لا أدري، إن كان الفضول، أو دافع آخر، أو تلك المقولة الشهيرة، التي أطلقت – بمسؤولية - من على إحدى (الطاولات المستديرة)، حرضتني لأن أكون - كغيري - في عداد المستقبلين لمعتقلي مسيرة الأطفال ، أمام محكمة أمن الدولة العليا في دمشق . لأن فحوى المقولة (المسؤولة) تتلخص ، بأنه كلما أرادت السلطة أن تعيد النظر في الوضع الكردي، خرج البعض من (قبو مظلم) للإقدام على بعض الأعمال، التي من شأنها إثارة المشاكل، والتأثير على قرارات السلطة، في توجهاتها نحو حل المسألة الكردية، وبالتالي إعاقتها . وكأمثلة تم سوقها في هذا الإطار، واستند عليها (المصدر المسؤول)، ذاك التأكيد الذي جاءه من (المرحوم) رئيس مجلس الوزراء الأسبق، - في الوقت الذي كان المصدر عضوا في مجلس الشعب - بأن قرار حل مسألة المجردين من الجنسية، كان جاهزاً للتنفيذ، لولاً أن بعض الأوساط الكردية قد عبرت عن نواياها الانفصالية..؟! وبما أنني (وحسب توصيف المصدر) أنتمي إلى تلك الطائفة الخارجة من (القبو المظلم) ، كوني كنت في عداد المعتقلين لعدة سنوات – مع أنني لم أكن من الذين قاموا بتوزيع المنشورات والملصقات حينها - ، وتم تبرئتي فيما بعد، لسبب أجهله حتى اللحظة، وذلك بالمقارنة مع التهم الموجهة، (إثارة البلبلة والنعرات.. اقتطاع جزء.. معاداة أهداف الثورة.. إلخ)، فقط أعتقد أنه يعود إلى أن السلطة نفسها ، قد أدركت فيما بعد، بأنني لست في عداد الخارجين من (القبو المظلم)، حيث أنني لم أزل أتذكر جيداً ، تلك الجمل التي قالها أحد مسؤولي الأمن ، عند استقباله لنا – قبل التوديعة - ، في أنه لا يشك بوطنيتنا، وغيرتنا على الوطن ، وما تم اتخاذه من إجراءات (الاعتقال) ، مجرد تدابير احترازية لا أكثر . فالرجل، لم يأت على توصيفات (المصدر) لا بالنسبة لي، ولا حتى بالنسبة للأخوة أصحاب الملصقات. علاوة على ذلك، فإن محاميي الدفاع عن تلك القضايا، - وخاصةً بالنسبة للأخوة أصحاب الملصقات – كانوا محسوبين على التيار الوطني المعارض، والبعض منهم، له صيته وسمعته على امتداد مساحة الوطن. أقول، بما أنني كنت في عداد تلك الطائفة، وجدت نفسي أمام المحكمة المذكورة، لأقف على حقيقة ادعاءات (المصدر)، وأتبين الأمر، هل أن لهؤلاء، أهلهم وذويهم، ومستقبليهم ، كما كان يحتشد العشرات من الأخوة لاستقبالنا عند
كل جلسة، أم أنهم مثلهم مثل القنابل البشرية التي تتفجر في هولير والسليمانية ، وكل أرجاء العراق ، لا يمكن التعرف على هويتهم ، حتى بالاستناد إلى الخبرات الفنية المتاحة ، في أكثر الأحيان ..
لكن وما وأن يرى المرء ذاك الحشد، الذي يضم المواطن العادي والقيادي، المرأة والرجل والطفل، وممثلي بعض الأطر الكردية، بالإضافة إلى ممثلين عن لجان إحياء المجتمع المدني، ولجان الدفاع عن حقوق الإنسان، ومجموعة كبيرة من المحامين، وكذلك ممثلين عن سفارات كل من أمريكا وكندا وبريطانيا والنرويج، والمفوضية الأوربية، واقفين أمام المحكمة، تحت تلك العاصفة، التي اقتلعت الحديد والشجر من شوارع دمشق، رافعين بعض الشعارات، ومرددين بعض الهتافات، في حالة، تدعو إلى الاعتقاد فوراً، بأنها تعبير عن التقدير والاحترام لمستقبليهم ، يحتار حينها في الإجابة على (المصدر) .
لكن أرجو أن يتحملني (المصدر) قليلاً، كما طلب، هو نفسه، من غيره من أوساط السلطة تحمله، حين شرح لها ، بأن لكل دولة عملاءها وجواسيسها، ولنا أيضاً - يقصد الأطراف التي أقدمت على بعض الخطوات العملية في الحركة -، عملائنا وجواسيسنا ، تخرج من (قبو مظلم) لتثير الفوضى، كلما أقدمت السلطات على اتخاذ خطوات ، على طريق حل المسألة الكردية، لأقول له، إنها ليست هي المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة بالتأكيد .. فقد كانت النغمة ذاتها من على طاولة الجزيرة
أيضاً، وافتتاحيات جريدة (المصدر)، وأبواقه .. إلخ .
ورب سائل يسأل، فيما دعاني للكتابة حول هذا الموضوع، في هذه الفترة المتأخرة قليلاً عن تصريحات (المصدر)..؟. وفي الإجابة أقول، جلسة المحاكمة لمعتقلي المسيرة من جهة، وزيارة (المصدر) نفسه إلى كردستان العراق، لتقديم التعازي، ودعمه - المفترض- للنضال التحرري القومي الكردي هناك، من جهة ثانية.
فمن جهة المعتقلين، لا أجد داعياً لأن نقف عندها، كي نفند ادعاءات (المصدر) ونردها عليه، فقط يكفينا العودة إلى العهود والمواثيق الدولية، الخاصة بحقوق الإنسان، وحرية الرأي والتعبير بأشكاله المختلفة، وإلى بعض البيانات والنداءات التي أطلقتها بعض القوى في المعارضة السورية نفسها، وخاصة الجمعيات والمنظمات المهتمة بحقوق الإنسان. إضافةً إلى استحواذهم على احترام شارعهم العام، بالعديد من مثقفيه وسياسييه، وأطره التنظيمية .
أما بخصوص الزيارة - وهي هامة -، اعتقد أن (المصدر) قد وقع في شر ادعاءاته، لأنه وببساطة، فإن الجهات التي استقبلته، هي ذاتها تصنف في قاموسه السياسي، في خانة الخارجين من (قبو مظلم)، إذا احتكمنا إلى المنطق، وأردنا إجراء نوع من المقارنة بين المفاهيم ..
فالحركة الكردية في كردستان عامةً، هي حركة شعب مضطهد، تمارس أشكالاً من العمل النضالي، في سبيل تحقيق حرية الشعب الكردي، ورفع الغبن عنه، وإن اختلفت تلك الأشكال، وتجسيدات الأنظمة التي تقتسم كردستان. وبما أن هذه الحركة ذات نزعة تحررية، فهي بالتأكيد تقف على النقيض من المشروع السلطوي القائم على ركيزة الصهر والاحتواء، وكذلك الذهنية الاقصائية في المجتمعات التي تتقاسم العيش مع الشعب الكردي، والتي تستند في أغلب الأحيان إلى أدوات السلطة في لجمها للنزعة الإنسانية، التي تدعو إلى احترام إنسانية الإنسان، والتعددية السياسية، والخصوصيات القومية، والتي تتجسد في الكثير منها، في الدعوات الكردية، سواء هنا أو هناك. وبالتالي فإن وصف أصحاب بعض الممارسات العملية -السلمية- هنا، بالخارجين من (قبو مظلم) أو (بالجواسيس والعملاء) حسب توصيفات (المصدر)، يجب أن لا ينحصر فقط في الشارع الكردي في سوريا، وإنما لا بد أن يعمم (كمفهوم)، ليشمل الخطوات المماثلة التي تقع في كل رقعة جغرافية على سطح كوكبنا المجتمعي.. وهي – منطقياً - يجب أن تشمل، إضافة إلى التظاهرات السلمية، التي تقع هنا وهناك، في هذه البقعة أو تلك، منادية بحرية الرأي وحق التعبير، وببعض الحقوق القومية منها والإنسانية، وتدينها. الدعوات الكردية في كردستان العراق، كونها تحمل ذات الهدف، وذات الغاية.. أما أن تتم إدانة هذه الممارسات هنا، وتأييدها هناك، فهذا ما يدعو - للوهلة الأولى - إلى شيء من الغرابة..!. علماً أن مثل هذه الدعوات والتوصيفات، ليست بالطارئة، أو بالجديدة على الحالة الكردية، وتعرفها عن كسب، أخوتنا في كردستان العراق تحديداً، وبالأخص عند انهيار اتفاقية الحكم الذاتي، وخروج بعض الفئات على القيادات الكردية، لتلتحق بالنظام العراقي حينها، ثم ما لبثت أن عادت إلى رشدها فيما بعد، والتحق الكثيرون منها بصفوف الحركة.
أما، وعند محاولة ربط الأشياء ببعضها البعض - وهذه أتركها للمهتمين بالشأن -، فبالتأكيد، سنرى الحقيقة على عريها، وبالتالي لم يبق من مسوغات التبرير، وأسباب الغرابة..؟. خاصةً في معرض طرحنا لبعض الأسئلة، على المنطق الذي يحكم الأمور، سنتوصل إلى نتائج، إن لم تكن جوهرية، فهي على الأقل ستعطينا بعض الإجابات الشافية..
ومن أولى تلك الأسئلة -وسأجعلها آخرها- لماذا يتم الاعتماد على مثل هذه (المصادر)، وتغذيتها من بعض الأوساط، سواء من داخل السلطة، أو من خارجها.؟. وقد رأينا كيف أن الطرف الآخر في (الطاولة)، كان كريماً وسخياً في طرحه، حين أغدق الكثير من الهبات، والمجاملات للطرف (الكردي) – المصدر -، أوحى له من خلالها، بأنه سيكون المفتاح الأول والأخير، الذي سيكون من خلاله، (حل المسألة الكردية).
خاصةً وقد رأى ذاك الطرف (الآخر) أن جل اهتمامات (الطرف الكردي)، منحصرة في موضوع الجنسية، وتعتبرها بمثابة الحامل الأساس لحل قضيته القومية، ولا شيء سواه. وأنه على استعداد، بدل المطالبة بتحقيق الديمقراطية الحقيقية، والتعددية السياسية، وإلغاء قانون الطوارئ والأحكام العرفية، وحل القضية الكردية من منظور الحق القومي، والإفراج عن معتقلي الرأي، ومعتقلي الحق القومي والإنساني الكردي، وإنصافهم من خلال إعادة النظر في أوضاعهم، والتعويض عليهم.. إلخ . أقول بدلاً من كل ذلك، فهو (الطرف الكردي) على استعداد بأن يصنف الإرادة الكردية، الداعية إلى الحق والعدل، بالخارجين من ( قبو مظلم ) واتهامهم بـ (الجواسيس والعملاء).
ألا تستدعي المحاكمة المنطقية أن نقف هنا، لنسأل (المصدر) رأيه في الكثيرين من أخوتنا الكرد الشرفاء، الذين ذاقوا مراراً، مرارة القمع والملاحقة والاعتقال، على أيدي سلطات بلدنا، والذين، ولأسباب شتى، ما زالوا منضوين في الإطار الذي يقوده (المصدر)، وأين يصنفهم ..؟.
ثم أين نصنف أولئك الذين خرجت القامشلي بالآلاف من أبنائها، وكذلك المناطق المجاورة لها، لاستقبالهم.. وما الذي يجب أن نقوله في حق المستقبلين ..؟.
ألا يكفينا ما جّرت علينا مثل هذه السياسات والمواقف الانهزامية، من تشويه صورة النضال الكردي، وتقزيم طرحه السياسي، لدى الشارع الوطني ..؟. ثم أليس من حقنا – والحالة هذه – أن نعبر رفضنا وتذمرنا من مثل هذه المواقف والسلوكيات، وبالتالي عن رأينا بأن كل ما يقدم عليه بعض الفئات، التي تدعي تمثيلها للحق الكردي، لا تمثل عن أدنى طموحات شارعنا. وحتى لا نغالي كثيراً، ولا يتهمنا البعض بأننا نصادر أراء غيرنا، يمكننا القول، بأنها لا تنسجم مع ما تتطلبه استحقاقات النضال الكردي، وخصوصية قضيته القومية .
بقي أن نقول، أن على الشرائح الثقافية والاجتماعية الكردية، التي ترى وتؤمن بأن حل القضية الكردية لا تتجسد في المهادنة والاستجداء، والتفريط بالحقوق، أن تواجه مثل هكذا دعوات، وذلك من خلال الضغط على الأطر التي تقف على النقيض من تلك القناعات والمفاهيم - وتؤمن بأن تصعيد وتيرة النضال بأشكاله السلمية ، هي الكفيلة بانتزاع الحق الكردي - باتجاه البحث عن صيغة تقاربية من شأنها تأطير قناعاتها ومواقفها في إطار نضالي فاعل .