هل الفيدرالية في أزمة أم الديمقراطية العراقية في أزمة ..؟
هل يتغير العراق من الروح الفردية إلى الجماعية ..؟
هل نحذف من الديمقراطية فيدرا ليتها أم نحذف من الفيدرالية ديمقراطيتها ..؟
هل الفيدرالية اتحاد أم انفصال ..؟
هل قضايانا المصيرية حالة مألوفة أم تحتاج إلى مزيد من الوعي ..؟
هذه وغيرها من الأسئلة الكثيرة تجد صداها في مجلس الحكم الانتقالي وفي عدد كبير من صفحات الجرائد والمجلات العراقية والعربية والعالمية .. بعضها يتناسب مع الوعي الديمقراطي وبعضه متشدد وآخر متحجر وهناك ثمة من يحاول بمؤثرات خارجية أو داخلية أن يجعل منها نقطة صراع في مسار الوحدة الوطنية العراقية .
في استطاعة المرء أن يقف قليلاً عند مطلب الشعب الكردي بتحقيق مبدأ الفيدرالية كافتراض شرطي لتطبيق الديمقراطية في العراق الجديد من جهة ، وكطريقة مجربة من شعوب أخرى لحل إشكالية الوحدة الوطنية من جهة أخرى .
هذا المطلب ، أي الفيدرالية ، ليس منهجاً جاهزاً أو متكاملاً يمكن استخدامه على الفور بلا عيوب أو نواقص أو مآخذ .. فـ" المطلب " في مضمونه الجوهري لا يمنح من أحد ٍ كما تمنح الحلوى أو الكمثرى .
إنها بأبسط وأعقد حقائقها ناتجة بالأصل عن شكل ونطاق ومحتوى الوجود الداخلي والخارجي لبلد كبير حباه الله بثروات جزيلة وبجزالة متعددة من بشر متوافق منذ آلاف السنين في الأفكار والأرض والمياه والدين والمثل الإنسانية العليا وبأحلام مشتركة وواجبات إنسانية واعية . هذا الوجود ــ أي الوجود الفيدرالي ــ كأي قضية وجودية إنسانية أخرى تحتاج ــ حسب مقولة هيجلية ــ إلى تكييف مع الواقع الذي يجتازه العراق بعد تحرره من الفاشية تماما مثلما تحتاج جميع قضايا الشعب الأخرى كالحرية والديمقراطية والتنمية الاقتصادية والكرامة الإنسانية إلى نضال يومي حثيث وواسع لتحقيق مكيفاته العديدة .
ليست قضية الفيدرالية مستقلة عن غيرها من موجودات الوطن العراقي .
وليس هي صورة مجردة ذات امتياز يمكن بواسطتها تخيل تفاصيلها .
وليست الفيدرالية " شعاراً كرديا ً " يصنف الشعب الكردي تصنيفاً خارج الواقع العراقي باعتبارها غاية عليا ونهائية للشعب الكردي .
إذن ما هي الفيدرالية ..؟
هل هي قضية خارج الواقع السياسي في العراق ..؟
هل هي " مذهب " خارج مسار التاريخ الإنساني أو خارج نظام إدارة دول وحكومات الشعوب الأخرى خاصة في العصر الراهن ..!
أم هي بدعة سياسية جديدة تقبل الرد وتحتاج إلى برهان حتى نجد هنا وهناك في بعض الصحف والأحزاب والمجالس من يجد ظهور أفكار صارمة لرفضها أو من يجدها كما لو كان محلها تناقضا ً موضوعاً في شِباك تناقضات المرحلة الانتقالية .
كثيرة هي الأفكار والرؤى المؤيدة والمعارضة . بعضها يستند إلى فهمها حقا وبعضها ينطلق من ضيق الأفق وبعضها يعتبرها درساً مهماً من دروس المنطق الديمقراطي .
لستُ كردياً ولست حزبياً ففي استطاعتي الانطلاق من وطنيتي باستقلالية تامة لتقديم وصف لبعض الأفكار العامة والخاصة حول الحاجة التي تدعو العراقيين والمثقفين منهم خاصة للبحث في الوجود الأساسي لفلسفة الفيدرالية العراقية أو الفيدرالية الكردية .
قضية الفيدرالية هي ، بلا شك ، قضية جدلية بطبيعتها بمعنى أنها واحدة من العناصر الرئيسية في الوسائل الديمقراطية المعنية بالمهمات الثلاث التالية :
1 ) توسيع القاعدة الشعبية في الحكم الوطني .
2) توزيع المسؤولية الإدارية ..
3 ) تقوية مقدرة السلطة التنفيذية .
حول هذه المهمات تتشكل الثلاثية الأساسية في بناء دولة حديثة بوجهها الديمقراطي من الناحيتين النظرية والتطبيقية . لا بد من التذكير هنا ان الفيدرالية ليست اختراعا عراقياً وليست اكتشافاً كردياً عراقيا فلو بحثنا هذا الصدد لوجدنا ان الكثير من شعوب العالم قد سبقتنا في تأسيس وترسيخ أنظمة الحكم الفيدرالية ( منذ القرن الثامن عشر ) وقد دخلت تجارب تلك الشعوب في مسارات مختلفة ومتنوعة ومتعددة الأشكال تجمعت من خلالها خبرات كثيرة وتجارب كثيرة وأزمات كثيرة واخفاقات كثيرة ونجاحات كثيرة ، أصبحت جميعها حصيلة في متناول الحركة السياسية والوطنية العراقية ( العربية والكردية والتركمانية ) للاستفادة منها علميا وتجريبياً لنقيم دعائم النظام الجديد للشعب العراقي كله .
هذا الفهم يعني أنه لا توجد لا في الصيدليات ولا في المكتبات ولا في ملفات وزارة خارجية الدول الفيدرالية التي سبقتنا وصفات أو تقارير أو رسومات خرائط جاهزة كي نأخذها اليوم أو نستوردها لبناء الفيدرالية العراقية غداً ..!
حتى الأحزاب الوطنية والقومية العراقية ، العربية والكردية والتركمانية ، لا تملك مكاتبها عياناً واضحاً ونهائياً لشكل الفيدرالية . وإذا ما وجد فأنها تشكل مضموناً للدراسة ومعرفة درجات اتساقها مع الواقع العراقي يتبدى ويتجوهر بالتمحيص والحوار والتغيير والإضافة والتعديل وكل ما يؤدي إلى نتيجة منطقية في الصورة الواضحة المعبرة عن تطلعات الشعب العراقي كله وآماله كلها .
نعم .. يوجد عقل كردي فيدرالي تنامى من خلال الوعي والتجربة لأكثر من نصف قرن .
يوجد وعي سياسي لدى عرب العراق وبمستوى عال استجمع ملكاته من تجارب الزمن المعاصر في أنظمة الدولة الفيدرالية في عدد كبير من دول العالم المؤسسة على أنواع متعددة من الفيدرالية قائمة ببساطة ومن دون تعقيد على القانون الديمقراطي الكلي وعلى القانون الفيدرالي الجزئي .
وجود هذه الأنواع لا يراه غير أصحاب الفكر النير الديمقراطي من مختلف الجهات السياسية ومن مختلف العقائد والقوميات القادرة على فهم حقيقة أن الفيدرالية وسيلة " بسيطة " و " مركبة " في آن واحد ..
بسيطة لأنها سمة متناسقة مع معطيات الديمقراطية .
ومركبة لأنها لا تبلغ أهدافها بصورة تجريدية محدودة بل بكفاح وجهد الشعب كله .
من هنا فأن اتحاد العقل الكردي الديمقراطي مع الوعي الديمقراطي ومع الوعي التركماني المتشابه ومع غيرها هو الضمانة الأكيدة التي تستطيع بها الدولة العراقية الجديدة من إقامة فيدرالية طوعيه نحقق بها جميع الظواهر والصور لجميع الحقوق والواجبات الإنسانية والوطنية الملقاة على عاتق المواطنين العراقيين من كل جنس ولون وقومية ومعتقد ، تؤدي أول ما تؤدي باللحظة الحاضرة إلى وضع العراق بثقله المادي كله وبقواه الجماهيرية الداينميكية كلها على السكة القياسية الصحيحة الموصلة إلى الديمقراطية والتنمية . .
لا بد من القول هنا أن الأفراد والقيادات السياسية تظهر وتختفي ،
وأن الأفكار المتعددة الأنواع تظهر وتختفي ،
وأن تضارب الآراء يظهر ويختفي ،
وأن الفوضى تظهر وتختفي ،
وأن الأخطاء الكبيرة والصغيرة تبدأ وتختفي ،
لكن مصلحة الشعب العراقي هي وحدها تظهر ولا تختفي وأن المبادئ الديمقراطية ظهرت في بلادنا منذ عقود عديدة وسوف تتوسع ولن تختفي . أنها مثل الأجرام السماوية تدور وتدوم وتتكرر رؤياها في عيون الناس وفي حياتهم في كل يوم . وقد أثبتت تجارب شعوب متطورة كثيرة في أوربا كيف حقق الناس في سويسرا وفي ألمانيا وفي 75 دولة أخرى في العالم مثال العلاقات الفيدرالية كشيء دائم وكمبدأ عام قابل للتغيير والتطوير مع الزمان إذا ما آمن الناس بالنظام والبساطة داخل دولة تقوم على سيادة القانون وتبجيله .
من هذا المنطق أجد أن مستقبل الشعب العراقي كله يقوم أساسا على النظام الديمقراطي ــ الفيدرالي أي على نظام الإدارة اللامركزية باعتباره المستقبل الاتحادي الأوثق الذي يفرض نفسه كضرورة حتمية يقتضيها تاريخ العراق ومكونات شعبه وكانعكاس للصورة الإنسانية الرائعة في نضال جميع العراقيين بمقومات أصيلة ومشتركة طيلة عهود ظلامية كثيرة اجتاحت وطن الرافدين آخرها كان ظلام الفاشية الذي نشره عدو الإنسانية صدام حسين .
لاحظت في بعض الكتابات من يطلق فضل أفكاره بانتقاص الفيدرالية من ضرورة وجودها القومي لأن بعض الكتـّاب ــ عراقيين وعرب ــ يخشون منها على ضياع عروبة العراق ..!
بعض الكتابات وجدتها حماسية مطلقة .
وفي الكثير من الكتابات وجدت فيها الحكمة .
ولابد من التذكير هنا بالثقافة الإغريقية القديمة التي كانت تعتبر " الحكمة " أعلى مرحلة في مراتب العقل الإنساني وكان المشرّع القانوني الأثيني " سولون " الذائع الصيت واحداً من حكماء الإغريق السبعة وهو أعلى منصب في الدولة الإغريقية .
هل يعني ذلك أننا في مواجهة الفيدرالية بحاجة إلى حكمة ..؟
هل تحتاج الفيدرالية إلى حكماء ..؟
نعم بكل تأكيد .
فالفيدرالية التي ووجهت ذات يوم ــ قبل شهر ــ بمظاهرة في شوارع بغداد ومدن عراقية أخرى بلافتات رفعت شعاراً يقول : لا للفيدرالية .
بعض قوى الحركات القومية العربية في داخل العراق تقول أيضاً : ( لا للفيدرالية ) إن سراً وإن علناً .
دول من جارات العراق تقول ( لا للفيدرالية ) .
بعض القادة العرب يقولون ( لا للفيدرالية ) ..
لماذا ..؟
ما يظهره الفكر الصحفي السريع أن ( العين الخارجية ) لجميع هؤلاء لا ترى غير الضرر لما تسميه بعروبة العراق ناسية أو متناسية أو ربما أن حواسها لا تدرك أن العراق ليس وجوداً عربياً ( كلياً) وأن ( العروبة الكلية ) موجودة كحكم مطلق بعيداً عن نسبية الوجود الحقيقي والموضوعي في التركيبة السكانية العراقية وخصوصيتها الشديدة فلكي نكشف الوجود الحقيقي للقوميات في العراق لا يكفي أن نلتفت إلى معطيات ( العين الخارجية ) للأشياء كعضوية العراق في الجامعة العربية أو نتيجة معطيات ومنتجات العقل الفاشي الذي حكم الوطن العراقي طويلا مدعياً بألفاظه الجوفاء الشوهاء عن العروبة والقومية بينما أثبت مقياسه الحقيقي بغزو الكويت كواقعة كبرى في التاريخ العربي أنه معادٍ للقومية والعروبة وما شابهها من ادعاءات . تماما كما فعل مع الجارة إيران نافياً في واقعته الحربية بالعدوان على إيران كل ادعاءاته الإنسانية .
أن ما يريده الشعب العراقي في المرحلة الانتقالية ، الصعبة والمريرة ، هو ان تتم معالجة الأمور بـ" حكمة " عميقة وليس بالمواقف السياسية المحضة ، بل أن على السياسيين العراقيين أن يستجمعوا ملكاتهم العقلية والذهنية والسياسية بالابتعاد عن كل ما هو " ذاتي " محض لجعل كل قضية من قضايا الوطن والشعب تتحول بشكل مباشر أمام شعبنا والشعوب الأخرى وأمام المثقفين والصحفيين العراقيين والعرب والأجانب إلى قضية رئيسية من قضايا الشعب العراقي ليروها جميعاً بــ ( العين الداخلية ) كي يكتشفوا أن ( الفيدرالية ) ليست قضية كردية بل هي قضية عراقية وهي شكل جوهري من أشكال الديمقراطية .
أن المهمة الرئيسية الملقاة على عاتق الحركة الوطنية الديمقراطية هي الكشف الدقيق عن طبيعة الفيدرالية . فـ( الفلسفة النقدية ) لبعض أفكار الكتاب القوميين العرب تحاول أن توجد تعارضاً بين الفيدرالية الكردية ( الجغرافية ) وبين وحدة التراب العراقي ( الكلية ) متناسية ــ ربما عن عمد ــ أن الفيدرالية ليست اكتشافاً لغوياً عربياً بل أنها واحد من نتاج التجربة البشرية العالمية لتأسيس الكيانات الوطنية المتآلفة والمتحدة التي اثبت وجودها جدواها في تنظيم السلطات المركزية والإقليمية والمحلية بموجب نظريات مختلفة وظروف اقتصادية مختلفة وفي تطبيقات سياسية مختلفة ( ملاحظة : قارن هذه الفكرة مع واقع حال ومكونات الاتحادين السويسري والألماني ) .
باختصار أقول أن نتاج تفكير هذا النوع من الكتّاب يتجاهل أن ( الفيدرالية ) هي شكل من الأشكال الاتحاد والتطور ، وليس الانفصال كما يروج كثيرون .
لا شك ان المهمة الأولى للمثقفين الديمقراطيين العراقيين تتركز ، هذه الأيام بالذات حيث يناقش مجلس الحكم الانتقالي دستور البلاد المؤقت ، في أن يتعرضوا بشكل أساسي ليس فقط للجوانب النظرية في الفيدرالية وإنما المساهمة في شرح ( الجانب العملي ) الذي تقوم عليه وعلى مدى تأثيره على تشكيل الفيدرالية وإخراجها بالطريقة التي تكشف عن جوهرها في تعزيز الوحدة الوطنية العراقية وتسهيل إدارة الدولة اللامركزية الجديدة .
الفيدرالية في جوهرها لا تنفصل عن الطبيعة الحقيقية في الوجود الطبيعي العراقي . بمعنى أن الخوض فيها وتركيز قواعدها الدستورية حتى بأدنى مستويات فهمها هي وسيلة أساسية ومركزية من وسائل بلوغ المستوى الديمقراطي المنشود . فلا ديمقراطية حقيقية من دون فيدرالية حقيقية ولا إدارة ديمقراطية حقيقية لأجهزة الدولة من دون نظام إدارة لا مركزية حقيقية .
لقد أضفى وجودنا ، نحن العراقيين في أوربا ، على علومنا الديمقراطية فيضاً من الآراء عن الطبيعة الداخلية والخارجية في مضامين الفيدرالية والنظام الإداري اللامركزي كوسيلة إيجابية فعالة في تنظيم معتقدات الناس التي تعلم الناس جميعا مهما كانت معتقداتهم بأن " المواطن " أو " الحزب " اللذين لا يستطيعان أن يجعلا موقفيها مع روح العصر ومع القناعة الجماعية سيكونا مخطئين يحتاجان إلى مراجعة نقدية ذاتية .
أياً تقودنا مناقشاتنا حول الفيدرالية العراقية فأن النتيجة المحتمة لن تبتعد عن " الاتفاق " لآن كلمة " الفيدرالية " لها مغزى خاص ولأنها تعبر عن الفكر الحر والتعبير الحر لشعب العراق بكامله وهو يعاني طيلة ثمانين عاماً من آثار قهر سلطات الدولة المركزية، خاصة من الدولة العسكرية المركزية .
العراقيون جميعاً ، أحزاباً وأفراداً وتجمعات ، مدعوون للتحرر من الذات المحصورة في زوايا ضيقة والقيام بنشاط " كلي "بهوية عراقية واحدة والارتفاع إلى مستوى الحياة الوطنية المشتركة والمصالح المشتركة والمستقبل الديمقراطي المشترك .
كما قال أرسطو قبل خمسة آلاف سنة( أن هذه المرتبة لا نحصل عليها إلا عندما نترك جميع آرائنا الفردية ونسمح لأحكامنا المبتسرة تتساقط بحيث لا تخضع إلا لحكم الواقع .. ) ..
ما نحتاج إليه فعلاً هو رؤية الواقع ،
وحكمته ..