلى إصلاح!
-
بوش يتوعَّد العراق ب -القاعدة-!
-
النظرية الاقتصادية الإسلامية في حقيقتها الموضوعية!
-
حملة غربية للسطو على السيولة العربية!
-
-الاقتصاد السياسي الإسلامي-.. تجربة شخصية!
-
ما وراء أكمة البوكمال!
-
عندما نعى بولسون -الإمبراطورية الخضراء-!
-
-الرأسمالية المُطْلَقة-.. بعد الموت وقبل الدفن!
-
-الاقتصاد الافتراضي- Virtual Economy
-
العرب.. -يوم أسود- بلا -قرش أبيض-!
المزيد.....
-
رقمٌ قياسيّ لعملة فضية نادرة سُكَّت قبل الثورة الأمريكية بمز
...
-
أهمية صاروخ -MIRV- الروسي ورسالة بوتين من استخدامه.. عقيد أم
...
-
البرازيل.. اتهام الرئيس السابق جايير بولسونارو بالضلوع في مح
...
-
اكتشاف عمل موسيقي مفقود لشوبان في مكتبة بنيويورك
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة: اليوم ردت روسيا على استفزازات -
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان الحدث وحارة حريك في ال
...
-
أين اختفى دماغ الرئيس وكيف ذابت الرصاصة القاتلة في جسده كقطع
...
-
شركة -رايان- للطيران الإيرلندية تمدد تعليق الرحلات الجوية إل
...
-
-التايمز-: الغرب يقدم لأوكرانيا حقنة مهدئة قبل السقوط في اله
...
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|