راندا شوقى الحمامصى
الحوار المتمدن-العدد: 2483 - 2008 / 12 / 2 - 02:30
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بعد مضي سنوات على وفاة زوجته خديجة، قال سيدنا محمد (ص) عنها: "عندما كنت فقيرا أغنتني، وعندما هجرني الجميع كانت مؤنسي، وعندما نعتوني بالكذّاب صدّقتني". (1) يُروى عن حضرة الرسول (ص) أنّه في أيام المرحلة الأُولى لنزول الوحي- عندما كان لا زال مضطرب النفس تحت وطأة تلك الواقعة في غار حراء، وطلب من خديجة أن تلفّه بعباءته لتحميه من شدّة رجفته- إذ بجبريل يظهر له ثانية ويخاطبه: "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ" (74/1-3)
بعد تنزيل سورة الضُّحى، التي جلبت لحضرته العزاء والسكينة بقوله تعالى: "مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى" (93/3) امتلأت روح حضرته بالثقة نحو رسالته النبوية. "الروح الأمين" الذي نزل على قلبه علّمه الوضوء والصلاة والصوم والقيام والركوع وأُصول العبادة. ومرّة كان حضرته وخديجة يصلّيان معا دخل الغرفة "عليّ" الشاب الصغير، رآهما ينحنيان أمام فراغ أمامهما في الغرفة، فسأل ماذا تفعلان؟ من ذا الذي تنحنيان أمامه؟ فأجابه الرسول (ص) "أمام الله، الذي أنا نبيّه". تقبّل عليّ الأمر على الفور. وفي وقت لاحق شُرِّفَ بلقب "كرَّم الله وجهه" لأنّه كان صغير السن جدّا عندما آمن ولم يكن قد انحنى أو تعبّد لصنم قط.
بعد مرور 3 سنوات على الدعوة السرّية، جاء الأمر الإلهي لسيدنا محمد (ص) بإعلان الدعوة جهرا والبراءة تماما من عبادة الأوثان. ونقرأ في التنزيل العزيز هذا الأمر: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ" (15/94) بهذه المناسبة دعى النبي جميع ذوي قرابته وزعماء مكة إلى وليمة قدّم فيها لحم الضأن المطبوخ باللبن مع الأرز، وبعد أن فرغ المدعوّون من الطعام أخبرهم حضرته بالدعوة الجديدة خاتما كلامه بما معناه "لم يُنعم إنسان قط من قبلُ على أُمّته بما أنعمت عليكم، والآن ... مَن منكم سيظهر لي أُخوّته ويؤازرني في دعوتي؟ "فخيّم على القوم الصمت وغلب عليهم الوجوم". أبو لهب، أحد عمومة الرسول (ص) – هزّ كتفيه استخفافا واستهجانا. وفجأة قفز "عليّ" الصبيّ وصاح قائلا: أنا سأعاونك يا رسول الله". فضحك الجميع، ثمّ انفض الجمع وتفرّقوا. (2)
قام سيدنا محمد (ص) على دعوة أهل مكة، ولكنهم هزءوا بحضرته واستخفّوا بدعوته. طلبوا منه أن يأتي بمعجزات: كأن يحوّل التلال الرملية إلى ذهب أو يأتي لهم بكتاب ينزل من السماء أمام عيونهم أو يريهم جبريل الذي يكلّمه، أو يأتي لهم ببئر ماء صافٍ، أو يتنبأ لهم بأسعار السلع والبضائع، فيسألون: هل يستطيع ربّك أن يكشف لنا أي السلع سعرها سيرتفع؟ فيجيب حضرته: "قُل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ" (18/110) وفي مقام آخر: "يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ" (41/6) ويقول تعالى أيضا: "وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ" (41/5) إنّهم يتكلّمون كثيرا ويطلبون أكثر تماما كما يفعل المادّيون في يومنا هذا. ويصرّح القرآن هنا: "وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ" (45/24) كما قال أحد عبدة الأصنام لِمُسْلِمٍ مستهزءا بأنّه سيردّ له دَيْنَهُ في العالم الآخر. مع أنّ سيدنا محمد (ص) حذّرهم في قوله تعالى: "مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" (29/41)
وإلى جانب التشديد على آية التوحيد"لَا إِلَهَ إِلَّا الله" وأنّ على الجميع أن يتّبعوا الصراط المستقيم الذي سَيُدْعَونَ باسمه للحساب في اليوم الآخِر، كان سيدنا محمد (ص) يكلّمهم دوما عن "مجئ الساعة" ويكرر لهم حتمية "لقاء الله". ومرة رفع حضرته لهم إصبعيه وقال بأنّ "مجئ الله" و "مجئ الساعة" لأقرب من هذين الإصبعين. يقول تعالى: "بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا" (25/11). كان تعالى أحيانا يسمّيها "الواقعة" وتبدأ السورة التي تحمل هذا الإسم في القرآن بـ " إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ" (56/1-3) وأحيانا يسمّيها بـ "القارعة" وتبدأ السورة: "الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ" (101/1-5). إنّه يوم الله العظيم الذي طالما حذّرهم الله منه ... إنّه يومنا - نحن البهائيين. وحتى نتفهّم هذه الآيات علينا أن نرجع إلى كتاب الإيقان وندرسه. ففي سورة الفجر يقول تعالى: "وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا" (89/22)
في أواخر حياة حضرة الرسول (ص) قال له أحد الصحابة عندما كان حضرته يهم بالدخول إلى المسجد: "آهٍ! أنتم يا من أفديكم بأبي وأُمّي، إنّ الشيب يسرع نحو رأسكم". فرفع الرسول لحيته بيده يحملق فيها بينما امتلأت عيني ذلك الصحابي بالدموع" نعم " قال حضرته (ص): "سورة هود وأخواتها قد سرّعت من شيب رأسي" وسألوا حضرته ماذا تعني "بأخواتها" فأجاب (ص) "سورة الواقعة" و "سورة القارعة". (3)
وقف أهل مكة مكتوفي الأيدي لا يدرون ماذا يفعلون ليردّوا النبي عن دعوته. في بداية الأمر سخروا من حضرته واستهزءوا بدعوته، يقولون: "جاءكم ابن عبدالله بأنباء من السماء". (4) وعلى أثر استمرار حضرته في تحذيرهم ورفضه لآلهتهم، وبفعل ما قام به من محاولات ليهديهم إلى الدين الجديد، قرّروا إغراءه ورشوته وقالوا له: "إذا كنت تطمع إلى الغِنَى ... سنجمع لك ثروة أكبر ممّن يملكه أَيٍّ منّا؛ وإذا كنت ترغب الشرف والنفوذ ... سننصّبك زعيما علينا ..." (5) فأجابهم حضرته، "هل أنتم تكفرون بالله حقّا ... هل حقّا جعلتم لله شركاء؟" "إنّه إله العالمين!" ولمّا يئسوا لجأوا إلى عمّه وراعيه (أبو طالب) زعيم قبيلته. فرجاه عمّه أن يكفّ عن دعوته، لأنّ ذلك سيجلب عليه وعلى عائلته الدمار والخراب. فأجاب حضرته بقوله الشهير: "والله! لو وضعوا الشمس بيميني والقمر بيساري على أن أترك هذا الأمر لن أتركه حتى يظهره الله أو أهلك في سبيله". (6) منعته قريش من الصلاة في الكعبة، لاحقوه وأزعجوه أينما كان، رموه وأصحابه بالقاذورات أثناء صلاتهم، حرّضوا عليهم الأولاد والأوباش يتعقّبونهم ويهزءون بهم، حتى إن امرأة منهم رمت الشوك في طريق حضرته. يتفضّل حضرة بهاءالله في كتاب الإيقان: "فكم كانوا يلقون من الأقذار والشوك في محلّ عبور حضرته ! ... ورموه بمفتريات – نعوذ بالله من أن يجري به المداد ... أو تحمله الألواح ... لهذا قال حضرة الرسول: مَا أُوذِيَ نَبِيٌّ بِمِثْلِ مَا أُوذِيتُ". (7)
أرسل سيدنا محمد (ص) العديد من أصحابه إلى الحبشة من أجل سلامتهم وكان ذلك في سنة 615 ميلادية، حيث كان هناك ملك مسيحي ورع. وسأل المَلِكُ لماذا هؤلاء هربوا إلينا؟ فأجابوا "يا أيّها المَلِكُ، نحن كنا غارقين في حياة الجهل والبربرية، كنا نعبد الأصنام، كنا نعيش حياة الرذيلة والمجون، كنا نأكل لحم الميت، وكنا نلفظ بكلمات نابية بغيضة ... وعندما أقام الله من وسطنا رجلا ... دعانا إلى توحيد الله ... ونبذ الرذائل ... وأن نمتنع عن الأذى ونتخلّص من فساد الأخلاق ... قام قومنا ضدّنا ...". (8) إنّ قتل سيدنا محمد (ص) كان يعني قيام حرب أهلية، لذلك توجّه المكّيّون إلى تعذيب أتباعه المساكين بدلا عنه. بلال الحبشي، طرحوه أرضا، وربطوا على صدره صخرة وعرّضوه لشمس الصحراء المحرقة يوما بعد يوم، وقالوا له يجب أن تتنكّر لمحمد ودعوته أو تموت، فكان يجيبهم: "لا إله إلّا الله، لا إله إلّا الله" وعاش بلال وأصبح أول مؤذّن في الإسلام.
يتفضل حضرة بهاءالله عن بلال: "تفكّروا، كيف أنّ بلال الحبشي، الذي لم يكن حاصلا على كلمة واحدة من العلم، ومع هذا ارتقى بنفسه إلى سماء الإيمان والإيقان". (9) لقّبه النبي: "باكورة ثمار الحبشة" تماما كما لقّب آخرَ من أتباعه الأوائل: "باكورة فواكه الروم". من المهم أن نتذكّر بأنّ الإسلام دين عالمي – قُصد به العالم بأسره ... وهو بالتأكيد ليس دينا محليا مقيدا بأرض أو مقصور على أُمّة. يتفضّل حضرة بهاءالله: "ما فعله بلال كان في نظر الله مقبولا للغاية، حتى إنّ صوت تأتأت لسانه فاق أصوات ضرب أقدام جحافل سكّان الأرض أجمعين."
قال المكيون يتحدّون الرسول (ص): "يا محمد! اعرف تماما أنّنا لن نتوقّف أبدا
عن منعك من نشر دعوتك حتى تهلك أو نهلك" (11) ولمدّة ثلاث سنوات (617-619 ميلادية) وهم يحاصرونه ومن معه من أبناء عشيرته في حيّ منعزل من البلدة، وحرّموا على أهل البلدة الآخرين التعامل معهم تحت أي ظرف. ثم توفّت خديجة (ديسمبر سنة 619 ميلادية)، وبعدها بخمسة أسابيع توفّى عمّه وراعيه (أبو طالب). ونظرا لأنّ أقرب الناس إلى حضرته تنكّروا له وناصبوه العداء، قرّر الانتقال إلى مدينة أُخرى. رحل حضرته إلى الطائف، وهي مدينة جبلية جميلة على بعد 112 (كم) جنوب مكة حيث تنمو فيها أشجار الفاكهة – ولكن عندما علم الأهالي بأمر حضرته طاردوه بالحجارة إلى خارجها فعاد أدراجه إلى مكة. كان ذلك في مكة عندما حلّقت روحه في رحلته الليلية– ليلة المعراج– وعبرت السموات السبع قاصدة المسجد الأقصى،عرش الله العظيم. وفي كتاب الإيقان يشير حضرة بهاءالله إلى سيدنا محمد (ص) بــــ "سيد المعراج" و "معراج سيد لولاك"، ويضيف حضرته: " ... على طالب معرفة سر المعراج أن ينظّف مرآة قلبه ويطهّرها حتى يتجلّى سِرُّ هذا الأمر فيها له". (12)
قد يظن المرء أنّ هذا هو نهاية قصّة سيدنا محمد (ص). بالطبع لا! فقد خرج حضرته في نهاية الأمر من مكة مع مجموعة صغيرة من أتباعه بعد أن أُغلقت في وجوههم كل الأبواب. توجّهوا إلى الصحراء، وانطلقوا وحدهم هائمين على سطح هذا الكوكب الفسيح، يتربص لهم ويحيط بهم رجال بربريّون متوحّشون، لهم قلوب أشد قسوة من الحجارة، يئدون طفلتهم الرضيعة حيّة بحجة حماية شرفهم، ويقتلون، بدم بارد، وبقصد وبدون قصد ... وهم الذين ما زالوا يتعطّشون طوال 13 سنة لسفك دم حضرته، يناصبونه العداء من أجل التعاليم التي جاء بها والّتي في مضمونها القضاء على تقاليد وعقائد قومهم وفقدانهم لثرواتهم وسلطتهم ومكانتهم. كتب أحد أعداء حضرته: نحن بحثنا دون جدوى في صفحات تاريخ الإنسان على هذه الأرض، لم نجد ما يمكن أن يوازي أو يشبه ذلك النضال لنبي الجزيرة العربية الذي دام 13 سنة في وجه الخذلان والطغيان والتهديد والوعيد والرفض والاضطهاد، ثمّ يبقى دينه هكذا صامدا أبيّا لم تَنَل منه عواصف البغض والعدوان ... دين يعلّم التوبة إلى الله دون يأس أو ملل ويقف بكل أنفة وشموخ وثقة بالمستقبل في وجه الإهانة والوعيد والخطر المحتوم. (13)
والآن جاء الوقت الذي تأخذ فيه أحداث التاريخ منعطفا جديدا ... قال ولي أمر الله إلى أحد الزائرين لأرض الأقدس بأنّ: "ديننا يتقدّم إلى الأمام بفعل الأزمات، وأنّ انتشار الأمر المبارك يطيح بتلك الأزمات ... وأنّ حلول تلك الأزمات التي تبرز من خلال فعّاليات الأمر تسهّل انتشار الأمر نفسه". يقول حضرة بهاءالله في مناجاته: "أرى يا مقصودي بأنّ النار لو يمسّها الماء تخمد في الحين. وهذه النار لا تخمدها بحور العالمين". (14) وهكذا نجد أنفسنا- نحن البهائيين- نعمل في أمر لا يمكن أن تُخْمَدَ ناره أو يخبو نوره.
ما كان يجري في الإسلام من أحداث في ذلك الوقت يمكن سردها على النحو التالي: كان سيدنا محمد (ص) كثيرا ما يدعو قبائل أُخرى – غير قريش - إلى الإسلام، وهم أُولئك الذين يحضرون إلى مكة لزيارة الكعبة أو للتسوّق في أسواقها الموسمية الكبيرة. وفي مثل هذه المناسبات، كان أبو لهب، عم الرسول - أحول العينين - الخسيس، يتعقّب خطوات ابن أخيه ويصيح بالناس محذّرا: "إنّ محمدا دجّال مدّعٍ! لا تصدّقوه، إنّه يسعى إلى تحويلكم عن دين آبائكم". وكان الزائرون يضحكون ويسخرون قائلين: "إنّه ابن عشيرتكم وأنتم أدرى، ولذلك لا تؤمنوا به". ولكن كان هناك بعض من أهل المدينة ( يثرب ) يصغون إلى ما يقول حضرته. كانوا منهكين من القتال وقد سئموا العداوة المزمنة بين العشائر المتنافسة والمتناحرة في مدينتهم. فسألوا حضرته ليحضر إليهم ويكون رئيسا لهم. أرسل سيدنا محمد (ص) بعضا من صحابته قبله إلى المدينة. كان ذلك في سنة 622 ميلادي، وهي سنة الحَدَث المقدّر والمحتوم – سنة الهجرة– التي بها بدأ حساب التقويم الإسلامي فيما بعد.
في هذه الفترة الحاسمة من الدعوة، اتّفق أهل مكة على خطّة لإغتيال الرسول (ص)، ورتّبوا ذلك مع أفراد يمثّلون جميع بطون العشائر لمهاجمة حضرته وقتله يدا واحدة، وهكذا لا يقع ثأر سفك دم حضرته المبارك على أيّ واحد منهم. انتظروا خارج بيته يراقبون متى يلتف بعباءته وينام في مخدعه، ... وعندما جاء الفجر اكتشفوا أنّ الذي في مخدعه هو ابن عمّه عليّ، أمّا سيدنا محمد (ص) فكان قد غادر بيته في تلك الليلة متوجّها إلى المدينة التي سمّيت من ذلك الحين "مدينة النبي".
دخل الرسول (ص) المدينة واستقبله أهلها استقبال المنتصر، ووضع شيخ عمامته على رأس حربته لتكون دلالة على مبايعة حضرته. ورفعوا فوق رأس حضرته مظلّة من سعف النخيل لحمايته، بينما المؤمنون الأنصار من أهل المدينة التفّوا حوله ملوّحين في الهواء بسيوفهم وحرابهم. ترجّل حضرته عن دابّته خارج حدود المدينة، وتوجّه نحو القبلة، القدس الشريف، وصلّى بالجموع المحتشدة، وبعدها، قالت الجماعة: "أن يترك النبي ناقته حرّة طليقة في المدينة، وحيثما تبرك، سيقام هناك مسجد فيما بعد". وعلى هذا النحو، دخل نبي الله المدينة وحَيَّا أهلها، حتى الأطفال منهم.
وهكذا خُدِعَ المكيون من طريدهم، وأصبح – ذلك المحتقر المنبوذ الذي نعتوه بالشاعر المخبول وبالمجنون أحيانا وبالكذّاب أحيانا أُخرى- أصبح الآن له دولة ورجال. وهكذا ... قامت الجزيزة العربية بأسرها ضد أهل المدينة. وأخذ أهل مكة على الفور بلملمة القبائل بما فيهم "خمسة عشائر" ضمن المدينة نفسها. وعليه، بدأ القتال بين العبادة الوثنية والعبادة الحقّة، بين هُبَلْ والمولى القدير، بين الحق والباطل، وبين الموت والحياة.
يتفضل حضرة عبدالبهاء في كتاب المفاوضات: " ... لو كان حضرة المسيح في موقف كهذا بين قبائل متوحّشين طغاة ... ثم هاجر أخيرا من وطنه ومسقط رأسه إلى البادية فرارا من الظلم، ومع ذلك ظلّ هؤلاء الطغاة يتعقّبونه جادّين في قتل عموم الرجال ونهب الأموال وأسر النساء والأطفال، فأي سبيل كان يسلكه السيد المسيح مع أمثال هؤلاء؟ لو لحق الضير حضرته وعفا وصفح لكان هذا العفو والصفح من الأعمال المحمودة والمقبولة جدًّا، ولكنه لو رأى بأنّ ذلك الظالم القاتل السافك للدماء يريد أن يقتل جمعا من المظلومين ويسترق نساءهم ويؤذي أطفالهم فلا شكّ أنّه كان يعمل لحماية هؤلاء المظلومين ويمنع عنهم ظلم الظالمين ... وفضلا عن هذا كان تهذيب أخلاق القبائل ومنعها من سفك الدماء هو عين الموهبة، وردع تلك النفوس وزجرها هو محض الرحمة والعناية (15) ... إنّ غزوات حضرة محمد (ص) جميعها كانت دفاعية". (16) ونقرأ في إنجيل لوقا إصحاح 22 آية 36: "فَقَالَ لَهُمْ (المسيح) لَكِنْ الآنَ مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذَلِكَ وَمَنْ لَيسَ لَهُ فَلْيِبعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيفًا" والشيء الذي يسترعي الإنتباه هنا هو ما حاجتهم لشراء سيف وهم لم يكلّفهم السيد المسيح بحمله أو استعماله؟ ما لم يكن المقصود من سيأتي من بعده، كما تحقّق ذلك بظهور سيدنا محمد (ص) حيث كان وقتها السيف ضروريا لحماية المؤمنين.
والآن بَقِيَ لنبي الله عشر سنوات أُخرى ليعيشها. كانت سنوات حافلة بالأحداث والإنجازات، ففي معركة بدر أُجبر أهل مكة على الفرار. ثمّ قاموا بعد فترة وجيزة بثلاثة آلاف مقاتل وهاجموا سيدنا محمد (ص) ورجاله الألف عند جبل أُحد الذي يبعد عن المدينة بثلاثة أميال. في الواقع، سيدنا محمد (ص) ما أحب الحرب قط، ولكن لم يكن لحضرته خيار. كان حضرته في الحرب نبيلا ولطيفا حتى إنّ أعداءه كانوا ينعتونه بالمخنّث لرقّة قلبه. وعندما وقع حضرته في واقعة أُحد، سأله أحد الصحابة أن يلعن العدو، فأجابه: "أنا لم أُبعث لأكون لعنة على البشرية، بل أُمرت أن أكون داعية خير ورحمة". (17)
كان ذلك في واقعة أُحد عندما زحفت النساء الوثنيات إلى المعركة، يضربن دفوفهن ويغنّون: "نحن بنات نجم الصباح، كم هي طرية تلك السجّادة التي تطأ عليها أقدامنا ... وأعناقنا تزيّنها القلائد واللآلئ، وضفائرنا يعطّرها المسك. إنّ كل شجاع وقف في وجه خصمه سنعلّقه مدالية على صدورنا، أمّا الجبان الخسيس الذي يفر سوف ندوسه بأقدامنا ... كما أنّ عِنَاقَنا لن يكون لهم!" وكان ذلك في هذه الموقعة عندما قامت النسوة ببقر بطون الأموات من المسلمين – حيث قامت هند – تلك المرأة الشرسة، سيّئة السمعة – زوجة رئيس أعداء الرسول (ص) – أبو سفيان – ببقر بطن أحد أبطال المسلمين – حمزة عم الرسول – وافترست كبده متشفيّة لثأرها. كانت هذه هي المعركة التي خسرها المسلمون بسبب عدم طاعة رماة السهام – الذين يسيطرون على حركة فرسان العدوّ، فتركوا مواقعهم الإستراتيجيّة يطلبون الغنيمة. يومها أُصيب النبي بجرح في فمه وبصدغه، وأُشيع في المعركة أنّه قُتِلَ. بكي عليّ بحرقة وأسى عندما رأى النبيّ والدم يسيل على وجهه، فذهب على الفور وأحضر بدرعه بعض الماء ينظّف وجهه ويقول: "يا رسول الله، إنّي أغسل الدم عن وجهك – علّ رجالك يعرفونك". (18) بعدها قام عليّ ورفع راية النبي ولَمَّ شعث المسلمين المهزومين. كان انتصار عبدة الأصنام مكلفا للغاية، وبعدها تفرّقوا لفترة، ثمّ تجمّعوا ثانية في سنة 627م وعادوا بـ 10 آلاف مقاتل وحاصروا المدينة. وبناء على نصيحة سلمان الفارسي الذي اقترح على النبي حفر خندق حول المدينة – وهي خطّة دفاعية عسكرية لم تكن معروفة لدى أهل الجزيرة العربية من قبل، وقرّر النبي الأخذ بها. وبدأوا بالفعل في حفر الخندق، وعمل النبي نفسه مع الآخرين في حفره. شاهد عيان يقول: "رأيت النبي ممسكا بمعوله ... ضرب به صخرة صوّان ضربة تجاوزت قوّتها كل أُولئك العاملين معه، خرجت منها شرارة وهو – سلّمه الله – يقول: "في هذه الشرارة رأيت مدن كسرى" ثمّ ضرب ضربة أُخرى وكأنّها انفجار، وخرجت شرارة أُخرى فقال: "حقًّا رأيت فيها مدن قيصر التي سيعطيها الله من بعدي إلى قومي". (19) كان الحصار 15 يوما، ولكن الخندق حصّن المدينة وحماها، ثمّ هبّت عاصفة أرغمت العدو على فك الحصار والفرار، وهكذا تغلّب الإسلام هذه المرة.
ذهب سيدنا محمد (ص) بعد معركة أُحد إلى ابنته فاطمة، وعندما وقعت عيناها عليه انفجرت في البكاء وأخذت تقبّله في فمه، فقال لها: يا فاطمة ! لماذا تبكين !؟ فقالت: أراك مرهقا متلحّفا بعباءة بالية، فقال لها: إنّ الله أوحى إلى أبيك بأنّه هو الذي يضع العزّة أو الذلّة في أي بيت يشاء، أكان من طين أو شعر؛ وأوحى إِلَيَّ أنّ ذلّتي ستلازمني لتصل بي حيث الليل وصل (20) ... (بمعنى تنتهي قريبا). هنا سيتذكّر البهائيون نوبة الألم والحزن المفاجئة التي أصابت الصبيّ عبدالبهاء لحظة رؤيته والده – حضرة بهاءالله – عندما أحضروه إلى خارج زنزانته في سجن سياه شال (الحفرة السوداء).
إنّ رابطة الدم القديمة في أنحاء الجزيزة العربية قد حلّ محلّها الآن رابطة أوسع وولاء أكبر. ولأول مرة تتوحّد القبائل العربية المتعادية تحت راية واحدة ... هي الإسلام. قال تعالى: "لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ" (8/63). فتح سيدنا محمد (ص) مكة في سنة 620 م ودخلها بطريقة سلميّة لا نظير لها، وخاطب أهلها قائلا: "ماذا ترون أنّي فاعل بكم ؟ فقالوا: "أخ كريم وابن أخ كريم". فقال لهم حضرته اذهبوا فأنتم الطُّلقاء" ثمّ أردف قائلا: " أقول لكم ما قاله أخي يوسف لإخوته: "قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (12/92). حطّم نبي الله أصنام الكعبة وسوّى بها الأرض قائلا: "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا" (17/81). وهكذا دخل العرب في دين الله أفواجا. وبمجرّد أن تعلن قبيلة إسلامها، كان الرسول (ص) يرسل لهم معلما يعلّمهم الإسلام. يقول له: "تعامل مع القوم برفق، ولا تتسرّع، أَدْخِل الطمأنينة والفرحة إلى قلوبهم ولا تحتقرهم أو تقلل من شأنهم. إنّ مفتاح الطريق إلى الجنّة أن تشهد أنّ الله حق، وأن تعمل من أجل الخير". (21)
أرسل سيدنا محمد (ص) أيضا رسائل خطّية وسفراء يعرض فيها الإسلام على حكّام العصر وملوكه – إلى مَلِكِ فارس وامبراطور الحبشة، وهِرَقْل وامبراطور بيزنطة، وسلطان مصر، وحاكم اليمن، وزعيم بني حنيفة في نجران. أمّا ملك الفُرْس فقد غضب بشدة عندما رأى اسم محمد قبل اسمه على الرسالة فمزّقها على الفور. قال سيدنا محمد (ص) حينها: "سوف يمزّق الله مملكته بنفس الطريقة".
وَقَعَ رسول الله بعد ذلك فريسة للمرض فقد أصابته حمّى شديدة ألزمته الفراش. كان أحد الصحابة بجانبه فوضع يده على جبين حضرته وقال: "كم الحرارة شديدة عليك!" فقال حضرته: "نعم! حقّا! ولكنني، خلال الأوقات العصيبة كنت أكرّر حمدي لله في سبعين سورة بما فيهم السور الطويلة السبع" فقال الصحابي: "لماذا لا تخلد إلى الراحة، وتسهّل الأمر على نفسك، أَلَمْ يعفو عنك ربّك؟" فأجاب (ص): "ألهذا لا أكون عبدا شكورا؟". (22)
ولمّا كانت حالة حضرته من سوء إلى أسوأ، سأل إذا كان في البيت أيّ ذهب، وعندما قيل له نعم! يوجد، أصرّ حضرته أن تقوم زوجته عائشة وتتصدّق به على الفقراء، وأنّه لن يرتاح له بال حتى تفعل ذلك، ثمّ قال: "لن يكون أبدا أن أقابل ربّي وهذا الذهب لا يزال بيدي". وعندما كان حضرته يعاني سكرات الموت طلب قرطاسا وقلما ليكتب وصيّته، ولكن عمر بن الخطّاب قال: "إنّ رسول الله يهذي من شدة الحمّى، يكفينا كتاب الله". فقال له أحد الصحابة الحاضرين: "أنبي ويهذي؟" أَوَلَيْسَ هو القائل: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (53/4) فأجابه عمر: "وهو القائل أيضا: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ". (18/110) وهكذا – بدلا من أن يذهبوا ويحضروا القرطاس والقلم – عَلَت أصواتهم في جدال عقيم بجوار فراش حضرته، فصرفهم الرسول من محضره. وبينما كان حضرته يهمس بصلاته صعدت روحه الطاهرة في 8 حزيران (يونيو) سنة 632 ميلادية. (مرضية جيل-مترجم)
المراجع
-----------------
1. Life of Mohomet, Dermenghem, 31
2. Ibid, 73-74
3. Holly Qur’an, Rodwell, 225-226 n
4. Spanish Islam, Dozy, Rinhart, 15
5. The Spirit of Islam, Ameer Ali, 98
6. The Preaching of Islam, T.W. Arnold, 13-14
7. The Book of Iqan, Baha’u’llah 82-83
8. The Spirit of Islam, Ameer Ali, 100
9. Gleanings from the Writings of Baha’u’llah, 83
10. Epistle to the Son of the Wolf, Baha’u’llah, 76
11. The Spirit of Islam, Ameer Ali, 107
12. The Book of Iqan, Baha’u’llah, 147-148
13. The Life of Mohammad, Muir, 518
14. Prayer and Meditation, Baha’u’llah, 150
15. Some Answered Questions, Abdu’l-Baha, 7, 20-21
16. Ibid, 7, 18
17. Muhammad, The Prophet, Maulana Muhammad Ali, 1924, 262
18. Chronique de Abou Djafar Muhhammad-ben-Jarir Tabari, tr. by M.H. Zotenberg, 1871, III, 33
19. Ali Tabari, The Book of Religion and Empire, tr. by A. Mingana, 1922, 44
20. Ibid
21. The Spirit of Islam, Ameer Ali, 208
22. The Life of Mohammad, Muir, 488
#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟