نوافق الأستاذ ميشيل كيلو على ضرورة الخوض أكثر في دقائق الأمور لإزالة أي سوء فهم حول المسائل التي يجري الحوار حولها، ونتفق معه تماماً على الفاصل الذي خطه بين الحوار للوصول إلى نتائج، وبين التجريح الشخصي الذي ينسف الحوار، لذلك نرفض كلياً ما جاء في مقال اليوسف، ونتمنى أن نتخلص من هذه الطريقة البدائية للتعامل بين ديمقراطيين، والتي ليست أكثر من طريقة لاستئصال الآخر بكلمات مبتذلة.
لأهمية المسألة الكردية العراقية رأينا ضرورة مواصلة الحوار لتتضح الوقائع والمفاهيم بشكل أفضل. بداية نتفق على الفيدرالية الإدارية إذا كانت "تقوم على أوسع حكم ذاتي ممكن" في إطار دولة عراقية موحدة. لكن حتى هذه النتيجة المتفق عليها بحاجة للمزيد من التوضيح لإزالة أي سوء فهم حول "إدارة من ولأي شيء". فالأكراد يطالبون بفيدرالية قومية وليس بفيدرالية عرقية جغرافية التي هي تسمية ملتبسة، حيث "العرقية" مفهوم سلبي يمكن أن يرفق بالتطهير مثلاً، كما أننا لا نفهم معنى إضافة "الجغرافية" إلا إذا كانت تعني المكان الجغرافي حيث الأكراد أكثرية السكان، فالجغرافية، تعني أكثر، فيدرالية بين شمال ووسط وجنوب وهي مرفوضة كلياً، أما من يطرح فيدرالية المحافظات –ال18- العراقية فهو يحاول الالتفاف على الحقوق القومية الكردية.
القومية الكردية ليست اختراعاً جديداً جاء مع الاحتلال الأميركي للعراق، فالكرد يقيمون على أرضهم ولم يهاجروا إليها من مناطق أخرى، وهويتهم القومية لا تحتاج إلى جدال لإثباتها، وإذا كانت تقسيمات الشرق الأوسط عقب الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية لم تلحظ لهم كياناً خاصاً إلى جانب الكيانات العربية المتعددة، والتركية والإيرانية، فإنهم لم يتوقفوا يوماً عن النضال للحصول على حقوقهم القومية. وقد اعترف أول دستور جمهوري منذ حوالي نصف قرن بأن العراق دولة تتألف من قوميتين رئيسيتين العربية والكردية. لم تغير الحكومات المتوالية هذا الإقرار لكنها أحجمت عن تفعيله، إلى أن صدر بيان 11 آذار 1970 الذي اعترفت فيه الحكومة البعثية بحق الأكراد في كيان خاص للحكم الذاتي، حظي بتأييد عربي وخاصة من مصر عبد الناصر، ودولي من الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية والغربية وأميركا. وأعاد الدستور الصادر بعد البيان تأكيد ثنائية التكوين القومي العراقي، وحدد قانون الحكم الذاتي في العام 1974 منطقة كردستان ككيان ضمن العراق الموحد لها مجلسها التشريعي وحكومتها ومؤسساتها..
إلا أن النظام البعثي انقلب بسرعة على قانونه وبدأ حملة تصفيات وتعريب وتهجير وإبادة وتذويب للهوية القومية الكردية لم تتوقف حتى بعد حرب 1991 في المناطق الكردية التي ظلت تحت سيطرة النظام الذي انسحب بشكل مفاجئ من مناطق الشمال في أعقاب قرار مجلس الأمن 688 الذي صدر في نفس العام إثر الهجرة المليونية الكردية، والذي فرض منطقة آمنة لحماية الشعب الكردي من الإبادة، حيث لأول مرة يستخدم حق التدخل الإنساني في الشؤون الداخلية لدولة استبدادية.
كما أن برلمان إقليم كردستان الذي انتخب بإشراف الأمم المتحدة، أعلن من جانب واحد الفيدرالية ضمن عراق ديمقراطي موحد في تشرين أول 1992، أي انه رفض الإلحاق القسري واختار الاتحاد الطوعي، كما تبنى المجلس الوطني للإقليم مشروعاً فيدرالياً متكاملاً في تشرين الثاني 2002. كذلك فالأحزاب الرئيسية المعارضة للنظام السابق أقرت في مؤتمرها في كانون الأول 2002: الاحترام الكامل لإرادة الشعب الكردي في اختيار الصيغة المناسبة لمستقبل الشراكة وشكلها مع أبناء الوطن الواحد.. وقبلت الفيدرالية كنموذج حضاري يصون التعايش بين قومياته على أساس حق الشعب الكردي في تقرير مصيره.. مع ترك إقرار تفاصيل المشروع لبرلمان وطني منتخب. أما الخلافات التي طفت على السطح في نقاشات مجلس الحكم الانتقالي الذي يعمل لإصدار الدستور المؤقت، فهي في معظمها لا تدور حول الفيدرالية القومية بل حول تفاصيلها.
بذلك فمطالبة الحزبين الكرديين الرئيسيين بالفيدرالية القومية لا تبدأ من الصفر، فالطالباني فسر في مقال له بصحيفة "الشرق الأوسط" أوائل شباط أن الفيدرالية تعني الاتحادية وليس التقسيم، وان السلطة المركزية تشمل رئاسة الدولة والقوات المسلحة والعلاقات الخارجية والمالية العامة والتجارة الخارجية والعملة والبنك المركزي والثروات الوطنية كالنفط والغاز، وما عدا ذلك للإقليم. كما أن البرازاني دعا للدفاع بكل الطاقات عن عراق موحد بشرط أن يكون فيدرالياً وديمقراطياً، فالفيدرالية خطوة للاتحاد وليس للانفصال. نصدق تصريحات قادة الحزبين هذه لأنها تنسجم مع مسار الأحداث، لكننا نتفهم أن القلق والخشية من رفض الفيدرالية القومية في العراق الجديد يمكن أن يؤدي للدعوة للانفصال، التي بدأت الانتشار انطلاقاً من أوروبا لتنتقل للإقليم، حيث تشكلت مجموعات، تبدو نبرة المرارة في بياناتها من تنكر أحزاب عربية لتوقيعاتها حول الفيدرالية، تطالب باستفتاء تكون إحدى بنوده استقلال كردستان، وهي حركة إذا كانت محدودة الآن ولم تلق استجابة من الحزبين الكبيرين فمن المتوقع توسعها كلما ازداد التنكر للفيدرالية القومية. لا نريد أن تصل الأمور لذلك، فإقرار الفيدرالية القومية، هو الذي يقطع الطريق على تدهور العلاقات بين القوميتين المتآخيتين، علماً بأنه طوال الصراع بين الحكومات المركزية والأكراد لم تنشأ أية حركة ذات شأن تدعو للانفصال.
إذا اتفقنا أن القومية الكردية واقع ومفهوم لا يمكن تجاهله وأن الفيدرالية الإدارية تعني إدارة تقوم في الإطار حيث تتواجد أكثرية كردية، فإن الحريات وحقوق المواطنة ليست إلا جزءاً من الحل يطال العرب والكرد الذين عانوا من الحكم الاستبدادي، بينما الفيدرالية القومية بالإضافة إلى أنها حق، فهي الحل للاضطهاد القومي الذي طال الأكراد وحدهم، والحريات العامة لا تغني عن الحقوق القومية، إلا في مراحل متقدمة جداً، حين يتقلص تأثير الهوية القومية، لصالح هوية أوسع منطقية أو قارية أو كونية إنسانية، ولا يمكن في بلدان متخلفة تذويب القوميات بالدمج القسري أو بحجة الوحدة الدينية أو بحجة مواجهة العدو الخارجي أو بديمقراطية نسبية مقيدة، وحتى في دولة ديمقراطية متقدمة، العراق يحتاج لعقود للوصول إليها، لم يثبت حتى الآن أن القوميات زائلة. أما حالياً فالاعتراف بالحقوق القومية الكردية يعزز وحدة العراق ويسهم في إزالة جبل الجرائم المرتكبة ضد الأكراد وخاصة من نظام البعث الشوفيني، كما تقطع الطريق على قلة من العرب، وليس جميعهم، يتهمون القيادات الكردية بالخيانة، وعلى قلة قليلة – لحسن الحظ- تخون كل الشعب الكردي مما لا يفيد التعايش بين القوميتين في بلد موحد.
أما الظن بأن أميركا في حال وجدت نفسها مجبرة على الانسحاب من العراق فستفضل دولة مستقلة في كردستان العراق لتمركز قواتها فيها، فهي فكرة غير مقنعة، حيث أن كل الوقائع أثبتت أن أميركا لا تحتاج لشمال العراق لتملك حرية تدخل واسعة في شؤون المنطقة، فلديها خيارات واسعة للتواجد في عدد من الدول العربية نفسها كما هو معروف، وقد استغنت عن شمال العراق ببساطة في حربها الأخيرة. ونرى أن السياسة الاميركية في العراق هي إبقاؤه موحداً وترك توازناته الداخلية لتحدد طبيعة العلاقة بين مكوناته الأساسية بالطرق السلمية. كما أن فكرة أن أميركا قد تدفع العراق لحرب أهلية فكرة غير مقنعة، فمصالحها في كل الظروف عراق مستقر وديمقراطي نسبياً، يعطي نموذجاً لمشروعها التغييري المدعى للمنطقة، والحرب الأهلية لا تخدم مصداقية سياستها هذه. الأطراف التي لها مصلحة في الحرب الأهلية هي فلول النظام السابق لتثبت أن عودتها للسلطة يؤمن عودة الاستقرار للعراق، والتنظيمات الإرهابية الأصولية الآتية من الخارج التي تعمل لقلب الطاولة على الاميركيين مهما كلف الأمر من دماء عراقية، كما حدث مؤخراً في كربلاء والكاظمية.
لذلك لا يمكن استخدام أميركا والحرب الأهلية كفزاعة لمنع الأكراد من الحصول على حقوقهم القومية، ويمكن قبول حجة الحرب الأهلية في حالة واحدة هي أن السياسات الأميركية هي الشر المطلق، وأي شيء سيء يحدث يجب البحث عن الاميركان خلفه، وهو تفسير لم يعد مقنعاً أيضاً. كما انه لا يمكن التهويل بأن قيام فيدرالية قومية ضمن عراق موحد، يهدد السيادة والوحدة الوطنية للدول الإقليمية المجاورة، فقد أثبت إقليم كردستان والفيدرالية المعلنة من جانب واحد كأمر واقع، أنها كانت عنصراً للاستقرار في المنطقة طوال اثني عشر عاماً، إذ منعت أي إخلال أو انتهاك لسيادة دول الجوار، أما فيدرالية قومية بتوافق وطني عراقي فستكون ذات تأثير أكبر على الاستقرار والسلام في المنطقة. والخطر الفعلي على الأنظمة الاستبدادية، أكثر من أي شيء آخر، هو النجاح في بناء عراق ديمقراطي.
كما لا نرى أن انسحاب الاحتلال يجب أن يسبق تحقيق الفيدرالية القومية، فالأولوية كما يبدو حالياً لدى غالبية الشعب العراقي وقواه السياسية، المتفق عليها مع الأمم المتحدة وسلطة التحالف، لتسليم السلطة للعراقيين في حزيران ثم لإجراء انتخابات أوائل السنة القادمة وتشكيل حكومة منتخبة تكون من ضمن مهماتها السيادية تأمين الانسحاب الأميركي، أما حل المسألة الكردية فيتم حال التوافق عليه بين العراقيين وتثبيت أسسه في الدستور الدائم، ولا علاقة لذلك بالانسحاب من عدمه، وهو توافق لا يفضي للتطهير العرقي بل لإزالة آثار التطهير العرقي للنظام البائد بوسائل إنسانية.
تأييدنا للفيدرالية القومية لا يعني تجاهل أن هناك طيف واسع من الخلافات والتجاذبات حول تفاصيل هذا المشروع: حدود الإقليم الكردي، نصيبه من الثروات والدخل الإجمالي العراقي، طبيعة مشاركة ممثليه في السلطات المركزية، البيشمركة، العلم والنشيد، مسألة القوميات غير الكردية أوالعربية، ومسائل أخرى...لكننا نتوقع أن القوى السياسية من الطرفين أصبحت تملك تجربة كافية للاتفاق على حل الخلافات بالحوار. لن ندخل في تفاصيل حلول لهذه المشكلات كي لا نستبق الحوار حولها بين أصحابها الأصليين. وبالطبع لا نرى أن وجود هذه الخلافات هو دليل على سعي الأكراد لدولة منفصلة، بل الدليل على حيوية الديمقراطية العراقية الوليدة التي جوهرها الأساسي الوصول إلى تسويات للمصالح المتضاربة.
الاضطهاد القومي المستمر منذ تأسيس الدولة العراقية السبب الأهم لمطالبة الأكراد بحقهم في تقرير مصيرهم، بصرف النظر عن طبيعة قياداتهم السياسية. لقد قام الأكراد حتى الآن بدورهم في التمسك بالاتحاد الطوعي في عراق موحد، بينما تخلف عدد من المثقفين العرب داخل وخارج العراق عن دورهم في الدفاع عن حق تقرير المصير للأكراد العراقيين، ونأمل إلا يستمر ذلك طويلاً.
آذار 2004 * كاتب فلسطيني