خلافا لراسل جاكوبي الذي يقدّم في (نهاية اليوتوبيا) عرضا ساخنا لمختلف تعاريف الثقافة , على خلفية نقد شعار التعددية الثقافية , تجد تيري إيجلتون في (فكرة الثقافة) يضع مفهوم الثقافة في فوضى المنظومة التي تبحث عن تعيينات تتحدد بها دون أن يقدم أي تحديد أو تعريف لها. وهو يفعل ذلك على أرضية وإن كانت تبدو ظاهريا قريبة من التي يبني عليها جاكوبي بحثه , إنما تختلف عنها جوهريا. فجاكوبي يعتمد في نقده المحدِّدات المسبقة فيحدد نفسه وما يمكن أن يصل إليه مقدَّما بتعيينات جاهزه , بينما يعتمد إيجلتون المُغّيَب , العناصر المهملة في بحثه عن فكرة الثقافة , مما يجعل التعيين قائما على عناصر مفتوحة , ويجعله نفسه مفتوحا على احتمالات شتى بما فيها نسف فكرة الثقافة القائمة.
من شأن قراءة أولى لكتاب تيري إيجلتون (فكرة الثقافة) أن تضعنا أمام فكرة تحديد مفهوم الثقافة بعناصر غائبة أو مهملة . فإيجلتون يضع في كتابه المذكور مفهوم الثقافة في فوضى الإجابات عن الأسئلة التي يمكن أن يطرحها حضور العناصر المغيّبة , حيث الفوضى سيرورة تشاكل وانتظام معقدة تفضي إلى أنساق وأنظمة جديدة باستمرار. وبهذا المعنى يكون النظام من طبيعة الفوضى. على أن إيجلتون , رغم ذلك , يبدو محكوما في بحثه بمفهوم إيجابي للثقافة أو " بشحنة إيجابية " لها , وبالثقافة كبنية فوقية في آن , مما يجعل الوجود الثقافي , في دراسته , وجودا منفصلا , على الرغم من نقده لفصل الوجود الثقافي , وقوله بـ "ذات جوهرية , ليست ذاتا خارج الصياغة الثقافية أو التشكيل الثقافي , بل ذات مشكّلة ثقافيا بطريقة مخصوصة ذات انعكاس أو ارتداد ذاتي ". ولن نتوقف , هنا , عند ما يحيل إليه هذا التحديد الذي يكون المعني به , وفقا لأليكسي لوسيف في (فلسفة الأسطورة), هو الشخصية وليس الذات , من حيث أن الشخصية تكون ذاتا مشكّلة ثقافيا , فذلك موضوع بحث آخر. وبصرف النظر عما قد ينتهي إليه إلقاء المفهوم في بحر التشكّل الذاتي , فإن إيجلتون ينتهي إلى أمر بالغ الأهمية هو الدعوة لإعادة الثقافة " إلى مكانها المناسب " الدعوة التي يختتم بها بحثه عن فكرة الثقافة , والتي تأتي منطلقة من قاعدة " أن المقدرة على الثقافة و التاريخ ليست مجرد إضافات تنضاف إلى طبيعتنا , وإنما تقع في اللب منها. ولو كنا كائنات ثقافية وحسب , كما يقول الثقافويون , أو كائنات طبيعية وحسب , كما يقول الطبيعيون , لكانت حيواتنا أقل انشحانا وامتلاء بكثير. ولكننا عند تقاطع الطبيعة والثقافة , الأمر الذي يحظى بأهمية عظيمة بالنسبة للتحليل النفسي وهو ذات الأمر الذي يخلق المشكلة بالنسبة لنا. فما يجعل حياتنا عسيرة ليس أن الثقافة طبيعتنا , وإنما أنها من طبيعتنا ". و ينتهي إيجلتون إلى أن طبيعتنا المنفتحة على الثقافة , تأتي من كون الأخيرة تشكل ضرورة بقاء بالنسبة لنا نحن الذين نولد ضعفاء. غير أن تحول الثقافة إلى " طبيعة ثانية , عنيفة , وثابتة , وثقيلة الوطأة , وأساسية تماما " لا يأتي إنجازا لخديعة من قبل الرأسمالية المتقدمة , كما يظن إيجلتون , خديعة غريبة عن طبيعة الثقافة ذاتها. إنما طبيعة الثقافة تأتي من طبيعة كل بيولوجي – ثقافي , يجد جزؤه الأول (البيولوجي), القاصر عن الخلود , خلوده في جزئه الثاني (الثقافي). ومنه , فالإنسان الذي يعيش عمرا بيولوجيا محدودا (قصيرا) يكون مهيأ بيولوجيا لأن يعيش عمرا ثقافيا أطول من عمره البيولوجي. أما طول عمره الثقافي فيتحدد بتعيين خارجي ثقافي , أو بتفعيل ثقافي للعناصر البيولوجية , التي ما لم تعّين تفقد ضرورة وجودها و تتلاشى. لذلك فإن الخلود الثقافي الذي يتحدث عنه إيجلتون يكون لوجود بيولوجي ثقافي في آن معا. على أن الخلود ,هنا , لا يعني حضور الثقافة وحدها في الأشكال الثقافية , بل البيولوجيا أيضا.
أما القول بالحضور البيولوجي في الثقافي فيأتي , بالضرورة , مترافقا مع القول بالحضور الثقافي في البيولوجي , و لذلك فهو لا يصلح لأن يؤخذ به كأساس للقول بالتمايز الثقافي بين الشعوب على أساس بيولوجي , القول الذي ينتهي بصاحبه إلى العنصرية. فالعلاقة بين البيولوجي والثقافي تكون في كل شعب كما تكون في كل إنسان فرد , بصفته وحدة بيولوجية ثقافية , بصرف النظر عمّا يقال عن تخلّف الثقافة و تقدّمها , وعن مؤشرات الذكاء (العرقية). وإذا كان " المعنى الدقيق للانتماء إلى ثقافة هو أن تكون جزءا من سياق مفتوح النهاية أصلا " , كما يقول إيجلتون , فإنه انفتاح يترافق , بدرجة ما , مع مرونة بيولوجية (انفتاح بيولوجي) فيؤدي إلى ما يمكن أن يكون بمعنى ما(البيولوجيا الثقافية). ولما كنا أمام علاقة الثقافة بالبيولوجيا نجد من المفيد التوقف عند عمل مايكل كاريذرس (لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟) فهو يتساءل في كتابه هذا عن الطبيعة البشرية التي تجعل التباين الاجتماعي- الثقافي بين البشر ممكنا , كما أي تباين آخر , بحثا عن مجموعة القدرات التي تسمح بخلق تباين ثقافي , فيجد نفسه مضطرا للجوء إلى البيولوجيا :" لقد بدأت باستخدام أفكار أستقيها من علم الحياة (البيولوجيا). هل معنى هذا أن تكون الاستجابة في إطار البيولوجيا ؟ أم أن ثمّة شيئا أكثر من هذا , شيئا إنسانيا فريدا , يتجاوز حدود البيولوجيا و يقتضي أسلوبا مغايرا في التفسير ؟" وهو, كعالم أنثروبولوجيا , في محاولته لإيضاح التاريخ التطوري للقدرة الكامنة على التطور , لا تأتي الأنثروبولوجيا الثقافية- الاجتماعية التي يقول بها مناقضة للأنثروبولوجيا البيولوجية. فالمرونة , المعبّر عنها بالقدرة على التشكّل ثقافيا- اجتماعيا , لا يمكن أن تكون غير بيولوجية الأساس. ومن غير المهم هنا افتراض وجود عقل مسبق أو عدمه. فالقول بالقدرة على التعلّم يعني القول بعقل خاضع للتطور أي للتغيير في كل الحالات. و لذلك فإن النظرة التطورية الأنثروبولوجية الاجتماعية التي يحاول كاريذرس تفسير قدرتنا الإبداعية الجمعية بناء عليها " ترتكز في الحقيقة على طبيعتنا كنوع بشري " بيد أن هذه الطبيعة البشرية الاجتماعية الجوهرية التي تتيح الخلق وإعادة الخلق بصفته خلقا جديدا , لا تعبّر عن نفسها اجتماعيا فقط , أي لا ينحصر ظهورها بالخارجي الثقافي. ثم إن الحديث عن ثقافي جمعي يخص جماعة معينه , لا يسمح بالحديث عن بيولوجي جمعي يخص هذه الجماعة دون غيرها , فالجوهر البيولوجي عام , بينما يكون الجوهر الاجتماعي الثقافي , بصفته ظاهرة , خاصّا. كما أن القول بترافق الثقافي مع البيولوجي , لا يعني أن تغيرات بيولوجية تحدث بوتائر تواكب التغيرات الثقافية , وإلا لصدقت أفلام الخيال العلمي وتحولنا إلى روبوتات تتحسس الحالة الثقافية الجمعية و تتطور وفقا لمتطلباتها ذاتيا. و لكن إذا كنا لا نختلف بيولوجيّاً عن الإنسان القديم بدرجة تقارب اختلاف معارفنا عن معارفه , فليس فقط لأن مرونة البيولوجي هي مرونة حركة الأجزاء في كلّ هو المتعضية , كُلٍَ عليه أن يكون ثابتا بدرجة قصوى , ويكون على مرونته أن تضمن ثباته رغم التبدّل الدائم الذي تخضع له أجزاؤه , إنما ولأن حالة الثقافي ,على العكس من ذلك , حالة كل افتراضي يتغير و يتبدل , أجزاؤه أكثر ثباتا منه ككل. وهكذا تكون قاعدة ما ينتهي إليه كاريذرس حين يقول : " إن التعلم و العيش المشترك و تغيير العالم الاجتماعي إنما يجري بين الناس و ليس في داخلهم " ,هربا من أنثروبولوجيا بيولوجية عنصرية , نظرة جزئية إلى البيولوجيا تجعلها خاصة , فلا تختلف بذلك نظرته , جوهريا , عن النظرة التي ينتقدها , على الرغم من أنه يقترح , كما يقول ," معاهدة سلم جديدة في منطقة الحدود بين الأنثروبولوجيا الاجتماعية الثقافية و[..] البيولوجيا " سعيا نحو " فهم أنثروبولوجي اجتماعي ثقافي متسق أو متكافئ مع فهم بيولوجي ".. وهو في محاولته فهم قدرة البشر على صنع التاريخ التي أفضت إلى إمكانية " صناعة التاريخ دون تدخل عملية الانتخاب الطبيعي " يلغي فعالية التاريخ الانتخابية. فكأن التاريخ لا يمثل بذاته طبيعة تقوم بالانتخاب , و كأن الناس الذين يصنعون التاريخ لا يعيد التاريخ صناعتهم ! وكاريذرس يفعل ذلك تحت تأثير نظرة تجزيئية , حيث يكون الفصل ميكانيكيا في الكثير من الأحيان ويؤدي ليس إلى تفكيك الكل إلى منظوماته الجزئية , إنما إلى تقطيعه إلى قطع في كل منها أجزاء من المنظومات الجزئية. ناسيا أن الكل لا يتكوّن من أجزائه فقط , إنما ومن أشياء إضافية يخلقها الوجود المشترك و العمل الوظيفي المشترك. والأهم من ذلك هو أن ما يكون به الكل , و لا يكون به وحده , يضيع في عملية كهذه , أي يضيع ذلك الذي يجعل وجود الكل ممكنا و الذي يكون شيئا أو مادة , كما يكون وظيفة. ناسيا أيضا أن مجرد فصل الجزء يعني وضعه في كل جديد , في منظومة جديدة , ويعني ضرورة النظر إليه من زاوية هذا الكل الجديد , أي يقتضي نظرة جديدة بعد إنجاز عملية الفصل تكون غير تلك التي أسست لها. ومنه فإن نظرة كاريذرس التفكيكية إلى منظومة التطور(التاريخ التطوري العام) و التاريخ البشري , تفرز منهجا تجزيئيا يتعقب مكوّنات ما يسميه (الروح الاجتماعية) التي تكونها مجموعة من القدرات هي " القدرة على الذكاء الاجتماعي و الوعي المكثف بالذات و بالآخر و بالابتكارية و الفكر الروائي. وهذه جميعها تمثل الطبيعة البشرية المشتركة التي تشكل أساسا لقابلية التغير الاجتماعي و الثقافي". وهكذا تفضي محاولات تأكيد الكل الافتراضي (الروح الاجتماعية) , إلى تأكيد أجزاء بإجابات تضع الكل موضع الشك ,على الرغم من أنّ الكل الموضوعي ظهر عرضيا أثناء سعي كاريذرس إلى "فكرة عامة عن الآلية التطورية تتسق مع فكرة التطور المشترك , التي تفيد أن الكائنات الحية يمكنها أن تحدث تغييرات في البيئة و هي تغيرات تؤثر فيها تأثيرات داعمة , وتخلق بذلك دائرة تغذية مرتدة إيجابية. والخاصية الوحيدة المميزة للتطور البشري هي أن الاستعدادات الاجتماعية البشرية و نتائجها غير المتعمّدة أضحت قوة انتخابية فاعلة في ذاتها ". ففكرة التطور المشترك و فكرة أن الإنسان ليس مجرد حيوان يصوغه مجتمعه وثقافته , إنما هو يصنع مجتمعه وثقافته أيضا , أكدت نفسها و تأكدت بما سيقت من أجل تأكيده من جزئيات كاريذرس. بيد أن فكرة التطور المشترك تقتضي التسليم بخضوع الإنسان , بمعنى ما , لإعادة التَشكُّل بصورة دائمة. فإلى أي حد يكون الإنسان منفتحا على التطور ؟
أخيرا , إذا كان في الثقافة سعي إلى الخلود , فإنها بذلك تجيب عن أهم أسئلة البيولوجيا القاصرة عنه. لكنّ الثقافة تعيد طرح سؤال الخلود الصعب على البيولوجيا ؛ فإلى أي حد تكون البيولوجيا قادرة على الإجابة عن سؤال الخلود ؟ ذلك ما يتم الاشتغال عليه اليوم.
-انتهى-